سبتة ومْليلية المغربيّتان
ينبغي أن تصبح قضيّة سبتة ومْليلية قضيّة رأي عامّ عربيّ يُسَلَّط عليها الضّوء في الصّحافة والإعلام والمنتديات العربيّة.
نادراً ما يُسَلَّط الضّوءُ على المدينتين المغربيّتين السّليبتيْن سَبْتَة ومْلِيلْية، أو حتّى أن يُؤتَى على الإشارة إليهما بالذّكر.
سيظلّ المغرب متمسكاً بحقّه الشّرعيّ والتّاريخيّ في مدينتين هما جزءٌ من ترابه الوطنيّ، ولن يتخلّى عن ذلك تحت أيّ ظرف.
موقفَ المغرب سيقْوى بدعم محيطه العربيّ في مطالبه وتصبح قضيّة سبتة ومليلية قضية رئيسة على جدول أعمال الجامعة العربيّة وقممها ووالدبلوماسية العربية.
* * *
في الحديث عن الأراضي العربيّة المحتلّة، نادراً ما يُسَلَّط الضّوءُ على المدينتين المغربيّتين السّليبتيْن سَبْتَة ومْلِيلْية، أو حتّى أن يُؤتَى على الإشارة إليهما بالذّكر.
يتم ذلك التّجاهل لأسبابٍ غيرِ معلومة المصدر: هل لجَهْلٍ بحيثيّات الموضوع لدى السّواد الأعظم من الكتّاب والصّحفيّين والإعلاميّين العرب، أم لإهمالٍ له ينتمي إلى إهمالٍ إجماعيّ في المشرق العربيّ لقضايا بلدان المغرب العربيّ، أم لتقصيرٍ من الدّولة في التّعريف بقضيّة المدينتين المحتلّتين وحقوق المغرب الثابتة والتّاريخيّة فيهما وبناء رأيٍ عربيّ مناصر لمطالب المغرب؟
في كلّ حال، ينطبق على سبتة ومْليلية ما ينطبق على مناطقَ عدّة من الأراضي العربيّة المحتلّة من زاوية الوضع غير المشروع الذي ترزح فيه: الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة؛ هضْبة الجولان؛ مزارع شبعا؛ لواء الإسكندرون السّوريّ؛ الجزر الإماراتيّة الثّلاث (طُنب الكبرى، طنب الصغرى، أبو موسى)؛ إقليم عربستان أو الأحواز؛ وإقليم أُوغادين الصوماليّ. وفيما يحظى بعضُها بالاهتمام والمتابعة الإعلاميّين في المغرب العربيّ، وبمعرفةٍ – أحياناً دقيقة – بتفاصيله لدى شريحة عريضة من الكتّاب والصّحفيّين، لا تحظى قضيّة المدينتين المغربيّتين السّليبتيْن بأيّ مساحة من الانتباه العربيّ.
يحدث ذلك فيما المدينتان محتلّتان منذ مئات السّنين، لا منذ عقود، وقد نُكِبَتا بأقدم استعمارٍ، وأطول استعمارٍ في التّاريخ تقريباً.
في صيف العام 1415، سقطت مدينة سبتة في قبضة الاحتلال البرتغاليّ. كان ذلك قبل قرنٍ من بداية الاستيطان الأوروبيّ في القارّة الأمريكيّة وحروب الإبادة ضدّ أهلها الأصليّين؛ وهو ما يعني أنّها أوّل مستعمرة أوروبيّة بعد المستعمرات الصّليبيّة في المشرق بين القرنين 11 و13 الميلاديّين، والتي انتهت بزوالها وتحرير الأرض من قِبل الأيّوبيّين. لكن إسبانيا سرعان ما اجتاحت قوّاتُها البرتغال وضمّتها إلى كيانها – بما فيها سبتة – في العام 1580. ومع استقلال البرتغال عن إسبانيا، في العام 1640، بقيت سبتة تحت السّيطرة الإسبانيّة، ولم تلبث البرتغال أن سلّمت بسيادة إسبانيا على المدينة في «معاهدة لشبونة» (1668)، لتظلّ منذ ذلك الحين مدينةً مغربيّة محتلّة من إسبانيا، وإن لم تتوقّف محاولات المغرب عن استردادها بالقوّة – كما في عهد السّلطان مولاي إسماعيل في النّصف الأوّل من القرن الثّامن عشر- أو بالتّفاوض كما حاول المغرب في العقود الأخيرة.
أمّا مليلية فاحتُلَّت من إسبانيا وضُمَّت إليها في العام 1497، سنوات قليلة بعد سقوط آخر ممالك الأندلس (غرناطة) في أيدي الإسبان. وهي كانت جزءاً من المغرب في عهود المرابطين والموحّدين والمَرينيّين منذ القرن الحادي عشر للميلاد، غداة خروجها من سلطة الخلافة في قرطبة (1030). ويسجّل التّاريخ أنّ السّلطان محمّد بن عبد الله (محمّد الثّالث) حاصر المدينة بجيشه لأشهر، في العام 1775، مستفيداً من الخلافات الإسبانيّة- البريطانيّة ومستعيناً ببعض الوحدات العسكريّة البريطانيّة.
ولقد ظلّت مليلية، شأن سبتة ومناطق من صحراء المغرب مثل طرفاية وسيدي إفني والسّاقية الحمراء ووادي الذّهب، موضعَ مطالباتٍ من المغرب باستعادتها منذ الجلاء العسكريّ الإسبانيّ عن الشّمال المغربيّ، في خمسينات القرن الماضي، مثلما ظلّت موطنَ إجماعٍ وطنيّ مغربيّ على الحقّ التّاريخيّ الشّرعيّ في استعادتها. ولقد استُعيدَ ما استُعيد من الأراضي المغربيّة المحتلّة من إسبانيا، ولم يبق قيْد احتلالها سوى سبتة ومليلية والجزر الجعفريّة.
لم يكن المغرب قادراً على تحرير المدينتين بالقوّة العسكريّة، مع أنّه حاول ذلك أكثر من مرّة قبل قرون ثلاثة، ولا كانت مطالباتُه السّياسيّة بهما تَلْقَى التّجاوب من إسبانيا. مع ذلك لم يسلّم بالاحتلال، ولا وقَّع وثيقةَ تنازُلٍ عن حقّه فيهما وسيادته عليهما.
ومن شدّة تمسُّكه بمغربيّة المدينتين الواقعتين على ترابه الوطنيّ في الشّمال، على ضفاف البحر الأبيض المتوسّط، حرص على تمتيع المواطنين المغاربة فيهما (وسكّان المدينتيْن يبلغون اليوم ما يزيد على المئتيْ ألف) بحقوق المواطنة كافّة في المغرب، غير آبهٍ بما تقوم به السّلطات الاستعماريّة من محاولات طمس هويّة المدينتيْن وتبديد الشّخصيّة الوطنيّة المغربيّة لأهاليهما.
وبعد ردْحٍ من الزّمن طويلٍ رفضت فيه إسبانيا الاعتراف بالوضع الاستعماريّ في المدينتين، أو حتّى قبِلت مبدأ الحلّ السّلميّ لأزمة المدينتين والتّفاوض عليه بين الدّولتين، اضطرّت – في ما بعد عهد الجنرال فرانكو- وفي نطاق تفاهُم بين الملكين الحسن الثّاني وخوان كارلوس لتليين موقفها قليلاً، ولكن لا من طريق الاعتراف بواقعة الاحتلال، ولا من طريق الانخراط في تفاوُضٍ مباشر، بل على نحوٍ من التّحايُل التّسويفيّ من خلال وعْدها بالتّفكير في إجراء تفاوُضٍ مع المغرب في مستقبلهما ما إنْ تجلو بريطانيا عن جبل طارق. وهو ما يرفضه المغرب الرّسميّ والشّعبيّ، ويعتبره تحلُّلاً إسبانيّاً من أيّ التزامٍ تجاه استحقاق إنهاء الاحتلال للمدينتين.
سيظلّ المغرب متمسكاً بحقّه الشّرعيّ والتّاريخيّ في مدينتين هما جزءٌ من ترابه الوطنيّ، ولن يتخلّى عن ذلك تحت أيّ ظرف. غير أنّ موقفَه سيقْوى أكثر إنْ هو لقيَ دعماً من محيطه العربيّ في مطالبه، وباتت قضيّة سبتة ومليلية من القضايا الرئيسية على جدول أعمال جامعة الدّول العربيّة وقممها، ومن مشمولات عمل الأجهزة الدبلوماسية العربية. لكنّ ذلك لن يكون متاحاً قبل أن تصبح قضيّة سبتة ومْليلية قضيّة رأي عامّ عربيّ يُسَلَّط عليها الضّوء في الصّحافة والإعلام والمنتديات العربيّة.
*د. عبد الاله بلقزيز كاتب وأكاديمي مغربي