في أوائل أكتوبر/تشرين الأول الجاري، قرر تكتل “أوبك+” خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميا، وهو قرار قد يطيل أزمة الطاقة العالمية وسط الحرب المستمرة في أوكرانيا. وبالنظر إلى أن هذا الإعلان جاء بعد شهر ونصف من زيارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” إلى السعودية ومصافحته ولي العهد الأمير “محمد بن سلمان”، فإنه يمثل حرجا كبيرا للبيت الأبيض.

ويرى بعض المعلقين أن السعودية ودول الخليج الأخرى استفادت بالضمانات الأمنية الأمريكية لعقود من الزمن، والآن أبدت عدم ولائها في وقت يعتبره الكثيرون في الغرب لحظة حاسمة في الشؤون الدولية، كما أن الإحباط يتردد صداه في الكونجرس حيث رأى أعضاء كثيرون أن الرياض تتصرف كـ “حليف لأكبر عدو لنا”؛ في إشارة إلى روسيا.

ولكن سواء أعجب ذلك الولايات المتحدة أم لا، فإن الشرق الأوسط بالفعل لا يتشارك مع الولايات المتحدة رؤيتها للعالم. وبعد اختزال المنطقة إلى حرب عالمية على الإرهاب لمدة عقدين من الزمن، يُنظر الآن إلى الشرق الأوسط من خلال عدسة “منافسة القوى العظمى”، وقد بدأ ذلك خلال السنوات الأخيرة من رئاسة “دونالد ترامب” – قبل الغزو الروسي لأوكرانيا – وقد أصبحت هذه النقطة أكثر مركزية مع قدوم إدارة “بايدن”.

ومثل منطقة المحيط الهندي-الهادي، يعرّف المسؤولون الأمريكيون بشكل متزايد الشرق الأوسط بأنه ساحة معركة بين الولايات المتحدة والصين، وبدرجة أقل روسيا. ومما يعزز هذه السردية توسع بكين في البنى التحتية للموانئ والشبكات الرقمية لشركاء الولايات المتحدة في المنطقة مثل إسرائيل والدول الخليجية.

 

 

السعي لاستقلالية استراتيجية

ومع ذلك، فإن سردية “تنافس القوى العظمى” هذه مضللة، لأنها تهمل تأثير الجهات الفاعلة المحلية. وتسعى دول الشرق الأوسط للنأي بنفسها أكثر فأكثر عن الانحياز في منافسة القوى العظمى، ولكنها تريد استغلال المنافسة في الوقت ذاته كمصدر نفوذ يخدم مصالحها.

وعلى سبيل المثال، لا يعني امتناع الإمارات عن التصويت في 25 فبراير/شباط الماضي على قرار مجلس الأمن بشأن حرب أوكرانيا أن أبوظبي انحازت لروسيا، وإنما يعني أن الدولة الخليجية نظرت فقط لمصالحها الوطنية حيث كانت تضع أعينها على قرار الأمم المتحدة بشأن إدانة الحوثيين في اليمن بعدها بـ3 أيام، والذي كان الدعم الروسي ضروريًا له.

الأهم من ذلك، أن هذا التردد الذي يظهره شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط يعكس ديناميات إقليمية جديدة من الداخل. وعلى مدار العامين الماضيين، قلب الشرق الأوسط (بشكل مؤقت ربما) صفحة التنافس الكبير بين كتلتين في المنطقة أحدهما بقيادة السعودية والإمارات والأخرى بقيادة قطر وتركيا، وكانت تلك المنافسة أخذت ملامح الحرب الباردة عقب الانتفاضات العربية التي انطلقت في 2011، حيث ضغطت كل كتلة من أجل مصالحها في جميع أنحاء المنطقة.

ومنذ عام 2021، عملت جميع الأطراف من أجل تهدئة التصعيد، فيما يعود جزئيًا لإدراكهم أن انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة، يفرض عليهم أن يتولوا زمام الأمور.

وبعد أن وضعت دول الخليج حداً لحصار قطر في يناير/كانون الثاني 2021، انطلقت موجة محمومة من الزيارات الدبلوماسية لإظهار دفء العلاقات، وامتد زخم تهدئة التصعيد هذا حتى لإيران، فقد هدأت الرياض وأبوظبي من خطابهما المتشدد تجاه طهران وأظهرتا عزمهما على استعادة العلاقات، ويناقض ذلك في بعض الأحيان السياسة الأمريكية.

وعلى سبيل المثال، ففي يوليو/تموز الماضي بعد يوم من إعادة تأكيد “بايدن” على تصميمه منع تحول إيران إلى دولة نووية ودعوته إلى تحالف دفاع جوي في الشرق الأوسط لمواجهة طهران، أكد المستشار الرئاسي الإماراتي “أنور قرقاش” أن بلاده “لم تكن جزءًا من أي محور ضد إيران”.

 

 

تزامن زخم “تهدئة التصعيد” مع توقيع اتفاقات إبراهيم في عام 2020 والموجة اللاحقة من التطبيع بين إسرائيل والعديد من الدول العربية. ومنذ توقيع هذه الاتفاقيات، كان مستوى المشاركة العامة العلنية بين إسرائيل والدول العربية غير مسبوق؛ وبدءا من التدريبات البحرية المشتركة في البحر الأحمر إلى اتفاقيات التجارة الحرة، أشارت هذه الدول إلى تصميمها على تجاوز مجرد الاعتراف.

وصحيح أن اتفاقيات إبراهيم لا تحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث حدثت حربان في غزة منذ توقيعها، لكنها لا تعتبر تسوية الصراع شرطًا مسبقًا لتطوير علاقات إسرائيل بالدول العربية. ويناقض ذلك منطق المبادرات الدبلوماسية السابقة من اتفاقات أوسلو إلى خطة السلام العربية لعام 2002.

وفي مارس/آذار الماضي، استضافت إسرائيل قمة أمنية في النقب حضرها وزراء خارجية البحرين والإمارات ومصر، وأوضحت هذه القمة مرة أخرى مدى تغير المشهد في الشرق الأوسط خلال عامين فقط. ومن المتوقع أن يصبح هذا المنتدى منتظمًا.

ومن اللافت أن هذه التطورات جاءت من المنطقة وليس من الخارج. صحيح أننا لا نعرف حتى الآن ما إذا كانت ديناميات مثل المصالحة بين اللاعبين الإقليميين والتطبيع مع إسرائيل سوف تدوم، وما إذا كانت ستتوافق مع بعضها البعض حقًا، لكنها تدل على رغبة دول الشرق الأوسط المتزايدة لتشكيل النظام الإقليمي وفق شروطها ومصالحها الخاصة.

في النهاية، يشير كلا الاتجاهين إلى تطلعات هذه الدول نحو الاستقلال الاستراتيجي، وقد تفاخر أحد المستشارين في أبوظبي قائلًا: “هذه هي لحظة النضج للسياسة الخارجية لدولة الإمارات”، ومع ذلك، فإن هذه الاستقلالية أبعد ما تكون عن التحقيق.

ففي المجال العسكري، لا يزال شركاء الولايات المتحدة يعتمدون بشكل كبير على دعم واشنطن، ويظل أن نرى ما إذا كانت المبادرات الدبلوماسية المحلية مثل قمة النقب يمكن أن تحقق شيئًا فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية. ولكن بشكل عام، فإن الاتجاه نحو الاستقلال الاستراتيجي في الشرق الأوسط سيستمر ومن المحتمل أن يزداد إذا قلصت الولايات المتحدة تواجدها في المنطقة.

 

 

شرق أوسط جديد

إذن، كيف سيؤثر هذا الشرق الأوسط الجديد على المصالح الأمريكية في المنطقة؟ من غير المرجح أن يرضي تنويع دول الخليج لسياساتها الخارجية الطموحات الغربية، ولكن هذا هو الحال أيضًا مع السياسة الخارجية للهند أو إسرائيل، ولا ينبغي أن تتوقع واشنطن أن يقف الشركاء في وضع الخمول عندما تتبع سياسات لا تتماشى مع تفضيلات دول الشرق الأوسط.

لذلك إذا أرادت الولايات المتحدة حقًا زيادة التركيز على الصين وروسيا – كما هو واضح في أحدث استراتيجية للأمن القومي – فيجب أن تحدد بعناية الحد الأدنى من الشروط المطلوبة للحفاظ على المصالح الأمريكية في هذا الشرق الأوسط الجديد.

ومن المؤكد أن مكافحة المنظمات الإرهابية – على وجه الخصوص تنظيم “القاعدة” و”الدولة الإسلامية” – وكذلك منع الانتشار النووي في جميع أنحاء المنطقة، ستبقى أهدافًا أساسية ويجب نقلها بشكل واضح إلى الحلفاء والشركاء.

لكن من غير المرجح أن تستطيع الولايات المتحدة إجبار شركائها في الشرق الأوسط على سرديتها بشأن “تنافس القوى العظمى”، إذ تعتبر دول الخليج (وكذلك إسرائيل) الصين ضرورية للغاية للتنمية الاقتصادية مما يمنعهم من الانحياز ضد بكين. وصرحت سفيرة سنغافورة السابقة في الولايات المتحدة “تشان هينج تشي”، ذات مرة قائلة: “لا تضغط على الدول في المنطقة للاختيار بين بكين أو واشنطن. لأنك قد تسمع ما لا تحب”، ومع أن بيانها جاء في سياق جنوب شرق آسيا، إلا إنه ينطبق أيضًا على دول الشرق الأوسط اليوم.

في الوقت نفسه، يجب على واشنطن تشجيع المبادرات الإقليمية، سواء مع أو بدون مشاركة الولايات المتحدة، طالما طالما تؤدي إلى تقليص التوترات. وبالفعل، تخدم المبادرات الجديدة مثل قمة النقب وتكتل “I2U2” (الهند، وإسرائيل، والإمارات، والولايات المتحدة) ما تسميه استراتيجية “بايدن” للأمن القومي “شبكة الشراكات”.

وقد يساعد ذلك في تحقيق هيكلة مستقرة لمنظومة الأمن الإقليمي، وهو الأمر الذي كان مفقودا منذ فترة طويلة في المنطقة، وقد يخفف ذلك من اضطرار الولايات المتحدة لبذل جهود إضافية لمنع أزمة إقليمية مستقبلية.

وبدلاً من فرض سردية الحرب الباردة وإجبار الشركاء المحليين على الالتزام بقواعدها، فإن أفضل طريقة لواشنطن لتجنب تحول الشرق الأوسط إلى ساحة منافسة مع الصين أو روسيا هي تشجيع مثل هذه المبادرات المحلية. وكلما زادت ثقة الجهات الفاعلة المحلية في استقلالهم الذاتي، قل انجذابهم لمواءمة أنفسهم مع أجندات القوى الخارجية الأخرى.

المصدر | جين لوب سامان | أتلانتك كاونسل – ترجمة وتحرير الخليج الجديد