سورة الفجر pdf :
السورة بصيعة ملفات ورد :
تفسير البينة (النبأ العظيم)
ورد في تفسير الدر المنثور : [ أخرج ابن الضريس والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي من طرق عن ابن عباس قال: نزلت { والفجر } بمكة. وعن عبدالله بن الزبير قال: أنزلت { والفجر } بمكة.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبدالله بن الزبير في قوله: { والفجر } قال: قسم أقسم الله به.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ميمون بن مهران قال: إن الله تعالى يقسم بما يشاء من خلقه وليس لأحد أن يقسم إلا بالله.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإِيمان عن ابن عباس في قوله: {والفجر } قال: فجر النهار.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: { والفجر } قال: هو الصبح. –الدر المنثور للسيوطي ] .
تفسير البرهان :
[ عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: ” قوله عز و جل: { وَٱلْفَجْرِ } الفجر هو القائم (عليه السلام): { وَلَيالٍ عَشْرٍ } الأئمة (عليهم السلام) من الحسن إلى الحسن { وَٱلشَّفْعِ } أمير المؤمنين و فاطمة (عليها السلام)، { وَٱلْوَتْرِ } هو الله وحده لا شريك له: { وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ } هي دولة حبتر، فهي تسري إلى دولة القائم (عليه السلام) .
– محمد بن العباس: عن الحسين بن أحمد، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن يعقوب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: ” الشفع هو رسول الله (صلى الله عليه و آله) و علي (عليه السلام)، و الوتر هو الله الواحد القهار عز و جل “.
– علي بن إبراهيم، قال: ليس فيها (واو) و إنما هو (الفجر و ليال عشر) قال: عشر ذي الحجة { وَٱلشَّفْعِ } قال: ركعتان { وَٱلْوَتْرِ } ركعة.
– قال: و في حديث آخر قال: الشفع الحسن و الحسين، و الوتر أمير المؤمنين (عليهم السلام).
– الشيباني في (نهج البيان)، قال: روي عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام): ” أن الشفع محمد و علي، و الوتر الله تعالى “.
– الطبرسي، قال: الشفع يوم النحر، و الوتر [يوم] عرفة، قال: و هي رواية جابر، عن النبي (صلى الله عليه و آله).
قال: و الوجه فيه أن يوم النحر يشفع بيوم نفر بعده، و ينفرد يوم عرفة، [و قيل: الشفع يوم التروية، و الوتر يوم عرفة] و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليهما السلام) “.- البرهان ] .
التفسير:
- والفجر (1)
وهنا يقسم الله تبارك وتعالى بالفجر لما فيه من حكم بالغة منها الظاهر ومنها الباطن الظاهر بما فيه من حكم أودعهاالله تعالى في بزوغ ضوء الفجر من بين الظلام الدامس في صورة ضوء رفيع منفرد مايلبث أن يتحول هذا الضور الرفيع إلى نور ساطع منتشر بعد ظلام دامس وفي ذلك آية ظاهرة ومافيه من بواطن وحكم أن ظلمات الليل لا تستمر ولا النور سيستمر لذلك قال تعالى { وتلك الأيام نداولها بين الناس – آل عمران 140} وهذه المداولة بين ظلمات الجلااهلية ونور الإسلام كما سنبين إن شاء الله .
وأما :
(و)
الواو هنا واو قسم كقوله تعالى في قسمه بالظواهر الكونية والتي لا يقدر عليها إلا خالقها وفيها دلالة على ألوهيته وأنه الخالق المستحق للتعظيم و للعبادة قال تعالى { والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها – الشمس } { والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى –الليل } وقال تعالى { والجم إذا هوى } وقال تعالى { والضحى والليل إذا سجى } وما بين الليل والنهار والسماء والأرض يتفجر الفجر لذلك أقسم الله تعالى هنا بالفجر قائلاً سبحانه { والفجر وليال عشر } .
وأما :
(و الفجر)
[ الفجر : شق عمود الصبح فجره الله لعباده فجراً إذا أظهره في أفق المشرق منتشراًيؤذن بإدبار الليل المظلم وإقبال النهار المضيئ – مجمع البحرين كتاب الراء وما أوله فاء ] ومنه قوله تعالى { وفجرنا الأرض عيوناً – القمر 12 } أي انشقت الأرض وتفجرت منها العيون كذلك المعنى هنا في الفجر و شق الصبح و انفلاق الصبح من ظلمة الليل قال تعالى فيها : { فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبابنا – الإنعام } قال تعالى في انفلاق الصبح وتفجره بخيط أبيض يتسع حتى يعمل الأفاق قال تعالى في أوقات العشاء والفجر { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر – البقرة } . وهذا الوقت من الفجر يقسم به الله عز وجل لما فيه من بركة وإجابة دعاء فهى أوقات صلاة وتسبيح واستغفار تشهدها الملائكة قال تعالى فيها { سورةاﻹسراء – أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا – الإسراء 78 } وهو وقت نزول الملائكة بالأقدار والأرزاق قال تعالى { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ – القدر 1-5 } ولذلك يقول صلى الله عليه وآله [ ” جعل رزق أمتي في بكورها” … الحديث ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً : [ «اللهم بارك لأمتي في بكورها». وكان إذا بعث سرية أو جيشًا بعثهم من أول النهار، وكان صخر تاجرًا فكان يبعث تجارته أول النهار، فأثرى وكثر ماله – رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه ] .
. وكأنه يقول تعالى هنا لبني آدم أصبحت وبدأت يومك بطاعته تعالى فصليت ماعليك واستغفرت وسبحت و أديت ما افترضه عليك فحقاً على الله أن يبارك لك في يومك ويرزقك كما يرزق الطير كما في الحديث [ ” لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً – رواه الترمذي ] . والتوكل على الله والبرطة تبدأ مع صلاة الفجر .
وحيث أننا أثبتنا في سورة الليل والأعلى والتكوير و الضحى وغيرهم أن الظلام والنور ظاهرهما ظلام الليل و نور النهار ولكنهما رموز للكفر والإيمان ولذلك يشبه القرآن الكريم رسول الله صلى الله عليه وآله في القرآن بالشمس وهى السراج في قوله تعالى { وداعياُ إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا – الأحزاب 46 } والسراج هى الشمس كما في قوله تعالى { وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا – نوح 16}
ولما رأي سيدنا يوسف في منامه الشمس والقمر وأحد عشرا كوكباً رآهم له ساجدين أولها له نبي الله يعقوب أنهم والديه وإخوته .قال تعالى { إني رأيت أحد عشراً كوكباً والشمس ةالقمر رأيتهم لي ساجدين – يوسف } وهؤلاء الإثني رموز أيضاً لأئمة اثني عشر فجر الله تعالى لهم اثنتي عشرة عينا كما في قوله تعالى {فافجرت منه اثنتا عشرة عينا – البقرة } . ةهؤلاء الإثني عشر هم نقاء بني إسرائيل قال تعالى فيهم { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل – المائدة 12 } . وبالتالي يقسم الله تعالى بظاهر وقت الفجر ومافيه من بركة وخير وأقدار تنزل للناس في ذلك الوقت والقسم أيضاً يخص الأئمة الإثني عشر من أهل بيت النبي عليهم السلام . ودولتهم التي تخرج على الناس
آخر الزمان من بين ظلمات الجاهلية الآخرة فيعود الدين غريباً كما بدأ [ ” إن هذا الدين بدا غريباً ويعود غريباً كما بدأ … الحديث ] ويبدأ التدرج بن دولتي الإسلام والجاهلية الآخرة بأن ينشأ في الإسلام من لا يعرف غيره ثم تبدأ جاهلية مبرى آخر الزمان ينشأ فيها من لايعرف عن أصول الدين الإسلامي شيئاً وهنا يبدأ الحق في الظهور غريباً كما بدأ وفي الحديث . [ عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا يلبث الجور بعدي إلا قليلا حتى يطلع، فكلما طلع من الجور شيء ذهب من العدل مثله، حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره، ثم يأتي الله بالعدل، فكلما جاء من العدل شيء، ذهب من الجور مثله، حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره “.- حاشية مسند الإمام أحمد بن حنبل السندي – أبو الحسن نور الدين محمد بن عبد الهادي السندي ج5 ص 26 ] .
ثم يقول تعالى :
- وليال عشر (2)
(وليال)
وهنا يقسم الله تعالى بالليال العشر و [ الليل : مايعقب النهار ويمتد من غروب الشمس إلى طلوعها – معجم ألفاظ القرآن باب اللام فصل الياء واللام ] قال تعالى في بيان أن الليالي ظلمة الليل { قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا – مريم 10}
وفي مواضع أخرى بين أن الأيام تعني النهار قال تعالى : { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالى وأياما آمنين – سبا 18} وقال تعالى أيضاً { سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية – الحاقة 7}
والقسم هنا كقوله تعالى عندما أقسم بالليل في قوله تعالى {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى – الليل } والقسم هنا بالليالي العشر في قوله تعالى { وليال عشر – الفجر 2 } ولورود لفظ ليلة على ليلة القدر في قوله تعالى { إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر – القدر 1-3} وهنا يمكن أن تكون أحاديث العشر الأواخر من شهر رمضان هى المقصودة من هذه الليالي العشر وما فيها من ليلة مباركة نزل فيها القرآن الكريم قال تعالى { إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين – الدخان 3}
العشر الاواخر من رمضان :
[ عن ابن عباس في قوله: { وليال عشر } قال: هي العشر الأواخر من رمضان.وأخرج محمد بن نصر في كتاب الصلاة عن أبي عثمان قال: كانوا يعظمون ثلاث عشرات العشر الأول من المحرم والعشر الأول من ذي الحجة والعشر الأخير من رمضان.- الدر المنثور ] .
العشر الاوائل من ذي الحجة :
[ .. أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس في قوله: { وليال عشر } قال: عشرة الأضحى، وفي لفظ قال: هي ليال العشر الأول من ذي الحجة.وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عبدالله بن الزبير في قوله: { وليال عشر } قال: أول ذي الحجة إلى يوم النحر.
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن مسروق في قوله: { وليال عشر } قال : هي عشر الأضحى، هي أفضل أيام السنة.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد { وليال عشر } قال: عشر ذي الحجة.
وأخرج عبد بن حميد عن مسروق { وليال عشر } قال: عشر الأضحى وهي التي وعد الله موسى قوله :{ وأتممناها بعشر – الأعراف 142} – الدر المنثور ] .
[ والليلة : الليل وتقابل اليوم أما الليل فيقابله النهار وتستعمل ليلة تمييزاً للعدد وجمعه الليالي بزيادة الباء وجمعه القياسي ليلات وقد ذكرت هذه الكلمة في القرآن الكريم بصيغة المفرد المنكر أو المضاف إلى إسم ظاهر – معجم ألفاظ القرآن باب اللام فصل الياء واللام ] .قال تعالى : { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين – الأعراف 142} والليالي العشر هم العشر الأوائل من ذي الحجة كما في تفسير علي بن إبراهيم وغيره من المفسرين وهذه الليالي أقسم الله تعالى بها لعظم مكانتها عند الله تعالى وحيث أنه قال تعالى عن ليالي صيام نبي الله زكريا ثلاث ليال في قوله تعالى { قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا – مريم 10} أي أنها أيام صيام وعبادة إنا أن تكون أيام صيام العشر الأواخر من رمضان أو العشر الأوائل من ذي الحجة وعظم أجر الصائمين فيهما .
وأما :
(عشر)
والعشرة كعدد جاء في القرآن الكريم على أنه الكمال والتمام قال تعالى : {وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة – البقرة 196} .
وحيث أن التمام والكمال ورد على إكمال الدين و إتمام النعمة بولاية الإمام علي (عليه السلام) في حجة الوداع وواقعة غدير خم ونزول قوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا – المائدة } فإن عطم بركتها كان تأسياً برسول الله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع وولاية الإمام علي عليه السلام .
وبالتالي العشرة هنا تدل على أنهم العشرة الأوائل من ذي الحجة عظم البركة فيها و ولأنها تكلمت على صيام فالأمر في فضل العشر الأواخر من رمضان وذي الحجر كلاهما صحيح كما في الآية هنا { والفجر وليال عشر } وذلك ما ورد في الأحاديث التي ذكرناها من قبل و .
ثم يقول تعالى :
- والشفع والوتر (3)
وهنا :
(والشفع)
[ الشفع : ضد الوتر أي ضد الفرد قيل إن الشفع هى المخلوفات من حيث أنها مركبات والوتر هو الله تعالى وقيل المراد بهما شفع الليالي ووترها وقيل المراد بهما الصلاة فيها ما هو شفع ووفيها ما هو الوتر من العدد – معجم ألفاظ القرآن باب الشين فصل الفاء والعين ] . وكل هذه المعاني صحيحة لقوله تعالى في كل خلقه تبارك وتعالى { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ – الحجر 28-29} أي أنه خلق إنسان مركب من عدة عناصر ماء وتراب وهما عنصري الطين وجسد وروح وهذا شفع وكل مخلوقات الله شفع لقوله تعالى { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ – الذاريات 49 } والزوجين هما لشيئ وضده كالليل والنهار والشمس والقمر والذكر والأنثى … إلخ والله تبارك وتعالى لا هو الشيء ولا ضده بل هو وتر قال تعالى { ليس كمثله شيئ وهو السميع البصير الشورى 11 } .وإذا ورد لفظ الشفاعة والذي يعني [ طلب التجاوز عن سيئة شخص آخر – معجم ألفاظ القرآن باب الشين فصل الفاء والعين ] قال تعالى { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه – البقرة 255 } وهو شاهد على الأمة في قوله تعالى { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ – النحل 89 } والشاهد على الأمة بعد النبي هو الإمام عل عليه السلام لما نزل فيه من قوله تعالى { أفمن كان على بينة شاهد منه من ربه ويتلوه شاهد منه }
[ .. أخرج ابن مردويه ، وابن عساكر عن علي في الآية قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم على بينة من ربه وأنا شاهد منه .وأخرج ابن مردويه من وجه آخر عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفمن كان على بينة من ربه ) أنا ( ويتلوه شاهد منه ) : علي .- تفسير الدر المنثور للسيوطي ] .
و نزل فيه أيضاً قوله تعالى { قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب }
[عن أبي سعيد الخدري ، قال : سألت رسول الله صلي الله عليه وآله عن قول الله : قال الذي عنده علم من الكتاب . قال : ذاك وصي أخي سليمان بن داود . فقلت له : يا رسول الله ، فقول الله عز وجل : قل كفي بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ، قال : ذاك أخي علي بن أبي طالب . – الأمالي ، الشيخ الصدوق، ص 659 & شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني ] .ولذلك في تفاسير أهل البيت (عليهم السلام) :
وهنا يكون الشفع رسول الله صلى الله عليه والإمام علي عليه السلام والوتر هو الله تبارك وتعالى .
[ .. عن محمد بن العباس: عن الحسين بن أحمد، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن يعقوب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: ” الشفع هو رسول الله (صلى الله عليه و آله) و علي (عليه السلام)، و الوتر هو الله الواحد القهار عز و جل “.– قال: و في حديث آخر قال: الشفع الحسن و الحسين، و الوتر أمير المؤمنين (عليهم السلام).
الشيباني في (نهج البيان)، قال: روي عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام): ” أن الشفع محمد و علي، و الوتر الله تعالى “.– تفسير البرهان للسيد هاشم البحراني ] .
كما أن الشفع والوتر ركعتين وركعة منفردة [ علي بن إبراهيم، قال: ليس فيها (واو) و إنما هو (الفجر و ليال عشر) قال: عشر ذي الحجة { وَٱلشَّفْعِ } قال: ركعتان { وَٱلْوَتْرِ } ركعة. – تفسير البرهان للسيد هاشم البحراني ] .
وأما :
(والوتر)
[ والوتر بكسر الواو وفتحها : ضد الشفع معجم ألفاظ القرآن باب الواو فصل التاء والراء ] قال تعالى { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ– المؤمنون44 } . أي أرسلهم الله تعالى واحداً بعد واحد [ وتترى أصلها وترى وأبدلت الواو تاء كما في التقوى من الوقاية والتيقور من الوقار – معجم ألفاظ القرآن باب الواو فصل التاء والراء ] وعلى ذلك إذا قال تعالى { وإلهكم إله واحد } أي فرد ليس له ثاني كصاحبة أو ولد أو معين وليس كمثله شيئ سبحانه وتعالى .ثم يقول تعالى :
- والليل إذا يسر (4)
وهنا :
( والليل)
يقسم الله تعالى هنا بالليل وظلامه وانقضاؤه مع بداية ظهور نور الفجر وذلك بتفجر قوى النور من بين ظلمات الليل الذي هو رمزاً للكفر والظلم فكما يقلب الله تعالى الليل والنهار كذلك يقلب الدولة بين الكفر والإيمان قال تعالى {ذَٰلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ – الحج 60-61 } وقد بينا ذلك من قبل في قوله تعالى : { والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى- الليل 1-2 }
ويبدأ الليل
{ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ – التكوير 17 } أي أقبل بظلمه فإذا أقبل غشى النهار وغطاه بظلمته كما في قوله تعالى { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا – الشمس 4} وبالليل عندما يغطي الأرض فيكون ما عليها مظلمًا. وفيه تتجمع الدواب والهوام والخلق قال تعالى { وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ – الإنشقاق 17 } وبالليل وما جمع من الدواب والحشرات والهوام وغير ذلك. فإذا انقضى الليل ولى وذهب وأدبر كما في قوله تعالى { وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ – المدثر 33 } أي إذ ولى وذهب وهكذا حركة علو الدول وانقضاء مدة ملكها بين الكفر والإيمان لقوله تعالى كما بينا { ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ – الحج 61 } .
وأما :
(إذا يسر)
[ وسرى يسري : مضى وذهب – معجم ألفاظ القرآن باب السين فصل الراء والواو أوالياء] قال تعالى : {فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون – الحجر 65 } وقال تعالى { فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون – الدخان 23 } . وكما أهلك الله تعالى قوم لوط كذلك سيهلك كل من خرج على أوامره وعلى وتجبر في الأرض وبذلك لأنه تعالى بعدما ذكر قوم عاد وثمود ولوط وشعيب وفرعون قال تعالى لمن سيأتون من بعدهم إلى ما قبل يوم القيامة { أكفاركم خيرٌ من أولائكم أم لكم براءة في الزبر – القمر 43 } .ثم يقول تعالى :
- هل في ذلك قسم لذي حجر (5)
(هل)
ورد هذا اللفظ في قوله تعالى { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ – الحاقة 4-8 } وهؤلاء هم أصحاب الحجر كما في قوله تعالى هنا { هل في ذلك قسم لذي حجر – الفجر 5 } ثم يقول تعالى مبينا أنه لا يهلك إلا القوم الظالمون قال تعالى :{ هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ – الأنعام 47 }
(في ذلك)
أي أنه يقول تعالى { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين – آل عمران 49} وفي ذلك آيات لقوم يعقلون كما في قوله تعالى { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون – الروم 24 } . وفي ذلك آيات لقوم يتفكرون كما في قوله تعالى { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون – الرعد 3 }
وأما :
(قسم)
[ القسم : الحلف واليمين ]قال تعالى { فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم – الواقعة 76} والقسم هنا بمواقع النجوم في الأفلاك وحركتها وتبدل الأيام والليالي والفصول والسنون بها لذلك قال تعالى أنه قسم عظيم لو كانوا يعلمون قال تعالى { فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ – التكوير 15-21 } وهذه الجوار الكنس تجري بين الليالي والأيام وما فيها من وقت الفجر الذي أقسم الله تعالى به هنا وبالليل في قوله تعالى { والفجر وليال عشر والشفع والوتر هل في ذلك قسم لذي حجر – الفجر 1-5 }وأما :
(لذي)
وذي أي صاحب أو أصحاب كقوله تعالى في قوم فرعون { وفرعون ذي الأوتاد – الفجر 10 } وقال تعالى أيضاً مبيناً أصحاب الحجر أنهم قوم نوح وعاد وثمود وفرعون ذي الأوتاد فقال تعالى { كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد – ص 12 } .
وأما :
(الحجر)
[ والحجر :بفتح الحاء مفرد و جمعها حجارة وهى المادة الصلبة المعروفة التي تتخذ من الجبال – معجم ألفاظ القرآن باب الحاء فصل الجيم والراء ] . [ والحجر : الحرام الممنوع – معجم ألفاظ القرآن باب الحاء فصل الجيم والراء ] . كقوله تعالى {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم – الأنعام 138}والحجر : العقل لأنه يحجر صاحبه و يمنعه مما تدعوا إليه نفسه – معجم ألفاظ القرآن باب الحاء فصل الجيم والراء ]
وبالتالي لفظ حجر هنا جامع لعدة معاني مندمجة مع بعضها يجمعها لفظ المنع وأصحاب الحجر قوم على ذلك استخدموا العقل في منع العدو وبنوا الحصون والديار والقلاع من الحجارة وجعلوها حجراً محجوراً لحمايتهم لذلك بين تعالى أنهم عدة أمم في قوله تعالى هنا { هل في ذلك قسم لذي حجر } ثم بين تعالى في الآيات التالية من هم هؤلاء المجرمين فقال تعالى في تفصيل شأنهم وما فعله الله تعالى بهم { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ – الفجر 6-14 }
ولأن هؤلاء قوم اتخذوا من الحجارة والجبال بيوتاً وحصوناً قال تعالى في قون عاد { أتبنون بكل ريع آية تعبثون – الشعراء } وقال تعالى في قوم ثمود { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ – الشعراء 149 } وقال تعالى في قوم فرعون أيضاً سيراً على نفس النهج { وفرعون ذي الأوتاد } وهى الأهرامات التي تشبه الجبال التي أطلق عليها القرآن الكريم أوتاداً في قوله تعالى { والجبال أوتادا – النبأ 7} .
ولذلك في التفاسير ومعاجم اللغة : [الحجر : الحاجز الممنوع والحجر ديار ثمود لأنهم كانوا ينحتونها من الجبال– معجم ألفاظ القرآن باب الحاء فصل الجيم والراء ] والحجر حاجز لقوله تعالى { لا بشرى يومئذٍ للمجرمين ويقولون حجراً محجورا– الفرقان 22 } وقال تعالى أيضاً { وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجورا – الفرقان 53 } .
وفي تفسير البرهان روايات تؤكد نفس المعاني السابقة التي ذكرناها كما يلي :
[ ثم قال علي بن إبراهيم: قال الله لنبيه (صلى الله عليه و آله) { أَلَمْ تَرَ } أي ألم تعلم { كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ * ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } ، ثم مات عاد، و أهلك الله قومه بالريح الصرصر.قوله تعالى: {وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ } ، أي حفروا الجوبة، في الجبال، قوله تعالى:
{وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ } عمل الأوتاد التي أراد أن يصعد بها إلى السماء. – تفسير البرهان للسيد هاشم البحراني ]
وفي تفسير ابن كثير : [ ( هل في ذلك قسم لذي حجر ) أي : لذي عقل ولب وحجا – تفسير ابن كثير ] .
في وتفسير الطبري : [ ( لِذِي حِجْرٍ ) : فإنه لِذِي حِجًي وذِي عقل؛ يقال للرجل إذا كان مالكا نفسه قاهرًا لها ضابطا: إنه لذو حِجْر، ومنه قولهم: حَجَر الحاكم على فلان.- تفسير الطبري ]
واللفظ هنا كما بينا جامع لكل هذه المعاني من العقل والحاجز والمنع والمنعه
ولورود لفظ حجارة عن بني إسرائيل في قوله تعالى { وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين – البقرة 60 } كأن اللفظ هنا يأت في موضع ينبئ بأن بني إسرائيل في آخر الزمان سيسيرون على نهج أصحاب الحجر من قبل من العلوا والظلم والكفر وسفك الدماء ولذلك في موع آخر من كتاب الله يقول فيهم بسورة الإسراء { ولتعلن علواً كبيرا } هنا يصبحون على نفس نهج أصحاب الحجر ويكونون قد اقتربوا من الفناء كما أفنى الله أصحاب الحجر من قبل وقال تعالى في ذلك { فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا – الإسراء 104 }.
ولورود لفظ حجر وحجارة وحجرات في قوله تعالى { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون – الحجرات } ينبئ بأن من هؤلاء المنافقين ايضاً من سينتهجون نفس النهج لأصحاب الحجر وسيكون هلاكهم مثل قوم عاد وثمود لقوله تعالى فيهم { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود – فصلت } وهذا في العذاب الثاني الوارد في قوله تعالى { سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم – التوبة } وهذا العذاب الثاني سيكون مع علوا بني إسرائيل آخر الزمان وقريب من زماننا هذا .
وبالتالي حكمة اختيار اللفظ هنا في كتاب الله ليكون جامعاً مفصلا لما فعلته الأمم من قبل وأشدهم عتواً أصحابالحجر ومثلهم سيكون آخر الزمان ويكون هلاكهم مثل سلفهم .وهنا يقسم بأنه كما أهلك أصحاب الحجر من قبل سيهلك من سيسير على نهج كفرهم وظلمهم وعتوهم وفي ذلك آيات لأولى العقول .
ثم يقول تعالى مفصلاً شأن أصحاب الحجر لعنهم الله :
- ألم تر كيف فعل ربك بعاد (6)
وهنا :
(ألم تر كيف)
يبين تعالى هنا أن درجات الرؤية تختلف من الرسول إلى الشخص العادي الذي قال تعالى فيه { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير – الحج 63 } وقال تعالى { ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا – نوح 15-16} وهذه رؤية لكل بني آدم لكي يتفكروا في خلق السماوات والأرض , وأما رؤية الرسول فهى أعلى لأنها بالوحي من الله تعالى فهو يرى كل المغيبات كرؤيا العين لذلك يقول تعالى { ألم تر كيف فعل ربك بعاد – الفجر 6 } وقال تعالى{ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل – الفيل 1 } وقال تعالى : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ – إبراهيم 24 } وفي السنة ما يؤكد ما ذكرناه آنفاً في حادث الإسراء والمعراج لما طلبت منه قريش وصف المسجد الأقصى : [ فلما أصبح أخذ صلى الله عليه وسلم ناحية من البيت وجلس على غير عادته مما يألفه الناس، دنى منه عمرو بن هشام أبو الحكم على نسب قريش، وأبو جهل كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه متغير الحال، قال: هل من خبر يا محمد؟ قال: نعم، قال: وما ذاك؟ قال: أسري بي ليلة البارحة إلى المسجد الأقصى، قال: وعدت من ليلتك؟ قال: نعم، قال: يا أبن أخي! أترى إن جمعت لك أندية قريش أتخبرهم بما أخبرتني به؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فنادى أبو جهل بأعلى صوته، يريد أن يشمت به، يا بني كعب ابن لؤي! يا معشر قريش! هلموا إلي فاجتمعوا من كل حدب وصوب تاركين أنديتهم حتى أقبلوا، قال: اسمعوا ما يقول محمد.
فلما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم، إذا بأحدهم يضع أصابعه بين أذنيه، وإذا بأحدهم يفغر فاه، ويضع أحدهم يديه على رأسه متعجباً، قالوا: وعدت من ليلتك؟! قال: نعم، وعدت من ليلتي، قالوا: صف لنا بيت المقدس، فلما هم النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه وقد رآه في الليل وهو نبي كريم زاهد عابد، لما دخل المسجد لم ينظر إلى أروقته ولا إلى جدرانه ولا إلى حيطانه، فقد صلى وتعبد الله جل وعلا فيه، فلم يقدر أن يصف لهم المسجد، فما هي إلا برهة وجبرائيل يدني المسجد بين يديه، فأخذ صلى الله عليه وسلم ينظر إلى المسجد ويصفه للملأ من قريش، وكلما زاد في وصفه قال القوم من قريش: أما المسجد فكما قال، وأما الوصف فكما وصف.
ثم أخبرهم أنه مر على قافلة لهم وأنها ضلت بعيراً في الطريق، فوعدهم يوم كذا وكذا أن تعود القافلة إلى مكة، فاحتسبوا تلك الأيام حتى خرجوا في ظهيرتهم، فلما خرجوا فما إن طلع حاجب الشمس إلا والقافلة قادمة مقبلة إلى مكة كما أخبر رسولنا صلوات الله وسلامه عليه. – السيرة النبوية لابن هشام ] .
وأما :
(فعل ربك)
وهنا يقول تعالى { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ – الفيل 1} وقال تعالى : { أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذَٰلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ – المرسلات 16-19} ويقول تعالى في الأمم التي جاءت من بعد وسكنوا في مساكن الذين ظلموا { وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ – إبراهيم 45 }. وفي آخر الزمان يحذر الله تعالى أمم من العرب والعجم سينتهجون نهج عاد وثمود قال تعالى {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ – النحل 33 – 34 } . أي أنه يقول تعالى هنا { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } وهذه هى عاداً الأولى وعاد وثمود الآخرة سيهلكهم الله تعالى كما أهلك أسلافهم وقال تعالى في ذلك { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فصلت } .
وأما :
(عاد)
[ قال الله لنبيه (صلى الله عليه و آله) { أَلَمْ تَرَ } أي ألم تعلم { كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } ، ثم مات عاد ، و أهلك الله قومه بالريح الصرصر – البرهان للسيد هاشم البحراني ]وعاد هنا عرفها الله تعالى قائلا { ألم ترى كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد } .
وعاداً وثمود أمتان من الأمم الأولى التي كفرت بالله تعالى كما في قوله تعالى { وأنه أهلك عاداً الأولى وثمود فما أبقى – النجم 50-51 } ولذلك قال تعالى فيهما وفي أمم جائت من بعدهم : { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب – إبراهيم 9 }
ومادام هناك عاداً وثمود الأولى فهناك الآخرة وكما فعلت عاداَ الأولى ستفعل الآخرة وكلاهما يشترك في بناء المباني الشاهقة في السماء ( ناطحات السحاب) كما يسمونها وكذلك المصانع كإسم لفعل صنع يصنع صناعة في قوله تعالى عنهم : { كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ َالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ – الشعراء 123- 136 } . وهذه الآية من المباني الشاهقة في السماء بنيت في مصر وهى ما تسمى بالإهرامات ولذلك يطلق عليها المؤرخون القدامى ومنهم [ تاريخ المسعودي ل مسعودي ] بأهرامات قوم عاد .وأما المدينة الأثرية الصغيرة الموجودة بالجزيرة العربية لا تبين حضارة كاملة لأمة كانت أقوى الأمم في العالم وهى حقيقية ولكن لكي تكتمل أين مدافنهم ومدنهم و ومساكنهم و مبانيهم الشاهقة في السماء التي تكلم القرآن الكريم عنها { أتبنون بكل ريع آية تعبثون } وهنا لن تجد إجابة إلا أنها التي في مصر و كان ذلك قبل طوفان الأرض في زمن نبي الله نوح (عليه السلام) .
وأما أمة ثمود فهى أمة ضرب الله تعالى لها المثل بأن هناك ثمود الأولى التي قتلت الناقة وكفرت باختيارها كراهية في نبيها وأهل بيته الأنبياء من بعد صالح عليه السلام فقتلوا الناقة وعتوا عن أمر ربهم والعرب تسير في هذا الإتجاه من سلوك الأمم من قبل لذلك يقول صلى الله عليه وآله
[ روى المحدثون أن النبي ( صلَّى الله عليه و آله ) قال لعلي ( عليه السَّلام ) : ” أتدري من أشقى الأولين ؟ قال : ” نعم ، عاقر ناقة صالح ” .قال : ” أفتدري من أشقى الآخرين ؟ ” .قال : ” الله و رسوله أعلم ” . قال : ” من يضربك على هذه حتى تخضب هذه ” ـ أي من يضربك على رأسك حتى تخضب لحيتك بالدم – شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد : 10 / 264 ] .
وفي كتاب الله بيان لما سيفعله الله تعالى بثمود الآخرة التي ستقاتل كل مايمت لعلي عليه السلام وأهل البيت بصلة فقال تعالى في جرائم أسلافهم ممن حارب النبي في زمن قريشاً الأولى
{ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا
- فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ
- وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ
- وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا
- وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ – فصلت 3-5 } أربع جرائم تبين كفرهم وبغضهم للقرآن الكريم والنبي وأهل بيته عليهم السلام وسيكون داعماً لهم أمة كما بينا ستكون على نهج عاداً الأولى وبعد ذكر جرائم ثمود الآخرة الأربعة في أوائل سورة فصلت قال تعالى مبيناً عظمة لسماواته وأرضه فقال تعالى { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ۚ ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۚ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ – فصلت 9-12 } ثم قال تعالى متوعداً الأمتين آخر الزمان وقريب من زماننا هذا { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ۖ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ – فصلت 13-14 } .
وهنا مثل تبين أنها ليست الأصلية التي نزلت من عند الله بواسطة سيدنا جبريل بل من مخترعات البشرية آخر الزمان وهة القنبلة النووية الآن وذلك لأن (مثل صاعقة عاد وثمود) قال تعالى في لفظ مثل { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون – النحل } وذلك على السفن الحديثة في آخر الزمان ويكون هلاهما في قوله تعالى هنا في الوعد الآخر { فقل أنذرتكم بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} .
ثم بين تعالى أسباب هلاك كل أمة منهما فقال تعالى في قوم عاد :
{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ ۖ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ فصلت 15-16}
وأما جريمة ثمود أنهم خيروا فاختاروا دون ضغوط أو حرب من أمم أخرى اللهم إلا الحسد لبني هاشم وبني عبد المطلب أن تكون النبوة فيهم قال تعالى في جريمة ثمود { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ – فصلت 15-17 }
ويبين تعالى أن قوم عاد أرسل الله تعالى عليهم ريحاً صرصر وكذلك عاد الآخرة سيبتليها الله تعالى قبل الهلاك الأعظم بريح تدمر بقاعاً كبيرة فيها حتى يرجعوا قال تعالى لذلك : { كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِر فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ – القمر 18-21 } والغريب في تلك الريح والأعاصير والتسونامي يظنون وفق تقديراتهم الخاطئة أنها لهم وأنها ريح طيبة وما هى كذلك على وجه الحقيقة فما تلبث أن تتحول من ريح إلى رياح صرصر عاتية قال تعالى :
{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ – الأحقاف 21-25} .
ثم يقول تعالى :
- إرم ذات العماد (7)
وأخرج ابن المنذر عن السدي في قوله: { بعاد إرم } قال: عاد بن إرم نسبهم إلى أبيهم الأكبر.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: كنا نحدث أن إرم قبيلة من عاد كان يقال لهم ذات العماد، كانوا أهل عمود { التي لم يخلق مثلها في البلاد } قال: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعاً طولاً في السماء.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر { إرم ذات العماد } فقال: ” كان الرجل منهم يأتي إلى الصخرة فيحملها على كاهله فيلقيها على أي حي أراد فيهلكهم .. .و عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله: { جابوا الصخر } قال نقبوا الحجارة في الجبال فاتخذوها بيوتاً. قال: وهل تعرف ذلك العرب؟ .. – الدر المنثور للسيوطي ] .
وهنا :
(إرم)
وإرم من الألفاظ التي ليس لها مرادف في كتاب الله فهو إسم من الأسماء :
[ واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( إرَمَ ) فقال بعضهم: هي اسم بلدة، ثم اختلف الذين قالوا ذلك في البلدة التي عُنِيت بذلك، فقال بعضهم : عُنِيت به الإسكندرية. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال : ثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهريّ، عن أبي صخر، عن القُرَظي، أنه سمعه يقول : ( إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ) الإسكندرية. قال أبو جعفر، وقال آخرون: هي دِمَشق. * ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عبد الله الهلالي من أهل البصرة، قال : ثنا عبيد الله بن عبد المجيد، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن المقْبري ( بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) قال : دمشق. وقال آخرون: عُنِي بقوله: ( إرَمَ ) : أمة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمارة، قال : ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد قوله: ( إرَمَ ) قال : أمة. وقال آخرون: معنى ذلك: القديمة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال : ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( إرَمَ ) قال: القديمة. وقال آخرون: تلك قبيلة من عاد. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) قال: كنا نحدّث أن إرم قبيلة من عاد، بيت مملكة عاد. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله : ( إرَمَ ) قال : قبيلة من عاد كان يقال لهم: إرم، جدّ عاد. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ) يقول الله: بعاد إرم، إن عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح. وقال آخرون: ( إرَمَ ): الهالك. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال : ثني أبي، قال : ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ) يعني بالإرم : الهالك؛ ألا ترى أنك تقول : أرم بنو فلان؟ حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله : ( بِعَادٍ إِرَمَ ) الهلاك ؛ ألا ترى أنك تقول أُرِمَ بنو فلان : أي هَلَكوا . – تفسير الطبري ]يقول المسعودي في تاريخه :
[ فأما سام فسكن وسط الأرض من بلاد الحرم إلى حضرموت إلى عمان إلى عالج، فمن ولده إرم بن سام، وإرفخشذ بن سام ومن ولد إرم بن سام عاد بن عوص بن إرم (ابن سام)وكانوا ينزلون الأحقاف من الرمل فأرسل إليهم هوداً (عليه السلام) – مروج الذهب ج1 ص 41 ] .ولذلك قال السدي : إرم نسبة إلى أبيهم – الدر المنثور ج6 ص 378 ] .
وأما :
(ذات)
[ بينا من قبل أن ذي وذو وذات بمعنى صاحب وهو إسم يتوصل به إلى الوصف ]قال تعالى { والسماء ذات البروج – البروج } وبالتالي { ذات العماد } المباني الشاهقة التي تصل إلى السماء كما قال تعالى { أتبنون بكل ريع آية – الشعراء } وهى المباني الشاهقة التي كانوا يبنونها كمراصد لأفلاك السماء لورود هذا اللفظ في قوله تعالى { والسماء ذات الحبك – الذاريات 7 } وقوله تعالى {والسماء ذات البروج – البروج 1 } وقوله تعالى : { وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا – الكهف 17 } أي أنهم كانوا يراقبون من هذه المباني الشاهقة حركة الشمس والقمر والنجوم في السماء .
وهذه المباني كانت في مصر لورود هذا اللفظ في قوله تعالى عن نبي الله عيسى وأمه عليهما السلام عندما دخلوا مصر فقال تعالى {وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين – المؤمنون 50} وقيل في التفسير أن هذه الربوة هى مصر. وبالتالي هنا المعنى في { إرم ذات العماد} أي ذات المباني الشاهقة التي استخدمها هؤلاء كمراصد للسماء وتتبع حركة الأفلاك والنجوم في السماء .
وأما :
(العماد)
[ والعمود والعماد : مايقوم عليه الخباء والجمع عُمُد وعَمَد بضمتين وفتحتين والعماد كذلك البناء – معجم ألفاظ القرآن باب العين فصل الميم والدال ] .قال تعالى فيما يؤكد كل المعاني السابقة والتي وضحها الله تبارك وتعالى من خلال قوله تعالى { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ – الرعد 2 } أي أن قوله تعالى { إرم ذات العماد } أي ذات المراصد السماوية وهى المباني الشاهقة في مصر كما بينا واستقرار عرش هؤلاء القوم كان من خلال اطلاعهم على علوم سماوية سبقوا بها بقية الأمم لذلك قال تعالى { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ – ق 36 } .ثم يقول تعالى :
- التي لم يخلق مثلها في البلاد (8)
والآية هنا صفة أخرى لإرم والضمير لها سواء جعلت إسم القبيلة أو البلدة والصفة هنا لقوم بنوا حضارة بأجساد قوية لم يخلق الله لها نظير في العالم أي أنها حضارة مميزة ليس لها نظير وهى ما يعرف الآن بالمصريات ولا يوجد في العالم أمريكيات أو أوروبيات أو أسياويات ولا مغربيات ولا عراقيات و لا تركيات ولا إيرانيات لتلك الآية هنا { التي لم يخلق مثلها في البلاد}
وهنا :
(التي لم يخلق)
وهنا الخلق خلقان :
الأول : خلق خلقه الله تعالى وهو كل شيئ نعلمه أم لم نعلمه قال تعالى { لا إله إلا هو خالق كل شيئ فاعبدوه – الأنعام 102 } .
الثاني : خلق يخلقه الإنسان بعقله الذي خلقه الله تعالى وقال تعالى في ذلك مستنكراً { أم لهم شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم – الرعد 16 } وهذا الخلق الذي خلقوه بمواد خلقها الله تعالى وبعقولهم التي خلقها الله تعالى فخلقوا خلقاً ليحاربوا به الخالق قال تعالى مبينا أن كل ما خلقواه من صناعات من حجارة وهى المعادن والحديد قال تعالى { قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ۚ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ۖ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا – الإسراء 50-51 } . ولذلك يقول تعالى للناس مبيناً أن سماءه وأرضه أكبر من أي خلق خلقه هذا الإنسان الذي يأمر بطاعة نفسه وينهى عن دخول الناس في طاعة الله والعمل بكتابه الكريم قال تعالى { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون – غافر } وهنا يقول البغوي في تفسيره [ الدجال مذكور في تلك الآية ] وهذا صحيح ويحدث في آخر الزمان كما ترى في زماننا هذا . بخدعة من الدجال الأكبر وبصناعات مذهلة ولكنها بخلق الله ليحاربوا بها خالق كل شيئ سبحانه وتعالى كما فعلت من قبل غرم ذات العماد .
وأما :
(مثلها)
[ ومثل الشيئ مشابهه ومساويه في بعض الأمور والمعاني – معجم ألفاظ القرآن باب الميم فصل الثاء واللام ] قال تعالى مبيناً أحوال قوم سوء بعد موت النبي صلى الله عليه وىله وإلى أن يشاء الله تعالى سيعملون للدنيا فقط دون أداء حق الله ويقولون زوراً أنهم من أهل الجنة والموحدون وأنهم أهل الحق وماعداهم أهل باطل وهم لا هم لهم إلا الدنيا والعمل لها ولو باستخدام الدين في خداع الناس وهنا قال تعالى في هؤلاء { فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون – الأعراف 169} ثم يتوعدهم الله تعالى بأنه قادر على أن يبدل أمثالهم إن تقلدوا بسير الأمم الظالمة من قبلهم قال تعالى { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا – محمد 10} وذلك لأنهم كفروا كما كفرت الأمم من قبل ظلمت وعلت في الأرض بغير الحق وذلك هو الباطل كما في قوله تعالى { ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ – محمد 3} وهنا يذكرهم الله تعالى متوعداً { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين – يونس 102} .وأما :
(في البلاد)
[ والبلد والبلدة : كل موضع من الأرض كان عامراً أو كان خلاءاً والجمع بلاد وبلدان – معجم ألفاظ القرآن باب الباء فصل اللام والدال ] قال تعالى { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور – فاطر 9 } . ويبين تعالى أن قوة الأمم بتقلبها وتحركها بين البلاد للتمكين والبطش والسيطرة قال تعالى لذلك للمؤمنين بأن لا يغتروا بتقلب هؤلاء السفهاء كما في قوله تعالى { لا يغرنك تقلب اللذين كفروا في البلاد مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ – آل عمران 196-197 }وهنا يثبت الله تعالى أنهم حاربوا كل البلاد وغلبوهم وانتصروا عليهم كما بينا بما صنعوه من صناعات وبما وهبهم الله تعالى من قوة في الموارد و الأجسام وهى الأسباب التي ينتصرون بها لذلك قال تعالى في ما فعلوه ولماذا أهلكهم الله تعالى { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ – ق 36 } وهذا التنقيب من البحث الدقيق في البلاد عن أي عدو لهم كانت بقوة قال تعالى فيها { إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد – الفجر } ويقول تعالى مبيناً قدرته على إفنائهم واستبدال وميراث الأرض إلى غيرهم قال تعالى :{ أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيئ وإليه ترجعون – يس 81-82} .
ثم يقول تعالى :
- وثمود الذين جابوا الصخر بالواد (9)
وهنا :
( وثمود)
يقول المسعودي : [ ثمود بن عابر بن إرم ابن سام وكانوا ينزلون الحجر بين الشام والحجاز فأرسل الله تعالى إليهم أخاهم صالحاً – مروج الذهب ج1 ص 42 ] .
وهنا سنثبت أن صمود ايضاً أحد الدول فيما قبل عصر الأسرات في مصر وذلك لقوله تعالى { كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ – الشعراء 141-150} وهنا {جنات وعيون وزروع} تبين أنها مصر لأن نفس الألفظ استخدمها الله تعالى مع قوم فرعون أيضاً لما أهلكهم الله تعالى و ذكر ذلك في قوله تعالى : {كم تركوا من جنات وعيون وزورع ومقام كريم – الدخان 25 } .
والسؤال هنا الذي يطرح نفسه :
أين آثارهم التي نحتوها بجبال الشام ؟
وهنا لن تجد لهم أثار ملموسة ولا إجابة . وإذا نظرت لبعض معابد مصر القديمة بالفعل ستجدها منحوتة في الجبال بنفس الوصف القرآني الدقيق كما في معبد رمسيس وحتشبسوت وغيرها من الآثاء الدالة على ذلك في كتاب الله تعالى وكانت في زمانها بلاداً مسيطرة على دولاً أخرى بين أسيا وأفريقيا منذ فجر التاريخ و هذا سبب وجود بعض آثار مصرية قديمة ودلالات في تلك البقاع من الأرض .
يقول تعالى في هلاك أمة ثمود الآخرة التي سيهلكها الله تعالى ومعها عاد الآخرة :{ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم بصاعقة مثل صاعقة عادٍ وثمود – فصلت 15} وبين تعالى أن هلاكهم لكفرهم عن طواعية واستحباهم العمى على الهدى وأهله حتى أصبحوا لا يدعمون إلا الكفر والفسوق والعصيان والفجور وقتل المؤمنين كما في قوله تعالى { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى – فصلت 17} . وكما أهلك الله تعالى الأولين في قوله تعالى { وأنه أهلك عاداً الأولى وثمود فما أبقى – النجم } كذلك سيهلك الآخرين إن فعلوا نفس افعال السابقين قال تعالى { ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين – المرسلات 16-18 } .
وأما :
(الذين جابوا)
[ وجاب : بمعنى قطعوه ونقبوه والإجابة : الرد على الكلام والاستجابة : القبول – معجم ألفاظ القرآن باب الجيم فصل الواو والباء ] . قال تعالى { وثمود الذين جابو الصخر بالواد – الفجر 9 } أي اقتطعوه وجابوه بأمر من حاكم أجابه إليه جنوده وعماله قال تعالى { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ – الأعراف 82 } .وأما :
(الصخر)
[ الصخر : الحجر الصلب وواحدته صخرة – معجم ألفاظ القرآن ]{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ – لقمان 16 } ولأنه قال تعالى عن تلك الصخرة التي هى بملتقى البحرين في مصر بين رشيد ودمياط في قوله تعالى { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا – الكهف 63 } وهذا اللفظ أيضاً يشير هنا إلى أن أمة ثمود كانت في مصر وهم الذين جلبوا الصخر في واد ليس فيه صخر كما في قوله تعالى { وثمود الذين جابوا الصخر بالواد – الفجر } .
وأما :
(بالواد)
[ والوادي يجمع على أودية وهو المنفرج بين الجبال أو التلال يكون مسلكاً للسيل ومنفذاً – معجم ألفاظ القرآن باب الواو فصل الدال والياء ] .قال تعالى { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ – الرعد 17 } ومن هذه الأودية بالفعل نهر النيل الذي يجري في منخفض بين جبلين المقطم وجبال غرب حتى أسوان .
وهنا يمكن أن نثبت أن هذا الوادي هو أكبر الأودية وكان موطن حكم أسرة ثمود في العصر قبل الفرعوني وكانوا ينحتون بيوتهم في الجبال كما ترى في اثار مصر قال تعالى { كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ – الشعراء 141-149 } وقال تعالى أيضاً { وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين – الحجر 82} كما أن ورود هذا اللفظ في قوله تعالى { إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى – طه 12 } يشير إلى أنها مصر بالتأكيد لأن ورود هذا اللفظ في قوله تعالى { ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادي غير ذي زرع عند بيتك المحرم – إبراهيم } تؤكد أن هذا الوادي محاطاً بجبال فلا يحتاج أن تجلب لها الصخور بالواد الذي هو محاط بجبال صخرية . ولذلك قال تعالى في ثمود هنا { وثمود الذين جابوا الصخر بالواد } أي أنهم كانوا يأتمرون بأوامر من حاكم لهم فأجابوه وجلبوا الصخر في وادي غير ذي صخر أي ليس به صخور . وهذه هى الأمة الثالثة من أمم استخدمت الحجارة في تشييد حضارتها بعد أمة نوح وعاد ثم ثمود هنا ولعل ذلك سبب وجود مدن كاملة تحت الأرض بأنفاق متصلة بالجبال في مصر يطلق عليها في صعيد مصر (بالقيسارية) وباللهجة الصعيدية مع قلب القاف جيم تنطق (الجيسارية) وكأن القرآن وكمالكريم هنا يحدثنا عن عصر ماقبل الأسرات وماقبل التاريخ وأن مصر محور تاريخ العالم وهذا هو قدر الله في مصر لهبوط آدم وزوجه وإبليس بها قال تعالى { قلنا اهبطوا منها جميعا} والهبوط قال تعالى فيه { اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم} ومن هنا الخير الشديد يخرج من مصر وكذلك الشر الشديد الذي قال تعالى فيه عن عصر فرعون ومن سيخلفه في إمامة الكفر التي قال تعالى فيها { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار } قال تعالى هنا فيمن سيأتمون بفرعون آخر الزمان : { وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد – الفجر } .
ثم يقول تعالى فيالأمة الرابعة من أصحاب الحجر :
- وفرعون ذي الأوتاد (10)
وهنا :
(وفرعون)
فرعون لعنه الله أحد ملوك مصر المعاصرين لنبي الله موسى عليه السلام قال تعالى : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ فَحَشَرَ فَنَادَىٰ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى – النبأ 15-25 } وقال تعالى فيه أيضاً
: { وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ۚ أَلَا يَتَّقُونَ – الشعراء 10-11 } وقال تعالى أيضاً مبيناَ أن فرعون بعدما ادعى الألوهية أمر ببناء صرح كبير على الطين ليطلع من خلاله على السماء لعله يرى إله موسى عليه السلام قال تعالى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ – القصص 38 } وقال تعالى أيضاً {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ – غافر 36-37 }.
وهذا الصرح هنا هو الإهرامات المبنية من طين حول إهرامات قوم عاد وعلى الطين لأن نهر النيل كان في ذلك الزمن يصل إلى ماتحت سفح تلك الإرهامات وهذه الأهرامات التي هى الصرح هى ذاتها هنا الأوتاد التي قال تعالى فيها { وفرعون ذي الأوتاد} . كما سنبين .
وأما :
(ذي)
وهنا ذي أي صاحب الأوتاد وهو من الأمم التي أطلق عليها سبحانه وتعالى أصحاب الحجر في قوله تعالى { هل في ذلك قسم لذي حجر – الفجر }
وأما :
الأوتاد)
الأوتاد قيل فيها أنها أوتاد كان فرعون يعذب فيها ضحاياه والذين كفروا به : [عن سعيد بن جُبير ( وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ ) قال: كان يجعل رجلا هاهنا ورجلا هاهنا، ويدا هاهنا ويدا هاهنا بالأوتاد. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( ذِي الأوْتَادِ ) قال: كان يوتد الناس بالأوتاد.- تفسير الطبري ومن جاء بعده من المفسرين ] . وفي تفسير كنز الدقائق [ عن ابي عبد الله سئل لأي شيئ سمى ذا الأوتاد؟ فقال لأنه كان إذا عذب رجلاً بسطه على الأرض على وجهه ومد رجليه ويديه فأوتدها بأربعه أوتاد في الأرضوربما بسطه على خشب فوتد رجليه ويديه بأوتاد – تفسير كنز الدقائق للمشهدي ج 14 ص 269]
وهذا خطأ كبير لأنهم لو تدبروا آيات الله لعلموا أن فرعون كان يصلب الناس على جذوع الخل وليس بالأوتاد هكذا قال الله تعالى وهو أصدق القائلين قال تعالى { قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى – طه 71 } .
وبين تعالى أن قوم نوح وعاد وفرعون ذو أوتاد في قوله تعالى في رباط بين أوتاد فرعون وإرم ذات العماد وهى الصروح الأقوى والأكبر {كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد – ص 12}
والأوتاد هنا تجتمع بين هذه الأمم الثلاثة من أصحاب الحجر و بين تعالى أنها الجبال في مواضع أخرى من كتاب الله قال تعالى { والجبال أوتادا – النبأ 7 } والجبال لها قاعدة وقمة مدببه وهو نفس شكل الأوتاد التي وصف الله تعالى بها قوم فرعون هنا في قوله تعالى { وفرعون ذي الأوتاد } .
ثم يقول تعالى فيما فعله قوم فرعون من جرائم :
- الذين طغوا في البلاد(11)
وهنا :
(الذين طغوا)
[ وكل من جاوز القدر وعلا فقد طغى ومنه تجاوز الحد في العصيان – معجم ألفاظ القرآن باب الطاء فصل الغين والياء ] قال تعالى لما جاوز الماء حدده وطغى في طوفان نوح عليه السلام { إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية – الحاقة 11 } والريح لما زادت عن حدها في إهلاك قوم ثمود قال تعالى { وأما ثمود فأهلكوا بالطاغية – الحاقة } وفي كتاب الله تعالى كل من عمل للدنيا ضارباً عرض الحائط بشرع الله تعالى فقد طغى قال تعالى { وأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هى المأوى – النازعات 37 } وعلى ذلك القرآن الكريم يبين أن فرعون لما عمل للدنيا و كفر بالله ورسوله وادعى الألوهية فقد طغى كما في قوله تعالى { وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد – الفجر } .وهنا لما طغى أرسل الله تعالى له موسى علي السلام ليذكره بالله تعالى كما في قوله تعالى لنبي الله موسى عليه السلام { إذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى – النازعات 17-21} .وينهى الله تعالى العالمين عن هذا الطغيان في قوله تعالى { وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ۖ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ – طه81 } .
وأما :
(في البلاد)
وهنا ورود هذا اللفظ في قوله تعالى { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ – ق 36 } تدل على أن الذين طغوا في البلاد ونشروا الفساد كان بالبطش والطغيان وسفك الدماء البريئة . وآخر هذه الأمم الظالمة قوم فرعون الذين قال تعالى فيهم :
{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ – القصص 41 } ومن هنا كل الأمم التي جائت من بعد قوم فرعون أصبحت تقلدهم وتتخذهم أئمة في طريق الطغيان والكفر ومن هنا تكون نهاية الكفر في آخر الزمان أيضاً من مصر وما فترة الجمود فيها إلا من جراء الطلاسم والأسحار التي كان يستخدمها هؤلاء في حياتهم ولتسخير الناس لحكمهم فإذا شاء الله تعالى إبطال تلك الأعمال الكفرية ووقف إمامة فرعون لدول الكفر والنفاق والفسوق والعصيان ظهر أمر الله من مصر أيضاً .
ثم يقول تعالى :
- فأكثروا فيها الفساد (12)
وأما :
(فأكثروا فيها)
يبين تعالى أن كثيراً من الناس في كل زمان ومكان بلقاء ربهم كافرون قال تعالى { وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون – الروم 8} وقال تعالى { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين – الروم 42 }
ومن هؤلاء قوم إبراهيم عليه السلام قال تعالى فيهم { رب اجنبي وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم – إبراهيم 35-36} وهؤلاء كانوا كثيرون كما في سيكونون في آخر الزمان قال تعالى { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون – الروم 9 } ولذلك يقول تعالى { ثلة من الأولين وثلة من الآخرين – الواقعة }
وهذا الشرك والضلال يبين تعالى أن أكثر الناس كانوا ضالين بسبب هؤلاء الطغاة الظالمين قال تعالى { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون – الأعراف 131 } وبعد موت فرعون لعنه الله يبين تعالى أنه قد جعل جسده آية للناس ولكن أكثرهم غفل عن ذكر الله تعالى والإعتبار بما فعله الله تعالى في هؤلاء المجرمين قال تعالى :{ فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون –يونس 92 }
وفي زمن رسول الله صلى الله عليه وآله يحذرهم الله تعالى من ترك بعض ما أنزل الله تعالى وهى لاية أهل بيت النبي عليهم السلام قال تعالى {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون – المائدة 49 } والذي على البينة الشاهد على الأمة بعد النبي صلى الله عليه وآله الإمام علي عليه السلام قال تعالى : {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون – هود 17 }
وبالتالي من بعد هلاك فرعون الذي جعله الله تعالى إماماً للكفرة والعتاة الظلمة فقد أكثروا الفساد في زمانهم وفي الأزمان من بعد هلاكهم لأن القرآن الكريم بين أنهم سيكونون أئمة في الكفر قال تعالى { وجعلناهم أئمة يدعون إلأى النار ويم القيامة لا ينصرون – القصص } ومن هنا قال تعالى {فأكثروا فيها الفساد } .
وأما :
(الفساد)
والفساد عكس الأصلاح ومخالفة أوامر الله تعالى إفساد في الأرض لقوله تعالى { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } والفساد مخالفة أوامر الله تعالى لقوله عز وجل { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ – البقرة 11 } ذلك يبين تعالى أن اتباع الهوى فساد في الأرض قال تعالى { ولو اتبع الحق أهوائهم لفسدت السماوات والأرض – المؤمنون 71 }
ومن هنا كل معاصي الله تعالى من شرك أو قتل أو عقوق والدين وقطع أرحام أو ظلم وزنا وسحاق و عمل قوم لوط و بخس ميزان و كذب ونفاق أو أكل مال يتيم كل ذلك و غيرة من مخالفة أوامر الله تعالى و إفساد في الأرض قال تعالى { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ ۚ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ – الروم 40-41 } وكما أهلك الله تعالى الأمم من قبل لما نشروا الفساد كذلك سيهلك الآخرين إن فعلوا نفس الجرائم وخرجوا على طاعة الله تعالى وولايته الحق :
وفي كتاب الله تعالى :
- القتل فساد في الأرض { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ – البقرة 30 } .
- إهلاك الحرث بقطع الأشجار وإتلاف الزروع بلا سبب شرعي وقتل النفس ووقف النسل إفساد في الأرض قال تعالى { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد – البقرة 205 } .
- ذبح الأطفال والإعتداء على النساء وتفرقة الناس لاستضعاف المؤمنين فساد في الأرض قال تعالى { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ – القصص 4 } .
- السحر وإيذاء الناس بالأعمال الفاسدة فساد في الأرض قال تعالى { فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين – يونس 81 }
- بخس الناس أشيائهم وبخس الميزان إفساد في الأرض قال تعالى فيه {ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين – هود 85 } وقال تعالى أيضاً { ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين – الشعراء 183} .
- السرقة إفساد في الأرض لقوله تعالى { قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين – يوسف 73 }
- وعامة المعاصب إفساد في الأرض لقوله تعالى { ولا تفسدوا في الأرض بعد أصلاحها – الأعراف 85} .
وهذه جرائم كلها نشرها فرعون في الأمم من بعده لأن الله تعالى جعله إماماً للكفر حتى ولو كانت مصر صاحبة حضارة وتمنع تلوث النيل كما في وصية كتاب الموتى وعظمة الأخلاق التي تدعوا لعدم تلوث النيل إلا أن دعوته للألوهية وحربه لنبي الله موسى وما اتخذه من تدابير بالسحر لمقاومة نبي الله موسى والمكر الذي مكره بالمؤمنين وقتله للأطفال وسجن المصريين لنبي الله يوسف عليه السلام من قبل في دولة من دول الحكم الفرعوني في مصر بقيت بعد موتهم وكل من فعل تلك الأفاعيل وهو يجهل أن الله تعالى جعل فرعون إماما للكفرة الظلمة من قبل وهنا ترتفع البركة من البلاد التي تنتهج هذا النهج أو وصل إليها آثار دولة إمام الكفرة الظلمة فيحل بهم العذاب الخفي والعلني من أمراض وهلكة عامة أو أمراض وأزمات أو أعاصير وطقس مدمر أو تسلط أعداء من خار ج أوطانهم تحتلهم وتنتقم من الشعوب والجيوش وكل تلك الوقائع في مصر وما حولها من دول وهى البلاد العربية والإسلامية تتواكب مع زمان هلاك العالم الوارد في قوله تعالى {وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا – الإسراء 58 } وقال تعالى { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون – الروم 41 } . وقال تعالى أيضاً { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا – محمد 10 } .
وهذه كلها مقدمات للقيامة ولا نرى الآن في مصر إلا أن نبش قبور الفراعين وسرقتها وتهريبها في الزمن الحالي أثرأً بعد أثر ما هو إلا بداية لإبطال سحر فرعون الذي استخدمه السحرة في محاربة نبي الله موسى وهارون عليهما السلام وما فعله السامري من عبادة العجل وهو ما ترك أثراً في سلوكيات شعب مصر وماحولهم ممن تقلد بفرعون وهو لا يدري أنه قد اتخذ فرعون إماماً وبالتالي العالم في طريقة الآن إلى خلافة إسلامية على نهج النبوة وإمامها رجلاً من أهل بيت النبي عليهم السلام .
ثم يقول تعالى :
- فصب عليهم ربك سوط عذاب (13)
وهنا :
(فصب)
[ وصب الماء ونحوه من السائل يصبه كنصر : أراقه من أعلى – معجم ألفاظ القرآن باب الصاد فصل الباء والباء ] قال تعالى { أنا صببنا الماء صبا – عبس 25 } واختيار القرآن الكريم للفظ بعذاب مميز مختلف عن أمة عاد وثمود تبين أن صب الماء إشارة إلى انتقام الله تعالى منه وجنوده بالغرق وصب الماء من فوقهم ومن بين أيديهم بعدما فرق اللله الماء لموسى وتحول الماء لجبلين كل فرق كالطود العظيم قال تعالى { فأغرقناه ومن معه جميعا – الإسراء 103 } وذلك بصب الماء من فوقهم ومن بين أيديهم حتى أغرقه الله وجنوده .وهذا الغرق عذاب قال تعالى فيه { فصب عليهم ربك سوط عذاب – الفجر 13} .وأما :
(ربك)
أي أنه يقول تعالى { إن ربك لبالمرصاد – الفجر 14 } ومرصاد الله تعالى أنه صب عليهم سوط عذاب كما في الآية هنا { فصب عليهم ربك سوط عذاب – الفجر 13} .
وأما :
(سوط)
وهنا [ ساطه يسوطه سوطا : خلطه والسوط بمعنى الجلد الذي يضرب به سمي بذلك لأنه إذا ضرب به خلط الدم باللحم – معجم ألفاظ القرآن باب السين فصل الواو والطاء ] . وسبحان من اختار الألفاظ بدقة يعجز أن يأتي به إنسان فأهل السباحة ومن لهم علم بهذه الرياضة يعلمون أن ضربة الماء الشديدة تعمل في جسد الإنسان كالسوط بالضبط ويقولون فيها (ضربه كرباج ماء) وتكون لها علامة ضربة كأنها ضربة سوط وكأن الله تعالى يقول بأن جسد فرعون بعد غرقه وقول الله تعالى فيه { اليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية – } والعلامة هنا ضربات سوط على جسده من الماء ليميز الله تعالى جسده عن غيره لعنه الله .كما أن موضع الجلد بالسوط على الظهر فيها دليل على أنه وجنوده انكفأوا على وجوههم فضربهم الماء بالسوط على ظهورهم فأغرقهم جميعا . وهذا اللفظ مما ليس له مرادف في كتاب الله .
وأما :
(عذاب)
وهنا يبين تعالى العذاب الذي نزل على فرعون وجنوده فقال تعالى {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ۖ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۚ قَالُوا فَادْعُوا ۗ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ – غافر 45-50 } . وكان بداية هذا العذاب في الدنيا إغراقه وجنوده وهذا عذابهم في الدنيا بالغرق ليدخلوا النار بعد ذلك كما في قوله تعالى هنا { فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد – الفجر 13-14 }
ثم يقول تعالى :
- إن ربك لبالمرصاد (14)
وهنا :
(إن ربك)
أي أنه تعالى يقول { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين – النحل 125 } وهو أعلم بالمعتدين كما في قوله تعالى {إن ربك هو أعلم بالمعتدين – الأنعام 119} والله تعالى بالمرصاد لهؤلاء المجرمين المعتدين قال تعالى هنا { إن ربك لبالمرصاد } .
وأما :
(لبالمرصاد)
[ ورصد يرصده رصداً : قعد له على الطريق يرصده فهو راصد والرَصَد : الحرس المراقبين – معجم ألفاظ القرآن باب الراء فصل الصاد والدال ] .قال تعالى { فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ – التوبة 5 } والله تعالى يعلم أعمال العباد من قبل خلقهم والرصد في الدنيا من خلال ملائكة موكولة بذلك منها رقيب وعتيد لقولتعالى { ما يلفظ من قول إلا لديه ريقب عتيد – ق } وهناك ملائكة موكولة بالفعل ترصد فرعون وكلما كاد كيدا كادت له ما هو عكس كما في قوله تعالى { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين – الأنفال 30} . وبالتالي رصد الله تعالى لهؤلاء نصره لرسله كما في قوله تعالى { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي – المجادلة 21} و لذلك قال تعالى لنبي الله موسى عليه السلام { قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى – طه 69} ولأن فرعون وملئه كانوا بارعين في السحر بين تعالى أن لله ملائكة كانت تمنع السحرة والجن الكافر من التجسس على نبي الله موسى عليه السلام و استراق السمع بدليل ورود هذا اللفظ في قوله تعالى عن الجن { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا – الحن 9} وهؤلاء الجن لما أسلموا مع نبي الله موسى والسحرة أسلموا أيضاً لسماعهم القرآن بعدما تأكدوا أنه كتاباً مصدقاً لما بنين يديه كما قالوا { يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ – الأحقاف 30 } وهؤلاء لما أسلموا مع نبي الله موسى و السحرة رضى الله عنهم كانوا يرصدون فرعون ومن كفروا بالله تعالى حماية لنبي الله موسى ودين الإسلام في ذلك الوقت و كذلك في زمن النبي صلى الله عليه وآله كانوا رصد حماية له بعدما أسلموا كما في قوله تعالى { وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به – الجن } ثم قال تعالى عن رصد الحماية للنبي صلى الله عليه وآله { إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا – الجن 27 } . وبالتالي رصد الله تعالى حماية للرسول و المؤمنين و تتبع لإهلاك الظالمين كما قال تعالى في فرعون ومن انتهج نهجه هنا { إن ريلك لبالمرصاد }
ثم يقول تعالى :
- فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)
أي يقول تعالى ذكره : [ فأما الإنسان إذا ما امتحنه ربه بالنعم والغنى ( فأكْرَمَهُ ) بالمال، وأفضل عليه، ( وَنَعَّمَهُ ) بما أوسع عليه من فضله ( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) فيفرح بذلك ويسرّ به ويقول: ربي أكرمني بهذه الكرامة. وقوله: ( وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) يقول: وأما إذا ما امتحنه ربه بالفقر ( فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) يقول: فضيَّق عليه رزقه وقَتَّره، فلم يكثر ماله، ولم يوسع عليه ( فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ) يقول: فيقول ذلك الإنسان: ربي أهانني، يقول: أذلني بالفقر، ولم يشكر الله على ما وهب له من سلامة جوارحه، ورزقه من العافية في جسمه. – تفسير الطبري ] .
وهنا :
(فأما الإنسان)
أي أنه يقول تعالى : {وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور – الشورى 48 } وهذا الفرح لأنه لحب الخير ومتاع الدنيا لشديد قال تعالى { إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد – العاديات } وهنا يبين تعالى أنه إذا أجاب الإنسان وملكه الدنيا وخيرها أعرض ونئا بجانبة كما في قوله تعالى { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض – فصلت 51 } وبعد إعراضه يطغى على خلق الله كما في قوله تعالى { كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى العلق 6- 7 } لذلك لا يسأم الإنسان من دعاء الخير ويلح في هذا الدعاء كما في قوله تعالى { لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط – فصلت 49 } وإذا مسه الضر دعا ربه منيباً إليه كما في قوله تعالى { فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون – الزمر 49 } وبالتالي هو في حالة من الهلع إذا مسه الشر ويمنع الماعون إن أصابه الخير فيكون شحيحاً بخيلاً على الفقراء والمعوزين إلا المصلين لا يفعلون ذلك قال تعالى {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ – المعارج 19-23 } .
ويبين الله تعالى لبني آدم أن الله قد أنعم عليهم بنعم لا تحصى كما في قوله تعالى { وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار – إبراهيم 34 } وبالتالي ما المال أو الخير إلا نعمى من نعم الله فما عليك إلا أن تحمد الله وتشكره على بقية ما أنعمه الله عليك من نعم وقد تكون أدنا الصحة ونعمة البصر وسلامة العيال وتدبير قوت يومهم و [ ” عن سعد بن أبي وقاص – رضِي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (( أربعٌ من السعادة: المرأةُ الصالحة، والمسكنُ الواسِع، والجارُ الصالح، والمَرْكَب الهنيء، وأربعٌ من الشقاء: المرأة السوء، والجار السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيِّق))، وأخرَجَه كذلك أحمد مُختَصَرًا، وقال الألباني في “السلسلة الصحيحة” مُعَلِّقًا على رواية ابن حبَّان: هذا سند صحيح على شرط الشيخين… الحديث – رواه ابنُ حبَّان في “صحيحه”، والحاكمُ في “المستدرك”، والطبراني في “الكبير” و”الأوسط”، والبيهقيُّ في “الشُّعَب”، وغيرُهم ] .
وأما :
(إذا مابتلاه ربه)
[ وبلوت فلاناً وبلواً وبلاءاً وأبليته وابتليته : كل ذلك بمعنى امتحنته واختبرته ويكون ذلك في الخير والشر – معجم ألفاظ القرآن باب الباءفصل اللام والواو ] قال تعالى { وابتلوا اليتامي فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم – النساء 6 } . والله تعالى يبتلي الناس في الدنيا بالشر والخير فتنة قال تعالى { ولنبلونكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون – الأنبياء 35 } وقال تعالى انه خلق كل ما على الأرض من زينة لابتلاء الناس أيهم سيطيع الله تعالى ويتولاه حق ولايته قال تعالى { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزا – الكهف 7-8} أي انه كله متاع زائل ولا يبقى إلا رضا الله تعالى والجنة قال تعالى { ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون – النحل 96 } .وأما :
(فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن)
[ وأكرمه بمعى شرفه وأحسن معاملته وسلك معه مسلك الكرم و الجود – معجم ألأفاظ القرآن باب الكاف فصل الراء والميم ] قال تعالى { وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ – يوسف 21 } ولقد كرم الله تعالى بني آدم في الدنيا كما في قوله تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا – الإسراء 70 } وهنا يبين تعالى أن الإنسان فرح فخور فإذا ما أكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن بكرامتي عنده وهو لا يدري أنه ابتلاء من الله تعالى قال فيه هنا { فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ- الفجر 15 } ويبين الله تعالى أن أكرم الخلق على الله تعالى في الدنيا وفي الآخرة من بعد الموت أتقاهم لله عز وجل قال تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم – الحجرات 13 } .وأما :
(ونعمه)
[ والنعمة : رفاهية العيش والترف – معجم ألفاظ القرآن باب النون فصل العين والمين ] قال تعالى { كم تركوا من جنات وعيون وزروع مقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين – الدخان 25-27} وهذه النعمة إذا أنعمها الله تعالى على الخلق فكثير من الناس سيعرض عن شكره تعالى وأداء حق الله تعالى في هذه النعمة التي أنعمها عليه قال تعالى{ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض – فصلت 51 } ويقول تعالى في يأسه إذا نزعت منه نعمة من أنعم الله تعالى {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا – الإسراء 83 } .وأما :
(فيقول ربي)
يقول تعالى { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد –ق }
وهنا ما سيقوله الإنسان في نفسه أو مع أحد الله يعلمه ولذلك يقول تعالى هنا أنه إذا أنعم عليه نعمة فسيقول ربي أكرمن و إذا ما نزعت منه سيقول ربي أهانن قال تعالى { وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ – الفجر 16 } . وبالتالي إذا قدر عليه رزقه وأذهب الله تعالى عنه نعمة من النعم فيؤس قنوط وإذا أنعم عليه مرة أخرى بإجابة دعوته فرح وقال ذهب السيئات عني كما في قوله تعالى {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ – هود 10 }
وليس الأمر في الدنيا فقط بل سيعتقد أن ذلك من رضا الله عليه وإن له في الآخرة الحسنى كما في قوله تعالى {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ – فصلت 50 } وهنا كأنه جعل عرض الحياة الدنيا مقياساً لرضا الله وغضبه وهوبجهله وبعده عن دراسة كتاب الله حتى اصبح جاهلاً منافقاً لا يعلم أن الله تعالى ما خلق كل الخلق على الأرض إلا ابتلاء للإنسان واختباراً له هل سيؤدي حق الله فيها أم لا ؟ .
وأما :
(أكرمن)
أي أن الله أكرمه بعرض من الدنيا وهو لا يدري أن الكريم أولا هو الله كما في قوله تعالى { ومن كفر فإن ربي غني كريم النمل 4} وهذا الغني الكريم سبحانه وتعالى أنزل كتاب كريم قال تعالى فيه { إنه لقرآن كريم – الواقعة 77 } نزل على رسول كريم قال تعالى فيه { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ – التكوير 19-22} ومن أراد كرامة الدنيا والآخرة فليطع الله تعالى ورسوله ويتولاه ورسوله وأهل بيته عليهم السلام ذرية الذين اصطفاهم الله تعالى كما في قوله تعالى { إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم – آل عمران }.
ثم يقول تعالى :
- وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
وهنا :
(وأما إذا ابتلاه)
بيناها من قبل أنها امتحان قال تعالى فيه { ولنبولنكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون – الأنبياء }
وأما :
(فقدرعليه)
[ وقدر عليه رزقه : دعله ضيقاً محدوداً وقُدِر عليه رزقه : ضُيق عليه – معجم ألفاظ القرآن باب القاف فصل الدال والراء ] قال تعالى { إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا – الإسراء 30 } ثم يبين تعالى أن أكثر الناس لا يعلمون {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون – سبأ 36 } فلا يعلمون أن الحياة الدنيا متاع قليل يفرح بها من لا خلاق له قال تعالى { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع – الرعد 26 } ونسوا أن لله حق قال تعالى فيه { وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } لذلك يقول تعالى مبيناً أن الله تعالى سيعوض المنفقين خير كما قال تعال{ قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين – سبأ 39 }ولذلك تقول الملائكة للمنفقين في دعائها [ اللهم أعطي منفقاً خلفاوممسكاً تلفا ” ] وقد ضرب الله مثلاً في كتاب الله عمن سيفرحون بالحياة الدنيا وزينتها وهو قارون الذي أهلكه الله تعالى وخسف به وبدار ه الأرض وهنا قال تعالى في الذين كانوا يظنون أنه ذو حظ عظيم بذلك المتاع القليل { وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون – القصص 82 } وهنا بين تعالى أن الجهلاء الذين تركوا شرع اللع والعمل بكتابه هم الذين سيقولون ربي أهانن .وأما :
(ربي أهانن)
[ وهان يهون هوناً : بفتح الهاء : سهل وتيسر وخف والوصف هين وإسم التفضيل أهون : ويقال هان هوناً: ذل وحقر والوصف هين أيضاً – معجم ألفاظ القرآن باب الهاء فصل الواو والنون ] قال تعالى في فرعون لما استعبد بني إسرائيل وسخرهم لأعماله المهينة والشاقة { ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين مِن فِرْعَوْنَ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ – الدخان 30-31 } أي أنه عذبهم عذاباً فيه ذل وحقارة كما قال تعالى في وأد البنات { أيمسكه على هون أم يدسه في التراب – النحل 59 } وفي الآخرة هؤلاء لهم عذاب مهين قال تعالى فيه { وللكافرين عذاب مهين – البقرة 90 } ومن خرج على حكم الله وعصاه تعالى ورسوله فما له من مكرم قال تعالى { ومن يهن الله فماله من مكرم إن الله يفعل ما يشاء – الحج 18} .ثم يقول تعالى حق الله في النعنمة التي أنعمها على بعض خلقه دون البعض :
- كلا بل لا تكرمون اليتيم (17)
وهنا :
(كلا)
وهنا ورد هذا اللفظ في قوله تعالى { كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى – العلق 6 }
فإذا قامت القيامة كما في قوله تعالى عن وصف أحوالها وأهوالها : { كلا إذا دكت الأرض دكاَ دكا وجاء ربك والملك صفاً صفا – الفجر } وهنا سيحاسبون على عدم إكرام اليتيم و عدم إطعامهم للمساكين وأكلهم أموال الناس بالباطل كما في الآية هنا { كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكلين وـاكلون التراث أكلاً لما وتحبون المال حباً جما – الفجر } . وهؤلاء هم الذين آثروا وأحبوا العاجلة على الآخرة الآجلة كما في قوله تعالى { كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة – القيامة 20 } .
وأما :
(بل)
وهنا يبين تعالى من خلال هذا اللفظ أنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة لورود هذا اللفظ في قوله تعالى { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا و الآخرة خير وأبقى – الأعلى } ولماآثروا الحياة الدنيا منعوا حق اليتيم والمسكين .
وأما :
(لا تكرمون)
وإكرام اليتيم تكون بأداء حق الله فيه كما أمر الله تعالى من إعطاءه حقه في المال والرعاية والمعيشة وتدبير احتاجاته حتى البلوغ وفق ما أمر الله تعالى قال تعالى { أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا – يوسف } .
وأما :
(اليتيم)
[اليتيم من الناس : من فقد أباه قبل البلوغ ] قال تعالى { فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأنا بنعمة ربك فحدث } . وحق الله فيه يقول تعالى { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ – الأنعام 152 } . واليتامى لهم حق الإكرام إذا حضروا القسمة بين الورثة لقوله تعالى { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا – النساء 8 } ولهم حق في خمس المغنم والفيئ لقوله تعالى { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير – الأنفال 41 } وقال تعالى أيضاً { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب – الحشر 7 } .وقد أثنى الله تبارك وتعالى على الإمام علي والسيدة فاطمة لما أطعموا الطعام للمسكين واليتيم والأسير فنزل فيهم { ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا – الإنسان } .
[ عن ابن عباس : وذلك أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) نوبة أجر نفسه يسقي نخلا ، بشيء من شعير ليلة حتى أصبح وقبض الشعير وطحن ثلثه فجعلوا منه شيئا ليأكلوا ، يقال له الخزيرة ، فلما تم انضاجه أتى مسكين فأخرجوا إليه الطعام ثم عمل الثلث الثاني ، فلما تم انضاجه أتى يتيم فسأل فأطعموه ، ثم عمل الثلث الباقي ، فلما تم انضاجه أتى أسير من المشركين فأطعموه وطووا يومهم ذلك فأنزلت فيه هذه الآية – أسباب النزول للواحدي النيسابوري ج1 ص 230-231] .وفي تفسير القرطبي :
[… وفي حديث الجعفي : فقامت الجارية إلى صاع من شعير فخبزت منه خمسة أقراص ، لكل واحد منهم قرص ، فلما مضى صيامهم الأول وضع بين أيديهم الخبز والملح الجريش ، إذ أتاهم مسكين ، فوقف بالباب ، وقال : السلام عليكم أهل بيت محمد – في حديث الجعفي – أنا مسكين من مساكين أمة محمد (صلى الله عليه وآله) ، وأنا والله جائع ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة ، فسمعه علي (ع) ، فأنشأ يقول :فاطم ذات الفضل واليقين * يا بنت خير الناس أجمعين
أما ترين البائس المسكين * قد قام بالباب له حنين
يشكو إلى الله ويستكين * يشكو إلينا جائع حزين
كل امرئ بكسبه رهين * وفاعل الخيرات يستبين
موعدنا جنة عليين * حرمها الله على الضنين
وللبخيل موقف مهين * تهوي به النار إلى سجين
شرابه الحميم والغسلين * من يفعل الخير يقم سمين
ويدخل الجنة أي حين
فانشأت فاطمة (ع) تقول :
أمرك عندي يا ابن عم طاعه * ما بي من لؤم ولا وضاعه
غديت في الخبز له صناعه * أطعمه ولا أبالي الساعه
أرجو إذا أشبعت ذا المجاعه * أن الحق الأخيار والجماعه
وأدخل الجنة لي شفاعه.
فأطعموه الطعام ، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا الا الماء القراح ، فلما أن كان في اليوم الثاني قامت إلى صاع فطحنته واختبزته ، وصلى علي مع النبي (صلى الله عليه وآله) ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين أيديهم ، فوقف بالباب يتيم ، فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي يوم العقبة ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة ، فسمعه علي فأنشأ يقول :
فاطم بنت السيد الكريم * بنت نبي ليس بالزنيم
لقد أتى الله بذي اليتيم * من يرحم اليوم يكن رحيم
ويدخل الجنة أي سليم * قد حرم الخلد على اللئيم
ألا يجوز الصراط المستقيم * يزل في النار إلى الجحيم
شرابه الصديد والحميم
فانشأت فاطمة (ع) تقول :
أطعمه اليوم ولا أبالي * وأوثر الله على عيالي
أمسوا جياعا وهم أشبالي * أصغرهم يقتل في القتال
بكربلا يقتل باغتيال * يا ويل للقاتل مع وبال
تهوي به النار إلى سفال * وفي يديه الغل والأغلال
كبولة زادت على الأكبال
فأطعموه الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا الا الماء القراح ، فلما كانت في اليوم الثالث قامت إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته ، وصلى علي مع النبي (صلى الله عليه وآله) ، ثم أتى المنزل ، فوضع الطعام بين أيديهم ، إذ أتاهم أسير فوقف بالباب ، فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا أطعموني فإني أسير محمد . فسمعه علي فأنشأ يقول :
فاطم يا بنت النبي أحمد * بنت نبي سيد مسود
وسماه الله فهو محمد * قد زانه الله بحسن أغيد
هذا أسير للنبي المهتد * مثقل في غله مقيد
يشكو إلينا الجوع قد تمدد * من يطعم اليوم يجده في غد
عند العلي الواحد الموحد * ما يزرع الزارع سوف يحصد
أعطيه لا لا تجعليه أقعد
فانشأت فاطمة (ع) تقول :
لم يبق مما جاء غير صاع * قد ذهبت كفي مع الذراع
ابناي والله هما جياع * يا رب لا تتركهما ضياع
أبوهما للخير ذو اصطناع * يصطنع المعروف بابتداع
عبل الذراعين شديد الباع * وما على رأسي من قناع
إلا قناعا نسجه أنساع
فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا الا الماء القراح ، فلما أن كان في اليوم الرابع ، وقد قضى الله النذر أخذ بيده اليمنى الحسن ، وبيده اليسرى الحسين ، وأقبل نحو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع ، فلما أبصرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، قال : يا أبا الحسن ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم انطلق بنا إلى ابنتي فاطمة ، فانطلقوا اليها وهي في محرابها ، وقد لصق بطنها بظهرها ، وغارت عيناها من شدة الجوع ، فلما رآها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعرف المجاعة في وجهها بكى وقال : واغوثاه يا الله ، أهل بيت محمد يموتون جوعا ، فهبط جبريل (ع) ، وقال : السلام عليك ، ربك يقرئك السلام يا محمد ، خذه هنيئا في أهل بيتك ، قال : وما آخذ يا جبريل فأقرأه : { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ( الإنسان : 1 ) } إلى قوله : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا @ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا @ ( الإنسان : 8 – } قال الترمذي : الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول : فهذا حديث مزوق مزيف ، قد تطرف فيه صاحبه حتى تشبه على المستمعين ، فالجاهل بهذا الحديث يعض شفتيه تلهفا الا يكون بهذه الصفة ، ولا يعلم أن صاحب هذا الفعل مذموم …. – القرطبي – الجامع لأحكام القرآن – سورة الانسان : 7 – قوله تعالى : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } – الجزء : ( 19 ) – رقم الصفحة : ( 116 / 119 ) ] .
ثم يقول تعالى :
- ولا تحاضون على طعام المسكين (18)
[ وحض : حث كل منهم غيره على فعله – معجم ألفاظ القرآن باب الحاء فصل الضاد والضاد ] قال تعالى مبيناً أن فاعل ذلك الفعل من المكذبين بالدين فقال عز وجل { أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ – الماعون } كما ينفي الله تعالى عنهم أيضاً الأيمان بمنعهم إطعام المساكين و هؤلاء يوم القيامة سيأخذون كتابهم بشمالهم كما في قوله تعالى { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيم– الحاقة 25-35 } .
ثم يقول تعالى :
- وتأكلون التراث أكلاً لما (19)
وهنا :
(وتأكلون التراث أكلا)
وأكل التراث أكل مال لقوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا – النساء 10 } لذلك حرم الله تعالى ذلك في قوله تعالى { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيرا- النساء 2 } وقد حرم الله تعالى أكل أموال الناس بالباطل لتصل إلى الحكام بغير حق كما في قوله تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون – البقرة 188 } ومن الأموال المحرمة هنا أكل أموال التراث أو الميراث .
وأما :
(التراث)
[ والتراث كلمة أصلها مِوراث فإبدلت من الواو يُخلف من المال ويورث – معجم ألفاظ القرآن باب الواو فصل الراء والثاء ٍ]قال تعالى { يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا – مريم } وهذا الميراث له نصاب محدد في كتاب الله كقوله تعالى { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث – النساء 11 } وهذا النصاب بينه الله تعالى في كتابه الكريم وقال تعالى { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاص لم تطؤها – الأحزاب 27 } وهذه الأرض والديار والأموال فيئ وأنفال قال تعالى فيها { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ –الحشر 7 } . ومنع هذا الخمس أيضاً من أكل التراث الذي قال تعالى فيه هنا { وتأكلون التراث أكلاً لما – الفجر } والتراث هنا لفظ أوسع لأنه يضم أكل مال اليتيم وأكل المال عموما وأكل مال اليتيم ومنع الخمس الذي افترضه الله تعالى لأهل بيت النبي وأصحاب النصاب في آيه الفيئ والأنفال لذلك قال تعالى تراث وليس ميراث ليكون محدد فقط بالمواريث والتركات .
وأما :
(لما)
[ ولم بالشيئ يلمه لماً : جمعه ولم يترك منه قليلاً ولا كثيراً يقال أكل الطعام أكلاً لما أي إذا جمع لكل شيئ – معجم ألفاظ القرآن باب اللام فصل الميم والميم ] .قال تعالى هنا { وتأكلون التراث أكلاً لما } [ أي تجمعون المال جمعاً من أي طريق بأكل أموال الورثةة بالباطل أو بالربا أو بأكل مال اليتيم أو بمنع و أكل مال أصحاب الحقوق في الخمس لأهل بيت النبي (عليهم السلام) وأصحاب النصاب المفترض بالتأولات الباطلة أو بالغش أو الخداع أو سفك الدماء أو الإستيلاء والسطو … إلخ من طرق مخالفة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله .
ثم يقول تعالى :
- وتحبون المال حباً جما (20)
وهنا :
( وتحبون المال حباً)
أي حب الخير قال تعالى { وإنه لحب الخير لشديد – العاديات } وهذه هى العاجلة بكل ما تحويه الدنيا من متاع قال تعالى فيه { إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا – الإنسان 27 }
وأما :
(المال)
وهنا يقول تعالى {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا – الكهف46} والويل لكل من جمع مالاً بغير حق أو لم يخرج حق الله فيه لأصحاب النصاب من فقراء ويتامى ومساكين قال تعالى { ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالاً وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقده التي تطلع على الأفئدة – الهمزة } .
والذين يعملون للمال وأضاعوا أعمارهم في جمعه ولم يجعلوا لله تعالى أوقاتاً للطاعة والعبادة وهؤلاء منافقون قالوا { شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا – الفتح 11}
وأما :
(جما)
[ وجم الماء وغيره يَجُم ويجِم : كثر والجم : الكثير – معجم ألفاظ القرآن باب الجيم فصل الميم والميم ] . قال تعالى { وتحبون المال حباً جما – الفجر } وهذا من الألفاظ التي ليس لها مرادف يبينها .ثم يقول تعالى :
- كلا إذا دكت الأرض دكاَ دكا (21)
وهنا :
(كلا)
أي أنه يقول تعالى عن يوم القيامة هنا { كلا إذا دكت الأرض دكاَ دكا } وذلك يوم القيامة الذي قال تعالى في تفاصيله { لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ – القيامة 1-12 } .
وأما :
(إذا)
أي أنه يقول تعالى عن ذلك اليوم { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا – الواقعة 1-6 } وهذا هو دك الأرض هنا الذي قال تعالى فيه { كلا إذا دكت الأرض دكاَ دكا} .
وأما :
(دكت الأرض دكاَ دكا)
[ ودكه يدكه : فتته ودقه – معجم ألفاظ القرآن باب الدال فصل الكاف والكاف ] قال تعالى { وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذٍ وقعت الواقعة – الحاقة 14-15} . ولورود لفظ الدك على يأجوج ومأجوج في قوله تعالى { قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ۖ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا – الكهف 98-99 } يدل على أن خروج هذه الأمة من علامات القيامة الكبرى .ثم يقول تعالى :
- وجاء ربك والملك صفاً صفا (22)
[ وأما قوله عز وجل: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) وقوله: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) وقوله: (ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى) وقوله (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) فأما قوله: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) فإن ذلك في موضع ينتهي فيه أولياء الله عز وجل بعد ما يفرغ من الحساب إلى نهر يسمى الحيوان فيغتسلون فيه ويشربون منه فتنضر وجوههم إشراقا فيذهب عنهم كل قذى ووعث، ثم يؤمرون بدخول الجنة، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربهم كيف يثيبهم، ومنه يدخلون الجنة، فذلك قوله عز وجل من تسليم الملائكة عليهم: ﴿سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين﴾ فعند ذلك أيقنوا بدخول الجنة والنظر إلى ما وعدهم ربهم فذلك قوله: (إلى ربها ناظرة) وإنما بالنظر إليه النظر إلى ثوابه تبارك وتعالى. وأما قوله: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) فهو كما قال: (لا تدركه الأبصار) يعني لا تحيط به الأوهام (وهو يدرك الأبصار) يعني يحيط بها وهو اللطيف الخبير، وذلك مدح امتدح به ربنا نفسه تبارك وتعالى وتقدس علوا كبيرا، وقد سأل موسى عليه السلام وجرى على لسانه من حمد الله عز وجل ﴿رب أرني أنظر إليك﴾ فكانت مسألته تلك أمرا عظيما وسأل أمرا جسيما فعوقب، فقال الله تبارك وتعالى: لن تراني في الدنيا حتى تموت فتراني في الآخرة ولكن إن أردت أن تراني في الدنيا
فانظر (إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) فأبدى الله سبحان بعض آياته وتجلى ربنا للجبل فتقطع الجبل فصار رميما وخر موسى صعقا، يعني ميتا فكان عقوبته الموت ثم أحياه الله وبعثه وتاب عليه، فقال: (سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) يعني أول مؤمن آمن بك منهم أنه لن يراك، وأما قوله: (ولقد رآه نزلة أخرى عند سدره المنتهى) يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان عند سدرة المنتهى حيث لا يتجاوزها خلق من خلق الله وقوله في آخر الآية: (ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى) رأى جبرئيل عليه السلام في صورته مرتين هذه المرة ومرة أخرى وذلك أن خلق جبرئيل عظيم فهو من الروحانيين الذين لا يدرك خلقهم وصفتهم إلا الله رب العالمين .
وأما قوله: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) لا يحيط الخلائق بالله عز وجل علما إذ هو تبارك وتعالى جعل على أبصار القلوب الغطاء، فلا فهم يناله بالكيف، ولا قلب يثبته بالحدود، فلا يصفه إلا كما وصف نفسه ليس كمثله شئ وهو السميع البصير، الأول والآخر والظاهر والباطن، الخالق البارئ المصور، خلق الأشياء
فليس من الأشياء شئ مثله تبارك وتعالى، فقال: فرجت عني فرج الله عنك، وحللت عني عقدة فأعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين.
فقال عليه السلام: وأما قوله: (وما كان لبشر أن يكلمه إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) وقوله: (وكلم الله موسى تكليما) و قوله: ((وناداهما ربهما) وقوله: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) فأما قوله (ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) فإنه ما ينبغي لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا وليس بكائن إلا من وراء حجاب، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء، كذلك قال الله تبارك وتعالى علوا كبيرا، قد كان الرسول يوحى إليه من رسل السماء فيبلغ رسل السماء رسل الأرض، وقد كان الكلام بين رسل أهل الأرض وبينه من غير أن يرسل بالكلام مع رسل أهل السماء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرئيل هل رأيت ربك فقال جبرئيل: إن ربي لا يرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فمن أين تأخذ الوحي؟ فقال: آخذه من إسرافيل فقال: ومن أين يأخذه إسرافيل؟ قال: يأخذه من ملك فوقه من الروحانيين، قال: فمن أين يأخذه ذلك الملك؟ قال: يقذف في قلبه قذفا، فهذا وحي، وهو كلام الله عز وجل، وكلام الله ليس بنحو واحد، منه ما كلم الله به الرسل، ومنه ما قذفه في قلوبهم، ومنه رؤيا يريها الرسل، ومنه وحي وتنزيل يتلى ويقرأ، فهو كلام الله، فاكتف بما وصفت لك من كلام الله، فإن معنى كلام الله ليس بنحو واحد فإن منه ما يبلغ به رسل السماء رسل الأرض، قال: فرجت عني فرج الله عنك و حللت عني عقدة فعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين.
فقال عليه السلام: وأما قوله: (هل تعلم له سميا) فإن تأويله هل تعلم أحدا اسمه الله غير الله تبارك وتعالى، فإياك أن تفسر القرآن برأيك حتى تفقهه عن العلماء، فإنه رب تنزيل يشبه كلام البشر وهو كلام الله، وتأويله لا يشبه كلام البشر، كما ليس شئ من خلقه يشبهه، كذلك لا يشبه فعله تبارك وتعالى شيئا من أفعال البشر، ولا يشبه شئ من كلامه كلام البشر، فكلام الله تبارك وتعالى صفته وكلام البشر أفعالهم، فلا تشبه كلام الله بكلام البشر فتهلك وتضل، قال: فرجت عني فرج الله عنك، وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين.
فقال عليه السلام: وأما قوله: (وما يعزب عن ربك من مثقال ذره في الأرض ولا في السماء، كذلك ربنا لا يعزب عنه شئ، وكيف يكون من خلق الأشياء لا يعلم ما خلق وهو الخلاق العليم. وأما قوله: (لا ينظر إليهم يوم القيمة) يخبر أنه لا يصيبهم بخير، وقد تقول العرب: والله ما ينظر إلينا فلان، وإنما يعنون بذلك أنه لا يصيبنا منه بخير، فذلك النظر ههنا من الله تعالى إلى خلقه، فنظره إليهم رحمة منه لهم، وأما قوله: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) فإنما يعني بذلك يوم القيامة أنهم عن ثواب ربهم محجوبون قال: فرجت عني فرج الله عنك، وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك.
فقال عليه السلام: وأما قوله: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور) وقوله: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) وقوله: (الرحمن على العرش استوى) وقوله: (وهو معكم أينما كنتم) وقوله: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) فكذلك الله تبارك وتعالى سبوحا قدوسا، تعالى أن يجري منه ما يجري من المخلوقين وهو اللطيف الخبير، وأجل وأكبر أن ينزل به شئ مما ينزل بخلقه وهو على العرش استوى علمه، شاهد لكل نجوى، وهو الوكيل على كل شئ، والميسر لكل شئ، والمدبر للأشياء كلها، تعالى الله عن أن يكون على عرشه علوا كبيرا.
فقال عليه السلام: وأما قوله: (وجاء ربك والملك صفا صفا) وقوله: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة)، قوله: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) وقوله: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك) فإن ذلك حق كما قال الله عز وجل، و ليس له جيئة كجيئة الخلق، وقد أعلمتك أن رب شئ من كتاب الله تأويله على غير تنزيله ولا يشبه كلام البشر، وسأنبئك بطرف منه فتكتفي إن شاء الله، من ذلك قول إبراهيم عليه السلام: ﴿إني ذاهب إلى ربي سيهدين﴾ فذهابه إلى ربه توجهه إليه عبادة واجتهادا وقربة إلى الله عز وجل، ألا ترى أن تأويله غير تنزيله، وقال ﴿وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد﴾ يعني السلاح وغير ذلك، وقوله: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة) يخبر محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عن المشركين والمنافقين الذين لم يستجيبوا لله وللرسول، فقال: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة) حيث لم يستجيبوا لله ولرسوله (أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك) يعني بذلك العذاب يأتيهم في دار الدنيا كما عذب القرون الأولى، فهذا خبر يخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنهم، ثم قال: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) يعني من قبل أن يجيئ هذه الآية، وهذه الآية طلوع الشمس من مغربها، وإنما يكتفي أولوا الألباب والحجى وأولوا النهى أن يعلموا أنه إذا انكشف الغطاء رأوا ما يوعدون، وقال: في آية أخرى: ﴿فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا﴾ يعني أرسل عليهم عذابا، وكذلك إتيانه بنيانهم قال الله عز وجل: ﴿فأتى الله بنيانهم من القواعد﴾ فإتيانه بنيانهم من القواعد إرسال العذاب عليهم، وكذلك ما وصف من أمر الآخرة تبارك اسمه وتعالى علوا كبيرا أنه يجري أموره في ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة كما يجري أموره في الدنيا لا يغيب ولا يأفل مع الآفلين، فاكتف بما وصفت لك من ذلك مما جال في صدرك مما وصف الله عز وجل في كتابه، ولا تجعل كلامه ككلام البشر، هو أعظم وأجل وأكرم وأعز تبارك وتعالى من أن يصفه الواصفون إلا بما وصف به نفسه في قوله عز وجل: ﴿ليس كمثله شئ وهو السميع البصير﴾ قال: فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك، وحللت عني عقدة.
فقال عليه السلام: وأما قوله: (بل هم بلقاء ربهم كافرون) وذكر الله المؤمنين (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم)) وقوله لغيرهم: ﴿إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه﴾ وقوله: (فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا) فأما قوله: (بل هم بلقاء ربهم كافرون) يعني البعث فسماه الله عز وجل لقاءه، وكذلك ذكر المؤمنين (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) يعني يوقنون أنهم يبعثون و يحشرون ويحاسبون ويجزون بالثواب والعقاب، فالظن ههنا اليقين خاصة، و كذلك قوله: (فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا) وقوله: (من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت) يعني: من كان يؤمن بأنه مبعوث فإن وعد الله لآت من الثواب والعقاب، فاللقاء ههنا ليس بالرؤية، واللقاء هو البعث، فافهم جميع ما في الكتاب من لقائه فإنه يعني بذلك البعث، وكذلك قوله: (تحيتهم يوم يلقونه سلام) يعني أنه لا يزول الإيمان عن قلوبهم يوم يبعثون، قال: فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك، فقد حللت عني عقدة.
فقال عليه السلام: وأما قوله: (ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها) يعني أيقنوا أنهم داخلوها، وكذلك قوله: (إني ظننت أني ملاق حسابيه) يقول إني أيقنت أني أبعث فأحاسب، وكذلك قوله: (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين) وأما قوله للمنافقين: (وتظنون بالله الظنونا) فهذا الظن ظن شك وليس ظن يقين، والظن ظنان: ظن شك وظن يقين، فما كان من أمر معاد من الظن فهو ظن يقين، وما كان من أمر الدنيا فهو ظن شك فافهم ما فسرت لك، قال: فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك.- التوحيد للصدوق ص 262-267]
وورد [ في كتاب الاحتجاج للطبرسي (ره) عن أمير المؤمنين عليه السلام واما قوله:
” وجاء ربك والملك صفا صفا ” وقوله: ” هل ينظرون الا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ” فذلك كله حق وليست له جثة جل ذكره كجثة خلقه وانه رب كل شئ ورب شئ من كتاب الله عز وجل يكون تأويله على غير تنزيله، ولا يشبه تأويل كلام البشر ولا فعل البشر، وسأنبئك بمثال لذلك تكتفى انشاء الله وهو حكاية الله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام حيث قال: ” انى ذاهب إلى ربى ” فذهابه إلى ربه توجيهه إلى وعبادته واجتهاده، الا ترى ان تأويله غير تنزيله؟ وقال:” انزل لكم من الانعام ثمانية أزواج ” وقال: ” وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ” فانزاله ذلك خلقه وكذلك قوله: ” إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ” أي الجاهدين فالتأويل في هذا القول باطنه مضاد لظاهره .
– وفي تفسير علي بن إبراهيم قوله: وجئ يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الانسان وانى له الذكرى قال: حدثني أبي عن عمرو بن عثمان عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما نزلت هذه الآية ” وجئ يومئذ بجهنم ” سئل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فقال بذلك اخبرني الروح الأمين ان الله لا اله غيره إذا برز للخلائق وجمع الأولين والآخرين اتى بجهنم تقاد بألف زمام اخذ بكل زمام الف ملك تقودها من الغلاظ – نور الثقلين للحويزي ج5ص 574] .
التفسير :
(وجاء ربك)
وهنا :
و لفظ جاء ورد في قوله تعالى { وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم – الصافات 84 } . وهذه الآية تؤكد صحة آثار أمير المؤمنين علي عليه السلام بأن ذهاب إبراهيم إلى ربه أتيانه الطاعات والعبودية لله تعالى أي أن قوله تعالى {وجاء ربك} أي وجاء أمر ربك .كقوله تعالى { يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۖ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ – هود 76 } .
{ وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد – ق } وبالتالي المجيئهو مجيئ أمر الله كما في قوله تعالى
{ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ – هود 58 } وقوله تعالى {فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز – هود 66} وقوله تعالى { ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ – هود69 } وقال تعالى { فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط – هود 74 } وقل تعالى {يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود – هود 76 } وبالتالي المجيئ هو أمر الله تعالى باستحضار الخلائق والشهود والجنة والنار وإعداد المحكمة الكبرى للفصل بين الخلق .
وأما :
(ربك)
وهنا (ربك) هو الله تعالى ثم الملائكة الموكولة من الله تعالى هذا اليوم .قال تعالى { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ – يونس 3 } وقال تعالى أيضاً { قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون – البقرة 139} والله تعالى بفصل بينهم وبين الخلائق يوم القيامة لأنه ربنا وربهم قال تعالى { إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم – آل عمران 51 } وهذا الفصل في هذا اليوم قال تعالى فيه نفس ما ذكرناه من قبل أنه أمر الله تعالى بدليل قوله تعالى عن قدوم الملائكة وأمر الله تعالى للمحاكمة الكبرى قال تعالى :{ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون – النحل 33} ولان لفظ رب ورد على الحاكم في قوله تعلى بسورة يوسف { وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم – يوسف 50} فيكون على ذلك رب القيامة الموكول إليهم المحاكمة بأمر الله تعالى يوم القيامة كما بينا .
وأما :
( والملك)
والملك بفتح اللام ملائكة قال تعالى فيها نفس المعاني المذكورة من قبل حيث قال تعالى { والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية – الحاقة 17} . ونهذا العرش بينا في سورة الحاقة أنه الكون الجديد الذي قال تعالى فيه { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار – إبراهيم 48} وذلك في يوم القيامة الذي قال تعالى فيه هنا { وجاء ربك والملك صفاً صفا} .
وأما :
(صفاً صفا)
[ والصف : السطر المستوي من كل شيئئ – معجم ألفاظ القرآن باب الصاد فصل الفاء والفاء ] .{ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص –الصف 4 } وإذا أنزل الله تعالى عذاباً على الظالمين نزلت الملائكة في صفوف قال تعالى فيها { وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا – الصافات1-3} وهنا أيضا إذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى الملائكة بأن يأتوا صفاً صفا في قوله تعالى هنا { وجاء ربك والملائكة صفاً صفا }
ثم يقول تعالى :
- وجيئ يومئذٍ بجهنم يومئذٍ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى (23)
وهنا ورد في كتاب التوحيد للصدوق : [ عن محمد بن يعقوب: عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن مفضل بن صالح، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ” قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): أخبرني الروح الأمين أن الله لا إله غيره، إذا وقف الخلائق و جمع الأولين و الآخرين، أتى بجهنم تقاد بألف زمام، أخذ بكل زمام مائة ألف ملك من الغلاظ الشداد، و لها هدة و تحطم و زفير و شهيق، و إنها لتزفر الزفرة، فلو لا أن الله عز و جل أخرها إلى الحساب لأهلكت الجمع، ثم يخرج منها عنق يحيط بالخلائق، البر منهم و الفاجر، فما خلق الله عبدا من عباده، ملك و لا نبي إلا و ينادي: يا رب نفسي نفسي، و أنت تقول: يا رب أمتي أمتي، ثم يوضع عليها صراط أدق من الشعر، و أقطع من السيف، عليه ثلاث قناطر: الأولى عليها الأمانة و الرحم، و الثانية عليها الصلاة، و الثالثة عليها رب العالمين لا إله غيره، فيكلفون الممر عليها، فتحبسهم الأمانة و الرحم، فإن نجوا منها حبستهم الصلاة، فإن نجوا منها كان المنتهى إلى رب العالمين جل ذكره، و هو قوله تبارك و تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ }.
و الناس على الصراط، فمتعلق تزل قدمه و تثبت قدمه، و الملائكة حولها ينادون: يا حليم يا كريم، اعف و اصفح و عد بفضلك و سلم، و الناس يتهافتون فيها كالفراش، فإذا نجا ناج برحمة الله تبارك و تعالى، نظر إليها فقال:الحمد لله الذي نجاني منك بفضله و منه ”
– و عنه: بإسناده عن الحجال، عن غالب بن محمد، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، في قول الله عز و جل: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } ، قال: ” قنطرة على الصراط، لا يجوزها عبد بمظلمة “.
– ابن بابويه، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن علي بن الحكم، عن المفضل بن صالح، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: ” لما نزلت هذه الآية: { وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } سئل عن ذلك رسول الله (صلى الله عليه و آله)، فقال: أخبرني الروح الأمين أن الله لا إله غيره، إذا جمع الأولين و الآخرين، أتى بجهنم تقاد بألف زمام، أخذ بكل زمام مائة ألف ملك من الغلاظ الشداد، و لها هدة و تغيظ و زفير، و إنها لتزفر الزفرة، فلو لا أن الله عز و جل أخرهم إلى الحساب لأهلكت الجميع، ثم يخرج منها عنق يحيط [بالخلائق] بالبر [منهم] و الفاجر، فما خلق الله عز و جل عبدا [من عباده ملكا] و لا نبيا إلا نادى: رب نفسي نفسي، و أنت تنادي يا نبي الله: امتي امتي، ثم يوضع عليها الصراط أدق من حد السيف، عليه ثلاث قناطر: إما واحدة فعليها الأمانة و الرحم، و أما الثانية، فعليها الصلاة، و أما الأخرى فعليها عدل رب العالمين، لا إله غيره، فيكلفون الممر على الصراط، فيحبسهم الرحم و الأمانة، فإن نجوا منها [حبستهم الصلاة، فإن نجوا منها] كان المنتهى لرب العالمين جل و عز، و هو قول الله تبارك و تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ }.
و الناس على الصراط، فمتعلق و قدم تزل و قدم تستمسك، و الملائكة [حولهم] ينادون: يا حليم اغفر و اصفح و عد بفضلك و سلم، و الناس يتهافتون فيها كالفراش، فإذا نجا ناج برحمة الله عز و جل، نظر إليها فقال :الحمد لله الذي نجاني منك بعد إياس بمنه و فضله، إن ربنا لغفور شكور
و رواه علي بن إبراهيم، في (تفسيره)، قال: حدثني أبي، عن عمرو بن عثمان، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: ” نزلت هذه الآية { وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } سئل عن ذلك رسول الله (صلى الله عليه و آله)، فقال:
بذلك أخبرني الروح الأمين أن الله لا إله غيره إذا أبرز الخلائق و جمع الأولين و الآخرين، أتى بجهنم تقاد بألف زمام، لكل زمام مائة ألف ملك ” و ذكر الحديث ببعض التغيير.
– (تحفة الإخوان): بحذف الاسناد، عن أبي سعيد الخدري، و سلمان الفارسي، قال: ” لما نزلت هذه الآية تغير وجه رسول الله (صلى الله عليه و آله)، و عرف ذلك من وجهه حتى اشتد على الصحابة و عظم عليهم ما رأوا من حاله، فانطلق بعضهم إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقالوا: يا علي، لقد حدث أمر رأيناه في وجه رسول الله (صلى الله عليه و آله)؟ قال: فأتى علي (عليه السلام) فاحتضنه من خلفه و قبل ما بين عاتقيه، ثم قال: يا نبي الله، بأبي [أنت] و أمي، ما الذي حدث عندك اليوم؟ “.
قال: ” جاء جبرئيل، فأقرأني { وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ }. فقلت: و كيف يجاء بها؟ قال: يؤمر بجهنم فتقاد بسبعين ألف زمام، لكل زمام سبعون ألف ملك، في يد كل ملك مقرعة من حديد، فيقودونها بأزمتها و سلاسلها، و لها قوائم غلاظ شداد، كل قائمة مسيرة ألف سنة من سنين الدنيا، و لها ثلاثون ألف رأس، في كل رأس ثلاثون ألف فم، في كل فم ثلاثون ألف ناب، كل ناب مثل جبل أحد ثلاثون ألف مرة، كل فم له شفتان، كل واحدة مثل أطباق الدنيا، في كل شفة سلسلة يقودها سبعون ألف ملك، كل ملك لو أمره الله أن يلتقم الدنيا كلها والسماوات كلها و ما فيهن و ما بينهن، لهان ذلك عليه.
فعند ذلك تفزع جهنم و تجزع و تقاد على خوف، كل ذلك خوفا من الله تعالى، ثم تقول: أقسمت عليكم يا ملائكة ربي، هل تدرون ما يريد الله أن يفعل بي، و هل أذنبت ذنبا حتى استوجبت منه العذاب؟ فيقولون كلهم : لا علم لنا يا جهنم. قال: فتقف و تشهق و تعلق و تضطرب، و تشرد شردة لو تركت لأحرقت الجمع، كل ذلك خوفا و فزعا من الله تعالى، فيأتي النداء من قبل الله تعالى: مهلا مهلا يا جهنم، لا بأس عليك، ما خلقتك لشيء أعذبك به، و لكني خلقتك عذابا و نقمة على من جحدني، و أكل رزقي، و عبد غيري، و أنكر نعمتي، و اتخذ إلها من دوني.
فتقول: يا سيدي، أ تأذن لي في السجود [و الثناء عليك]؟ فيقول الله: افعلي يا جهنم، فتسجد لله رب العالمين، ثم ترفع رأسها بالتسبيح و الثناء لله رب العالمين “. “.- البرهان للسيد هاشم البحراني ] .
وهنا :
(وجيئ)
ومجيئ جهنم هنا حضورها فإذا حضرت سيق وحشر إليها الذين كفروا قال تعالى { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ –الزمر 71 } .
وأما :
(يومئذٍ)
وهنا يبين تعالى أنهم إذا حشروا إلى جهنم قالوا أين المفر قال تعالى { يقول الإنسان يومئذٍ أين المفر – القيامة 10 } وفي ذلك اليوم لا تملك نفس لنفس شيئاً كما في قوله تعالى { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله – الإنفطار19} والويل يومئذٍ للمكذبين التاركين لكتاب الله تعالى وسنة رسوله وولاية أهل بيته عليهم السلام قال تعالى { ويل يومئذ للمكذبين –المطففين 10} .
وأما :
(بجهنم)
وهنا يقول تعالى عن جهنم { بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ۖ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا – الفرقان 11-12 } وهنا يساق إليها المجرمون وردا كما في قوله تعالى { ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا – مريم 86} ويقال لهم { هذه جهنم التي كنتم توعدون – يس 63 } ثم يدفعون فيها دفعا كما في قوله تعالى { يوم يدعون إلى نار جهنم دعا – الطور 13 } وهؤلاء كانوا في الدنيا شر مكاناً وأضل سبيلا قال تعالى { الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا -الفرقان 34 } .
وأما :
(يومئذٍ)
أي أنه يقول تعالى { وجيئ يومئذٍ بجهنم} فإذا جاءت تذكر الإنسان أعماله في الدنيا كما في قوله تعالى { يومئذٍ يتذكر الإنسان ماسعى } وفي ذلك اليوم ترى المجرمين مقرنين ي الأصفاد وبالسلاسل يسحبون كما في قوله تعالى { وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار -إبراهيم 49-50 } .
وأما :
(يتذكر الإنسان)
أي أنه يقول تعالى عن ذلك اليوم { يوم يتذكر الإنسان ماسعى – النازعات 35 } ولكن يكون هذا بعد فوات الأوان والزمان قال تعالى هنا { يومئذٍ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى – الفجر }
وأما :
( وأنى له الذكرى)
أي أنه يقول تعالى هنا { أنى لهم الذكرى وقد جائهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون – الدخان 13-14} فإذا قامت الساعة [ ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا الساعة التي وُعدوا بها أن تجيئهم فجأةً, فقد ظهرت علاماتها ولم ينتفعوا بذلك, فمن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة؟.- التفسير الميسر ] قال تعالى : { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ محمد 18 } .
ثم يقول تعالى :
- يقول يا ليتني قدمت لحياتي (24)
وهنا :
(يقول ياليتني)
وهنا :
[ ولاته حقه يلته ليتاً : نقصه ولم يؤده كاملا- معجم الفاظ القرآن باب اللام فصل الياء والتاء ] قال تعالى { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم – الحجرات 14 } [ وليت : حرف يدل على تمني الشيئ والرغبة في الحصول عليه وكثيراً ما يكون مصحوباً بالحرف (يا) فيقال (ياليتني) – معجم الفاظ القرآن باب اللام فصل الياء والتاء ] قال تعالى { فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا – مريم 23}والتمني يكون بنيل فضل الدنيا والآخرة بأن يكونوا مع الفائزين بنصر الدنيا ورضا الله تعالى و الجنة قال تعالى { ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما النساء 73}
ويتمنون أن يكونوا من المسلمين الموحدين فلا ينزل بهم البلاء في الدنيا كما في قوله تعالى { وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا – الكهف 42 }
ويوم القيامة يتمنى أول ظالم لهذه الأمة بأن يكون مع النبي مطيعاً موالياً لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وأهل بيته عليهم السلام قال تعالى { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا -الفرقان 27} وفس ذلك اليوم يؤتى المجرمين كتاب أعمالهم بشمالهم كما في قوله تعالى { وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه – الحاقة 25} وهنا يقول ياليتني كنت ترابا كما في قوله تعالى { إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا – النبأ 40} وعندما يرى نعيم أهل الجنة يقول متمنياً أنه عاد إلى الدنيا ليعمل صالحاً يقدمه كي يفوز بالجنة قال تعالى { يقول يا ليتني قدمت لحياتي –الفجر 24 } .
وأما :
(قدمت)
والتقديم في الدنيا يكون بالأعمال الصالحة من صلاة وزكاة وقيام لليل هى التي تنفع يوم القيامة قال تعالى { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير – البقرة 110} وقال تعالى أيضاً { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم – المزمل 20} وبالتالي الآية هنا { ياليتني قدمت لحياتي } أي كقولهم { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا – الأحزاب 66} .
وأما :
(لحياتي)
وهنا يبين تعالى أن متاع الدنيا قليل والآخرة هى دار الحياة الأبدية السرمدية قال تعالى { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ – العنكبوت 64 } . ولذلك عندما يحاكمون يوم القيامة ويرون جزيل الثواب والعذاب الشديد هنا يتمنون الرجوع للحياة الدنيا لعلهم يعملون صالحا كما في الآية هنا { يقول ياليتني قدمت لحياتي } .
ثم يقول تعالى :
- فيومئذٍ لا يعذب عذابه أحد (25)
وهنا :
(فيومئذٍ)
أي أنه يقول تعالى عن ذلك اليوم إذا وقعت الواقعة كما في قوله تعالى { فيومئذ وقعت الواقعة – الحاقة 16} وفي ذلك اليوم قال تعالى { وترى المجرمين يومئذٍ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار – إبراهيم 49 -50 } وبالتالي لا يعذب عذابه أحد إلا أحداً موكول من الله تعالى بعذابه قال تعالى {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ – الحاقة 30-37 } وفي هذا اليوم لا يسأل عن ذنوبه أحد قال تعالى{ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان – الرحمن 39} ولا تنفع معذرتهم كما في قوله تعالى{ فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون – الروم 57} .
وأما :
(لا يعذب عذابه)
يقول تعالى {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا – المزمل 12-13} وهنا قلنا من قبل أنه لا يعذبه أحد إلا ملكاً موكولا بعذابه ولذلك يؤكد الله تبارك وتعالى هنا هذا المعنى كما في قوله تعالى { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ – الأنعام 50 } أي { لا يعذب عذابه أحد } غير من وكل لهم هذا الأمر وهؤلاء هم الذين كفروا كما في قوله تعالى { فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين- آل عمران 56 } .
وأما :
(أحد)
ورد هذا اللفظ في قوله تعالى { ولا يوثق وثاقه أحد – الفجر 26} وقلنا من قبل أنه لا أحد إلا أحد من الملائكة موكول بهذا العذاب فإذا قال تعالى { ولا يوثق وثاقه أحد } فقد بين تعالى بموضع آخر هذه الملائكة الموكول لها توثيقه ليدخلوه إلى الجحيم قال تعالى { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ – الحاقة 30-34 } .
ثم يقول تعالى :
- ولا يوثق وثاقه أحد (26)
وهنا :
(ولا يوثق وثاقه)
[ الوثاق يأتي بمعنى الإيثاق وبمعنى الحبل ونحوه يوثق به – معجم ألفاظ القرآن باب الواو فصل الثاء والقاف ] .قال تعالى { فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ – محمد 4 } . والوثاق هنا قال تعالى فيه ماذكرناه من قبل عن طريق ملائكة موكولة بذلك في قوله عالى { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ – الحاقة 30-31 } .ثم يقول تعالى :
- يا أيتها النفس المطمئنة (27)
وهنا :
(يا أيتها)
وهنا يا أيتها كأنه نداء كقوله تعالى { فأذن مؤذن بينهم أيتها العير إنكم لسارقون – يوسف 70 }
والنداء هنا يوم القيامة للأنفس المطمئة في قوله تعالى { يا أيتها النفس المطمئنة ادخلي في عبادي وادخلي جنتي – الفجر } .
وأما :
(النفس)
وهنا النفس المطمئنة هى التي كانت تنهى النفس عن الهوى وما دامت نهت نفسها عنم الهوى فهى التي كانت تأتمر بأمر الله تعالى وأطاعت الله تعالى ورسوله وتولت أهل بيته عليهم السلام قال تعالى { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى – النازعات 40-41 } وهذه هى النفس المطمئنة هنا .
وأما :
(المطمئنة)
والمطمئنة هى التي تطمئن بذكر الله عملاً وقولا قال تعالى { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القلوب – الرعد 28 } وهذه هى النفس المطمئنة .
ثم يقول تعالى :
- ارجعي إلى ربك راضة مرضية (28)
وهنا :
(ارجعي إلى ربك)
وهنا يبين تعالى أن كل نفس مرجعها إلى الله كما قال نبي الله نوح إلى قومه في قوله تعالى {هو ربكم وإليه ترجعون – هود 34 } وقال تعالى { إن إلى ربك الرجعى – العلق 8 } وهذه الرجعة من بعد الموت كما في قوله تعالى { كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون – العنكبوت 57} فإن كانت مؤمنة تعمل الصالحات وفق ما أمر الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآل) فهى نفس مطمئنة كما في الآية هنا { يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية } .
وأما :
(راضية مرضية)
أي أنهم يدخلهم الله تعالى فيمن رضي عنهم ورضوا عنه وهؤلاء هم الصادقون كما في قوله تعالى { قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم – المائدة 119} وهؤلاء هم حزبه الذين قال تعالى فيهم { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون – المجادلة 22 }
وهذا الحزب هم المسلمون الذين تولوا الله تعالى ورسوله ثم الإمام علي وأئمة من أهل البيت عليهم السلام لقوله تعالى في آية الولاية { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ – المائدة 55-56 }
وهؤلاء هم خير البرية الذين نزل فيهم قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ – البينة7-8} .
[عن محمد بن عليّ( أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” أنْتَ يا عَلي وَشِيعَتُكَ”.- تفسير الطبري ] .ثم يقول تعالى :
- فادخلي في عبادي (29) وادخلي جنتي (30)
وهنا :
(فاخلي في عبادي وادخلي )
أي أنه يقول تعالى { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ – العنكبوت 9 } وقال تعالى عن مدخلهم { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ – الحج 58-59 } وهذا المدخل هو الجنة كما في الآية هنا { فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } . وهنا يساقون إلأى الجنة زمراً كما في قوله تعالى { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ – الزمر 73-74 } .
وأما :
(في عبادي وادخلي جنتي)
أي أنه يقول تعالى هنا { جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا ۖ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا – مريم 61-63 } .
وأما :
(وادخلي جنت)
وهنا يبين تعالى أن الجنة جعلها الله تعالى للذين آمنوا وعملوا الصالحات كما في قوله تعالى : { ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا – النساء 124} وقال تعالى أيضاً { من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب – غافر40 } وهى للذين تابوا وأصلحوا كما في قوله تعالى { إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا – مريم 60 } وهؤلاء هنا يقال لهم { يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي }
هذا وبالله التوفيق وما توفيقي
إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وسلام على المرسلين
والحمد لله رب العالمين وصلى الله علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
انتهى العمل من هذه السورة الشريفة بعد عشاء يوم 17 رمضان 1420ه الموافق 25 ديسمبر سنة 1999 م