السورة رقم 22 

السورة بصيغة ملفات PDF 

السورة رقم 22 عبس

عبس وتولى (1)

[ ورد في اسباب النزول للواحدي أن الآية نزلت في رسول الله صلى الله عليه وآله حيث عبس في وجه ابن أم مكتوم – أسباب النزول للواحدي ] .

وفي تفسير الدر المنثور :

[ .. أخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن عائشة قالت: أنزل سورة عبس وتولى في ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول أترى بما أقول بأساً فيقول لا، ففي هذا أنزلت.

وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن عائشة قالت: ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس من ناس من وجوه قريش منهم أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة فيقول لهم أليس حسناً أن جئت بكذا وكذا؟ فيقولون: بلى والله، فجاء ابن أم مكتوم وهو مشتغل بهم فسأله فأعرض عنه، فأنزل الله { أما من استغنى فأنت له تصدى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى } يعني ابن أم مكتوم  .

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو يعلى عن أنس قال: جاء ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلم أبيّ بن خلف، فأعرض عنه، فأنزل الله { عبس وتولى أن جاءه الأعمى } فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه.

وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: ” بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبا جهل بن هشام، وكان يتصدى لهم كثيراً، ويحرص أن يؤمنوا، فأقبل إليه رجل أعمى يقال له عبدالله بن أم مكتوم يمشي وهو يناجيهم، فجعل عبدالله يستقرىء النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن. قال يا رسول الله: علمني مما علمك الله، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبس في وجهه، وتولى، وكره كلامه، وأقبل على الآخرين. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نجواه، وأخذ ينقلب إلى أهله أمسك الله ببعض بصره ثم خفق برأسه ثم أنزل الله { عبس وتولى أن جاءه الأعمى } فلما نزل فيه ما نزل أكرمه نبي الله وكلمه يقول له: ما حاجتك؟ هل تريد من شيء؟ “.- الدر المنثور للسيوطي ] .

وفي مذهب أهل البيت عليهم السلام :

[علي بن إبراهيم، قال : نزلت في عثمان و ابن أم مكتوم، و كان ابن أم مكتوم مؤذنا لرسول الله (صلى الله عليه و آله)، و كان أعمى، فجاء إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله) و عنده أصحابه، و عثمان عنده، فقدمه رسول الله (صلى الله عليه و آله) على عثمان، فعبس عثمان وجهه و تولى عنه، فأنزل الله: { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } [يعني عثمان] { أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } أي يكون طاهرا زكيا { أَوْ يَذَّكَّرُ } قال: يذكره رسول الله (صلى الله عليه و آله) { فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } . –تفسير البرهان للسيد هاشم البحراتي ] .

ثم خاطب عثمان، فقال: { أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ } ، قال: أنت إذا جاءك غني تتصدى له و ترفعه: { وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ } أي لا تبالي زكيا كان أو غير زكي، إذا كان غنيا { وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ } يعني ابن أم مكتوم { وَهُوَ يَخْشَىٰ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ } أي تلهو و لا تلتفت إليه. – تفسير البرهان للسيد هاشم البحراني ] .

وبالتالي أنت أمام خيارين إما أن تنسب هذه النقيصة وهذا الفعل المشين للنبي حاشا رسول الله صلى الله عليه وآله أو لغيره وهنا سنبين مراد الله تعالى من خلال بيان القرآن بالقرآن :

التفسير :

  • عبس وتولى (1)

وهنا :

(عبس)

و [ عبَسَ يعبِس ، عَبْسًا وعُبوسًا ، فهو عابسٌ، وعبَّاسٌ، وعَبُوسٌ عبَس الشَّخصُ : قطَّب ما بين عينيه وتجهَّم لإبداء الاستياء وعدم الرِّضا، ظهر أثرُ الحزن على وجهه، اكفهرَّ  ]

أولا : ورود لفظ عبس على كفار قريش وأهل النار يجعل من المستحيل نسبة هذا العبوس للنبي ولا يقول به إلا زنديق مجرم بلغ شأواً في الإجرام مع الله  ورسوله لم يصل إليه أحد غير القائلين بأن عمر ينزل الوحي موافق له مخالفاً لرأي النبي صلى الله عليه وآله وذلك نقوله لورود هذا اللفظ على أحد صناديد الكفر القرشي وهو الوليد بن المغيرة الذي نزل فيه قوله تعالى  {  إِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَیۡفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَیۡفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدۡبَرَ وَٱسۡتَكۡبَرَ فَقَالَ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡر یُؤۡثَرُ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا قَوۡلُ ٱلۡبَشَرِ – المدثر ١٨-٢٥ }    .

وورد هذا اللفظ على المؤمنين وخشية المؤمنين من دخولها في قوله تعالى عنهم { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا – الإننسان 10-11 } وهل الذين يخافون يوماً عبوساً قمطريرا هم الذين يعبسون في وجوه الفقراء و المساكين ؟! وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله أنه كان يقول في دعاءٍ له [  اللهم احييني مسكيناً وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين .. الحديث ] فكيف يطردهم ويعبس في وجوههم على خلاف ما أمر به الله تعالى في قوله عز وجل :  { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا – الكهف 28 } كما نزل في أهل بيته قوله تعالى { ويطعمون الطعام على حبه مسيكناً ويتيماً وأسيرا – الإنسان } وكذلك اشتهار سيدنا الحمزة عليه السلام عم رسول الله بحب المساكين وإطعامهم لينفي عبوس رسول الله صلى الله عليه وأهل بيته في وجه سائل أو مسكين ولو كان صناديد قريشاً أو غيرهم من الكبراء .

وأما :

(وتولى)

وهذا اللفظ أيضاً ليؤكد بأن العابس ليس النبي صلى الله عليه وآله وذلك لأن التولي يكون عن ذكر الله ومن العدو يوم الزحف لذلك لم يرد هذا اللفظ على رسول الله ولا أي نبي غيره إلا سيدنا موسى في قوله تعالى لرؤسته الحية في قوله تعالى { وَأَلْقِ عَصَاكَ ۚ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ – النمل 10 } وقوله تعالى { فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ  – القصص 24 } .

والتولي ورد على فاسقين في قوله تعالى { فمن تولى بعد ذلك فأولائك هم الفاسقون – آل عمران 82 } وهذه الاية تجعل نسبة العبوس للنبي مستحيلة وذلك لورود هذا اللفظ في قوله تعالى { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل – البقرة 205 } .

وهنا يبين تعالى أنه لا يتولى إلا الفاسقين والمفسدين في الأرض والذين شاقوا الله ورسوله في قوله تعالى { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا – النساء 115} وهنا نكون قد تأكد لنا بأن الذين عبسوا في وجوه الفقراء كبراء قريش وفيهم الوليد بن المغيرة .

ثم يقول تعالى  :

  • أن جاءه الأعمى (2)

وهنا :

(أن جاءه)

وهنا (أن جاءه) وردت هذه الآيات بمواضع في كتاب الله تحكي ما حدث في هذا اللقاء كما يلي :

قال تعالى مبيناً أن قريشاً كانت في حالة من التعجب من هذا القرآن الكريم وما يقوله رسول الله صلى الله عليه وآله وينشره بينهم  قال تعالى { أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون – الأراف 63 } . ويبين تعالى أن منهم من اتهم رسول الله بالكفر لقوله تعالى {  وعجبوا أن جاءهم منذر منهم و قال الكافرون هذا ساحر كذاب – ص 4} ومنهم من قال في القرآن الكريم هذا شيئ عجيب قال تعالى { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب – ق 2 } ومنهم من قدم حرصاً وعصبية في تقليد الآباء والأجداد لقوله تعالى { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين – سبأ  43 }

وهنا الواضح من سياق الايات  أنهم لم يكونوا جميعاً على قلب رجل واحد لقوله  تعالى { بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج – ق 5 } فمنهم :

  • الذي تعجب من القرآن الكريم .
  • ومنهم من اتهم رسول الله صلى الله عليه وآله بافتراء الكذب والسحر  .
  • ومنهم من قدم عصبية لأصنامهم التي عبدها آباؤهم وأجدادهم . ويبين تعالى أن هؤلاء كانوا يحاربون الله تعالى و رسوله صلى الله عليه وآله من أجل أسماء لآبائهم و سلفهم ووأصنامهم قال تعالى فيها { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى- النجم 23 } .

والواضح أنهم ذهبوا للنبي صلى الله عليه وآله لاستيضاح الأمر والسماع منه ومساومته على ترك هذا الدين , و يبين تعالى أن ابن ام مكتوم كان قد سبقهم إلى النبي صلى الله عليه وآله كما في قوله تعالى هنا { أن جاءه الأعمى – عبس 2 } . ولذلك وردت هذه الايات على نبي الله يعقوب وكان قد عمى وفقد بصره في قوله تعالى {فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون – يوسف 96 }.

والبشارة هنا كانت في انتصار القرآن لابن أم مكتوم ونزول قرآناً فيه يقدمه على كبراء وصناديد الكفر القرشي والذين جاءوا لمساومة النبي صلى الله عليه وآله في ترك الدعوة إلى الله تعالى وهؤلاء لا يستوون بمن آمن بالله تعالى ورسوله  .

فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله في ديار بني هاشم وبني عبد المطلب و من عادة العرب إكرام الضيف أي أنهم ذبحوا لهم ذبيحة لإطعامهم لورود هذه الآيات ( أن جاءه ) في قوله تعالى { ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ – هود 69 }

فلما عرضوا أمرهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وهنا ذكرهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله أن عليهم يشكروا الله تعالى ويؤمنوا به بعد أن من عليهم و جعلهم خلفاء من بعد أنبياء الله تعالى من لدن نوح إلى بعثة المصطفى صلى الله عليه وآله قال تعالى { أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون – الأعراف 69 } .

وأما :

(جاءه)

ورد هذا اللفظ في قوله تعالى { وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ – يس 20 } وهذه الآية تبين أن هذا الصحابي الجليل الأعمى جاء من أقصى المدينة ولورود هذااللفظ على آكلي الربا تبين أن من الذين قدموا على رشول الله صلى الله عليه وآله أناس من آكلي الربا لورود هذا اللفظ في قوله تعالى { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون – البقرة 275} .

ومنهم من يعمل عمل قوم لوط لورود هذا اللفظ في قوله تعالى عن هذه الأمة الملعونة { وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد – هود 78 } .

وهؤلاء هم الذين عبسوا في وجه الصاحبي المؤمن الذين نزلت في الآيات الكريمة وفي قوم كفروا بالله تعالى ورسوله وتأففوا من الفقراء والمساكين ونفروا منهم وعبسوا في وجوههم . فلما عجزوا عن مواجهة الحجة بالحجة لجأ هؤلاء إلى الكذب على الله تعالى ورسوله ولا يوجد أظلم من هؤلاء  المنافقين كما في قوله تعالى { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين – العنكبوت 68 } .

وفي نفس الوقت يشير القرآن الكريم أن رسول الله صلى الله عليه وآله كما يأتيه ويدخل عليه الكفار والمنافقين لقوله تعالى {  إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون – المنافقون 1 } كذلك يدخل عليه المؤمنين وأمره الله تعالى بالسلام عليهم والدعاء لهم قال تعالى { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم – الأنعام 54 } .

وهنا لما أمره الله تعالى بالسلام على هؤلاء المؤمنين وأكثرهم استضعافاً و هو الأعمى فكيف يعبس في وجهه وقد أوصى الله تعالى به وبالمؤمنين والسلام عليهم  وأما الكفار فدأبهم في كل عصر و في كل مصر التكبر على الفقراء والمستضعفين والأنفة والتأفف منهم كما في قولهم لنبي الله نوحاً عليه السلام { فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين – هود 27 }

كما أن القرآن الكريم دائماً فواتح السور تتكامل في البيان مع خواتيمها كقوله تعالى في أوائل سورة البقرة على سبيل المثال { ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ  وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ  أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ – البقرة 2-5} وخواتيمها تبين من هم هؤلاء المؤمنين في قوله تعالى { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ – البقرة 285} وكذلك سور الكهف على سبيل المثال فاواتحها يقول تعالى فيها { لينذر الذين اتخذ الله ولدا -} وخواتيمها تقول في بيان متكامل للمعنى { هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} وكذلك هنا إذا قال تعالى في أوائل سورة عبس { عبس وتولى أن جاءه الأعمى } تبين خواتيمها أن هذا العمل يقوم به مجرمين من أهل النار قال تعالى فيهم { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ  تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ  أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ  – عبس 40-42} وبالتالي بالقطع واليقين الذي لا شك فيه لا يمكن نسبة هذا العبوس للنبي صلى الله عليه وآله .

وأما :

 (الأعمى)

والأعمى الذي لا يرى وهو عكس المبصر والعمى لا يكون في النظر بل في البصيرة كما في قوله تعالى { إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور – الحج 46 } .

والأعمى هو التارك للعمل بكتاب الله كما في قوله تعالى { ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد  -فصلت 44 } وبالتالي عمى النظر عند هذا المؤمن أثبت الله تعالى أنه بإيمانه بصير يبصر الحق من الباطل وهؤلاء الذين ينظرون بأعينهم لم تنفعهم أعينهم ليبصروا الحق قال تعالى { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون – الأعراف 198 }  .

وبالتالي هذا الأعمى بصير وهؤلاء بأعينهم عمياً لا يبصرون الحق المنزل من عند الله فهو أعمى النظر بصير القلب كما بينا وما الأعمى إلا الكافر التارك للعمل بكتاب الله وهؤلاء لا يستوون قال تعالى { وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون – غافر 58 } .

ثم يقول تعالى :

  • وما يدريك لعله يزكى (3)

وهنا :

(وما يدريك)

[ ودرى الشيئ ودرى به يدري درياً ودراية : علمه وأدراه الشيئ أعلمه به – معجم ألفاظ القرآن باب الدال فصل الراء والياء ] .  وهذا تعريف خاطئ لأنه لو كان نفي العلم فهذا اتهام للنبي صلى الله عليه وآله بأنه لا يعلم شيئاً لقوله تعالى { قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين –الأحقاف 9 } والفرق بين لا أعلم ولا أدري إذا خفي جزء من العلم عن الشخص مع علمه بالجزء الآخر فهو لا يدري وما يعلمه النبي أحوال أهل الجنة لأنه من أهلها ولا يعلم ولم يشاهد أحوال أهل النار و العذاب إلا بالوحي فقط لذلك هنا يقول تعالى أنه صلى الله عليه وآله لا يدري قال تعالى : {يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا – الأحزاب 63 } ولاختلاط الخير والشر بين الآباء والأبناء لم يقل لا تعلمون بل قال (لا تدرون) في قوله تعالى  { آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا – النساء11 } و الجن أيضاً لما اختلط عليهم الخير و الشر بين البشر بعدما نزل القرآن إلى الأرض قال تعالى { وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا – الجن 10 }

ولما تكلم الله تعالى عن الساعة ما فيها من عذاب لن يراه النبي صلى الله عليه وآله ولا أنبياء الله ولا المؤمنين قال تعالى { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب – الشورى 17 } وعن العذاب الذي توعده الله تعالى المنافقين والكافرين من قريش ومن حذا حذوهم ولن يراه النبي قال تعالى  { قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا – الجن 25 }

والمعنى هنا أيضاً لاختلاط كفار قريش ومؤمنين مستضعفين فيهم ابن أم مكتوم قال تعالى { وما يدريك لعله يزكى – عبس 3 } .

وأما :

(لعله)

[حرف ناسخ مشبه بالفعل من أخوات إنّ، ينصب الاسم ويرفَعُ الخبرَ ويفيد التوقُّع والترجِّي في الأمر المحبوب، والإشفاق من المكروه، وقد تحذف لامُه فيصير علَّ، ويمكن اقتران لعلّ بنون الوقاية، وإذا دخلت عليها (ما) كفَّتها عن العمل “لعلّ الحبيبَ قادمٌ- لعلّنِي أحجُّ هذا العام- لعلّ أحدَكم أن يسارع في الخيرات- لعلما النصرُ قريبٌ- ذاكر علَّك تنجح- {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} “. إغلاق حرف ناسخ يفيد التعليل ” {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى – طه 44 } “. حرف ناسخ يفيد الاستفهام ” {لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا –الطلاق 1} “.] .

ورد هذا اللفظ في قوله تعالى { وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين – الأنبياء 111} وهذه الفتنة هنا كانت خلط أولوا الطول بالفقراء قال تعالى { وما يدريك لعله يزكى } فلما اختلط المستكبرون بالمستضعفين لان صلى الله عليهم وآله لهم القول لأن فيهم من هم كفرعون حيث قال تعالى لموسى { فقولا له قولا ليناً لعله يتذكر أو يخشى – طه 44 } فلما لان لهم القول صلى الله عليه وآله ابوا إلا استبعاد المستضعفين والفقراء ومنهم ابن أم مكتوم وكان أعمى  فنزل قوله تعالى {  عبس وتولى أن جاءة الأعمى وما يدريك لعله يزكى } .

وأما :

(يزكى)

وهذا اللفظ يبين تعالى من خلاله أن صناديد الكفر القرشي كانوا يحبن مدح أنفسهم لذلك قال تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۖ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا – النساء 49-50 } ويبين تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وآله بعثه ليعلم الناس ويزكيهم بهذا القرآن وما نزل فيه من أحكام قال تعالى { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ – آل عمران 164 }   وبالتالي النص يشير إلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان في جلسه فيها مؤمنين ممن أحبوا ريول الله صلى الله عليه وآله ويتعلمون منه وهؤلاء القرشيون يحبون تزكسة أنفسهم فأبت نفوسهم مجالسة هؤلاء المؤمنين الفقراء المستضعفين وفيهم الأعمى الذي تأففوا منه وغضبوا وعبست وجوههم عن مجالسته فمزل فيهم قولهه تعالى { عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى – عبس } .

ثم يقول تعالى :

  • أو يذكر فتنفعه الذكرى (4)

وهنا يبين تعالى أن الذكرى تنفع المؤمنين قال تعالى {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين – الذاريات 55 } ومادامت الذكرى تنفع المؤمنين فهم الذين تعلموا من رسول الله صلى الله عليه وتولوه وأهل بيته عليهم السلام لأنها بيوت رفعها الله تعالى بالعلم والوحي قال تعالى { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال – النور 36}.

وبالتالي من أراد أن يسمع وقبل ولاية الله تعالى ورسوله وأهل بيته عليهم السلام فقد أمر الله تعالى بأن يذكره إن رأي ذكر الله تعالى سينفعه قال تعالى { فذكر إن نفعت الذكرى – الأعلى 9 } ومادام هذا الأعمى من المؤمنين وقد اختلط بمجلس كفار ومنافقين قال تعالى لذلك له صلى الله عليه وآله { أو يذكر فتنفعه الذكرى } .

ولما خاضوا في آيات الله تعالى هنا أمر الله تعالى رسوله بعدم مجالستهم والإنصراف عنهم قال تعالى { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين – الأنعام 68 } .

 ثم يقول تعالى :

  • أما من استغنى (5)

وهنا :

(أما من)

{ فَأَمَّا مَن طَغَىٰ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ – النازعات 37-39 } وهذا الي آثر الحياة الدنيا فهو الذي استغنى في الآية هنا في قوله تعالى { أما من استغنى فأنت له تصدى – عبس 5-6}

وأما :

(استغنى)

وهذا اللفظ يدل بالقطع أن رسول الله صلى الله عليه وآله ليس المقصود لورود هذا اللفظ في قوله تعالى { وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرةى – الليل }

وهؤلاء لما كفروا بالله تعالى استغنى عنهم  لقوله تعالى { ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد  – التغابن 6 } وهنا الذين استغنى الله تعالى عنهم

و

و تولوا عن طاعتة تعالى ورسله و طغوا على من حولهم طمعاً في الدنيا قال تعالى { إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى – العلق 6-7} ولما آثروا الحياة الدنيا بخلوا بما وهبهم الله تعالى عن إخراج حقوق الفقراء والمساكين قل تعالى { وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ  فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ  – الليل 8-11 } فهل هؤلاء يتصدى لهم النبي كما في قوله تعالى هنا { وأما من استغنى فأنت له تصدى} تاركاً المؤمنين خلف ظهره ؟!! .

ثم يقول تعالى :

  • فأنت له تصدى (6)

وهنا :

(فأنت)

وهنا يبين تعالى أن هؤلاء هم الذين حق عليهم كلمة العذاب قال تعالى { أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار – الزمر 19 } ثم يبين تعالى أنهم استمعوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وكأنهم لا يسمعون قال تعالى { ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون – يونس 42 } ولذلك تلهى عنهم النبي صلى الله عليه وآله بذكر الله قال تعالى    { فأنت عنه تلهى – عبس 10 } .

( له)

وهذا اللفظ يبين تعالى أن هؤلاء كانت تأخذهم العزة بالإثم لقوله تعالى { وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد – البقرة 206 } وهل هؤلاء المستكبرين الظالمين يتصدى لهم النبي صلى الله عليه وآله .

وأما :

(تصدى)

[ وترتبط هذه المادة بالصد عن سبيل الله بمادة صدد حتى ليورد بعضهم التصدي والتصدية في مادة صدد وذلك لما يذكر أن يتصدى مأخوذ من الصدد وهو ماستقبلكقال تعالى { فأنت له تصدى – عبس } وأصله يتصدد فقلبت إحدى الدالين ياء كدأبهم في تحويل التضعيف  – معجم ألفاظ القرآن باب الصاد فصل الدال والدال  ] .

ومادام الصد عن سبيل الله أصل هذه المادة قال تعالى {فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه – النساء 55} وقال تعالى في االمنافقين { رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا – النساء 61 } وهنا أيضاً هل ينسب الصد هعن سبيل الله وهل انتبه المسلمون أن السورة من اولها حتى الآن كلها ألفاظ كفرية تعني وتقصد ولم تأتي إلا على معسكر الكفر والنفاق لذلك مستحيل أن يكون الذي عبس وجهه هو النبي صلى الله عليه وآله .وبالتالي الذي تصدى لكفار قريش رجلاً منهم كان هو الصلة والرسول بين النبي صلى الله عليه وآله وصناديد قريش .

ثم يقول تعالى :

  • وما عليك ألا يزكى (7)

وهنا :

(وما عليك)

وهنا يبين تعالى أنه ماعلى الرسول إلا البلاغ المبين قال تعالى { فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين –النحل 82 } أي أن رسول الله صلى الله عليه وآله أبلغهم دعوة ربه تبارك وتعالى تولوا عنها لذلك  قال تعالى له في هؤلاء المجرمين ما عليك إلا البلاغ وعلى الله تعالى الحساب قال تعالى { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب – الرعد 40 } .

وأما عن الفقراء والمستضعفين وكان فيهم الأعمى رضى الله تعالى عنهم وأرضاهم قال تعالى { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين – الأنعام 52 } وهنا يبين لنا ربنا بالقطع أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان عاملاً بما أمر الله تعالى وأنه لم يطرد الأعمى كما أمر الله تعالى ولذلك قال تعالى للعابس في وجه هذا الأعمى وهؤلاء الفقراء { وما عليك ألا يزكى } .

وأما :

(ألا)

وهنا يبين تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وآله دعاهم إلى كلمة لا إله إلا الله والإيمان به تعالى وبرسوله قال تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون – لأنعام 151 } وقال تعالى في أهل الكتاب وكانوا مستشاروا قريش في الحرب على النبي صلى الله عليه وآله لذلك قال تعالى { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون – آل عمران 64 }

فلما أبوا إلا الكفر بالله تعالى وهذا أغضب النبي صلى الله عليه وآله وأحزنه لذلك قال تعالى { لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين – الشعراء 3 } وعلم رسول الله صلى الله عليه وآله أنه سيعذبهم لصدهم عن سبيل الله لذلك قال تعالى { وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون – الأنفال 34 } وقال تعالى في نفس الوقت في هذا الأعمى رضى الله تعالى عنه وأرضاه بعدما غضبوا من تواجده بينهم { وما عليك ألا يزكى } .

وأما :

(يزكى)

أي أنه يقول تعالى في الأعمى { وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى – عبس 3-4 } أي لعله يسلم فيزكيه الله تعالى وعن كفار قريش يقول تعالى { وما عليك ألا يزكى }  أي [  و ما عليك إن لم يتطهر فيسلم لله تبارك وتعالى فإنما عليك البلاغ  – تفسير البغوي ] .وهنا كأن رسول الله صلى الله عليه وآله واقف بين فرقين من المستضعفين المؤمنين وفيهم الأعمى وفريق آخر من المستكبرين فقال تعالى عن المؤمنين و ما يدريك لعله يزكى و في الكافرين قال تعالى { وما عليك ألا يزكى } أي ما عليك من حسابه من شيئ إلا البلاغ .

ثم يقول تعالى :

  • وأما من جاءك يسعى (8)

وهنا :

(وأما من)

أي أنه يقول تعالى {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى – النازعات 40 } وهؤلاء هم الذين سعوا في الخيرات وقال تعالى فيهم هنا { وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى – عبس 8-9 } .

وأما :

(جاءك)

وهنا يقول تعالى في هؤلاء المؤمنين { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم – الأنعام 54 }

وهؤلاء هم الذين جاءوا رسول الله صلى الله عليه وآله يسعون مسرعين في طاعة الله تعالى كما في الآية هنا { وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى }

وكما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله المؤمنين جاءه أيضا كفار كما في قوله تعالى هنا { عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله تزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى } وكما جاءه مؤمنون و كفار كذلك جاءه منافقون كما في قوله تعالى { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون – المنافقون 1 } .

ولذلك قال تعالى أنه لم رعض عنه ولم يعبس في وجهه بل تلهى عنه أي انشغل بأمور كثيرة من دعوة ووليمة وإبلاغهم آيات ربه وهنا الوصية لرسول الله صلى الله عليه وآله بأن لا يهتم إلا بالفقراء والمستضعفين قبل المستكبرين لذلك قال تعالى هنا { وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى }

وأما :

(يسعى)

وهنا يبين تعالى أن السعي قدوم الشخص مسرعاً مهرولاً قال تعالى { وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين – يس 20 } . والسعي للناس إما للدنيا أو للآخرة قال تعالى في دليل أن الفريقين من كفار قريش و المؤمنين طالبي رضا الله تعالى والدرا الآخرة وطلاب الدنيا  كانوا في جلسة واحده معاً  {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا – الإسراء 18-20 } وبالتالي هؤلاء المؤمنين ومنهم الأعمى كان حريصاً على طاعة الله تعالى مسرعاً للقاء رسول الله صلى الله عليه وآله قال تعالى هنا  { وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى }  .

ثم يقول تعالى :

  • وهو يخشى (9)

وهنا :

(وهو)

أي وهو مؤمن يعمل الصالحات لقوله تعالى { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما طه 112 } وقال تعالى أيضاً { فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون – الأنبياء 94} وهؤلاء هم الذين يخشون ربهم كما في قوله تعالى هنا { وهو يخشى } وهؤلاء يدلهم الله تعالى الجنة كما في قوله تعالى { ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب – غافر 40 } .

وأما :

(يخشى)

أي أنهم أطاعوا الله تعالى واتقوه وهؤلاء هم المفلحون بخشيتهم لله تبارك وتعالى كما في قوله عز وجل    { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ- النور51-52 }

ثم يقول تعالى :

  • فأنت عنه تلهى (10)

وهنا :

(فأنت)

أي { أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ  – عبس 5-6} أي [يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أما من استغنى بماله فأنت له تتعرّض رجاء أن يُسلِم . حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان ( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) قال: نـزلت في العباس. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ) قال عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة .- تفسير الطبري ] وأما المؤمن الأعمى المستضعف فقد تلهى عنه بدعوة هؤلاء المستكبرين للإسلام قال تعالى هنا { وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ وَهُوَ يَخْشَىٰ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ – عبس 8-10 } .

وأما :

(عنه)

يدل هذا اللفظ أن أغنياء القوم وكبرائهم كانوا في خديث مع رسول الله صلى الله عليه وآله ومناجاة بينهم قال تعالى في دليل أنهم علية القوم وكبرائهم { ما أغنى عنه ماله وما كسب – المسد 2}

ومناجاتهم التي عصوا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله قال تعالى أيضاً { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ – المجادلة 8 }

ولورود لفظ عنه أيضاً عن حزبه المفلحون في قوله تعالى { رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه – البينة 8} تدل على أن الفريقين كانا معاً و عن مناجاة النبي صلى الله عليه وآله لهم اعتبره القرآن الكريم تلهي عن هؤلاء المؤمنين المستضعفين ومنهم الأعمى قال تعالى { فأنت عنه تلهى }

ولكن رسول الله عمل فيهم بقوله تعالى { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا – الكهف 28 } وهنا انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله عن هؤلاء المستكبرين كما أمره الله تبارك وتعالى .

وأما :

(تلهى)

[ والهاه عن الشيئ يلهيه : شغله أو صرفه عنه واللهو تناول مالا يجدي من الأعمال  – معجم ألفاظ القرآن باب اللام فصل الهاء والواو ] قال تعالى { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون – الأنعام 32 } وهؤلاء أمر الله تعالى رسوله بالإنصراف عنهم كما في قوله تعالى

{ وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون – الأنعام 70 }

قال تعالى في بيان أن كفار قريش كانوا حريصين على تحقيق مصالح دنيوية لا شأن لها بالدين والتوحيد والإسلام قال تعالى { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون – الحجر 3 } و كان هؤلاء حرصون على تجارتهم ولهوهم بالحياة الدنيا ومتاعها وزينتها قال تعالى { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً قل ماعند الله خير من اللهو ومن التجارةة والله خير الراززقين – الجمعة }

وكما أن هناك من ينشغل باللهو التجارة هناك مؤمنين لا تلهيهم تجارة ولا بيع ولا لهو عن ذكر الله قال تعالى فيهم  { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار – النور 37 } وهذا يثبت أيضاً أن الفريقين من طلاب الدنيا والدين وأهل بيت النبي كانوا في هذه الجلسة وقد أولى النبي اهتماماً بهؤلاء المستكبرين لعلهم يسلمون فعاتبه الله تعالى في اهتاماه بهم فهم لا يستحقون حتى مجالسته ولكن النبي كان حريصاً على ان يسلموا قال تعالى{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم – التوبة 128 }

وهنا لبيان وتوضيح ماذكرناه آنفاً في السنة والسيرة النبوية المطهرة ورد في “تفسير القرآن العظيم لابن كثير:

[( فأنت عنه تلهى ) أي : تتشاغل ومن هاهنا أمر الله عز وجل – رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يخص بالإنذار أحدا بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف والفقير والغني والسادة والعبيد والرجال والنساء والصغار والكبار ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة قال الحافظ أبو يعلى في مسنده حدثنا محمد هو ابن مهدي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس في قوله ) عبس وتولى ) جاء ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلم أبي بن خلف فأعرض عنه فأنزل الله ( عبس وتولى أن جاءه الأعمى ) فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه قال قتادة وأخبرني أنس بن مالك قال رأيته يوم القادسية وعليه درع ومعه راية سوداء يعني ابن أم مكتوم . وقال أبو يعلى وابن جرير حدثنا سعيد بن يحيى الأموي حدثني أبي ، عن هشام بن عروة مما عرضه عليه عن عروة عن عائشة قالت أنزلت ( عبس وتولى ) في ابن أم مكتوم الأعمى أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول أرشدني . قالت وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظماء المشركين قالت فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر ويقول أترى بما أقول بأسا فيقول : لا ففي هذا أنزلت ( عبس وتولى ) . وقد روى الترمذي هذا الحديث ، عن سعيد بن يحيى الأموي بإسناده مثله ثم قال وقد رواه بعضهم عن هشام بن عروة عن أبيه قال أنزلت ( عبس وتولى ) في ابن أم مكتوم ولم يذكر فيه عن عائشة . قلت كذلك هو في الموطأ . ثم روى ابن جرير وابن أبي حاتم أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس قوله ( عبس وتولى أن جاءه الأعمى ) قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وكان يتصدى لهم كثيرا ويحرص عليهم أن يؤمنوا فأقبل إليه رجل أعمى يقال له عبد الله بن أم مكتوم يمشي وهو يناجيهم فجعل عبد الله يستقرئ النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن وقال يا رسول الله علمني مما علمك الله فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبس في وجهه وتولى وكره كلامه وأقبل على الآخرين فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نجواه وأخذ ينقلب إلى أهله أمسك الله بعض بصره ثم خفق برأسه ثم أنزل الله ( عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى ) فلما نزل فيه ما نزل أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه وقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما حاجتك هل تريد من شيء ” وإذا ذهب من عنده قال هل لك حاجة في شيء ؟ وذلك لما أنزل الله تعالى ( أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى ) . فيه غرابة ونكارة وقد تكلم في إسناده وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن منصور الرمادي حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا الليث حدثنا يونس عن ابن شهاب قال : قال سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم وهو الأعمى الذي أنزل الله فيه ( عبس وتولى أن جاءه الأعمى ) وكان يؤذن مع بلال قال سالم وكان رجلا ضرير البصر فلم يك يؤذن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر أذن . وهكذا ذكر عروة بن الزبير ومجاهد وأبو مالك وقتادة والضحاك وابن زيد وغير واحد من السلف والخلف أنها نزلت في ابن أم مكتوم والمشهور أن اسمه عبد الله ويقال : عمرو والله أعلم –  تفسير القرآن العظيم لابن كثير ] .

ثم يقول تعالى :

  • كلا إنها تذكره (11) فمن شاء ذكره (12)

وهنا :

(كلا إنها)

[ كَلاّ : (اسم)كَلاّ : مصدر كَلَّ كَلاَّ : (حرف/اداة) حرف يفيد الردع والزجر والاستنكار، يجوز الوقوف عليه ] . قال تعالى { يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ  وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ  وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ – المعارج 11-17 } وهنا يتمنى المجرم الرجوع إلى الدنيا قال تعالى { حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون – المؤمنون 100 }

وأما عن كلا فقط فيقول تعالى { كلا بل تحبون العاجلة القيامة 20 } فإذا جمعوا المال وعرض الحياة الدنيا واستغنوا طغوا لقوله تعالى { كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى – العلق 6-7 } ولذلك قال تعالى في هؤلاء { كلا سيعلمون ثم كلا سوف يعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لتروون الجحيم ثم لتسئلن يومئذٍ عن النعيم – التكاثر }

 وأما :

(إنه)

أي أنه يقول تعالى { إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين – الواقعة 77-79} وهذا القرآن الكريم هنا تذكرة قال تعالىفيها { كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره }

 وأما :

(تذكره فمن شاء ذكره )

والذكر هو القرآن الكريم المنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله لقوله تعالى : { كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ  وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ- المدثر 54-56 }

وهذا الذكرأنزله الله تعالى ليذكر به قومه كما في قوله تعالى { وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون – الزخرف 4 } وهؤلاء قوم لم يأتيهم نبياً من قبل ليذكرهم كما في قوله تعالى { لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون – القصص 46 } ولعلهم يهتدون كما في قوله تعالى { أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون – السجدة 3 }  ولقد يسره الله تعالى بلسانهم العربي المبين كما في قوله تعالى { فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون – الدخان 58 } .

وهو ذكر للعالمين جميعاً إنس وجن وما تشاءون إلا أن يشاء الله تعالى هدايتهم قال تعالى  { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ و مَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ – التكوير 27-29 } ويبين تعالى أنهم فروا من هذه التذكرة بلا سبب فرار الحمير من الأسد قال تعالى { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُّنَشَّرَةً كَلَّا ۖ بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ  – المدثر 49-56 } .

وإذا كان هذا الذكر هو كتاب الله ففي موضع آخر من كتاب الله يعني رسول الله صلى الله عليه وآله في كتاب الله لقوله عز وجل { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا – الطلاق 10-11 } .

ويأتي الذكر على الإمام علي صاحب الأذن الواعية لما نزل فيه من قوله تعالى { لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية – الحاقة 12 } ورد أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال للإمام علي (عليه السلام : [ (يا عليّ، إنّ الله عزّوجلّ أمرني أن أدنيك وأعلّمك لتعي، وأنزلت هذه الآية: “وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ” (فأنت أذنٌ واعيةٌ لعلمي). وفي رواية (خصائص الوحي المبين) أورد النصّ ابن بطريق هكذا: (فأنت أذنٌ واعية). وقد روى ذلك أيضاً أبو نعيم في (حلية الأولياء)، والسيوطيُّ الشافعيُّ في (جمع الجوامع)، والمتّقي الهنديُّ في (كنز العمّال)، والحافظ الحاكم الحسكانيّ الحنفيّ في (شواهد التنزيل) بسندين، مع زيادة قول رسول الله صلّى الله عليه وآله في آخر حديثه المبارك: (يا عليّ، وأنت المدينة وأنت الباب، ولا يؤتى المدينة إلاّ من قبل بابها). كذلك روى ما تقدّم ابن عساكر الدمشقيُّ الشافعيّ في ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من كتابه (تاريخ مدينة دمشق)، والجوينيّ الشافعيّ في (فرائد السمطين). وبسندٍ آخر يروي الحسكانيّ منتهٍ الى زرّ بن حبيش عن عليّ بن أبي طالبٍ قال: (ضمّني رسول الله وقال: أمرني ربّي أن أدنيك ولا أقصيك، وأن تسمع وتعي، وحقّ على الله أن تعي. فنزلت: “وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ”. وفي روايةٍ أخرى قال: (وأُعلّمك لتعي). ومثل هذا ما رواه ابن جرير الطبريُّ في تفسيره (جامع البيان في تفسير القرآن)، والهيثميّ الشافعيّ في (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد)، والسيوطيّ في تفسيره (الدرّ المنثور) ] وبالتالي لن يتولى أحد الله تعالى ورسوله وأهل بيته عليهم السلام إلا إذا كانت هذه مشيئة الله تعالى فيه كما في الآية هنا { كلا إنها تذكره فمن شاء ذكره وما تشاءون إلا أن يشاء الله }

وأما :

(فمن شاء)

أي أنه يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله  ليبلغهم الحق من ربهم ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر قال تعالى { وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا- الكهف 29 } ومن شاء اتخذ غلى ربه سبيلا قال تعالى { إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا – المزمل 19 } وهذا السبيل هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله ثم ولاية الإمام علي عليه السلام والأئمة من ذريته كما أمر الله تعالى  .

 

 

ثم يقول تعالى عن هذه التذكرة :

(13)  في صحف مكرمة (13)

  وهنا :

(في صحف)

[ والصحف : المبسوط من الشيئومن ذلك الصحيفة التي يكتب فيها ] قال تعالى { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة –البينة 1-2 } وهذه الصحف المكرمة فيها صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام لقوله تعالى { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ – الأعلى 14-19 }  وهذه الصحف المكرمة لم يؤمن بها صناديد قريش لقولهم حسداً { وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى – طه 133 } .  ونقول حسداً لأنهم كانوا يتمنون نزول هذه الصحف في قبائلهم وبطونهم لقوله تعالى {   بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة – المدثر 52 } ولذلك قالوا { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم – الزخرف 31} وهذه الصحف مكرمة عند الله تعالى كما في الآية هنا { في صحف مكرمة } .

وأما :

(مكرمة)

[ الكريم : الشريف وكرم رجل شرفه ] قال تعالى { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر و البحر } والكريم : الشريف أو المنعم أو المحسن قال تعالى { ومن كفر فإن ربي غني كريم – النمل 40 } والكريم سبحانه وتعالى أنزل كتاباً كريماً قال تعالى فيه { إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون – الواقعة 77 } وهذا القرآن الكريم نزل على رسول ككريم قال تعالى فيه { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ – التكوير 19-22 } وقال تعالى أيضاً :{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ – الحاقة 40-43 } وقليلاً ما تذكرون هنا لكفرهم وحسدهم فكل امرئ منهم يريد أن ينزل الله تعالى عليه صحفاً كما أنززلها على خاتم النبيين صلى الله عليه وآله كما في قوله تعالى { بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة – المدثر 52 } ولذلك يقال لهم يوم القيامة كما قال تعالى لفرعون إمام الكفرة ومن تقلد به إذا دخلوا النار { ذق إنك أنت العزيز الكريم – الدخان 49} .

ثم يقول تعالى عن هذه الصحف المكرمة :

(14) مرفوعة مطهرة (14)

وهنا :

(مرفوعة)

الرفع هنا مكانة بهذا الذكر الذي قال تعالى فيه  { ورفعنا لك ذكرك – الشرح 4}  وهذا الرفع مكاناً عالياً في الدنيا والآخرة لورود هذا اللفظ في قوله تعالى: { ورفعناه مكاناً عليا – مريم 57 }  وهه الرفعة في الجنة لقوله تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ – الغاشية 11-16 } .

وقال تعالى أيضاً { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ  وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ –الواقعة 27-40 }

وهذه المكانة المرفوعة عند الله تعالى لا ينالها العبد إلا بالعمل الصالح لقوله تعالى { من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور – فاطر 10 } وهذا العمل الصالح لا يكون صالحا إلا بالإيممان الله تعالى ورسله أصحاب الدرجات عند الله تعالى وأعلاهم خاتمهم لقوله تعالى { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات –البقرة} والمؤمنين كذلك درجات عند الله تعالى كما في قوله عز وجل{   يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير – المجادلة 11 } وهؤلاء هم الذين تولوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وأهل بيته عليهم السلام الذين رفع الله تعالى بيوتهم على كل بيوت العالمين قال تعالى فيهم { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال – النور 36 } ومن أراد أن يرفع الله تعالى درجته تعالى يوم القيامة فليتولى هؤلاء كما بينا .

وأما :

(مطهرة)

[طَهَرَ: (فعل)طهَرَ يَطهَر ويَطهُر ، طُهْرًا ، فهو طاهِرطهَر الشّخصُ :كان نقيًّا منزهًا عن الأدناس، ضِدّ نجُسطَهَرَ الثَّوْبَ : أَزَالَ وَسَخَهُطَهَرَ الشَّيْءَ : أَبْعَدَهُطَهُرَ: (فعل)طهُرَ يَطهُر ، طَهَارةً وطُهْرًا ، فهو طاهِر وطَهُورطَهُرَ : نَقِيَ، سَلِمَ مِنَ النَّجَاسَةِ وَالأَوْسَاخِ وَالأَدْرَانِطهُرتِ الحائضُ أو النفساءُ: انقطع دمُها، أو اغتسلت من الحيض وغيرهطَهُرَ :برئ من كل ما يَشِينُ ] قال تعالى في بيان أن الطهارة بالصلاة والوضوءو الأغتسال امتثالاً لأوامر الله تعالى التي قال تعالى فيها { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ – المائدة 6 } وههذه هى طهارة البدن وأما طهرة المعتقد في الدين والولاية الحق لرب العالمين ورسوله الكريم لقوله تعالى { { رسول من الله يتلو صحفا مطهرة – البينة 2 } وهذه الصحف المطهرة تدعوا لولاية

المطهرون من أهل بيت النبي عليهم السلام الذين أذهب الله تعالى عنهم وعن ذريتهم دنس الشرك وهو الرجس في قوله تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا – الأحزاب 33 } .

وبالتالي الجزاء هنا هو الجنة و الزوجات الطاهرات المطهرات لمن تطهر بها عملاً بكتاب الله وتولى أهل بيته عليهم السلام الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا لقوله تعالى {   والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا – النساء 57 } وقال تعالى أيضاً { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون – البقرة 25 } وقال تعالى أيضاً  مبيناً أن هذه الجنة كانت بعملهم الصالح وتقواهم لله عز وجل ومنها اجتناب كل ما يسخط الله تعالى ويغضبه عز وجل قال تعالى { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد – آل عمران 15 }  وهذا هو معنى قوله تعالى هنا { مرفوعة مطهرة – عبس 14 } .

ثم يقول تعالى :

(16) كرام بررة (16)

وهنا :

(كرام)

والكريم و صاحب الكرم وأصله هو الله تبارك وتعالى ذو الجلال والإكرام  لقوله تعالى { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام – الرحمن 27 } وقال تعالى أيضاً  { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام – الرحمن 78 } وقال تعالى أيضاَ { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في اي صورة ماشاء ركبك– الإنفطار6-8 }

والملائكة كراماً ومنهم كتبة أعمال العباد قال تعالى { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ – الإنفطار 10-12 } .

ورد في تفسير هذه الآية :

[ كراما كاتبين أي علي ; كقوله : كرام بررة . وهنا ثلاث مسائل : الأولى : روي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى حالتين : الخراءة أو الجماع ، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم حائط أو بغيره ، أو ليستره أخوه ” . وروي عن علي – رضي الله عنه – قال : ( لا يزال الملك موليا عن العبد ما دام بادي العورة ) وروي ( إن العبد إذا دخل الحمام بغير مئزر لعنه ملكاه ) . الثانية : واختلف الناس في الكفار هل عليهم حفظة أم لا ؟ فقال بعضهم : لا ; لأن أمرهم ظاهر ، وعملهم واحد ; قال الله تعالى : يعرف المجرمون بسيماهم . وقيل : بل عليهم حفظة ; لقوله تعالى : كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون . وقال : وأما من أوتي كتابه بشماله وقال : وأما من أوتي كتابه وراء ظهره ، فأخبر أن الكفار يكون لهم كتاب ، ويكون عليهم حفظة . فإن قيل : الذي على يمينه أي شيء يكتب ولا حسنة له ؟ قيل له : الذي يكتب عن شماله يكون بإذن صاحبه ، ويكون شاهدا على ذلك وإن لم يكتب . والله أعلم . الثالثة : سئل سفيان : كيف تعلم الملائكة أن العبد قد هم بحسنة أو سيئة ؟ قال : إذا هم العبد بحسنة وجدوا منه ريح المسك ، وإذا هم بسيئة وجدوا منه ريح النتن . وقد مضى في ( ق ) قوله : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد زيادة بيان لمعنى هذه الآية . وقد كره العلماء الكلام عن الغائط والجماع ، لمفارقة الملك العبد عند ذلك . وقد مضى في آخر ( آل عمران ) القول في هذا . – تفسير القرطبي ] .

والكرام بعد ذلك أنبياء الله تعالى لقوله عز وجل { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون – الأنبياء 76 } . وأكرمهم خاتمهم صلى الله عليه وآله لقوله تعالى { ‏‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ‏‏‏ – الحاقة 40-42}‏‏‏‏ . وهؤلاء هم الكرام البررة كما في الاية هنا {  كرام بررة – عبس 16 } .

وأما :

(برره)

[ والبررة جمع أبرار : وهو التوسع في الإحسان ] قال تعالى لبيان المعنى{ وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصيا – مريم 14 } والأبرار هم أهل الجنة الذين ماتوا على الإسلام والإيمان فكتبهم الله تعالى في ديوان عليين الذي يشهده المقربون وهم أنبياء الله تعالى ورسوله وأهل بيته عليهم السلام قال تعالى { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون – المطففين } .وهؤلاء في الجنة ينعمون بها لقوله تعالى { إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا –  الإنسان } وهؤلاء هم الذين عملوا بالذكر كما في قوله تعالى هنا { فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة –  عبس } .

ثم يقول تعالى :

(17) قتل الإنسان ما أكفره (17)

وهنا :

(قتل)

وهنا {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ } أي [ لُعِنَ الإنسان الكافر وعُذِّب, ما أشدَّ كفره بربه!! ]

وهنا قتل الإنسان ما أكفره } أي أنه قتل من حيث كفر بالله ومكر بآيات الله ورسله وأهل بيته عليهم السلام والمؤمنين فقتله الله حيث قدر وفكر ومكر قال تعالى : { إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر – المدثر 19 }  ومن أفعالهم التي قتلهم الله تعالى بها مكرهم برسول الله صلى الله عليه و أهل بيته عليهم السلام والمؤمنين قال تعالى لذلك : {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين – الأنفال 30 } وهنا بين أن مكرهم هذا دار ويدور في كل زمن على ثلاث محاور إما السجن أو قتل الرسول أو الإمام أو المؤمن أو إخراجه من بيته وقال تعالى في تحريم القتل خاصة المقتول مظلوماً وهم أهل بيت النبي عليهم السلام وأولهم الإمام علي والإمام الحسي المقتول مظلوماً قال تعالى { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا – الإسراء 33 }

وهؤلاء الذين فاقوا الكفار كفراً هم الذين اعتمدوا في معتقدهم على الظن وهم الخراصون الذين كفروا بالله تعالى ورسوله وحاربوا المؤمنين بالظنة فقتلهم الله تعالى قال تعالى  { قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون – الذاريات 10-11 }  أي [  لُعِن المتكهنون الذين يتخرّصون الكذب والباطل فيتظننونه. – تفسير الطبري ] .

ومن هؤلاء الذين قاتلهم الله تعالى المنافقون بتآمرهم على رسول الله وأهل بيته عليهم السلام والمؤمنين قال تعالى : {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ – المنافقون 4 } وهؤلاء ليسوا كفاراً عاديين بل أعظم كفراً من الكفار أنفسهم كما في قوله تعالى هنا { قتل الإنسان ما أكفره} أي ما أشد كفرهم بقتالهم النبي صلى الله عليه وآله و بقتلهم أهل بيته عليهم السلام والمؤمنين [ يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام لما سئل عن قوله تعالى (قتل الإنسان ما أكفره)  قال نعم نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام يعني (ما أكفره) بقتلكم إياه أي الإمام علي عليه السلام _وفي تفسير علي بن إبراهيم في بين الآية قال هو أمير المؤمنين قال (ما أكفره) أي مافعل ذنب حتى قتلوه  –كنز الدقائق للمشهدي القمي ج 14 ص 136-135  ] .

وورد في تفسير القرطبي :

[ قوله تعالى : قتل الإنسان ما أكفره ؟ قتل أي لعن . وقيل : عذب . والإنسان الكافر روى الأعمش عن مجاهد قال : ما كان في القرآن قتل الإنسان فإنما عني به الكافر . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : نزلت في عتبة بن أبي لهب ، وكان قد آمن ، فلما نزلت والنجم ارتد ، وقال : آمنت بالقرآن كله إلا النجم ، فأنزل الله – جل ثناؤه فيه – قتل الإنسان أي لعن عتبة حيث كفر بالقرآن ، ودعا عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال : اللهم سلط عليه كلبك أسد الغاضرة فخرج من فوره بتجارة إلى الشام ، فلما انتهى إلى الغاضرة تذكر دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – ، فجعل لمن معه ألف دينار إن هو أصبح حيا ، فجعلوه في وسط الرفقة ، وجعلوا المتاع حوله ، فبينما هم على ذلك أقبل الأسد ، فلما دنا من الرحال وثب ، فإذا هو فوقه فمزقه ، وقد كان أبوه ندبه وبكى وقال : ما قال محمد شيئا قط إلا كان .

وروى أبو صالح عن ابن عباس ما أكفره : أي شيء أكفره ؟ وقيل : ما تعجب ; وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا : قاتله الله ما أحسنه ! وأخزاه الله ما أظلمه ; والمعنى : اعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا . وقيل : ما أكفره بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه على التعجب أيضا ; قال ابن جريج : أي ما أشد كفره ! .

وقيل : ما استفهام أي أي شيء دعاه إلى الكفر ; فهو استفهام توبيخ . و ( ما ) تحتمل التعجب ، وتحتمل معنى أي ، فتكون استفهاما . – تفسير القرطبي ]

وأما :

(الإنسان ما أكفره) 

وهنا إذا قال تعالى عن الإنسان { وبدأ خلق الإنسان من طين } وهذا الإنسان إذا اإناه الله طغى كما في قوله تعالى { كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى – العلق }  ولذط يقول تعالى في أكثر بني آدم كفار بالله تعالى كما في قوله عزو جل {  ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا – الإسراء 89 } وقال تعالى أيضاً { وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور – الحج 66 } وإذا كان هذا هو حال الأكثرية من بني آدم فإن الله تعالى يبين أن فيهم من هم أشد كفراً من هؤلاء وهم الذين قال تعالى فيهم هنا { قتل الإنسان ما أكفره }

وأما :

(ما أكفره)

ورد لفظ ما في قوله تعالى { و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم – إبراهيم 4 } والكثير من الناس كفروا برسالة ربهم و أشركوا كما في قوله تعالى { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون – يوسف 106 } ومن هؤلاء المشركين منهم أشد منهم كفراً وقال تعالى فيهم هنا { قتل الإسان ما أكفره } .

ثم يقول تعالى :

(18) من أي شيئ خلقه (18)

وهنا :

كأنه يقول تعالى لهؤلاء الكفرة { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون – الطور 35 } ويقول تعالى أيضاً { أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون – الطور 36 } فلما كفروا بالله تعالى وهو خالق كل شئ قال تعالى { واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا – الفرقان 3 } وبالتالي هؤلاء المجرمين القتلة يشركون مالا يخلق شيئاً قال تعالى { أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون – الأعراف 191 } وقال تعالى أيضاً { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون – النحل 20 } .

ثم يقول تعالى :

(19) من نطفة خلقه فقدره (19)

وهنا :

(من نطفة خلقه)

أي أنه يقول تعالى { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ – المؤمنون 12-14 }

وأما :

(خلقه فقدره)

أي أنه خلق كل شيئ فقدره تقديرا قال تعالى { وخلق كل شيء فقدره تقديرا – الفرقان 2 } ومن هذه الأشيائ التي خلقها الله عز وجل خلق الإنسان وقال تعالى فيه { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ  فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ – المرسلات 20-23 } . وهنا يبين تعالى أنه بعد ما يخلق الله تعالى الإنسان يموت ثم يبعث وينشره الله تعالى للحساب قال تعالى { مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ  ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَه ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ – عبس 18-22 } .

ثم يقول تعالى :

(20) ثم السبيل يسره (20 )

وهنا :

(السبيل)

والسبيل : الطريق قال تعالى { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا – الكهف 61 } أي طريقاً له مفتوحًا. وكما يسبح الحوت في الماء كذلك تسبح في نطفة الرجل مايخلق الله تعالى به العلقة بعد ان يتخذ سبيله في رحم الام ولذلك قال تعالى هنا { ثم السبيل يسره عبس 20} وهذا السبيل رحم الأم لذلك قال في رفض قوم لوط هذا السبيل إلى سبيل الخراء والبراز { أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر – العنكبوت 19 } وهنا إذا اجتمعت النطفتان تحولتا إلى علقة وهنا يكتب مابين عينيها ما هو كائن وشقي أم سعيد.

وأما :

(يسره)

[ ويسره أي جعله يسير في يسر ] قال تعالى { فالجاريات يسرا – الذاريات 3 } وكما تجري السفينة الماء بيسر كذلم نطفة الرجل تسير في يسر في ماء رحم المرأة حتى تلتصق به فتعلق وتتحول إلى علقة لذلك قال تعالى هنا { ثم السبيل يسره } .

ثم يقول تعالى :

(21) ثم أماته فأقبره (21)

وهنا :

(ثم )

أي أنه يقول تعالى { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ثمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ- المؤمنون 12-16 } .

وأما :

(ثم أماته)

أي أنه يقول تعالى { وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور – الحج 66 }

وقال تعالى أيضاً { قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون – الجاثية 26 } وهنا يبين تعالى أنه إذا أماته فقد أقبره قال تعالى { ثم أماته فأقبره } .

وأما :

(فأقبره)

وأقبره بمعنى دفن جسده في الأرض حتى البعث لهذا الجسد من بعد الدفن في القبر قال تعالى {   وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور– الحج 7 }

ثم يقول تعالى :

(22) ثم إذا شاء أنشره (22)

وهنا :

(ثم)

أي أنه يقول تعالى { ثمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ- المؤمنون 16 } .وهذا البعث هو يوم النشور الذي قال تعالى فيه هنا { ثم إذا شاء أنشره } وهذا للمؤمنين الذين ماتوا  على الإسلام والإيمان وأما الذين ماتوا على الكفر فلا هم أحياء ولا أموات كما في قوله تعالى { ثم لايموت فيها ولا يحيا – } لذلك قال تعالى هنا { ثم إذا شاء أنشره }

وأما :

(إذا شاء)

وهنا ييقول تعالى { نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا – الإنسان 28 } وهذا الخلق بعث جديد قال تعالى فيه تعالى هنا { نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا – الإنسان 28 } والله تعالى يخلق ما يشاء في الدنيا لقوله تعالى { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء – آل عمران 6} وقال تعالى أيضاً { في أي صورة ما شاء ركبك – الإنفطار 8 }

وهو يخلق ما يشاء سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة كما في قوله تعالى { يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير – المائدة 17 } . ولذلك يقول تعالى هنا { ثم إذا شاء أنشره } .

وأما :

(أنشره)

[ ونشر الله تعالى الميت أحياه من بعد الموت ] قال تعالى { والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون – الزخرف 11 }  وهذا الخروج وإحياء الأجساد وخروجها من الأرض من بعد الموت هو النشور قال تعالى { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور – فاطر 9 } والنشور إليه تعالى وبأمره عز وجل كما في قوله تعالى { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور – الملك 15 } فإذا كان يوم القيامة أخرجهم من خلقهم من الأجداث أو القبور كأنهم جراد منشر قال تعالى فيه {  خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر – القمر 7 } .

ثم يقول تعالى :

(23) كلا لما يقضي ما أمره (23)

وهنا :

(كلا)

أي أنه يقول تعالى { كلا إنه تذكره فمن شاء ذكره – المدثر 54-55 }  وهنا يبين تعالى أنه لن يدخل الجنة ولن يبدل الله تعالى أجسادهم بالخلق الجديد ليدخلوا الجنة إلا إذا قضوا ما أمرهم الله تعالى به وعملوا به وفق ما قضاه تعالى في كتابه الكريم لذلك يقول تعالى هنا {  كلا لما يقضي ما أمره } .

وأما :

(لما)

أي أنه يقول تعالى هنا {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين – البقرة 142 } . والجهاد هنا في طاعة الله تعالى لذلك قال تعالى { كلا لما يقضي ما أمره } . ثم يبين تعالى أن هناك مكذبين بهذا القضاء وهذا الحق المنزل على رسوله لذلك قال تعالى { فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون – الأنعام 5 }  وفي آخر الزمان أيضاً يكذبون بعلم وتأويل إمام أهل بيت النبي عليهم السلام لقوله تعالى { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين – يونس 39 }

ولذلك قال تعالى هنا بعصهم وإحيائهم لدخول الجنة خاضع لمشيئة الله أولاً ثم عملهم مبا قضاه الله تعالى في كتابه الكريم قال تعالى هنا { ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقضي ما أمره } .

وأما :

(يقضي ما أمره)

وما أمر الله تعالى به هنا ولايته عز وجل ثم ولاية رسله وأنبيائه ثم إمامة أهل بيت النبي عليهم السلام ولا خيار لمخلوق في هذا القضاء الإلهي الذي قال تعالى فيه { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا – الأحزاب 36 } وهذا الخيار لا لمخلوق فيه خيار لأنه قضاء واختيار إلهي اصطفى به هذه الشجرة الطيبة التي اولها نبي الله آدم وآخرها وخاتمها سيدنا محمد ثم الأئمة من أهل بيته عليهم السلام وخاتمهم المهدي ثم القيامة لذلك قال تعالى { وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون – القصص 68}   . وهذا هو المقصود من قوله تعالى هنا { كلا لما يقضي ما أمره } .

ثم يقول تعالى :

(24) فلينظر الإنسان إلى طعامه (24)

وهنا :

(فلينظر)

وهنا يبين تعالى أن الدعوة للنظر دعوة للتدبر والتفكر في خلق الله تعالى للإيمان به قال تعالى { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون – يونس 101 } ولذلك قال تعالى { فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر – الطارق } وقال تعالى أيضاً هنا {  فلينظر الإنسان إلى طعامه – عبس 24 } .

وأما :

(الإنسان)

وهنا يقول تعالى للإنسان واعظاً إياه في كتابه الكريم فيقول { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ماشاء ركبك  – الإنفطار6-8 } ويقول تعالى ىلهذا الانسان أنك ملاقي ربك للحساب قال تعالى { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه – الانشقاق 6 } ويقول تعالى للكثير من الناس ممن تركوا العمل بكتابه الكريم { أيحسب الإنسان أن يترك سدى – القيامة 36 } ثم يدعوه تعالى هنا للتفكر في خلقه وحكمته تعالى لعلهم يهتدون قال تعالى { فلينظر الإنسان مما خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب – الطارق } ويقول تعالى له هنا أيضا ليدزهم للتفكر فيقول تعالى { فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنباً وقضبا وزيتوناً ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة أبا متاعاً لكم ولأنعامكم – عبس 28-32} .

ثم يقول تعالى :

(25) أنا صببنا الماء صبا (25)

 (أنا صببنا الماء)

أي أنه يقول تعالى { أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون – السجدة 27 } وهذاا الزرع ينبت هنا بصب الماء على الأرض كما في الآية هنا { أنا صببنا الماء صبا} .

وأما :

(صببنا الماء صبا)

[ وصبه أراقه من أعلى ] قال تعالى { يصب من فوق رؤوسهم الحميم – الحج 19 } وصب الماء هنا من السماء إلى الأرض قال تعالى { أنا صببنا الماء صبا } .

ثم يقول تعالى :

(26) ثم شققنا الأرض شقا (26)

وهنا :

(ثم )

وشق الأرض وخروج بني آدم منها كما تنبت الأرض ورد في قوله تعالى  { والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم منها إجراجا }

وأما :

(شققنا الأرض شقا )

وهنا يبين تعالى هنا أن الأرض تنشق ويخرج منها النبات في قوله تعالى { أنا شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا – عبس }

و كما تنشق الأرض فيخرج منها الزرع مختلف ألوانه كذلك يبعثهم الله تعالى الخلق فتنبت أجسادهم كما ينبت النبات قال تعالى { يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ – الفرقان 44 } .

ثم يقول تعالى :

(27) فأنبتنا فيها حبا (27) وعنباً وقضبا (28) وزيتوناً ونخلا (29)

وهنا يبين تعالى مختلف الزروع التي تنبت بهذا الماء النازل من السماء فتنشق به الأرض مخرجة زرعاً مختلفاً ألوانه وأنواع ومذاقه قال تعالى في الحبوب التي هى سنابل { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم – البقرة 261  } وهذه الحبوب والزروع تنبت بماء أنزله الله تعالى من السماء قال تعالى

{ وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون – الأنعام 99 } وقال تعالى أيضاً : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (ترعى به دوابكم)  يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ – النمل 10-11 } .

وأما :

(وقضبا)

[ وقضب الشيئ : قطعه ويقال هو البرسيم الحجازي لقطعه وقضبه عدة مرات وكل مرة ينطبق عليه هذه الصفة بأن يحش فينبت للأكل مرة أخرى فهو قضب- معجم ألفاظ القرآن باب القاف فضل الضاد والباء ] قال تعالى { فأنبتنا فيها حبا و عنباً وقضبا – عبس  27- 28 } . وهذا من الألفاظ التي ليس لها مرادف في كتاب الله فتبين باللغة العربية .

ثم يقول تعالى :

(30) وحدائق غلبا (30)

وهنا :

(حدائق)

حدائقُ جمع حديقة وهى [ روضة، بستان، كلّ أرض ذات شجر وأزهار محدّدة أو محاطة بحاجز “زرع في حديقته أنواعًا نادرة من الأزهار] قال تعالى { أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أئله مع الله بل هم قوم يعدلون  – النمل 60 } .

وأما :

(غلبا)

[ وغلبا : جمع غلباء وهى الحدائق الملتفة فإذا غلبت الحدائق ما حولها فهى غلباء ] قال تعالى في الغلبة  { ربنا غلبت علينا شقوتنا – المؤمؤن 106 } أي غلبت عليهم أهوائهم وكذلك إذا غلبت غلبت الحدائق هنا أصبحت حدائق غلبا قال تعالى { وحدائق غلبا}  .

ثم يقول تعالى :

(31) وفاكهة وأبا (31)

وهنا :

(وفاكهة)

هذه هى فاكهة الدنيا التي قال تعالى فيها { وفاكهة وابا } وهذه الفاكهة فياآلآخرة جعلها الله تعالى للمتقين الذين ماتوا على الإسلام وعلى طاعة الرحمن قال تعالى { إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون – المرسلات 42  } وقال تعالى {  مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ – ص 51 } .

وأما :

(وأبا)

[ الأب : الكلاء والمرعى للأنعام والبهائم ] قال تعالى { وفاكهة وأبا متاعاً لكم ولأنعامكم – عبس } وهذا اللفظ مما ليس له مرادف في كتاب الله .

ثم يقول تعالى :

(32) متاعاً لكم ولأنعامكم (32)

وهذه الآية مكررة بتمامها في قوله تعالى { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ  فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَىٰ  – النازعات 31-34 }  أي أن الفاكهة والآب متاعاً للإنسان والأنعام كما في قوله تعالى هنا  { وفاكهة وأبا متاعاً لكم ولأتعامكم – عبس 31-32}

 ثم يقول تعالى :

(33) فإذا جاءت الصاخة (33)

وهنا :

(فإذا جاءت)

أي أنه يقول تعالى { فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَىٰ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَىٰ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ فَأَمَّا مَن طَغَىٰ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ – النازعات 34-41} . والطامة أطلق هذا الإسم على يوم القيامة [ .. التي تطم على كلّ هائلة من الأمور، فتغمر ما سواها بعظيم هولها، وقيل: إنها اسم من أسماء يوم القيامة.- تفسير الطبري ] . وهذا اليوم هو يوم الصاخة كما في الآية هنا { فإذا جاءت الصاخة } . [ والصاخة صيحة يوم القيامة تصمُّ مِن هولها الأسماع – التفسير الميسر].

وأما :

(الصاخة)

[ والصاخة الضرب بشيء صلب على شيئ مصمت والصاخة شدة الصوت ذي النطق لأنها تصخ الأسماع وهو الصوت الشديد يؤثر في الأذن والقلب – معجم ألفاظ القرآن باب الصاد فصل الخاء والخاء ] . قال تعالى { فإذا جاءت الصاخة – عبس 33 } وهذه الصاخة صفة من صفات يوم القيامة كالظامة الكبرى والقارعة والحاقة …إلخ صفات يوم القيامة إلا أن كل اسم له مضمون ومعنى كلها اجتمعت في تسلسل أحداث إنطباق السماء على الأرض كما في قوله  تعالى { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين – الأنبياء 104} . وهنا يركض كل بني آدم هرباً من هول الموقف قال تعالى { فلما أحسوا بأسنا إذا هم يركضون – الأنبياء 12 } وهنا يقول الإنسان أين المفر لا مفر في هذا اليوم من لقاء الله تعالى كما في قوله عز وجل { يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر – القيامة 10-12 } .

ثم يقول تعالى :

(34) يوم يفر المرء من أخيه (34) وأمه وأبيه (35) وصاحبته وبنيه (36)

وهنا :

(يوم)

{ إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا – النبأ 40 } وفي هذا اليوم يفر المرء من أخيه وأمه وابيه وصاحبته وبنيه كما في قوله تعالى هنا{ يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه }

وأما :

(يفر)

وهنا يأمر الله تعالى بني آدم بأن يفروا من المعاصي إلى طاعة الله قال تعالى { ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين – الذاريات 50 } وهذا لأنهم يوم القيامة سيفر كلمنهم من أقرب الناس إليه كي ينجوا من عذاب الله تعالى { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ – عبس 34-37 } .

(المرء)

والمرء [: الْمَرْءُ عِنْدَ التَّعْرِيفِ، وامْرُؤٌ عِنْدَ التَّنْكِيرِ، بِكَسْرِ هَمْزَةِ الوَصْلِ: جمع: رِجَالٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ مُؤَنَّثُهُ امْرَأَةٌ عِنْدَ التَّنْكِيرِ، وَالْمَرْأَةُ عِنْدَ التَّعْرِيفِ جمع: نِساءٌ وَنِسْوَةٌ (مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ)إنّما المَرْءُ حديثٌ بعده: الحثّ على حسن العمل والتّعامل،المرء كثير بأخيه: الحثّ على الاتّحاد والاتّفاق ] .

يقول تعالى { إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا – النبأ 40 } فإذا نظر إلى ما قدمت يداه قال نفسي نفسي وهنا يفر من أخيه وأمة وابيه كما في الآية هنا { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ – عبس 34-37 } .

وأما :

(من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه)

وهؤلاء هم المجرمين الذين ماتوا على كفر ونفاق وعصيان لله تبارك وتعالى وقال فيهم { يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ كَلَّا ۖ إِنَّهَا لَظَىٰ نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ – المعارج 11-18 } وهنا يبين تعالى حتى أمه وأبيه وبنيه سيفر منهم من سوء العذاب وهول هذا اليوم قال تعالى {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ – عبس 34-37 } .

ثم يقول تعالى :

(37) لكل امرء يومئذٍ شأن يغنيه (37)

وهنا :

(لكل امرئ)

أي أنه يقول تعالى { كل امرئ بما كسب رهين – الطور 21 } أي كل إنسان مرهون بعمله, لا يحمل ذنب غيره من الناس لذلك يقول تعالى هنا { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه – عبس 37 } .

وأما :

(يومئذٍ)

أي أنه في هذا اليوم يقول تعالى فيه { وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد – إبراهيم 49 } وفي هذا اليوم لا تنفعهم معذرة ولا شفاعة ولا هم يستعتبون قال تعالى { فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون – الروم 57 } وفي ذلك اليوم لا تملك نفس لنفس شيئا لقوله تعالى {   يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله – الإنفطار 19 }  ولذلك قال تعالى هنا عن فرارهم من أقرب الأقرباء إليهم نسباً { لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه }

وأما :

(شأن)

و[ الشأن : الحال ] قال تعالى { فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم – النور 62 }

و شأن الله تعالى أنه كان شهيداً عليهم عز وجل في الدنيا قال تعالى { وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين – يونس 61 } ويوم القيامة ينبئهم الله تعالى بما عملوا لذلك {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} أي حال يغنيه عن غيره من شدة هذا اليوم عسر. ولذلك يقولون { مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر  -القمر 8 } .

وأما :

(يغنيه)

وشأن يغنيه أي أنه في هذا اليوم لا يغني والد عن ولده شيئاً ولا مولود هو جاز عن والده قال تعالى

{ يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون – الدخان 41 } أي لا يجزي  مولى عن مولى شيئا ولا والد عن ولده قال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ – لقمان 33 } . أي { لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه } .

 ثم يقول تعالى :

(38) وجوه يومئذٍ مسفرة (38)

 وهنا :

(وجوه يومئذٍ)

وهذه هى وجوهأهل الجنة الذين قال تعالى فيهم : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ – الغاشية 8-16 } وهؤلاء هم أصحب الوجوه المسفة هنا كما في قوله تعالى  {وجوه يومئذ مسفة ضاحكة مستبشرة – عبس }

وأما :

(مسفرة)

أي أنها وجوه ناضرة مستبشره مشرقة وذلك لأنها عملت بالصحف المكرمة وفق ما أمر الله تعالى لقوله عز وجل { كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَة بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ – عبس 11-16 } ومن عمل بهذه الصحف المطهرة سيأتي يوم القيامة وجهه مسفراً مستبشراً ضاحكا كما في الآية هنا { وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة } يسعى نورهم بين أيديهم كما في قوله تعالى { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم – الحديد12 } .

ثم يقول تعالى :

(38) ضاحكة مستبشرة (38)

وهنا :

(ضاحكة)

أي أنهم يضحكون من الكفار في الآخرة كما استهزءوا بالمؤمنين في الدنيا وكانوا منهم يضحكون كماا في قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ  وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ – المطففين 29-32 } ولذلك قال تعالى في يوم القيامة { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ – المطففين 34-36 } وهذا هو معنى {ضاحكة مستبشرة } .

وأما :

(مستبشرة)

وهنا : [ بشَّر النَّاسَ: أنبأهم بخبر سارٍّ فأسعدهم :- {يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى} – {وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ}: حاملات للسُّحب المُمطِرة.بشَّر النَّاسَ: بلَّغهم وأخبرهم :- (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا)بشَّر النَّاسَ: توعّدهم بما ينطوي على معنى التهكّم ( فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) ] .

وأول بشارة بشرها الله تعالى للمؤمنين في الدنيا بالجنة إن أسلموا لله تعالى لذلك قال تعالى {   وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون – البقرة 25} فإن أسلموا مع رسول الله أو الإمام من أهل بيت النبي عليهم السلام فقد بشرهم الله تعالى بأن بيعتهم بيعة لله تعالى وجزاؤهم الجنة وهى الفوز العظيم  قال تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم – التوبة 111 } فإذا استشهدوا استبشروا بمن لم يلحقوا بهم قال تعالى { فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون  – آل عمران 170}  وهؤلاء يستبشرون بنعمة من الله وفضل قال تعالى فيه { يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين- آل عمران 171 } . ولذلك قا تعالى هنا {ضاحكة مستبشرة } .

ثم يقول تعالى :

(39) ووجوه يومئذ عليها غبرة (39)

وهنا :

(وجوه يومئذٍ)

أي أن وجوهأهل النار قال تعالى فيهم {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَة تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ – القيامة } [ وباسرة : كاشرة أو مسودة كالحة ، يقال : بسرت وجهه أبسره بسرا : إذا فعلت ذلك ، وبسر وجهه فهو باسر بين البسور – تفسير الطبري ] وفاقرة : داهية .وهنا يبين تعالى أن هؤلاء وجوههم عليها غبرة .

وأما :

(عليها غبرة)

والغبار: ما تبقى من تراب قال تعالى { وجوه يومئذٍ عليها غبرة – عبس } والغابرين هم الذين هلكوا في الأرض ورحلوا في الآخرة بغبارهم كقوله تعالى في امرأة لوط { إلا امرأتك كانت من الغابرين– العنكبوت 33 } وفي الآخرة يبعثون ووجوههم عليها غبرة .

ثم يقول تعالى :

(40) ترهقها قترة (40 )

 وهنا :

(ترهقها)

[ وأرهقه غشاه وذله وقهره ]  قال تعالى { فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفرا – الكهف 80} ورهق من التعب والإجهاد قال تعالى { ولا ترهقني من أمري عسرا – الكهف 73 } والذين ماتوا على الكفر والنفاق والسيئات قال تعالى فيهم { والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون – يونس 27 }  وهذا الإرهاق وهذه الذلة في الآخرة لتركهم الطاعة لله تعالى في الدنيا وهم سالمون قال تعالى {خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون – القلم 43 }

 وأما :

(قترة)

[ والقتر : التضييق على العيال في النفقة قال تعالى { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين – البقرة 236 } والمؤمنون في الآخرة لا يرهقهم قتر ولا ذلة قال تعالى { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون – يونس 26 } وأما الكفرة الفجرة فهم الذين يرهقهم الله تعالى بالقتر والذلة كما في قوله تعالى { ووجوه يومئذٍ عليها غبرة ترهقها قترة أولائك هم الكفرة الفجرة – عبس 39-42 } .

ثم يقول تعالى في هؤلاء :

(43)أولائك هم الكفرة الفجرة (43)

وهنا :

(أولائك هم الكفرة)

وهؤلاء هم الذين تركوا العمل بكتاب الله تعالى والتحاكم له قاال تعالى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولائك هم الكافرون – المائدة } . وهؤلاء منهم المنافقون الذين قال تعالى فيهم { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۛ  – المائدة 41}

وهؤلاء هم الذين تولوا غير الله تعالى ورسوله وأهل بيته عليهم السلام وتولوا آبائهم وأجدادهم وقبائلهم قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون –التوبة 23 } .

وأما :

(الفجرة)
: والفاجر : العاصي والكافر لأن الفجور فتح وانبعاث في المعاصي قال تعالى { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها – الشمس 8 }  والفجار في جحيم لقوله تعالى { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم – الإنفطار 14 } وهؤلاء الفجار المفسدون في الأرض لا يستوون بالمؤمنين في الدنيا ولا الآخرة قال تعالى { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار – ص 28 } وهنا ورد في أسباب النزول : [ عن علي (عليه السلام) نزلت هذه الآية في ثلاثة من المسلمين وهم المتقون الذين عملوا الصالحات وفي ثلاثة من المشركين وهم المفسدون الفجار فأما الثلاثة المسلمين فعلي بن اب يطالب  وحمزة بن عبد المطلب و عبيد بن الحارث بن عبد المطلب وهم بارزوا يوم بدر فقتل علي الوليد وقتل حمزة عتبة وقتل عبيدة شيبة– شواهد التنزيل ج 2ص 171-172 ] .

وعلى ذلك الكفرة الفجرة هم أعداء الله تعالى ورسوله وأهل بيته عليهم السلام وهؤلاء لا يستوون بالمؤمنين الذين تولوا الله تعالى ورسوله وأهل بيته عليهم السلام . أهـ

هذا وبالله التوفيق وما توفيقي إلا بالله

عليه توكلت وإليه أنيب وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .

انتهى العمل من هذه السورة الكريمة

في 11 ذو الحجة سنة 1420هـ الموافق 17 مارس سنة 2000 م .

خالد محيي الدين الحليبي