تتشابك السياسات الخارجية والدفاعية الإيرانية مع جغرافيا الخليج العربي. وتاريخيا، كان هناك سببان مختلفان وراء تأثير مياه الخليج على إداراك إيران بشأن أهمية حدودها الجنوبية.

فمن ناحية، ترى إيران الخليج كمصدر رئيسي لتهديد الأمن المحلي، حيث استغلت القوى الأجنبية تقليديًا نقطة الضعف هذه كقناة للتدخل في الشؤون المحلية الإيرانية وتقويض استقلال إيران السياسي وسلامة أراضيها. وتعتبر النخبة في البلاد هذه الحدود خاصرة رخوة والبوابة الأكثر منطقية للتدخل الخارجي، لذا فليس من المستغرب أن تتفاعل النخب في طهران مع التطورات في المجال البحري مع مزيج من الحذر والحكمة.

ومن ناحية أخرى، مع أطول ساحل على الخليج، ترى إيران هذه المياه مجال نفوذها الطبيعي. ومن خلال تحويل جغرافيتها الفريدة من عبء محتمل إلى أصول استراتيجية، كانت إيران غالبًا ما تنظر إلى الخليج كمساحة لإظهار طموحاتها للقيادة الإقليمية وتعزيز نفوذها السياسي حتى لو كان ذلك يعني التدخل في شؤون جيرانها و خلق أنشطة زعزعة للاستقرار.

ولا يزال الدور المزدوج للخليج يؤثر بعمق على السياسة الخارجية والعقيدة العسكرية لإيران. ومن وجهة نظر طهران، فإن الخليج هو مساحة يمكن للكل جني مكاسب جيوسياسية كبيرة منها وكذلك تكبد خسائر عميقة. ويمكن القول إن تقييم إيران لهذه المعادلة وما إذا كانت ستعطي الأولوية لموقف حازم أو نهج حذر يعتمد على كيفية إدراك القيادة السياسية والعسكرية في طهران للأنشطة البحرية لخصومها.

 

 

بيئة التهديد في إيران

تتأثر السياسة الإيرانية بشكل كبير بالتمظهر الجيوسياسي لهذه المياه الإستراتيجية (الخليج). وإذا زاد تصور إيران للتهديدات الوجودية الخارجية، فيجب توقع موقف إيراني تحركه المواجهة. وعلى العكس من ذلك، إذا انتهت التوترات الإقليمية، فمن المحتمل أن تتبنى طهران موقفًا تعاونيًا. إن التقلب الشديد في وضع الخليج في العقل الإيراني لا يعود إلى عدم تناسق قيادتها، بل يعد ذلك تعبيرًا عن الفطنة الاستراتيجية.

وكما يشير الباحث غير المقيم في معهد الشرق الأوسط “عبدالرسول ديفسالار”، فإن النخبة الإيرانية ترى القدرة على ضبط سياستها الخارجية بسرعة بناء على البيئة الأمنية المتغيرة باستمرار في الخليج باعتبارها “أداة أساسية لضمان أمن النظام”.

وزادت حملة “أقصى ضغط” التي تبناها الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” تصورات إيران عن انعدام الأمن وأقنعت قيادة البلاد بتحقيق التوازن من خلال نهج مختلف في الخليج. وقد سلط كل من الأستاذ المشارك في جامعة ياسوج “علي باقري دولت آبادي” والأستاذ بجامعة جورج تاون “مهران كامرافا” الضوء على تأثير انتخاب “ترامب” وسياسته تجاه إيران على استراتيجيتها التي أصبحت عدوانية وكذلك على دور القوات البحرية.

وتراجعت التوترات تدريجيا مع تنصيب الرئيس “جو بايدن” في يناير/كانون الثاني 2021، وقد صاحب ذلك انخفاضًا في الحوادث البحرية، لكن لا تزال طهران حذرة جدًا من الوجود العسكري الأمريكي الضخم بالقرب من حدودها الجنوبية.

 

 

دروس الماضي

تستمد إيران قوتها البحرية من مزيج من القدرات التي خلفها عصر “الشاه” مع التطورات الأخيرة في ظل الجمهورية الإسلامية. وفي محاولته لتحويل إيران إلى أقوى قوة عسكرية في الخليج، شرع “محمد رضا بهلوي” في برنامج طموح للتحديث والتوسع البحري. وقد شكلت عمليات الاستحواذ باهظة الثمن للسفن الحربية الغربية وبرامج التدريب الأجنبية المصممة لزيادة صفوف أفراد البحرية الإيرانية الأساس العسكري لعمل “الشاه”.

وبالرغم أن بعض ثمار سباق التسلح في عصر “بهلوي” لا تزال في الخدمة بما في ذلك 3 فرقاطات من فئة “ألفاند” و10 زوارق هجومية سريعة من نوع “كمان”، لكن تكتيكات الحرب البحرية الإيرانية تطورت بشكل كبير منذ الثورة الإيرانية عام 1979.

ولم يكن التحول النموذجي في العقيدة البحرية الإيرانية نتيجة فورية للتغيير السياسي في البلاد، بل نتيجة لعملية التعلم والخطأ التي اكتسبها النظام الجديد خلال حرب الإيرانية العراقية. وأدت خسائر إيران الشديدة في الحرب، وكذلك المواجهات شبه المفتوحة مع الولايات المتحدة  خلال النزاع المعروف باسم “حرب الناقلات” والتعرض لعيوب ونقاط الضعف البحرية التي تركها عصر “الشاه”، ما سلط الضوء على ضرورة تبني مسارات مختلفة لتطوير القوات البحرية الإيرانية بشكل أكثر فعالية.

ولم تكن إيران مرهقة مالياً ومعزولة دوليًا، ولم تكن في حالة تحد للتفوق البحري للولايات المتحدة في الخليج. وكان واضحا لدي واضعي السياسات الدفاعية الإيرانية بحلول عام 1988 أنه بغض النظر عن جهودهم لتقوية سلاح البحرية، فإن الأصول الأمريكية البحرية سيكون لها اليد العليا في أي صراع تقليدي.

في هذا السياق، أدركت طهران أن استراتيجية توسيع الأصول البحرية التي تبناها “الشاه” خلقت أهدافا سهلة للهجمات الانتقامية الأمريكية، وفي النهاية لن تخدم أهداف إيران الأساسية في الخليج وهي حماية البلاد من التداخل الأجنبي، والسيطرة على الممرات المائية الأساسية، واحتواء  القدرات الأمريكية. إن الإقرار بعدم القدرة علي تحقيق التكافؤ العددي والتكنولوجي مع واشنطن دفع طهران أدى إلى تطوير حلول بديلة ومبدعة لتعويض التفوق التقليدي للولايات المتحدة.

وقد لعبت الجغرافيا الفريدة للخليج دورًا مهمًا في إلهام العقيدة البحرية الجديدة في إيران. ويتميز الخليج بعدد كبير من الجزر الصغيرة مع ممرات قليلة صالحة للملاحة، ما يجعل بيئة الخليج صعبة التحكم من الناحية التشغيلية. وتقلل مياه الخليج الضحلة بشكل كبير من القدرة على المناورة، حيث تضطر السفن للإبحار عبر طرق ضيقة، بالقرب من شبكة كثيفة من الجزر تسيطر عليها إيران.

علاوة على ذلك، فإن الظروف المناخية المتطرفة في الخليج والعواصف المتكررة والمستويات العالية من الرطوبة يمكن أن تعرقل الرادارات وأنظمة الاتصالات، حتى بالنسبة للسفن الحربية الأكثر تقدماً من الناحية التكنولوجية.

 

 

الحرب غير التقليدية والعقيدة البحرية الإيرانية

بناءً على التجربة القتالية في الثمانينات والسمات الجغرافية في المنطقة، لجأت إيران إلى تكتيكات الحرب الهجينة – مزيج من الوسائل التقليدية وغير التقليدية – لمواجهة تفوق الولايات المتحدة في الحرب التقليدية.

وتشبه الحرب البحرية غير التقليدية التي تتبناها إيران في البحر طريقة حرب العصابات في البر، وتتمحور حول ستخدام قوارب سريعة وخفيفة مع قاذفات متعددة ومدافع رشاشة ثقيلة. وفي حين أن هذه الأدوات يتم استخدامها عادة لتنفيذ أنشطة الدوريات، إلا أن القوارب السريعة أصبحت تدريجياً أساسا للحرب غير التقليدية في إيران.

وتعد هذه القوارب (محملة بأسلحة ثقيلة ومجهزة بمحركات عالية القدرة) أصولًا متعددة الاستخدامات ومرنة لديها القدرة على الانخراط في مجموعة واسعة من العمليات. وتقدم العديد من الخلجان الصغيرة على الساحل الإيراني وجزر الخليج ملاجئًا طبيعية حيث يتم إخفاء هذه الزوارق بسهولة بدون عمليات معقدة.

ومن اللافت أن الحرس الثوري الإيراني هو المسؤول (وليس الجيش) عن السيطرة على اللممرات المائية. وبالاعتماد على خبرته الواسعة غير التقليدية، فإن الحرس على دراية أفضل من البحرية التقليدية للعمل في المياه الضحلة في الخليج والانخراط في حرب هجينة.

ويقع مقر الحرس في بندر عباس بالقرب من مضيق هرمز الذي يعد نقطة الاحتكاك الرئيسية في الخليج. وقد طور الحرس الثوري شبكة ضيقة من البؤر ومحطات المراقبة الممتدة من آرفان في مصب نهر العرب إلى شابهار في خليج عمان، الأمر الذي يسمح له بتنفيذ عمليات عبر الخليج بأكمله.

وقد أبرزت حملة المضايقات البحرية التي جرت بين أبريل/نيسان وسبتمبر/أيلول 2019 إتقان الحرس البحري عددا كبيرا من تكتيكات الحرب الهجينة. ومن خلال سلسلة من أنشطة التخريب التي تستهدف البنى التحتية للطاقة والسفن التجارية، والاستيلاء على ناقلات النفط، والإجراءات الاستفزازية ضد السفن الحربية الأمريكية، أثبت الحرس قدرته على التخطيط وتنفيذ عمليات معقدة تنطوي علي مهام متكاملة بما في ذلك الهجوم السريع والخداع والحصار.

وتعد ترسانة الصواريخ في إيران عنصرًا مهمًا آخر في استراتيجية الدفاع متعددة الطبقات في البلاد. ويخدم تطوير واستخدام الصواريخ الباليستية متوسطة وطويلة المدى غرضين مختلفين، لكنهما متكاملين.

ومن ناحية، فإن القدرة الهجومية للصواريخ المتقدمة تتوافق بالفعل مع ديناميكيات الحرب غير المتكافئة. وتسمح هذه الصواريخ لطهران بالاستفادة من الحمولات الخفيفة لإحداث أضرار يمكن التحكم فيها وضمان هامش من الإنكار لتجنب الانتقام الكبير من قبل خصومها. ويمكن رؤية مثال بارز على هذه الاستراتيجية في الهجمات الصاروخية والطائرات بدون طيار على منشآت معالجة النفط السعودية في بقيق وخريص في منتصف سبتمبر/أيلول 2019.

ومن ناحية أخرى، يمكن استخدام الأصول الجوية الإيرانية كمنصات دفاعية لمنع الخصم من الوصول، ومن الأمثلة على ذلك إسقاط طائرة استطلاع أمريكية من طراز “جلوبال هاوك” بواسطة صاروخ أرض-جو إيراني في يونيو/حزيران 2019.

ولن تجعل هذه الإجراءات القوات البحرية الإيرانية تكافئ قوة الولايات المتحدة، لكنها ستولزن الكثير من نقاط القوة لدى واشنطن في حال وقوع معركة في الخليج في ظل ما يتمتع به من خصائص فريدة نسبيا.

المصدر | ليوناردو جاكوبو ماريا مازوكو | منتدى الخليج الدولي- ترجمة وتحرير الخليج الجديد