ستكشف الانتخابات عن مدى استمرارية النفوذ القوى، فى المجتمع والسياسة، الذى صار يلعبه تيار بات يُعرف باسم «القومية المسيحية».

تيار القومية المسيحية لم يختفِ يومًا من الساحة، طوال التاريخ الأمريكى، وإنما يخبو أجيانا ثم يطفو أخرى وكان يطلق على فصائل منه أسماء مختلفة.

«القومية المسيحية» لا علاقة لها بالمسيحية كدين وعقيدة، بل أيديولوجيا تخلط الدينى بالسياسى والعرقى كهوية واحدة فريدة تقسم الأمريكيين وفق معيار التفوق والدونية.

الحرية تعنى عندهم التحرر من سطوة الحكومة الفيدرالية تحديدا و«النظام العام» ذو طبيعة هرمية يهيمن فيه الرجل على المرأة و«قوم» بعينهم على غيرهم من الأمريكيين.

كان المهاجرون الأوائل الذين أسسوا أمريكا مسيحيين تعرضوا للاضطهاد بأوروبا، فهاجروا لإقامة دولة مسيحية لو نجحوا بإقامتها فعلا، «كافأهم الرب» فتكون بلادهم «منارا» يضىء العالم.

*   *   *

بعد أسبوع، تجرى الانتخابات التشريعية الأمريكية التى ستحسم نتائجها مستقبل إدارة بايدن خلال العامين المتبقيين من ولايته. لكن الأهم أنها ستكشف عن مدى استمرارية النفوذ القوى، فى المجتمع والسياسة، الذى صار يلعبه التيار الذى بات يُعرف باسم «القومية المسيحية».

والانتخابات ستجرى على كل مقاعد مجلس النواب وثلث مقاعد مجلس الشيوخ، وجرت العادة على أن يخسر فيها حزب الرئيس مقاعد بالمجلسين وإن ظلت هناك استثناءات كثيرة لتلك القاعدة.

أما «القومية المسيحية» فهى ليست مصطلحًا أطلقه الباحثون على هذا التيار، وإنما هو الاسم الذى صار رموز التيار يطلقونه على أنفسهم.

وهو تيار لم يختفِ يومًا من الساحة، طوال التاريخ الأمريكى، وإنما ظل يخبو أحيانًا ثم يطفو فى أحيان أخرى، وكان يطلق على نفسه وأطلق الباحثون على فصائل منه أسماء مختلفة. غير أنه فى المجمل اكتسب قوة وحضورًا خلال العقد الأخير.

و«القومية المسيحية» لا علاقة لها بالمسيحية كدين وعقيدة، وإنما هى أيديولوجيا تخلط الدينى بالسياسى والعرقى فى هوية واحدة فريدة تقسم الأمريكيين وفق معيار التفوق والدونية.

فمثلها مثل أى «قومية» تحمل فى طياتها منطق «نحن وهم»، تتبنى القومية المسيحية تعريفاتها الخاصة لمعنى الحرية والنظام العام.

أما الحرية فتعنى، عندهم، التحرر من سطوة الحكومة الفيدرالية على وجه التحديد. «والنظام العام» ذو طبيعة هيراركية، الهيمنة فيه للرجل على المرأة، ولـ«قوم» بعينهم على غيرهم من الأمريكيين. و«القوم» هم البيض المسيحيون دون غيرهم من الأمريكيين. والبياض هنا ليس مجرد لون البشرة وإنما يحمل معنى ثقافيًا وتاريخيًا.

«فالبيض»، عندهم، هم الذين ترجع أصولهم لغرب أوروبا، دون شرقها وجنوبها. وهى «مسيحية» لأنها تؤمن بأن الولايات المتحدة نشأت «مسيحية» وأنشأها البيض الذين أتوا من أوروبا الغربية وينبغى أن تظل كذلك، أى تظل الهيمنة والسلطة فيها لهم وحدهم، وفق هيراركية تمنحهم مواقع القمة، بينما يبقى غيرهم فى مواقع أدنى.

والأيديولوجيا تروج للأسطورة التى ارتبطت بالحكاية التى ترويها أمريكا عن نفسها ومؤداها أن المهاجرين الأوائل الذين أسسوا أمريكا كانوا من المسيحيين الذين تعرضوا للاضطهاد بأوروبا، فهاجروا من أجل إقامة دولة مسيحية حقيقية لو نجحوا فى إقامتها فعلا، «كافأهم الرب» فتكون بلادهم بمثابة «شعاع النور» الذى يضىء العالم. ومن هنا فإن المهاجرين كانوا بمثابة «الحجيج» وأمريكا ذات دور مهم فى «المخطط الإلهى من أجل البشرية».

بعبارة أخرى، فإن كل التطورات التى لحقت بالمجتمع الأمريكى منذ ذلك التاريخ لا ينبغى، عندهم، أن تغير تلك «الحقيقة» ولا ذلك «المخطط الإلهى».

فالتعددية العرقية والإثنية والدينية ينبغى أن تقبل بذلك الهدف الذى نشأت أمريكا لتحقيقه أصلًا. أما العنف فهو، عندهم، وسيلة مشروعة لأولئك الرجال البيض المسيحيين تحديدًا لاستعادة «النظام العام»، بتعريفه المحدد عندهم.

ورغم أن هذا التيار ظل دومًا على الهامش، فقد لعب أدوارًا مهمة فى مراحل تاريخية عدة، كان أغلبها فى تقديرى رد فعل لأحداث كبرى اعتبرها مناهضة للحفاظ على «هوية» أمريكا. وفى العقد الأخير، كان انتخاب أوما، كأول رئيس أسود، لحظة جوهرية لأنه مثل بالنسبة لهم حدثًا مفصليًا جسد التحولات التى يكرهونها وفى جوهرها المساواة بغيرهم. ومن هنا كان دعمهم القوى لترامب رغم يقينهم بأنه لا يمثل القيم المسيحية.

وقد كان هذا التيار بتنويعاته الفكرية وتنظيماته المختلفة هو المسؤول عن اقتحام الكونغرس بالقوة العام الماضى، ويخطط هذه الأيام، بالمناسبة، لرفض نتائج الانتخابات التشريعية وكل انتخابات قادمة لو انهزمت رموزه!

*د. منار الشوربجي أستاذ العلوم السياسية المساعد، باحثة في الشأن الأمريكي

المصدر | المصري اليوم