بقلم : خالد محيي الدين الحليبي
((الخطاب والحوار البشري و الإلهي و الخطاب البياني بين أهل الجنة والنار))
الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين أما بعد :
فإن هذا البحث من أصعب البحوث التي صادفتها في حياتي الكتابية لصعوبة مادته وكل موضوع فيه يمثل رسالة ماجيستير على أقل تقدير أو دكتوراه لذلك لجأنا لإسلوب البحث في الكتابة والنقل عن أساتذتنا وعلماؤنا المتخصصين في كل جزئية من هذا العلم وهو علم إعجاز البياني في القرآن الكريم الذي هو أصل فهم كتاب الله تعالى .
هذا وبالله التوفيق وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
- مفهوم الخطاب ودلالاته اللغوية :
[ الخطاب أحد مصدري الفعل (خاطب، يخاطب) والمصدر الآخر مخاطبة، وهو يدل على توجيه الكلام لمن يفهم، وقد نقل من الدلالة على الحدث المجرد من الزمن إلى الدلالة على الاسمية. والخطاب يعني مراجعة الكلام , او المواجهة بالكلام , وعلى المستوى الدلالي فالخطاب يعني كلاما او رسالة او محاضرة او نص ما .
لكن الخطاب لا يقتصر على الكلام ، وهذا ما أكد عليه علم العلامات بل يتعداه إلى أمور أخرى، فطن إليها الموروث العربي مثل : الرمز، فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ – آل عمران 41} .
ومن عناصر الخطاب –أيضا- الإيحاء وقد ورد في قوله تعالى: { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} مريم/11.، وقد انتبه النقاد العرب القدامى إلى العناصر غير اللغوية في الخطاب، قال ابن يعيش (( والأشياء الدالة خمسة: الخط، والعقد، والإشارة، والنصبة، واللفظ )) ، وقد قسم الجاحظ العلامات إلى علامات ملفوظة وأخرى غير ملفوظة، فليس ((الكلام المنطوق هو الوسيلة الوحيدة التي يعبر بها الإنسان عن مشاعره وانفعالاته وعن حالته النفسية، بل إنه يعبر عن كل هذا-أيضا- بأوضاع جسمه وحركاته وإشاراته .
)) ومما تقدم يتضح أن الخطاب أما أن يكون لفظيا أداته اللغة ، أو يكون خطابا علاماتيا يستعمل الإيحاءات والإشارات ، ويبدو أن التأكيد كان منصبا على الخطاب اللفظي دون العلاماتي، على الرغم من أن الخطاب العلاماتي -في أحيان كثيرة- قد يكتنز بشحنة تبليغ كاملة .
وقد يرادف مفهوم الخطاب مفاهيم أخرى مثل: النص، والرسالة، والكلام، واللغة، والأطروحة، والحديث، وأسلوب التناول، والسرد، والقول، والحكاية، لكن البعض يضع الخطاب مقابل النص، فالخطاب يمثل التصور المجرد، والنص يمثل التحقق الفعلي لذلك التصور، وبهذا فالخطاب أعم من النص وأشمل منه , فالدكتور محمد عابد الجابري – مثلا – يقرن الخطاب بالنص , فالنص عنده رسالة من الكاتب الى القارئ فهو خطاب والخطاب ايضا بناء من الافكار او مجموعة مفاهيم ، او كلام او كتابة ، بمعنى اخر يمثل الخطاب عند الجابري أي وسيلة اتصال بين المرسل والمتلقي .– أ – علي حسين يوسف – كتابات]
- الفرق بين الخطاب والنص :
يقول الدكتور وليد منير في كتابه “النص القرآني من الجملة إلى العالم” عن الفرق بين (النص) و(الخطاب):
هناك فرقا بين قولنا الخطاب القرآني والنص القرآني وهذا ممكن من خلال المعادلة التي ذكرتها، ولكن على اعتبار أن المراد بالخطاب هو اللفظ الموجه للمستقبل فلا فرق، أي أن مفهوم المصطلح يرجع معناه إلى قصد المتكلم أو المستخدم لهذا المصطلح.
أما من ناحية أصولية فالظاهر من كلام الأصوليين أنهم يستخدمون المصطلحين على معنى سواء ومثال ذلك قول الآمدي بعد تعريف الحكم الشرعي ومناقشته: (اوإذا عرف معنى الخطاب فالأقرب أن يقال في حد الحكم الشرعي أنه خطاب الشارع المفيد فائدة شرعية.
فقولنا خطاب الشارع احتراز عن خطاب غيره والقيد الثاني احتراز عن خطابه بما لا يفيد فائدة شرعية كالإخبار عن المعقولات والمحسوسات ونحوها وهو مطرد منعكس لا غبار عليه) لإحكام في أصول الأحكام للآمدي – (1 / 89) .
إذن فالخطاب الشرعي هو النص الشرعي من القرآن والسنة، هذا من حيث العموم أما من حيث التفصيل فإن الخطاب الشرعي ينقسم إلى لفظي ووضعي كما قسمه الزركشي في البحر 1/102، والمراد باللفظي أي الثابت باللفظ نحو أقيموا الصلاة، أو عند الأسباب، نحو إذا زلت الشمس وجب الظهر، فاللفظ أثبت وجوب الصلاة والوضع عين وقت وجوبها.
وهذا الكلام يوضح لنا أمرا مهما وهو إن كان المراد بالخطاب القرآني الدلالات التي دل عليها القرآن من حيث المفهوم والفحوى والظاهر والإشارة فهو غير النص القرآني بل يكون الخطاب عندئذ أعم من النص وأوسع، أما إن كان المراد بالخطاب القرآني اللفظ نفسه فهو نفس النص القرآني والله أعلم .
مقدمة
إنّ القرآنَ قد حفِظه اللهُ من التحريف كما قال تعالى:] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظونَ- الحجر9 ] لذا فالتحريفَ المتأتي من التلاعبِ بالألفاظِ زيادةً أو نقصاً باتَ مكشوفا للناس ولاسيّما بعد تقدّم العلم ،وتنوّع التقنيات،غيرَ أنّ الإشكالية في التحريف الأخطر هو الفَهْم والتأويل الفاسد للنص .
[ لذا لزمَ من أهل العلمِ في هذه الأمّة حراسةَ النصِّ القرآني، والتحذير من تحريفه؛ ذلك لأنّ كلَّ فرقة أو طائفة أو ذي هوى يحاولُ إثبات مشروعيته اعتمادا على نصوص القرآن ، ويجهدُ نفسه لجمع النصوص، والتكلف في بيان الاستدلال لتسويغ تصوراته،وقد يصلُ إلى تحريف النصوص،أو ليّ أعناقها لإثبات ما يريد – ينظر مقدمة د.عمر عبيد حسنه لكتاب( ضوابط في فهم النص) د.عبد الكريم حامدي، كتاب الأمة الصادر من وزارة الأوقاف القطرية العدد 108، السنة الخمسة والعشرون، ص15- 20 ] .
ومن مظاهر سوء الفهم للنص وضعه في غير موضعه الصحيح، وهذا يُعد من المزالق الخطيرة التي ينبغي التيقظ والالتفات إليها والتنبه عليها، فكثيراً ما يكون النص صحيحاً، ولكن العيب في الاحتجاج بهذا النص على أمر معين، وهو لا يدل عليه لأنه سيق مساقاً آخر، وقد يأتي ذلك كله من الخلل في الفكر وسوء الفهم للنص، وذلك نتيجة العجلة التي نراها ونلمسها عند السطحيين من الناس، الذين يتخرصون على النصوص بغير بينه ويتطاولون بغير سلطان آتاهم ويقولون على الله ما لا يعلمون وقد يكون ذلك من الخلل في الضمير وفساد النية، حيث يَعمد بعضُ الناس إلى ليِّ أعناق النصوص لتوافق هواه مثل الخوارج الذين احتجوا على رفض التحكيم بقوله تعالى: ] إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ – يوسف 40 [
فَردَّ عليهم علي – – بقوله: [ ” كلمة حق يراد بها باطل” – انظر المرجعية العليا في الإسلام للقرآن الكريم والسنة، د. يوسف القرضاوي، ، الطبعة الأولى 1414هـ ، 1993م، مؤسسة الرسالة، ص 277 ] .
وإن ما أشد ما تتعرض له النصوص خطراً : [ سوء التأويل لها، بمعنى أن تُفسر تفسيراً يُخرجها عما أراد الله تعالى ورسوله بها إلى معنى أخر يريدها المؤولون بها، وقد تكون هذه المعاني صحيحة في نفسها ولكن هذه النصوص لا تدل عليها، وقد تكون المعاني فاسدة في ذاتها وأيضاً لا تدل النصوص عليها فيكون الفساد في الدليل والمدلول معاً – كيف تتعامل مع القرآن الكريم، د. يوسف القرضاوي ص 328. ]
وإذا كان المعنى الاصطلاحي للتأويل هو: [ صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى مرجوح يحتمله لدليل يُصيِّره راجحاً – إرشاد الفحول للشوكاني،………………………. مصطفى الحلبي. ص 176]
فلا بد أن يكون الصرف إلى معنى يحتمله اللفظ، ولو كان احتمالاً مرجوحاً وإلا لم يكن تأويلاً، وإنما هو جهل وضلال أو عبث وباطل.
وإذا كان القرآنُ يمثلُ منهجا لحياة الأمة، وشريعةً ينظمُ أمورَها فإنّه أوجب الله على المسلمين تدبر القرآن الكريم،وإمعان النظر فيه لتحقيق مصالح العباد الدنيوية والأخروية.
في ضوء ذلك يمكنُ القول: إنّ لكلِّ من أوتي العلمَ والفهم والإدراك أنْ يصوّبَ ما استطاع تصويبه في ردِّ النصّ إلى دلالته المرادة،أو نفي التحريف عنه وانطلاقا من قوله(صلى الله عليه وعلى آله سلم ): [ يرث هذا العلم من كل خلف عدولُهُ ينفون عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالين – سنن البيهقي الكبرى لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبس بكر البيهقي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، طبعة 1414 – 1994، مكتبة دار الباز، مكة المكرمة.ج 10 / ص 209 ورقمه20700 ]
[ وهذا لايعني أنْ يُفتحَ الباب لكلِّ مؤهّلٍ للنظر وغير مؤهّلٍ،إنّما يتقدمُ المتأهّلون لعملية التصويب،ونفي الانحراف، والتأويل المعوج.ولابُدّ من مراعاة ضوابط الفهم والتأويل ومنها – الموافقات في أصول الفقه لإبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي الشاطبي، تحقيق عبد الله درازدار المعرفة – بيروت،ج 2 / ص 393، إعلام الموقعين عن رب العالمين،لمحمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، تحقيق طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل ، بيروت ، 1973 ، ج 1 / ص 225 ، وينظر ضوابط في فهم النص ، 89 -150 .]
أولا:الوسطية بمعنى: الجمع بين الظاهر والمعنى في اعتدال هي موقف بين موقفين في فهم النصوص والتعامل معها وهي اتجاه بين اتجاهين: بين ظاهرية مفرطة، وباطنية مفرطة يتلخص كلام الشاطبي فيه فيما يلي:
1-الاتجاه الظاهري الذي لا يهتم بالمعاني وإنما يقتصر على ظواهر النصوص وهم يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص.
2- يرى أن مقصد الشارع ليس في الظواهر ويطرد هذا في جميع الشريعة لا يبقى في ظاهر متمسك وهؤلاء هم الباطنية وألحق بهؤلاء من يغرق في طلب المعنى بحيث لو خالفت النصوص المعنى النظري كانت مطرحة.
والذي ارتضاه هو الاتجاه الثالث الذي شرحه بقوله: [ أن يقال باعتبار الأمرين جميعاً( أي الظاهر والمعنى)، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا بالعكس؛ لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض، وهو الذي أمّه أكثر العلماء الراسخين؛ فعليه الاعتماد في الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع- الموافقات ج 2 / ص 393 ] ويقع تحت هذا الضابط تفسير القرآن بالقرآن: وذلك أن القرآن الكريم يُصدِّق بعضه بعضاً، ويُفسر بعضه بعضاً: ] وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً النساء 82 ] .
فما أُجمل في موضع فُضِّل في موضوع آخر، وما أبهم في مكان بُين في آخر، وما أُطلق في سورة أو آية قُيِّد في أخرى، وما جاء عاماً في سياق خُصص في سياق آخر، ولا بد من ضم الآيات والنصوص بعضها إلى بعض، حتى يتكامل الفهم، ويستبين المقصود من النص.
وتفسير القرآن بصحيح السُنَّة؛ولهذا قال – : [ أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ – .سنن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، دار الكتاب العربي ، بيروت، ج 4 / ص 328.]
يعني: السنة. والسنة تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن، إلا أنها لا تُتلى كما يُتلى القرآن (ولهذا تُسمى الوحي غير المتلو). والانتفاع بتفسير الصحابة والتابعين لأنهم تلاميذ المدرسة المحمدية، فيها تخرجوا ،ومنها اقتبسوا، وعنها تلقوا، وعلى مائدتها تغذت عقولهم وقلوبهم، فإذا صح عن الصحابة – رضى الله عنهم – تفسير مُعين أصغينا له أسماعنا، لما امتازوا به من مشاهدة أسباب التنزيل وقرائن الأحوال، فرأوا وسمعوا ما لم ير غيرهم ولم يسمع، مع عراقة في اللغة بالسليقة والنشأة، وصفاء في الفهم ،وسلامة في الفطرة، وقوة في اليقين، ولاسيما إذا أجمعوا على هذا التفسير، فإن إجماعهم قد يدل على أن لهذا الأمر أصلاً من السنة ،وإن لم يُصرحوا به، ويكفي في الإجماع هنا: أن ينتشر الرأي بينهم، ويشتهر عن جماعة منهم، ولا يعرف له منهم مخالف.
فإذا اختلفوا، فقد أتاحوا لنا أن نتخير من بين آرائهم ما نراه أقرب إلى السداد، أو نُضيف إلى أفهامهم فهماً جديداً، لأن اختلافهم قد أعطانا دليلاً على أنهم فسروا برأيهم واجتهادهم، وهو رأي بشر غير معصوم على كل حال.
ثانيا:اتفاق المعنى مع الظاهر أن يشهد له نصّ آخر أو يندرج في ضمن مقاصد الشريعة:
فلا يقبل معنى من المعاني إلا بشرطين هما:
أحدهما:[ أنْ يصحّ على مقتضى لسان العرب، وكل فهم لا يوافق كلام العرب فهو مردود.
والآخر: أن يكون له شاهد نصا أو ظاهرا، في محلّ آخر يشهد لصحته غير معارض.فإن لم يكن له من نص ظاهر ، أو كان له معارض صار من جملة الدعاوى التي تدعى على القرآن بغير دليل وهذا مردود أيضا – الموافقات ج 2 / ص 394. ]
وقد أفضى الإخلال بهذا الضابط إلى إهدار النصوص بزعم أنها لا تفي بحاجات الناس ومصالحهم،كما فعل الباطنية والصوفية؛لذا وضع العلماء ضوابط لاعتبار المصلحة المقصودة شرعا،منها: لا عبرة بالمعاني المأخوذة من الكشف والإلهام ، ولاعبرة بالاعتبارات الغيبية، ولاعبرة بالتفاسير الباطنية.
ثالثا: فهم النصّ وفق مقتضى لسان العرب:
إن القرآن قد نزل بلسان عربي مبين فيجب أن يفسر اللفظ بحسب ما تدل عليه اللغة العربية واستعمالاتها، وما يوافق قواعدها، ويناسب بلاغة القرآن المعجز.
هذا مع أن في الألفاظ ما جاء على سبيل المجاز ،ومنها ما هو مشترك، يدل على أكثر من معنى… ، واختيار أحد المعنيين أو المعاني يحتاج إلى دقة وتأمل بالنسبة لكلام الله العزيز.
ومما يعين قارئ القرآن أو مفسره على حسن الفهم: أن يتتبع الكلمة القرآنية في مواردها المختلفة في القرآن، فذلك أحرى أن يتبين له حقيقة معناها، ولا يشرد عن الصواب في معرفة مدلولها.
وذلك يتم بأمور مهمة منها:
- معرفة قواعد البيان العربي، لئلا يقع في زلة في الفهم، فيستنبط معاني بعيدة عن مقاصد الشرع.
2- معرفة عادات العرب أيام نزول الوحي لأنّ القرآن نزل مراعيا عرفهم في الخطاب، ولايتم إلا بمعرفة القرائن ومنها أسباب النزول.
3- اختيار المعاني القريبة على أفهام العرب، ليتحقق مقصد الخطاب ؛ وعليه تجنب المعاني الغريبة أو المتكلفة التي لا يشهد لها كلام العرب من ذلك تفسير قوله تعالى: ] فاخلع نعليك- طه 12 ]
[أن باطن النعلين هو الكونان الدنيا والآخرة-
– يراد الموافقات ج 3 / ص 402 ]
أو: [ النعل يدل على الولد -نظم الدرر في تناسب الآيات والسور لبرهان الدين إبراهيم بن عمر للبقاعي، طبعة صورتها وزارة الأوقاف في قطر1994م عن طبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد1975م ج 5 / ص 238 ]
.فهذا التفسير لاتعرفه العرب في استعمالاتها الحقيقية أو [ المجازية – الموافقات ج 2 / ص 65.]
4- رابعا:التفريق بين المعاني الشرعية المقصودة والمعاني اللغوية غير المقصودة:
معرفة المسميات الشرعية ومراعاتها، وعدم الخلط بينها وبين المسميات اللغوية أمر ضروري في إدراك الدلالة الشرعية ،أو إصدار الحكم الشرعي دون اللجوء إلى وسائل إضافية من خارج النص من أجل إدراك المعنى أو الحكم الشرعي كاستعمال القياس في مقابلة النص؛ ولهذا وقعت طائفة من الفقهاء في إدراك هذا الضابط، فمن تلك الأخطاء:
تقصير طائفة في لفظ السارق حيث أخرجوا منه نباش القبور ثم راموا قياسه في القطع على السارق فقال لهم منازعوهم الحدود والأسماء لا تثبت قياسا فأطالوا وأعرضوا في الرد عليهم ولو أعطوا لفظ السارق حده لرأوا أنه لا فرق في حده ومسماه بين سارق الأثمان وسارق الأكفان وأن إثبات الأحكام في هذه الصور بالنصوص لا بمجرد القياس -إعلام الموقعين عن رب العالمين لمحمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، تحقيق : طه عبد الرءوف سعد، طبعة1973 ، دار الجيل – بيروت ،ج 1 / ص 267 ]
خامسا: التفريق بين المعاني الحقيقية والمعاني المجازية:
فالمعنى الحقيقي:هو اللفظ المستعمل فيما وضع له،وأما المجاز هو اللفظ المستعمل فيما غير وضع له– الإرشاد للشوكاني ص 21 ] .وقد يكون للفظ معنيان : حقيقي ومجازي، فلا يصار إلى المعنى المجازي إلا إذا تعذر حمله على الحقيقة،قال الزركشي:[ (( وقد يكون اللفظ محتملا لمعنيين وهو في احدهما اظهر فيسمى الراجح ظاهرا والمرجوح مؤولا)) – البرهان في علوم القرآن ج 2 / ص 205 ]
، ثم ضرب أمثلة على ذلك: قوله تعالى] : وهو معكم أينما كنتم – الحديد 4 [
فانه يستحيل حمل المعية على القرب بالذات فتعين صرفه عن ذلك وحمله إما على الحفظ والرعاية آو على القدرة والعلم والرؤية كما قال تعالى ونحن اقرب إليه من حبل الوريد.
– وكقوله تعالى: ] واخفض لهما جناح الذل من الرحمة- الإسراء 24 ] فإنه يستحيل حمله على الظاهر لاستحالة أن يكون آدمي له أجنحة فيحمل على الخضوع وحسن الخلق.
والحمل على الحقيقة قد يثير إشكالا لايزيله إلا الحمل على المجاز كما في حديث : [ الجنة تحت أقدام الأمهات – مسند الشهاب لمحمد بن سلامة بن جعفر أبو عبد الله القضاعي، تحقيق : حمدي بن عبد المجيد السلفي، الطبعة الثانية ، 1407 – 1986 مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ج 1 / ص 102.وقال المناوي في فيض القدير (3 /362):فيه منصور بن مهاجر عن أبي النضر الأبار عن أنس قال ابن طاهر ومنصور وأبو النضر لا يعرفان والحديث منكر..]
. ومثله حديث: فقال : [ ألزمها فإن الجنة عند رجلها – -أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسند ج 3 / ص 429، ورقمه 15577 ]
عن معاوية بن جاهمة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أردت الغزو وجئتك أستشيرك فقال هل لك من أم قال نعم فقال ألزمها فإن الجنة عند رجلها ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى كمثل هذا القول تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده حسن .
فلا يمكن حمله على حقيقته من أن ّالجنة تحت أقدام الأمهات؛ لأنّه بعيد ولا يصحّ شرعا ولا عقلا، إنما المعنى أنّ برّ الأمّ من أوسع الأبواب إلى الجنة، وقد ورد الحديث تعليما لمن أراد الجهاد تاركا أمّه، وهي في حاجة إليه.- ومثله حديث : [ واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف – الجامع الصحيح المختصرلمحمد بن إسماعيل أبي عبدالله البخاري الجعفي، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا أستاذ الحديث وعلومه في كلية الشريعة، جامعة دمشق، الطبعة الثالثة، 1407هـ – 1987، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت.ج 3 / ص 1101 ورقمه 2861 ]
وليس المعنى أنّ الجنة تحت ظلال السيوف، إنما المعنى أن الضرب بالسيوف في سبيل الله تعالى هو السبب الموصل إلى الجنة.
سادسا: النظر قي سياق الخطاب لتحديد المقصود:
قد يحتملُ اللفظ أكثر من معنى، فالمعنى الأول يسمى عند الأصوليين بالنصّ،وهو ما لا يحتمل إلا معنى واحدًا، أو: ما يفيد بنفسه من غير احتمال،أيْ لا يتطرق إليه تأويل مثاله: قوله تعالى: ] تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة – البقرة 196ٌ] .
وحكمه : [ أن يصار إليه ولا يعدل عنه إلا بنسخ. وأما الظاهر فهو ما احتمل معنيين فأكثر، هو في أحدهما أو أحدها أرجح، أو ما تبادر منه عند الإطلاق معنى مع تجويز غيره، أيْ يقبل التأويل ولا يظهر المقصود مها إلا بعد النظر والتدبر- شرح الكوكب المنير 3/460 ]
.وعليه فلابدّ من النظر بما يحفّ الخطاب من قرائنَ لإزالة الاحتمالات البعيدة عم مراد المتكلم ،أو مراد الشارع من ذلك:
– لفظ الأمر من الظاهر يحتمل الوجوب أو الندب أو الإباحة ،والأصل للوجوب إلا إذا صرف إلى غيره من المعاني؛ لذا وجب البحث عن المراد الحقيقي من هذه المعاني في ظاهر الصيغة ،وما لابسها من قرائن، فإذا تعذر حمل عل الظاهر وهو الوجوب.
وهذا ما أشار إليه الشاطبي بقوله: [(( إنّ المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل وهذا معلوم فى علم المعاني والبيان فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم والالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها لا ينظر في أولها دون آخرها ولا في آخرها دون أولها فإن القضية وإن اشتملت على جمل فبعضها متعلق بالبعض لأنها قضية واحدة نازلة فى شيء واحد فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله وأوله على آخره وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع فى فهم المكلف فإن فرق النظر فى أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض إلا في موطن واحد وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه لا بحسب مقصود-(( الموافقات ج 3 / ص 413- 414 ]
بمعنى أنّ مراعاة سياق الآية في موقعها من السورة، وسياق الجملة في موقعها من الآية، وربط الآية بالسياق الذي وردت فيه، ولا تُقطع عما قبلها وما بعدها أمر ضروري في حسن فهم القرآن، وصحة تفسيره. قال الزركشي في ذكر الأمور التي تُعين على فهم المعنى عند الإشكال:
(( فدلالة السياق تُرشد إلى تَبيين المجمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم الدلالة مراد المتكلم، فمن أهمله غَلط في نظره، وغالط في مناظراته، وانظر إلى قول تعالى: ]ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ – الدخان 49 [
كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير.
إن الكلمة الواحدة قد ترد في القرآن لعدة معان مختلفة، وإنما يتحدد المعنى المراد منها في كل موقع بالسياق، ونعني بالسياق: [ ما قبل الكلمة وما بعدها….وكما أن اللفظ الواحد في القرآن قد يرد بعدة معان ،يحددها السياق، فإن المعنى الواحد، قد يرد كذلك في القرآن معبراً عنه بعدة ألفاظ، مثل كلمة (القرآن) يُعبر عنه بالكتاب والذكر والفرقان))- البرهان في علوم القرآن، محمد بن بهادر بن عبدالله الزركشي أبو عبدالله ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم،1391 ، دار المعرفة – بيروت،. ، 2/200-201 ]
وبناءً على ذلك فهذه محاولة في فهم النصّ القرآني، وهي محاولة تطبيقية أكثر مما هي تنظيرية، بينّتُ فيها فهم المسلمين اليوم لكثير من الآيات التي تحمل وضوحا لاغموض فيه ،غير أنهم أولوها تأويلا سيئا أو فهموها فهما مقلوبا .
النص والخطاب
عادة ما يقصد بالنص اللغوي بأنه كلام مكتوب، أو خطاب مدوّن. ويقصد بالخطاب بأنه قول مشافه، كالذي عليه الألسنيات الحديثة، وكما يقول بول ريكور : [ إن النص خطاب أثبتته الكتابة، أو أن النص مؤسس بواسطة تثبيت الكتابة – بولريكور: من النص الى الفعل، ترجمة محمد برادة- حسان بورقية، عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية، الطبعةالاولى ، 2001م ، ص 106و105 ]
وبحسب هذا المعنى يكون الخطاب سابقاً للنص من الناحية الإنثروبية. واستناداً إلى هذين المعنيين فإن النص هو نوع من الخطاب الموجّه، وأن الخطاب هو نوع من النص الموجّه أيضاً، لكن التوجيه لديهما مختلف في الغالب، فالجهة التي يستهدفها الخطاب جهة اجتماعية حاضرة ومشخصة ولها حدود، مما يجعل العلاقة بين المخاطِب والمخاطَب علاقة تواصلية حيث التفاعل والجدل والتعاطي المتبادل، وبالتالي فإنها تعبّر عن المعنى الإجتماعي بحكم هذا التفاعل المباشر. في حين أن النص يستهدف جهة انسانية لا تتصف بالحضور المباشر والتشخيص ولا بالحدود، وهي بالتالي جهة مجهولة، مما يجعل العلاقة بين الكاتب والقارئ علاقة إنفصالية نيابية غير تواصلية، أي على خلاف الحالة التي يتصف بها الخطاب. فما موجود هو الأثر المكتوب المعبّر عنه بالنص، أما صاحبه فقد غاب وانتهى. فعلاقة القارئ المباشرة إنما هي مع النص دون الكاتب، وهي قائمة على التلقي دون التفاعل والجدل، أي خلاف ما يجري في حالة الخطاب
( يلاحظ أن المعنى اللغوي للخطاب هو أقرب إلى معناه الإصطلاحي ودلالته المعنوية، خلافاً للمعنى اللغوي للنص؛ فهو بعيد عن معناه الإصطلاحي ودلالته المعنوية. فكما ذكر إبن منظور في (لسان العرب) أن معنى النص لغوياً هو رفع الشيء، فنص الحديث ينصّه نصاً هو بمعنى رفعه. كما ذكر بأن أصل النص هو بمعنى أَقصى الشيء وغايتُه، ثم سمي به ضربٌ من السير سريع. قال الأَزهري: النص أَصلُه منتهى الأَشياء ومَبْلغُ أَقْصاها، ومنه قيل: نصَصْتُ الرجلَ إِذا استقصيت مسأَلته عن الشيء حتى تستخرج كل ما عنده. وقال إبن الأعرابي بأن النص هو الإِسناد إِلى الرئيس الأَكبر، والنص هو التوقيف، كما أنه التعيين على شيء ما، ونص الأمر شدته. أما المعنى اللغوي للخطاب فهو مراجعة الكلام، وخاطبه بالكَلام مخاطبة وخِطاباً، وهما يتخاطبان. قال الليث: الخطبة مصدر الخطيب، وخَطَب الخاطِبُ على المنبر، واخْتَطَب يخْطُب خَطابةً، واسمُ الكلام: الخُطْبة (إبن منظور: لسان العرب، انظر مادة: نصص، ومادة: خطب، موقع الباحث العربي الإلكتروني http://www.baheth.info).
وهذا هو المعنى الذي شهدت عليه آيات قرآنية عديدة، مثلما جاء في سورة (ص)، فكما قال الله تعالى: ((وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَاب – ص 20ِ)) ، وقال : ((إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ – ص 23))
ومن حيث التكوين النفسي أو الذاتي فإن الخطاب هو أصل للنص وسابق عليه، لأن كل أثر مكتوب لا بد من ان يكون نتاج قول أو كلام، وهو ما نعبّر عنه بلغة الأشاعرة بالكلام النفسي. فمن حيث التكوين الذاتي يكون الفكر سابقاً للكلام، والكلام سابقاً للنص، خلافاً لأدبيات ما بعد الحداثة كما تتمثل في إتجاه جاك دريدا. أو لنقل إن الفكر هو علة الخطاب، والخطاب علة النص أو الأثر المكتوب. ويؤيد هذا المعنى ما يراه عالم النفس التكويني بياجيه من ان البناء المعرفي لدى الطفل سابق على اللغة كما في الحس الحركي، فالتنسيق الذي يعتمده الطفل في مستوى الفعل يشكل قاعدة تتأسس عليها البنيات المنطقية لاحقاً، وبالتالي فان الجذور المنطقية للتفكير تتقدم على اللغة زماناً- الابستمولوجياالتكوينية،ص38و40.
ومن هذه الناحية فإن وصف الكتابات والموضوعات العلمية والأدبية والمذهبية بأنها (خطابات) هو وصف لائق ومبرر، كقولنا: الخطاب العلمي والأدبي والفلسفي والديني والإجتماعي والإقتصادي، أو قولنا: الخطاب الأشعري والمعتزلي والإسلامي والسني والشيعي، أو قولنا خطاب الصدر والقرضاوي وعلي شريعتي والجابري وحسن حنفي. وكذا أن وصف هذه الكتابات والموضوعات بأنها (مقالات) هو وصف صحيح إستناداً إلى مصدر (قول)، حيث الخطاب والمقال هما أثر ذاتي مباشر للفكر، فهما يحملان هذا الفكر المنضبط ومن ثم ينقلانه إلى الأثر المكتوب (النص) بهيئة ما نصفه من مذاهب وموضوعات مختلفة.
على ذلك جاز ان نسمي النص الديني بالخطاب لعدد من الإعتبارات، منها ما سبق أن عرفنا بأن الخطاب هو أصل النص وسابق عليه، سواء من الناحية الإنثروبية، أو من حيث التكوين النفسي. يضاف إلى أن النص الديني كوثيقة مدوّنة (المصحف القرآني مثلاً) مسبوق زمنياً بالخطاب الذي يُطلق على الكلام المشافه كما عرفنا. فأصل النص مستمد من الخطاب لا العكس. كما أن من هذه الإعتبارات هو أن الخطاب الديني باعتباره مشافهاً فإنه يشتمل على النص ويتضمن من المعاني الحقيقية ما يفتقر إليها الأثر المدوّن. إذ لا يتجرد الخطاب عن ملابساته الظرفية ومقتضياته الحالية تبعاً لتفاعله مع الواقع الذي تنزّل فيه، مما يجعله أقرب لحمل الحقيقة، خلافاً للأثر المدوّن الذي غاب عنه الواقع أو انتهى، وكل ذلك له انعكاساته السلبية على الفهم.
إذاً الخطاب هو الأصل، سواء من حيث السبق التاريخي، أو من حيث الإعتبارات الإنثروبية والتكوينية، وكذا بإعتبار المعنى الإبستيمي بحمله للحقيقة، أما النص فهو التابع والظل الذي ليس بمقدوره الكشف عن كافة تجليات الحقيقة التي يتمتع بها الأول.
ويمكن ان نستكشف مما سبققانواناً عاماً للفهم يتلخص بحالة الافتقار التي تخص فهم النص قياساً بالخطاب او الكلام المشافه. اذ لا يمكن للأول أن يرقى الى مستوى الثاني، لمشاركة العديد من الدلالات الاخرى غير اللغوية في إفهام السامع، وهو ما يفتقر اليه النص، وبالتالي كان فهم النص أقل قدراً من فهم الكلام المشافه، وذلك عند تعادل الأحرف والجمل المستخدمة في النص والكلام، وكذا عند تكافؤ العوامل والشروط المختلفة التي قد يكون لها أثرها في الفهم، مثل أن يكون هناك تكافؤ في المستوى الذهني لدى السامع والقارئ، كذلك أن لا تشارك عوامل طارئة يمكنها أن تضفي على النص او الكلام أبعاداً اخرى جديدة قد تغير من طبيعة المقارنة المذكورة، لا سيما عند التعامل مع النص الديني كما سنعرف عما قريب.
وعلى العموم، إن في الكلام المشافه يلعب «الواقع» دوراً مضافاً في تحديد معنى الجملة التي ينطق بها المتكلم. وهو عنصر مفقود في النص المكتوب. ففي الكلام المشافه قد يُفهم المعنى في جملة واحدة وبها يتحدد المراد، وهو ما لا يحصل في النص المكتوب، حيث يساعد الواقع على فهم الجملة في الكلام المشافه، مثلما يساعد سياق الارتباط بين الجمل المكتوبة على فهم كل جملة منها.
فمثلاً اذا ما سأل سائل غريب عن منطقة معينة لإحدى المدن، كإن يسأل عن شارع الرشيد في بغداد، فقال: اين شارع الرشيد؟ ففي هذه الحالة سرعان ما ندرك معنى الجملة لمعرفتنا المجملة بحال المتكلم. فتحديد مراد المتكلم في جملته الشفهية يعتمد سلفاً على معرفتنا بهيئة المتكلم وكيفية نطقه للجملة وما يستخدمه من إيماءات وإيحاءات او إشارات تظهر على وجهه ويديه وغير ذلك من الاحوال التعبيرية والدلالية التي تكتنفه، فيُعرف مثلاً إن كان يمزح في كلامه او انه جاد يريد شيئاً يتسق مع سياق الحال الذي يكتنفه. ولا شك ان خبراتنا السابقة حول استخدام الناس للكلام تساعدنا على فهم الجملة الشفهية التي ينطق بها المتكلم.
لذلك رأى فتجنشتاين لو ان اسداً استطاع التكلم فسوف لا نستطيع فهمه، باعتبارنا لا نعيش ضمن عالمه الخاص.
وقد كان الشاطبي يرى بأن معرفة مقاصد الكلام تعتمد على معرفة مقتضيات الأحوال حال الخطاب من جهة نفس الخطاب أو المتكلم أو المخاطَب أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وكذا بحسب مخاطبين، كالاستفهام لفظه واحد، لكن له معان متعددة كالتقرير والتوبيخ وغيرهما، ومثل ذلك الأمر، فقد يدل على معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها، لذلك ليس بالمستطاع معرفة هذه المعاني إلا من خلال الأمور الخارجية وعمدتها مقتضيات الأحوال. لكن ليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة؛ فات فهم الكلام جملة أو بعضاً منه. – الموافقات،ج3،ص347.
[ وهذا ما جعل بعض الاتجاهات الفقهية ترى في ذلك أحد مبررين للقول بانسداد الطريق للأحكام الشرعية، وهو المبرر القائل بعدم حجية ظواهر النص بالنسبة الى غير المقصودين بالإفهام، مضافاً الى دعوى البناء على عدم حجية الأخبار الدائرة في كتب الحديث – ابو القاسم الخوئي: التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الاجتهاد والتقليد، تحرير الميرزا علي الغروي التبريزي، مقدمة عبد الرزاق الموسوي المقرم، مطبعة الآداب، النجف، ص96. ]
هكذا يتبين دور الواقع في التعويض عن النقص المشهود في النص المكتوب. وبالتالي فان ما يؤكد عليه هذا القانون هو المقارنة بين الخطاب والنص. فالخطاب هو كلام مشافه يوجه الى سامع حاضر ضمن جملة من السياقات الظرفية، والعلاقة التي يتضمنها عبارة عن متكلم وسامع، والرابط الذي يجمعهما هو رابط التبليغ المباشر، حيث يتقصّد المتكلم بكل الوسائل الدلالية (السيميائية) المتاحة، من لغوية وغيرها، إفهام السامع مضمون كلامه. ويتصف هذا الأخير بالحضور إزاء الأول. أما النص فهو مدونة من الكلام غير المشافه، يخلو من السياقات الظرفية الحية التي يقتضيها الخطاب، لذا تتحدد العلاقة فيه بين طرفين مختلفين عما سبق، هما: صاحب النص (المؤلف) والقارئ. اذ تتميز العلاقة بينهما بأنها غير مباشرة، او أنها ليست حية متفاعلة كما هي الحال في العلاقة الاولى للخطاب، فهي تفتقر الى السياق الظرفي الجامع بين الطرفين. والطرف الذي يقصده صاحب النص هو قارئ غير محدد بزمن او مكان، خلافاً للقصد الوارد في الخطاب، باعتبار أن المتكلم يقصد المستمع الحاضر أساساً، ولولاه ما كان للخطاب أن يظهر، ولا كان له جدوى ومعنى، ولتحولت وسيلة التبليغ مما هي خطابية الى نصية باعتبارها تحقق الهدف من ايصال الرسالة المطلوبة الى الطرف الآخر، وهو القارئ، ولو لم يكن معاصراً لصاحب النص.
لا شك أن النص لا يؤدي ذات المعنى الذي يؤديه الخطاب، فمن الناحية السيميائية أن ما يفاد منهما من دلالات ليست متطابقة، حيث يظل النص، بما يعبر عن مدونة، ناقصاً مقارنة بالخطاب، فمما يمتاز به الأخير هو الجمع بين أمرين: كلام مشافه مع واقع حي متفاعل، في حين يتصف النص بالتجريد باعتباره محولاً من المشافهة الى الكتابة، وبالتالي فانه لا يحتفظ بالواقع الحي الذي يقتضيه الخطاب. ومع أن هذا الأخير موجه الى مخاطبين حاضرين او سامعين محددين، وان النص موجه الى قراء غير محددين، لكن بفضل ما يمتاز به الخطاب من التشكيلة المزدوجة للكلام المشافه والواقع فإن ذلك يجعله يحمل دلالات عالية للمعنى الحقيقي، خلافاً لما عليه النص، فحيث انه مجرد عن الواقع الحي فذلك يجعله حاملاً لدلالات ناقصة من المعنى الحقيقي، اي ذلك المعنى المعبر عن حقيقة النص كما هو، او كما يريدها صاحبه او المؤلف. لذلك يأتي التعويض عن هذا النقص الطبيعي بما تقوم به (عين القارئ) الفاحصة او الموضوعية من اصلاح لكل ما يصادفها من اختلال في النسق الدلالي؛ كمحاولة منها للتقرب من المعنى المقصود، وهو المعنى الذي تتلقاه الأُذن مباشرة وبمساعدة العين الرائية لا القارئة. وهنا نفهم لماذا تتعدد القراءات وتتكثر، فلولا وجود ذلك النقص من البعد عن حقيقة المراد لما تكثرت القراءات والتأويلات، وكلما كان النص أكثر غموضاً وعتمة كلما استفاض بالقراءات والتأويلات، أي كلما كانت ذاتية القارئ تلعب فيه دوراً اكبر مقارنة بالنصوص الواضحة. لذلك كان الخطاب المشافه وبفضل ما يحمله من عناصر حية مساعدة للفهم لا يحتاج الى البحث المتزايد من تعدد الفهم والتأويلات مقارنة بما عليه النص المكتوب.
فالفهم القائم على النص هو فهم ضعيف مقارنة بذلك القائم على الخطاب، وإن كان في القبال أن النص يتمتع بالإنفتاح على القرّاء والأجيال بلا حدود، حيث لم يعاصروا تلقياته وتجلياته المباشرة عبر الخطاب، وهو ما يرضي أصحاب النزعات التأويلية والرمزية، كما ويرضي أصحاب النزعات الأدبية وفن القراءة والتلقي والتفكيك. أما الذين يبحثون عن المعنى المطابق والقصد الموضوعي عبر اللغة وسياقاتها وقرائنها الداخلية والخارجية فإنهم يدركون بأن النص في هذه الحالة لا يفي بالمطلوب كما يفيه الخطاب، وبالتالي كان الأخير مفضلاً عندهم قياساً بالنص.
هكذا إن الخطاب هو قول يتصف بسياقين: دلالي وظرفي، وهو من هذه الناحية يختلف عن النص الناجز الذي يختص بسياق واحد فقط هو السياق الدلالي، بإعتباره يتجرد من السياق الظرفي وإن دلّ عليه أحياناً. ومن هذه الناحية يكون الخطاب متضمناً للنص، وأن النص يشكل جزءاً من الخطاب.
كما من هذه الناحية جاز للخطاب أن يتحول إلى نص من دون عكس. والخطاب ما أن ينتهي إلا ويفقد سياقه الظرفي، فوجوده ملازم لهذا السياق، وهو ما يهبه حيوية ودلالة أعظم من تلك التي للنص، فهو الأصل الحامل للحقيقة. لكن ما يعوّض النص عن هذا الضعف من الحيوية والدلالة هو إنفتاحه على التأويل أو (الهرمنوطيقا) بما لا يقارن مع الخطاب، وهو ما يفتح عليه باب ما يسمى «فائض المعنى». وبعبارة مجملة، يتميز الخطاب عن النص بشموليته وحمله لدلالة الحقيقة بضبط وإتقان، خلافاً للنص ذي البعد الضيق، لهذا إحتاج إلى دلالة التأويل والهرمنوطيقا.
بهذا الاعتبار فإن نص القرآن لا يعبر تعبيره الكامل عن الخطاب القرآني المنزّل. او أنه طبقاً لقانون الافتقار – المشار اليه -يكون الأخير أكثر غنى من الأول. لكن مع ضرورة أخذ اعتبار ما ذكرناه من شروط التكافؤ، والتي منها ما قد تؤثر به بعض العوامل الطارئة لحرف القانون. فالنص الديني خلافاً للنص البشري قد يتضمن أموراً علمية كانت مجهولة لدى السامعين عند تنزيل القرآن المشافه، في حين اصبحت معلومة لدى قرّاء القرآن المدوّن. وهذا ما يجعل الأخير اغنى من حيث الفهم – ضمن هذه الحدود – مقارنة بالأول. وهو أمر لا يتعارض مع ما ذكرناه من قانون، باعتبار أن هذا الغنى يحصل تبعاً للأمور العارضة التي قد تلوح النص المدوّن كما قد تلوح الكلام المشافه. كما أن الكلام المشافه يستلزم كثرة من الدلالات المختلفة، خلافاً للنص، بمعنى أننا حتى لو أضفنا الدلالة العلمية الى النص، وهي من الأمور العارضة كما قلنا، فإن ذلك لا يضيف الا دلالة واحدة الى الدلالة اللغوية، وهي لا تكافئ تعدد الدلالات في حالة الكلام المشافه. يضاف الى أن نسبة تأثير هذا الواقع – العلمي – على غنى القرآن المدوّن هي قليلة جداً مقارنة بتأثير الواقع الحي على غنى القرآن المشافه. وبالتالي فالإفتقار المتعلق بالنص المدوّن يبقى كما هو، سواء أخذناه بشروطه القانونية الآنفة الذكر، او حتى مع أخذ اعتبار ما لاحه من طارئ علمي.
لكن في جميع الأحوال إن الدلالات الإضافية، سواء في حالة الكلام المشافه أم النص هي دلالات عائدة الى الواقع.
فهذا الأخير يؤثر في فهم الخطاب المشافه بنحو التلازم الذاتي، كما أنه يؤثر في فهم النص المدوّن – او حتى المشافه – بنحو طارئ.
على أن هناك أبعاداً اخرى لظاهرة الإفتقار النسبي الخاصة بالنص الديني المدوّن. فحينما تحوّل القرآن المشافه الى كتاب مدوّن أخذ يحمل تسلسلاً آخر لا تبدو الارتباطات فيه واضحة المعنى او الاتساق، سواء من حيث سوره او حتى بعض آياته. وقد اختلف العلماء حول الكيفية التي جرت وأدت الى ترتيبه بالشكل الذي نراه. وقيل إن جمع القرآن (المدوّن) كان على ضربين : [ أحدهما تأليف السور؛ كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين – أي ما يزيد على المائة آية او يقاربها -، وهو الضرب الذي تولّته الصحابة، وأما الجمع الآخر، وهو جمع الآيات في السور، فهو توقيفي تولّاه النبي (صلى الله عليه وآله) بنفسه – الزركشي: البرهان في علوم القرآن، خرج حديثه وقدم له وعلق عليه مصطفى عبد القادرعطا، دارالفكر، الطبعة الاولى، 1408هــ1988م،ج1،ص299. وجلالالدينالسيوطي: الإتقان في علوم القرآن،ج1،ص216 ] .
لكن من الناحية الدلالية ولّد هذا الترتيب بعض المشاكل، فلو اقتصرنا على وضع الآيات نجد أن بعضها جاء في أمكنة هي ليست أمكنتها الحقيقية. فقد يكون الأصل لبعض الآيات منتمياً الى وضع محدد من سورة معينة؛ لكننا نجدها في النص المدوّن ضمن سورة اخرى مختلفة، او ضمن وضع آخر مختلف من نفس السورة. او يكون الأصل الخطابي للآية مكياً؛ لكننا نجدها ضمن سورة مدنية، وكذا العكس.
فمثلاً إن آية التبليغ ((يا أيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته واللّه يعصمك من النّاس إنّ اللّه لا يهدي القوم الكافرين المائدة 67))
.جاءت ضمن سورة المائدة من النص المدوّن للقرآن، لكنها بحسب الحقيقة الخطابية تقع في موضع آخر مختلف، كما يدل على ذلك معنى الآية وسياقها الدلالي وما يحيط بها من آيات. لهذا اعتبرت لدى عدد من المفسرين بأنها من الآيات المكية رغم وجودها في سورة مدنية هي من أواخر السور، اذ تبدي الآية بأن النبي كان مأموراً بإبلاغ ما أُنزل اليه للناس، وهو أمر يكون في بداية الرسالة الدينية لا نهايتها، لذلك يتوجب كون الآية مكية لا مدنية. كما اعتبر عدد آخر من العلماء أن الأصل الخطابي للآية جاء قبل آية إكمال الدين مباشرة طبقاً لبعض الروايات، فبحسب هذا التصور أن للآية علاقة بإبلاغ ولاية الأمر من بعد النبي ضمن حادثة ما يُعرف بالغدير. مع أن آية إكمال الدين هي ايضاً واردة ضمن سياق دلالي مختلف كلياً عما يبدو من آية التبليغ، ومن الناحية السيميائية يصعب الجمع بين السياقين، اذ تنص هذه الآية بقوله تعالى: ((حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إلا ما ذكّيتم وما ذبح على النّصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطرّ في مخمصة غير متجانف لإثم فإن اللّه غفور رحيم – المائدة 3))
وبهذا التمايز بين النص والخطاب أصبح القرآن المدوّن عبارة عن تشكيلة من المعاني هي غير تلك التي كان عليها القرآن الخطابي ضمن تفاعله وجدليته مع الواقع. فمن الناحية الدلالية يقيم القرآن الخطابي هذه العلاقة مع الواقع الحي، الأمر الذي يجعله يرسم صوراً واضحة ومحددة القصد والمعنى؛ طبقاً لهذا الارتباط الذي أقل ما فيه انه يشير الى الواقع مباشرة، لذلك جرى التعبير عن القرآن بأنه بيان للناس ((هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتّقين – آل عمران 138))
.وانه تبيان لكل شيء ((ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء – النحل 89))
فهو بيان وتبيان باعتباره قرآناً مشافهاً، بمعنى ان من السهل على الناس الذين سمعوا القرآن وتفاعلوا معه أن يفهموا مقاصده ومعانيه، لا سيما انه نزل باللغة التي كانوا يتخاطبون بها. في حين ليس للنص او القرآن المدوّن هذه السمة المميزة في الخطاب، فالنص إما انه لا يشير الى الواقع كلياً، او انه يشير اليه “ميتاً”، وهو حتى في هذه الإشارة لا يتضمن تحديد طبيعة ما عليه بالضبط بكل ملابساته الاجتماعية والطبيعية، كما أن معاني اللغة التي كان يستخدمها أخذت تتغير كثيراً عبر القرون والأجيال، وكل ذلك له انعكاساته على فهم النص وتعدد معانيه وحاجته الى القراءات المتعددة.
ونكرر هنا ما قاله المفكر الصدر بأننا لن نفهم النص الديني «الا كما نعيشه الان، ولن نستطيع استيعاب جوه وشروطه، وإستبطان بيئته التي كان من الممكن ان تلقي عليه ضوءاً».
وطبقاً لما سبق أن نسبة ما يمكن ان يؤديه النص من دلالات كشفية معبرة عن المعنى الحقيقي المقصود هي نصف ما يقدمه الخطاب او أقل من ذلك. فاذا كان الخطاب يمنحنا نسبة دلالية معبرة عن هذا المعنى بما يقارب ثمانين بالمائة مثلاً؛ فإن ما يقدمه النص من هذه الدلالة هي أربعين بالمائة أو أقل. وهذه النسبة العددية هي للايضاح، وإلا فأي نسبة تطرح بهذا الصدد هي نسبة خاطئة. اذ لا يمكن وضع مقارنة رياضية بين ما يؤديه الطرفان من كشف دلالي، طالما أن الخطاب يتضمن امرين غير متماثلين، هما الكلام المشافه والواقع، خلافاً للنص الذي يعبّر عن الكلام المجرد او المدوّن.
وبعبارة ثانية ان النص هو مجرد كلام يخلو من الواقع، في حين يقتضي الخطاب التفاعل مع الواقع المباشر، فهو بالتالي يزيد على النص بهذا الواقع، وحيث أن هذا الأخير هو من عالم آخر غير الكلام المجرد او النص؛ لذا لا يمكن المقارنة بينهما من حيث التأثير على الكشف الدلالي رياضياً.
لكن مع هذا يمكن ان نصيغ الفارق بين النص والخطاب رياضياً كالتالي:
النص = السياق اللفظي
الخطاب = السياق اللفظي + سياق الواقع الظرفي
ومن حيث التعويض ستكون النتيجة كما يلي:
الخطاب = النص + السياق الواقعي
وبحسب التعبير الرمزي فان:
خ = ن + ع
حيث الرمز (خ) هو الخطاب، والرمز (ن) هو النص، والرمز (ع) هو السياق الواقعي.
وبتعبير رمزي آخر تتخذ العلاقة بين الخطاب الديني والنص شكلاً مناطاً بالقرآنين المشافه والمدون كالتالي:
القرآن المشافه = القرآن المدون + السياق الواقعي
يضاف الى ما سبق هو أن التسلسل الوارد في النص (القرآني) لم يكن ذاته التسلسل الطبيعي الذي ورد في الخطاب، فالنص بهذا لا يعكس حقيقة ما عليه الخطاب، ومن ثم فإن ذلك يضعّف من الكشف الدلالي الخاص بالأول مقارنة بالآخر. وبالتالي لا يصح تقدير الكشف الدلالي للمعنى، ولا يمكن أن يصح، الا طبقاً للاعتبارات الكيفية والنسبية.
***
هكذا يتبين بأن للقرآن معنى عاماً يشمل النص المدوّن والخطاب المشافه، او قل بأن هناك قرآناً مدوناً وقرآناً مشافهاً. فقد كانت آيات القرآن تنزل مشافهة ثم تدوّن، والأصل هو القرآن المشافه، وقد قال الله تعالى: ((لا تحرّك به لسانك لتعجل به، إنّ علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه، ثمّ إنّ علينا بيانه – القيامة/16ـ19))
وكان القرآن المشافه ينزل بشكل متفرق بالتدريج، ولم ينزل دفعة واحدة، وكما ورد في الذكر قوله تعالى: ((وقرآناً فرقناه لتقرأه على النّاس على مكث ونزّلناه تنزيلاً – الإسراء/106))
وقوله: ((وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملةً واحدةً كذلك لنثبّت به فؤادك ورتّلناه ترتيلاً – الفرقان 32))
.وكثيراً ما يعبّر (القرآن الكريم) عن القرآن بالكتاب، حتى وهو في حالة التنزيل، كما في قوله تعالى: ((الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا – الكهف 1ً))
وقوله: ((وما أنزلنا عليك الكتاب إلاّ لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون النحل 64))
وقوله: ((أولم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إنّ في ذلك لرحمةً وذكرى لقوم يؤمنون العنكبوت 51 ))
الخ. وقد يتبادر للذهن بأن القرآن مكتمل ومخطوط، مع أن اللفظ ورد في العديد من السور المختلفة، بما فيها السور المكية، أي قبل إتمام نزول الآيات وتدوينها كلياً، وبالتالي فليست هناك ممانعة من التعبير عن القرآن بالكتاب رغم أنه لم يكتمل بعد. فحتى لو افترضنا أنه قد أُنزل على صدر النبي دفعة واحدة، فإنه لم يخرج للناس الا متفرقاً بالتدريج طوال السنين الثلاث والعشرين سنة من البعثة النبوية. كما لا توجد ممانعة من التعبير عنه بالكتاب رغم انه كان وحياً مشافهاً لم يكتمل ولم يتحول بعد الى صحف متفرقة، فلا يوجد أدنى دليل يشير الى كتاب مخطوط منزل بالمعنى الذي نفهمه. ويبدو أن التعبير بالكتاب على الوحي المشافه المنزل وارد استعماله حتى من جهة ما يدل عليه القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: ((وإذ صرفنا إليك نفراً من الجنّ يستمعون القرآن فلمّا حضروه قالوا أنصتوا فلمّا قضي ولّوا إلى قومهم منذرين، قالوا يا قومنا إنّا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدّقاً لما بين يديه يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم الأحقاف 29-30))
فقد يقصد بالكتاب هنا بمعنى الشيء المنظوم، ولو لم يدوّن، وكما قال الراغب الأصفهاني في (مفردات ألفاظ القرآن) بأن الأصل في الكتابة: النظم بالخط لكن يستعار كل واحد للآخر، ولهذا سمي كلام الله – وإن لم يكتب – كتاباً كقوله تعالى: ((آلم، ذلك الكتاب – البقرة 1-2))
وقوله: ((قال إني عبد الله آتاني الكتاب –مريم 30 ))
والكتاب في الأصل مصدر، ثم سمي المكتوب فيه كتاباً، والكتاب في الأصل اسم للصحيفة مع المكتوب فيه، وفي قوله: ((يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء- النساء 153 ))
؛ فإنه يعني صحيفة فيها كتابة، ولهذا قال تعالى: ((ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس..- الأنعام 7)
انظر: الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، دارالقلم، دمشق، عن شبكة المشكاة الاسلامية الالكترونية www.almeshkat.net
(لمتذكر أرقام صفحاته)،ج2، مادة (كتب) .
هكذا يتبين بأن القرآن المشافه هو الأصل، وهو ما يمثل الوحي بكل ما يتضمن من تنزيل أصيل لا اجتهاد فيه. أما القرآن المدوّن فهو مستنسخ عن الأول مع فقده للكثير من الدلالات والإيحاءات، ومع ما تضمنه من اجتهاد جعله لا يحتفظ بالوحي المتأصل في الأول ، فعلى الأقل إن ترتيب السور في القرآن المدوّن قد جرى بفعل اجتهادي، وهو لا يطابق ما كان عليه التنزيل في القرآن المشافه. لهذا كان للواقع دور عظيم في تيسير فهم القرآن عندما كان مشافهاً. ولذلك دلالة أخرى، وهي أن وحي القرآن قد استهدف – أساساً – المجتمع الحي الذي تنزّل فيه ؛ بكل ما يحمله من خصوصيات وسياقات تاريخية، مما جعل العلاقة بينه وبين الواقع علاقة تأثير مباشر، أما بعد غياب هذا الواقع فلم يعد للوحي تلك العلاقة من التأثير المباشر.
بل يمكن القول إن التحول والتغيير قد أصاب الطرفين، فلم يعد الوحي كما كان من قبل بعد أن تحول الى قرآن مدوّن، كما لم يعد الواقع هو ذاته الذي قصده الوحي بالتنزيل والتأثير. لذلك كان لا بد من العمل بالفهم المجمل والمقاصد التشريعية في الأحكام استناداً الى مبدأ (النمذجة) ، وهو اعتبار الأحكام الشرعية نموذجية لا مركزية، كما فصلنا الحديث عن ذلك في كتابنا (فهم الدين والواقع) -انظرالفصل الأخيرمن كتاب فهم الدين والواقع. – دراسات
وقد يتصور البعض ان مبدأ النمذجة فكرة غربية كتلك التي طرحها فيلسوف العلم توماس كون والمعبر عنها عربياً بالنموذج الارشادي او البرادايم، مع ان بين الفكرتين اختلافاً كبيراً، ففكرة البرادايم موضوعة ضمن تنافس لعدد من النظريات، حيث تكون بعضها في وقت ما نموذجاً ارشادياً يؤثر في الاتجاه العلمي والنظري، وهي تستمر حتى يأتي اليوم الذي تأتي غيرها لتحل محلها وهكذا.. اما مبدأ النمذجة فهو لا يتعلق بنظريات الفهم ضمن الاطار المتعارف عليه، وليست هناك نظرية تتصف بالنمذجة بهذا المعنى، بل هو وصف للدين التشريعي ذاته، لذلك تكون الصفة فيه لازمة بحسب هذا المنظار غير قابلة للزوال او التحول الى اخر كما يحصل في حالة البرادايم الغربي. فمفهوم الارشاد في النمذجة قريب الصلة بما طرحه الفقهاء احياناً من كون بعض الاحكام ارشادية وليست الزامية. مع ذلك فان في الفهم الديني ما يقابل المعنى المتعلق بالنظريات العلمية- بحث بقلم يحيى محمد ]
4- الفرق بين الخطاب البشري و الخطاب الإلهي :
[ الخطاب أحد مصدري الفعل (خاطب، يخاطب) والمصدر الآخر مخاطبة، وهو يدل على توجيه الكلام لمن يفهم، وقد نقل من الدلالة على الحدث المجرد من الزمن إلى الدلالة على الاسمية. والخطاب يعني مراجعة الكلام , او المواجهة بالكلام , وعلى المستوى الدلالي فالخطاب يعني كلاما او رسالة او محاضرة او نص ما .
لكن الخطاب لا يقتصر على الكلام ، وهذا ما أكد عليه علم العلامات بل يتعداه إلى أمور أخرى، فطن إليها الموروث العربي مثل : الرمز، فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} آل عمران/ 41. ومن عناصر الخطاب –أيضا- الإيحاء وقد ورد في قوله تعالى: { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} مريم/11.، وقد انتبه النقاد العرب القدامى إلى العناصر غير اللغوية في الخطاب، قال ابن يعيش (( والأشياء الدالة خمسة: الخط، والعقد، والإشارة، والنصبة، واللفظ )) ، وقد قسم الجاحظ العلامات إلى علامات ملفوظة وأخرى غير ملفوظة، فليس ((الكلام المنطوق هو الوسيلة الوحيدة التي يعبر بها الإنسان عن مشاعره وانفعالاته وعن حالته النفسية، بل إنه يعبر عن كل هذا-أيضا- بأوضاع جسمه وحركاته وإشاراته)).
ومما تقدم يتضح أن الخطاب أما أن يكون لفظيا أداته اللغة، أو يكون خطابا علاماتيا يستعمل الإيحاءات والإشارات ، ويبدو أن التأكيد كان منصبا على الخطاب اللفظي دون العلاماتي، على الرغم من أن الخطاب العلاماتي -في أحيان كثيرة- قد يكتنز بشحنة تبليغ كاملة.
وقد يرادف مفهوم الخطاب مفاهيم أخرى مثل: النص، والرسالة، والكلام، واللغة، والأطروحة، والحديث، وأسلوب التناول، والسرد، والقول، والحكاية، لكن البعض يضع الخطاب مقابل النص، فالخطاب يمثل التصور المجرد، والنص يمثل التحقق الفعلي لذلك التصور، وبهذا فالخطاب أعم من النص وأشمل منه , فالدكتور محمد عابد الجابري – مثلا – يقرن الخطاب بالنص , فالنص عنده رسالة من الكاتب الى القارئ فهو خطاب والخطاب ايضا بناء من الافكار او مجموعة مفاهيم ، او كلام او كتابة ، بمعنى اخر يمثل الخطاب عند الجابري أي وسيلة اتصال بين المرسل والمتلقي – . بقلم علي حسين يوسف ] .
وإذا كان هذا هو الخطاب البشري فإن الخطاب الإلهي يقوم علىقاعدةأساسية ذكرها عز وجل حينما أمر الملائكة بالسجود لأدم عليه السلام وحينما قرأوا في اللوح المحفوظ ما سيفعله الكثير من بني آدم فقالوا {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون} . ومن هنا يأتي الخطاب الإلهي بعلم ليس عند كل المخلوقات حتى سيدنا نوح حينا قال { وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ– هود 45-47} .
ولذلك عندما آمن المؤمنون بكلام الله وهو الحق وفيه الخطاب الإلهي لبني البشر قالوا لأهل النار ممن كفر بالله هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا وهذا خطاب خاطبه الله عز وجل للبشر محذراً من الكفر به تعالى وعصيانه ووعد وعده الله تعالى لمن آمن به كما في قوله تعالى :{ وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ – الأعراف 44 -45 }
وعن الإنسان بين الخطاب الإلهي والخطاب البشري
كتب الأستاذ عبدالسلام بنهروال ما يلي :
[ يقول المفكر الإسلامي عباس محمود العقاد في كتابه: “الإنسان في القرآن الكريم” بعد أن عرف الإنسان عدة تعاريف وناقشها: الإنسان في عقيدة القرىن هو الخليفة المسؤول بين جميع ما خلق الله، يدين بعقله فيما رأى وسمع، ويدين بوجدانه فيما طواه الغيب، فلا تدركه الأبصار والأسماع.
والإنسانية من أسلافها إلى أعقابها أسرة واحدة لها نسب واحد، وإله واحد، أفضلها من عمل حسنا، واتقى سيئا، وصدق النية فيما أحسنه واتقاه. لقد ذكر الإنسان في القرآن بغاية الحمد، وغاية الذم في الآيات المتعددة، وفي الآية الواحدة، فلا يعني ذلك أنه يذم ويحمد في آن واحد، وإنما معناه أنه أهل للكمال والنقص بما فطر عليه من استعداد لكل منهما، فهو أهل للخير والشر لأنه أهل للتكليف.
فمن هو الإنسان في الخطاب الإلهي؟ وما هي مزاياه وسماته؟ وما هي مسؤوليته الكبرى في الحياة؟
عندما نتأمل في القرآن نجده يبصر الإنسان بحقيقته وبمختلف مزاياه، وبمهمته في الدنيا، وذلك من خلال حقيقتين اثنتين داخلتين في قوامه وتركيبه الإنساني، وبينهما – في الظاهر – ما يشبه التناقض.
فالحقيقة الأولى: أنه مخلوق تافه أصله الأول من تراب وسلالته من ماء مهين، والشأن فيه إن طالت به الحياة أن يرد إلى أرذل العمر فلا يعلم بعد علم شيئا، ويغلب عليه مع ذلك أن يشمخ بأنفه ويستكبر، ويخاصم ويعاند ويجادل ويكابر. هذه الحقيقة توضحها مجموعة من النصوص القرآنية نكتفي بذكر بعضها منها قوله تعالى:
– “فلينظر الإنسان مم خلق…” الطارق 7
– “قتل الإنسان ما أكفره…” عبس 17
– “إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج…”
– “أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين” يس 77.
أما الحقيقة الثانية التي تشكل الجزء الأخير من هوية الإنسان في الخطاب الإلهي فهي أن الإنسان هو ذلك المخلوق المكرم على سائر المخلوقات الأخرى. أمر الله الملائكة بالسجود له وهو سجود تعظيم لا سجود عبادة، وشرفه بالخلافة على هذه الأرض عندما أراد ان يجعله مظهرا لعدالته تعالى وحكمه، وأنه الحيوان الوحيد الذي جهزه الله بالعقل والتفكير والبيان، والقدرة على إدارة الأمور، ولتوضيح هذه الحقيقة نتجول قليلا في رحاب القرآن الكريم ونقرأ قوله تعالى:
- “ولقد كرمنا بني آدم…” الإسراء 70
– “وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا” البقرة 24.
– “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة” البقرة
– “وعلم آدم الأسماء كلها” البقرة
نتساءل هنا عن كيفية تآلف هاتين الحقيقتين ضمن هوية واحدة للإنسان؟ وما وجه تركيز القرآن الكريم على كل منهما ؟ وما هو أثر تنبيه الإنسان إلى اتصافه بكلا هاتين الحقيقتين؟
حول هذه الأسئلة يقول رمضان البوطي رحمه الله: إن الإنسان مهما بلغت مرتبته من السمو ومهما اتصف به من المزايا والصفات النادرة فإن ذلك ليس نابعا من ذاته أو اكتسبه بجهده، واستقلال طاقته، وإنما جاءه فيض من الله عز وجل، وأمانة استودعت عنده إلى أجل. أما تكوينه الذاتي فمن تراب تافه، ثم من ماء مهين، ثم هو مخلوق عاجز، في قبضة الله وحكمه وقد أطبقت عليه آثار العبودية لمن بيده خلقه وتدبيره، إن لم يقر بذلك لسانه طوعا، آمن به كيانه وواقع حاله قسرا، غير أن الله عز وجل لما شاء أن يختاره لعمارة هذه الأرض وكلفه بتأليف أسرة إنسانية تعبد الله وتقيم حياتها على منهج شريعته الربانية .. جهزه بملكات نادرة، وميزه بصفات سامية لم توجد في غيره، فأعطاه العقل والتفكير، وسخر له كثيرا من المخلوقات، وغرس في كيانه شعور حب الذات والإحساس بالأنانية، هذه الصفات ليست في حقيقتها إلا فيوضات من صفات الربوبية أنعم الله بها على هذا المخلوق ليستعين بها في أداء رسالته، وتحقيق خلافته على الأرض. وإذن فالإنسان في كينونته عبد مملوك لله عز وجل، خلق من ضعف، وينتهى إلى ضعف ولكنه نظرا للرسالة الإلهية التي حملها يتمتع بصفات نادرة، جهزه الله بها فاستحق بموجبها الرفعة والتكريم إن هو استعمل تلك الصفات على وجهها وفيما أهلت له.
وأما وجه تركيز القرآن على كل من هاتين الحقيقتين معا، والاستمرار في تذكير الإنسان بضالته وتفاهة أصله إلى جانب تذكيره بالمكانة التي يتبوأها، وبأهمية وجوده، وخطورة الصفات النادرة التي ركبت فيه، والوظيفة التي كلف بالنهوض بها؟ لأنه تربى في ظلال هاتين الحقيقتين معا. فمن عاش وهو لا يرى من نفسه أو ذاته إلا مظاهر ضعفها، ودلائل تفاهتها وهوانها جدير به أن يثركن إلى ضعف يجعله ضحية طغيان الجبابرة، والمتكبرين، ويبعده عن إنجاز أي عمل أو خدمة إنسانية مما قد حمله الله تعالى مسؤولية النهوض بها في سبيل عمارة الأرض، وإنشاء الحضارة الإنسانية المطلوبة، ومن عاش وهو لا يرى من نفسه إلا أنه الإنسان المكرم الذي لا يملك من المزايا والصفات ما يخوله أن يبسط لنفسه حكما وسلطانا على كل ما حوله .. جذير به أن يسكر بنشوة تلك الصفات التي ليست في الواقع إلا فيوضات إلاهية ثم أن يجعل من نفسه حاكما من دون الله عز وجل، يبسط قهر ربوبيته الزائفة على سائر المستضعفين.
وإذا تأملنا الخطاب الإلهي وما يتضمنه من تبصرة وإرشاد وتعليم، فإننا نراه يدور على محور هذا الهدف فهو يهيب بالإنسان أن يدرك هويته، ويتعرف على ذاته، ويقيم سلوكه على أساس منسجم ومتين مع هذه المعرفة: فلا يذل أو يهون لغير الله الذي بيده حياته وموته، ونفعه وضره، ولا يرتدي كسوة الكبر والطغيان، وهو يعلم أنه ليس إلا عبدا مملوكا لسيده الذي خلقه.
الإنسان إذن كائن مكلف خلقه الله وأودع فيه دوافع فطرية تعبر عن تكوينه الخاص الذي تتفرع عنه غرائزه .. ولا يمكن للزمن أن يبدل أو يقتل تلك الغرائز والنوازع الفطرية فهي أصيلة في الحياة الإنسانية، فالإنسان هو الإنسان من حيث تلك الصفات الجوهرية التي قررها القرآن في سورة الروم.. فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله” الروم 30.
وقد دلت عشرات البحوث العلمية الحديثة على أن الإنسان لا يمكن أن يتطور في صفاته الجوهرية، وأن التدخل الذي حدث لإنكار دور تلك الصفات هو المسؤول عما تعانيه الحضارة الحاضرة من عدم الاستطاعة في إيجاد صيغة متوازنة للحياة الإنسانية بينما ينظر الإسلام إلى الإنسان من حيث هو جوهر أصيل له رغبات ذاتية فطرية لابد أن تشبع، وتحل مشاكلها في ظل مذهبية ربانية تنظر إلى الإنسان نظرة أصيلة لا عرفية، ولذلك نجد الشريعة الإسلامية تعالج مشكل الغرائز الإنسانية من مبدأ الاعتراف بها وبوجودها، فجانبها الروحي يحتاج إلى مخطط عبادي يملؤه، ويشعره بلذة العبودية لخالقه حتى لا يبقى تائها حائرا يعاني من الفصام، وجانبها الجنسي يحتاج إلى مخطط اجتماعي أخلاقي يضبط العلاقات الجنسية في المجتمع، ويحصرها في داخل الأسرة حتى لا يؤدي به ضغط الغريزة الجنسية إلى الدرك الأسفل من السلوك الحيواني غير المنضبط. وجانبها في غريزة الشبع يحتاج إلى مخطط اقتصادي يحافظ على التوازن المعاشي الذي يمنع انتقال المجتمع إلى حياة الترف من جهة، والجوع المهلك من جهة أخرى. وجانبها في غريزة الطموح الإنساني يحتاج إلى مخطط يحقق آدميته، ويثبت له حرية مهذبة مضبوطة حتى لا ينتهي إلى استعباد طائفة لطائفة أخرى وسحقها تحت مطرقة غريزة الاستعلاء والطمع، وكذلك كل غريزة من غرائزه لو دققنا النظر فيما شرع لها الإسلام لوجدنا أنه أراد المحافظة على جوهر الإنسان ممثلا في شمولية غرائزه التي تستوعب كيانه كله عن طريق خلق التوازن المطلوب بينها بحيث يأخذ بعضها برقاب بعض لأداء دورها كاملا في الحياة.
هذه الحقائق الفطرية في كيان الإنسان لابد من إدراكها واعتبارها عندما نريد أن نخطط لتغيير الإنسان، أو لتغيير ما بالإنسان، فالإنسان كائن حضاري معقد جدا، له دوافع متنوعة، تؤثر فيها عوامل متشابكة ومختلفة عبر مراحله الاجتماعية المتتابعة وهذه العوامل منها ما هي فطرية جبلية، ومنها ما هي عوامل اجتماعية بيئية مكتسبة، ولابد أن تخضع الدوافع الإنسانية إلى تربية شاملة متوازنة تراعي كيانه من حيث هو كل لا يتجزأ، وأي تجزيء للإنسان وفهمه في ضوء ذلك ستقود إلى خطأ علمي كبير يضيع كثيرا من الحقائق الطبيعية في حياته النفسية والاجتماعية والاقتصادية.
وقد حدث في العصور الأخيرة طمس واضح لشمولية الإنسان ومعالمها الكلية بناء على دراسته دراسة مجزأة والنظر إليه من زاوية معينة، وسحب نتائجها على الكل الشمولي:
النظرة الكنسية: عندما نظرت إلى الإنسان من حيث هو كائن روحي كرد فعل عنيف على حيوانية ومادية النظرة الرومانية، أفقدت الإنسان توازنه، وحملته ما لا يحتمل، وحاولت قتل غرائزه، وتجاهلت واقعه الأرضي تجاهلا كبيرا.
والوضعية التي نادى بها أوجست كونت عدت الإنسان كائنا يستطيع أن يشكل قيمه بنفسه ويحولها إلى دين وضعي، يضبط حركته الاجتماعية، ولا حاجة بعد إلى الأديان والقيم القديمة في زعمه، ثم ظهر بعد قرن كامل من الصراع والتجربة أن الإنسان لا يستطيع أن يوجد القيم المجردة عن المصالح، لأن حب الإنسان لمصلحته موجه من جانبه الحيواني حال بينه وبين فهم الإنسان، من حيث معناه وشموليته، ومنعه من إيجاد تلك القيم المجردة التي تعبر عن المعنى الشامل لإنسانيته.
والماركسية جرأت الإنسان من شموليته وجعلته سلوكا متغيرا في ضوء تغير أدوات الإنتاج مجبرا على ذلك السلوك مسلوب الإرادة، فحصرت شموليته الإنسانية في العامل الاقتصادي، ثم أثبتت التجارب الواقعية والإحصاءات الدقيقة في الدراسات الحديثة أن سلوك الإنسان لا يمكن أن يفسره عامل واحد، لأن ذلك يعني فصمه عن كيانه الإنساني الشامل، وفي ذلك انحرافه وأزماته وشقاؤه.
والداروينية نظرت إلى الإنسان من زاوية حيوانية انطلاقا من التشابه الظاهري في القانون الواحد الذي خلق الله تعالى به الإنسان وسائر الحيوانات ناسية مساحة الاختلاف والتنافر التي تجسدها شمولية شخصية الإنسان لجانبه الحيواني البحث، وجانبه الفكري والشعوري، فأثرت وجهة نظرها الإحتمالية تأثيرا كبيرا في إنكار ثبات الصفات الخلقية والإنسانية، وانتهت إلى اعتبار الإنسان حيوانا اجتماعيا متطورا لا ضوابط لتغييره إلا في إطار تكوينه الحيواني.
أما الفرويدية فقد نظرت إلى الإنسان في ضوء حيوانيته وانتهت إلى أن الجنس هو أساس حركة الإنسان وسلوكه، وكان من نتائج الفرويدية تحطيم الأسرة وضوابطها من خلال الفوضى الجنسية العارمة التي نفذت إلى كل جزئية من جزئيات الحياة الاجتماعية في الحضارة الحديثة.
وكانت خاتمة المطاف في سلسلة النظرات الأحادية المجزئة لكيان الإنسان النظرة الوجودية السارترية التي أنكرت كسابقاتها وجود الإله، لينصب الإنسان نفسه مكانه بدعوى إثبات وجوده، وتحقيق حريته بعيدا عن أوامر الدين ونواهيه، وتوجيه الفلسفات العقلية، وضغط العادات والتقاليد؛ من هنا نلاحظ أن المناهج التغييرية في العالم لم تستطع أن تقود المجتمع الإنساني إلى السعادة والتوازن لأنها لا تنظر نظرة شمولية إلى الإنسان، وحتى لو نظرت فإنها تنظر بعين بشرية محضة، ولذلك لم تفلح في مهمتها، لأن أسرار الحياة للعالم الإنساني لا يمكن أن تدرك في عصر واحد، وهي من التعمق والتشابك والتعقيد بحيث لا يدرك أبعادها إلا خالق الكون والإنسان الذي أودع في الوجود هذه الأسرار، وهو عليم بها وبحركتها وضوابط موازنتها، ومن هذا المنطلق وبناء على ما أشرنا إليه .. فإن المنهج الإسلامي المبني على الخطاب الإلهي هو وحده الكفيل لتوفير السعادة للإنسان ولقيادة حضارتنا الحاضرة وملء الثغرات التي أفرزتها الحضارة الغربية في نظرتها إلى الإنسان.
المراجع:- عباس محمود العقاد – الإنسان في القرآن الكريم.
- رمضان البوطي – منهج الحضارة الإنسانية في القرآن الكريم.
– محسن عبد الحميد – منهج التغيير الاجتماعي في الإسلام. ]]]
5- الأداء البياني لخطاب الجنة والنار في القرآن الكريم (دراسة بلاغية) .
[[ الحوار القـــــــــــــــرآني,,, بين أهل الجنة والنار – دراسة أدبية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ,خالق الكون,وهادي البشر ,ومصرف البشر,الحليم الجبار ,خالق الجنة, وخالق النار,وهو علينا حق ,ونبيه حق,والساعة حق ,والنبيون حق,والجنة حق والنار حق,وأصلي وأسلم على من تنزلت عليه ايات الحكيم,وعلى آله وصحبه أجمعين .
بعد فضل من الله ومنه ,أُجري هذا البحث الذي كمتطلب تكميلي لمادة قضايا أدبية ,عنوانه (الحوار القرآني) حوار أهل الجنة وأهل النار كنموذج تطبيقي.
وتدور فكرة الدراسة حول حوار أهل النار وحوار أهل الجنة كنموذج على الحوار القرآني والهدف منه هو دراسة الأساليب الحوارية وكيفية توظيف الأساليب المستخدمة من حيث دراسة مستوياتها الأربعة
ولعل الأهمية في البحث والتقصي في هذا الجانب هو كيفية التطبيق على نموذج قرآني في إبراز الجوانب الحوارية فيه,كأركانه ,وآدابه ,وأساليبه .وجماليات التعبير في الأسلوب القرآني
والمنهج المتبع في هذه الدراسة هو المنهج الوصفي التحليلي وأُجري تقسيم البحث كالتالي .
المبحث الأول .(الحوارالقرآني)
المطلب الأول.حوار أهل النار
المطلب الثاني.حوار أهل الجنة
ولقد تم التمهيد بتعريف الحوار لغة واصطلاحا,وذكر بعض من مصطلحاته وآدابه وأهميته,وغيرها من المحاور.
لجأت بعد الله إلى بعض الشروح والتفسيرات الدينية , والكتب الأدبية والبلاغية…..سائلة المولى ألا يضيع مجهودي العلمي هباء دون فائدة مرجوه …..
والله من وراء القصد
تمهيد
تعريف الحوار
الحوار هو نوع من الحديث بين شخصين أو فريقين، يتم فيه تداول الكلام بينهما بطريقة متكافئة فلا يستأثر به أحدهما دون الآخر، ويغلب عليه الهدوء والبعد عن الخصومة والتعصب، ومثال ذلك ما يكون بين صديقين في دراسة أو زميلين في عمل، أو مجموعة في نادٍ أو مجلس.
مرادفات الحوار
الجدل: هو ((شدة الخصومة. وفي الحديث: ما أوتي الجدل قوم إلا ضلُّوا، والجدل: مقابلة الحجة بالحجة))، والمجادلة هي (المناظرة والمخاصمة(
المناظرة: هي ((المباحثة والمباراة في النظر واستحضار كل ما يراه ببصيرته((
المحاجة: وقد جاء في القرآن لفظ الحجة أو التحاج عشرين مرة، أطلق بمعنى التخاصم والجدال في بعضها كما في قوله تعالى: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون }
المُناقَشةُ: وتأتي بمعنى ((الاستقصاء في الحساب حتى لا يترك منه شيء((
والمناقشة هي: (( نوع من التحاور بين شخصين أو طرفين، ولكنها تقوم على أساس استقصاء الحساب، وتعرية الأخطاء، وإحصائها((
والمناقشة: أيضاً هي [ (( قيام مجموعة متعاونة فيما بينها على اختيار مشكلة معينة، وتحديد أبعادها، وتحليل جوانبها، واقتراح الحلول لها، واختيار الحل المناسب بعد ذلك عن طريق الإجماع أوغيره
مفهوم الحوار في اللغة .أصل كلمة ( الحوار ) هو : ( الحاء ـ الواو ـ الراء )
) الحاء والواو والراء ) ثلاثة أصول : أحدها لون ، والآخر الرجوع ، والثالث أن يدور الشيء دوراً – ابن فارس, أبو الحسين أحمد ، معجم المقاييس في اللغة ، ( بيروت : دار الفكر ،1418هـ) صـ 287 ] .
وتعود أصل كلمة الحوار إلى ( الحَوْر ) وهو الرجوع عن الشيء وإلى الشيء ، يقال : ( حار بعدما كار ) ، والحوْر النقصان بعد الزيادة لأنه رجوع من حال إلى حال ، وفي الحديث الشريف : [ ( نعوذ بالله من الحور بعد الكور ) –
-صحيح الإمام مسلم ، الحج ، باب 75، الحديث 3340 ]
والتحاور هو, التجاوب ، تقول : [ كلمته فما حار إلي جواباً ، أي : ما رد جواباً –
الأنصاري ,ابن منظور جمال الدين محمد بن مكرم ، لسان العرب ( بيروت : دار صادر ،1412هـ) ، الجزء الخامس ، ص 297 ]
- ـ الحواراصطلاحا هو :
- [ حديث بين طرفين أو أكثر حول قضية معينة ، الهدف منها الوصول إلى الحقيقة ، بعيداً عن الخصومة والتعصب بل بطريقة علمية إقناعية ، ولا يُشترط فيها الحصول على نتائج فورية )- المغامسي ,خالد بن محمد ، الحوار آدابه وتطبيقاته في التربية الإسلامية ، ط 1( الرياض : مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني ،1425) ، صـ]
أسلوب الحوار في القرآن الكريم:
أسلوب الحوار والجدال وعرض الآراء والمناقشة في القرآن الكريم يتسم باتساع دائرته وتعدد قضاياه، وشموله لما لا يحصى من الموضوعات. فهناك محاورات بين الخالق عظمت قدرته وبين مخلوقاته من الرسل الكرام ومن الملائكة المقربين، بل ومن الشيطان الرجيم. وهناك حوار بين الرسل وأقوامهم، أو بين المؤمن والكافر،أو بين أهل الجنة وأهل النار, أو الحوار بين الأخيار فيما بينهم، أو بين الأشرار فيما بينهم. وهناك حوار مع أهل الكتاب، أو مع المنافقين، أو مع المقلدين لسابقيهم في الباطل والضلال، أو مع السائلين للرسول عليه الصلاة والسلام.
وللحوار القرآني مقاصد منها , تصحيح مفهوم وتصورات ومعتقدات خاطئة منشؤها إنكار البعث، والإيمانُ ببقاء القيم المادية وثباتها.
ومنها مرتبط بالتشريعات والأحكام، وهذا يعني أن كل الموضوعات العقدية والتشريعية خاضعة للحوار.
ونحن بحاجة إلى الحوار؛ ليفهم بعضنا بعضاً، نحاور بعضنا بعضاً، ونتحاور مع الآخرين، فنتحاور مع أبنائنا: وذكر الله سبحانه وتعالى عن لسان لقمان عليه السلام، ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾(1)
ومن أساليب الحوار في القرآن الكريم الأسلوب.
1- الوصفي التصويري، يعرض قصصا ومشاهد حوارية واقعية. بقصد تبسيط فكرة وتقريبها للمستمع من خلال الحوار الجاري، وحمله على تبني موقف صحيح. ومثال ذلك حوار موسى عليه السلام مع فرعون: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قــَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾.(2)
2-الأسلوب الحجاجي البرهاني: يعتمد الحجة والبرهان لدحض ادعاءات المنكرين للتوحيد والبعث بأسئلة تتوخى زعزعة تقاليدهم ومعتقداتهم الباطلة. وتهدف إلى توجيههم للنظر والتفكير في آيات الله من أجل بناء قناعات ومواقف صحيحة. ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾.(3)
مميزات الحوار في القرآن الكريم
1-أن اهداف الحوار في القران وغاياته متعددة وكثيرة , وبه تتحقق مصالح الفرد والجماعة فهو يستهدف الحقائق في ذاتها , ويقيم عليها البراهين والحجج الدالة على ذلك.
2-أن القران قد شمل أقوم الطرق وأفضل المناهج في الحوار ,من حيث الأسلوب و الفكرة والغرض
3-أن حوار القران قادر على أقناع الناس جميعا أذا هم أحتكمو إليه على الرغم من الفروق الفردية
4- إن حوار القرآن فيه إثارة للعقل والوجدان, فقد جمع بين الفائدة العقلية والمتعة الجمالية معا.
5- أن حوار القرآن يربى العقل على سعة الأفق وحب الأطلاع والتفكر والتأمل , وحسن المحاكمة والاستدلال لمعرفة الحق .
6- أن في الحوار القرآن إبراز حقيقة , ومعرفة مجهول,وكشف مضمون, ودقة تصوير, وبراعة الفكرة
آركان الحوار.
1- طرفا الحوار
2- القضية أو المحور الذي تدور حوله المحاورة
3- الهدف والغرض من الحوار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
1-سورة لقمان: رقم الآية 13
2-سورة الشعراء:رقم الآية 28-23
3- الأنبياء:67 -66
4-الفتياني .تيسير محجوب ,الحوار القرآني في قصة موسى عليه السلام,مركز الكتاب الأكاديمي,الطبعة الأولى,2004م,1424هـ عمان,
5-مقبل,هالا سعيد بحث ,بحث متقدم لنيل درجة الماجستير,تخصص اللغة العربية ,الحوار في مشاهد القرآن الكريم,دراسة دلالية بيانية,كلية الآداب والعلوم الأنسانية , بجامعة الشرق الأوسط 2010,2
أهميته البالغة في الفكر الإسلامي يمكن تجليتها في النقاط التالية:
1-الحوار هو السبيل الأسمى لضبط الاختلاف المذموم (اختلاف التضاد) وتفعيل قيم التعاون والتألف والتكاتف
- الحوار ركيزة أساسية في الدعوة إلى الله تعالى: “فالدعوة في الأساس حوار، والقرآن الكريم كما يقول الكثير من أهل العلم: كتاب حوار بين الحق والباطل، بين أهل الإيمان وأهل الضلال، بين الكلمة الصادقة النافعة والكلمة الخبيثة المنحرفة. وقد سرد لنا الكتاب الكريم في العديد من آياته كيف تم الحوار بين الأنبياء وأقوامهم، وهي في الأساس دعوة إلى الحق وإلى الطريق القويم”
3- . الحوار ضروري لاكتساب العلم وتلقي المعرفة: وهو السبيل الوحيد لذلك في رحلة عمر الإنسان، إذ بدونه لا يمكن أن تنتقل الخبرات من جيل إلى جيل ومن أمة إلى أمة. كما أن الحوار كفيل بأن يجعل الفكر ينبض بالحياة والحركة والتجدد من خلال تواصل عقلين أو مجموعة عقول لإدراك المعلومة أو تمحيصها أو تفهم معانيها
4- الحوار أداة للتفاهم مع الآخرين: ذلك أن الحوار يهدف إلى شرح وجهة نظر وتبيان المعطيات التي تقوم عليها، وفي الوقت نفسه الانفتاح على الآخر، لفهم وجهة نظره ثم للتفاهم معه، ذلك أن التفاهم لا يكون من دون فهم متبادل. والحوار هو الطريق إلى استيعاب المعطيات والوقائع المكونة لمواقف الطرفين المتحاورين ثم إلى تفاهمها
5-يعمل الحوار على إبراز الجوامع المشتركة بين المتحاورين في العقيدة والأخلاق والثقافة(1(
الحوار في التربية الإسلامية التربية
1 – إثارة دافعية المتعلم وتشويقه للعملية التربوية و التعليمية ,ودعم إيجابية المتعلم وتفاعله حتى لا يكون سلبيا ينحصر دوره في السماع و الإنصات فقط (2(
2 – تعويد المتعلم على التعبير عن رأيه في جرأة وشجاعة .
3 – تنمية مهارة الاستمتاع للآخر والقدرة على تحليل أرائه و الموضوعية في قبولها أو رفضها.
4 – تنمية القدرات العقلية على تحصيل الوعي والمعرفة من خلال تنشيط أدوات النظر والتدبر , والتعقل والبينة والبرهان والجدل .
5 – أبراز قيمة حرية التعبير والسماح للآخر بطرح رأيه المخالف إذ من القيم المعرفية في فقهنا الحضاري إنصاف الرأي المخالف ,للتعبير عن نفسه والدفاع عن ذاته مادام صادرا عن تفكير واجتهاد , ويمثل وجهة نظر معتبرة ,قريبة كانت أم بعيدة
6– وتشير الأصول الإسلامية إلى أهمية الحوار,في عملية الاتصال بين الأفراد و الجماعات لبشرية ويبدو ذلك في العديد من الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية ,ومن ذلك حوار الله سبحانه وتعالى مع الملائكة عند خلق آدم عليه السلام (3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
1- حسن الأستاذ الدكتور محمد أحمد ,مفهوم الحوار وأهميته وأسسه المنهجية وضوابطه كوسيلة فعالة للاتصال بين الأفراد والجماعات” القضاة كلية الشريعة /الجامعة الأردنية
2 – عبدالله محمد,أصول التربية الإسلامية,ط 4, 1429هـ_2008م
3 – القرضاوي يوسف ,السنة مصدرا للمعرفة ,القاهرة ,دار الشروق,ط 2, 1418هـ\1998م,صـ218.
آداب الحوار
1- التزام القول الحسن ، وتجنب منهج التحدي والإفحام :
إن من أهم ما يتوجه إليه المُحاور في حوار ، التزام الحُسنى في القول والمجادلة ، ففي محكم التنزيل : { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن }(1)
2 – الالتزام بوقت محدد في الكلام :
ينبغي أن يستقر في ذهن المُحاور ألا يستأثر بالكلام ، ويستطيل في الحديث ، ويسترسل بما يخرج به عن حدود اللباقة والأدب والذوق الرفيع .
3- حسن الاستماع وأدب الإنصات وتجنب المقاطعة :
كما يطلب الالتزام بوقت محدد في الكلام ، وتجنب الاطالة قدر الإمكان ، فيطلب حُسن الاستماع ، واللباقة في الإصغاء ، وعدم قطع حديث المُحاور . وإنّ من الخطأ أن تحصر همَّك في التفكير فيما ستقوله ، ولا تُلقي بالاً لمُحدثك ومُحاورك ، وقد قال الحسن بن علي لابنه ، رضي الله عنهم أجمعين :
(يا بنيّ إذا جالست العلماء ؛ فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول ، وتعلًم حُسْنَ الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ، ولا تقطع على أحد حديثاً – وإن طال – حتى يُمسك ) .
4-تقدير الخصم واحترامه :
ينبغي في مجلس الحوار التأكد على الاحترام المتبادل من الأطراف ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، والاعتراف بمنزلته ومقامه ، فيخاطب بالعبارات اللائقة ، والألقاب المستحقة ، والأساليب المهذبة .
إن تبادل الاحترام يقود إلى قبول الحق ، والبعد عن الهوى ، والانتصار للنفس . أما انتقاص الرجال وتجهيلها فأمر مَعيب مُحرّم(2)
5- حصر المناظرات في مكان محدود :
يذكر أهل العلم أن المُحاورات والجدل ينبغي أن يكون في خلوات محدودة الحضور ؛ قالوا : وذلك أجمع للفكر والفهم ، وأقرب لصفاء الذهن ، وأسلم لحسن القصد ، وإن في حضور الجمع الغفير ما يحرك دواعي الرياء ، والحرص على الغلبة بالحق أو بالباطل .
ومما استدل به على ذلك قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا }(3)
قالوا : لأن الأجواء الجماهيرية والمجتمعات المتكاثرة تُغطي الحق ، وتُشوِّش الفكر ، والجماهير في الغالب فئات غير مختصة ؛ فهي أقرب إلى الغوغائية والتقليد الأعمى ، فَيَلْتَبسُ الحق .
6– الإخلاص :
هذه الخصلة من الأدب متمِّمة لما ذكر من أصل التجرد في طلب الحق ، فعلى المُحاور ان يوطِّن نفسه ، ويُروِّضها على الإخلاص لله في كل ما يأتي وما يذر في ميدان الحوار وحلبته .
ومن أجلى المظاهر في ذلك : أن يدفع عن نفسه حب الظهور والتميُّز على الأقران ، وإظهار البراعة وعمق الثقافة ، والتعالي على النظراء والأنداد . إن قَصْدَ انتزاع الإعجاب والثناء واستجلاب المديح ، مُفسد للأمر صارف عن الغاية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-سورة النحل:آية 125..
2 – عبدالله , . فضيلة الشيخ صالح بن بن حميد , بحث مكة المكرمة أصول الحوار وآدابه في الإسلام .
3-سورة سبأ:رقم الاية 46
تم اختيار آيات السور المتتالية (سورة الأنعام ثم الأعراف))و ((سورة الزمر ثم غافر))
المبحث الأول :آيات الحوار(أهل النار)
1-الأية الأولى سورة الأنعام: رقم الأية27
((وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ))
2-الأية الثانية سورة غافر رقم الأية 50
((وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ ((
1-سورة الزمر رقم الآية 71
(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ))
المبحث الثاني :آيات أهل الجنة(المتمثلة في سورة الأعراف)
1-الأية الأولى سورة الأعراف رقم الآية (44)
(وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ(
2-الأية الثانية سورة الأعراف رقم الآية (50)
(وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ )
-سورة الزمر رقم الآية 73
))وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ((
))وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) (1(
يصور الله تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار ، وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال ، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال ، فعند ذلك يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا . فهذا المشهد له مؤثرات تلمس الوجدان الإنساني و توقظة
فعند النظر إلى قول الحق : {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار}، هنا لا نجد جواباً ، وهذا من عظمة الأداء القرآني ، فهناك أحداث لا تقوى العبارات على أدائها ، ولذلك يحذفها الحق سبحانه وتعالى ليذهب كل سامع في المعنى مذاهبه التي يراها. (2)
فحذف الجواب دائماً ترتيب لفائدة الجواب، ليذهب كل سامع في تصور الذلة إلى ما يذهب.
فهنا أراد القرآن أن يصور هول الوقوف على النار فأطلق الحق (لو) بلا جواب .لتذهب النفس في تصوره كل مذهب ، وذلك أبلغ من ذكره
ثم جاءت ” وقفوا ” بالبناء للمفعول أي وقفهم غيرهم والملاحظ في هذه الآية كثرة استخدام الافعال المبنية المجهول ,ربما دلالة على استحقار الفاعل لذلك حذف الفاعل في أكثر من موضع في الآية الكريمة
فذكر هنا ما يكون من وقفهم على النار وما يترتب عليه من قولهم بصيغة الماضي الواقع في حيز الشرط المستقبل وذلك للإعلام بتحقق وقوعه .
إن كلمة ” إذ ” تقام مقام ” إذا ” إذا أراد المتكلم المبالغة في التكرير والتوكيد وإزالة الشبهة لأن الماضي قد وقع واستقر ، فالتعبير عن المستقبل باللفظ الموضوع للماضي يفيد المبالغة من هذا الاعتبار
.
ثم يذكر الله إنهم يتمنون العودة إلى الدنيا ليستأنفوا الإيمان. والتمني في بعض صوره هو طلب المستحيل غير الممكن للإشعار بأن طالبه يحب أن يكون.
وهم قالوا: {ياليتنا نُرَدُّ} فإن كانوا قالوا هذا تمنياً فهو طلب مستحيل ويتضمن أيضاً وعداً بعد التكذيب بآيات الله، فهل هم قادرون على ذلك؟
لا؛ لأن القرآن الكريم قد قال في الآية التالية: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ}
لقد عُطف بالفاء للدلالة على أن أول شيء يقع حينئذ في قلوبهم ، ويسبق التعبير عنه إلى ألسنتهم هو الندم على ما سلف منهم ، وتمني الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا بالله(3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجع.
1 –القرآن الكريم سورة الأنعام رقم الآية (27(
2 – الدمشقي, ابن كثيرإسماعيل بن عمر بن كثير القرشي .التفسير,المسألة الخامسة دار طيبة سنة النشر: 1422هـ / 2002م رقم عدد الأجزاء: ثمانية أجزاء. ,تفسير سورة الأنعام رقم الآية (27)
3- الشعراوي,محمد متولي,تفسير نداء الايمان,تفسير سورة الأنعام رقم الآية (27)
))وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ))كأنه واقع لما تقرأ القرآن كأنك أمام هذا المشهد فأتي بالفعل المضارع على أنه ماض قد وقع لأن وقوع هذا الشيء الذي تقرأ عنه متحقق كأنه يقول انتبه كأنك الآن في ذلك المشهد(1(
وقد استعار القرآن الكريم لفظ التعبير عن المستقبل بصيغة الماضي إشعارا بتحقق وقوع الحدث حتما ؛ وتصويره للذهن بصورته الواقعية وظروفها المادية والمعنوية . وأورد البيان الرباني ” لو ” شرطية وأغفل ذكر جوابها لتذهب نفسك عن قراءتها كل مذهب في ارتقاب أمر الأهوال ، فصار حذف جوابها أبلغ في إدخال الهول على النفس البشرية ، وتقديره : ( ولو ترى إذْ وقفوا على النار …) ” لرأيت هولا رعيبا لا يحيط به نطاق التعبير “)2(
وهو على وجه المبالغة وهي الدلالة على كبر المعنى على جهة التغيير عن أصل اللغة لتلك الإبانةومنه حذف الأجوبة،
نحو حذف جواب لو في قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }(5) وجواب لو: رأيت أمراً عظيماً
وجاء الحذف لغاية بلاغية تتمثل في تهويل ما سيرى الكافرون واستعظامه. وللغاية البلاغية ذاتها حُذِف جواب ”
ثم استخدم أداة التوكيد في ((إنهم ))الدالة على توكيد الكذب ونسبه لأهل النيران وعدم تصديق بآيات الله وتكذيبها
تكرر حرف النون في الآية أكثر من خمسة عشر مرة في الآية الكريمة .مصحوبة بمؤثرات تناسب جوها، وتتناسق مع إيقاعها وصورها وظلالها
لاشك في تأكيد معنى استخدام (ليت )الدالة على التمني والرجوع إلى حياة الدنيا ورد الله عليهم لو ردوا لهذه الحياة لعادوا لم كانوا عليه من قبل ,دلالة على عدم توبتهم واستمرارهم على الكفر والجحود بنعمة الله
لا تخلو الآية من السجع إذ تقوم الاية على الفواصل المسجوعة التى لها تأثيرها في أبراز المعنى بوضوح (من المؤمنين ,لكاذبون ).
كذلك الإيجازوهو منتهى البلاغة ، حيث تدل الألفاظ القليلة على المعاني العظيمة والمركزة وذلك للاختصار والإيجاز .,والمتمثلة في )وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَانهوا عنه )
أيضا احتوت الآية على التكرار ويكثر في القرآن عامة لتأكيد المعنى ، ومن الكلمات المتكررة (ولو)
إضافة إلى الالتفات وهو الانتقال من ضمير إلى ضمير ، الانتقال من ضمير المخاطب إلى المتكلم إلى الغائب ، مثل قوله تعالى : { ((وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ))
والملاحظ في الآية التنوع والمراوحة بين الأساليب الخبرية والإنشائية
ومن خلال التحليل الأدبي نصل أن غرض حوار أهل النار في هذه الآية ,هو الندم والتحسر على ما بدر منهم ,رغم أصرارهم على تكذيب الرسل والبينات وذلك كناية عن عنادهم وإصرارهم على موقفهم الأليم.
وطرفا الحوار هما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
1–مسألة: الجزء السابع تفسير المنار . محمد رشيد رضا الهيئة المصرية للكتاب عدد الأجزاء: اثنا عشر جزءا
2-اليافعي , احمد عمر نماذج التصوير الحسي في القران , بحث جامعة ام القرى ,درجة الماجستير
3–لاشين,د عبد الفتاح ,المعاني في ضوء أساليب في القرآن الكريم,دار الفكر العربي,كلية الدراسات الأسلامية 1424هـ2003م
4- سورة [الأنعام: رقم الأية{27]
قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ [(1)
تصور لنا الآية حال تمني أهل النار المفر والخروج والتخفيف من لهيب النار,حيث يطلبون من خزنة النار أن يدعوا الله أن يخفف ما حل بهم من عذاب وجحيم ,فهذا تصويرا مرعبا بحال اهل النار المخيف , وكيفية لجوؤهم لخزنة جهنم وذلك للاستغاثة بهم .
بعد ذلك يدور الحوار الصريح فيما بينهم, بعد طلب أهل جهنم لخزنتها وقوامها ،و استغاثتهم بهم من عظيم ما هم فيه من البلاء ،كناية عن حاجتهم واضطرابهم رجاء أن يجدوا من عندهم فرجاً , حيث يتساءل الخزنة معهم بأسلوب استفهام تعجبي (أو لم تأتيكم رسلكم بالبينات ) والمعنى هوعلى أن فعل الإتيان كان في الزمن الماضي فهو مستفاد من لم النافية في الماضي (
من العرب من يقول اللذون على أنه جميع مسلم معرب ، ومن قال : ( الذين ) في الرفع بناه كما كان في الواحد مبنياً . وقال الأخفش : ضمت النون إلى الذي فأشبه خمسة عشر فبني على الفتح .(2)
الأمر في قوله فادعوا مستعمل في الإباحة أو في التسوية ، وفيه تنبيه على خطأ السائلين في سؤالهم .
وزيادة فعل الكون في أولم تك تأتيكم للدلالة على أن مجيء الرسل إلى الأمم أمر متقرر محقق ، لما يدل عليه فعل الكون من الوجود بمعنى التحقق
والضلال : الضلال على وزن صيغة المبالغة (فعال) هو الضياع ، وأصله : خطأ الطريق
والبينات : هي الحجج الواضحة والدعوات الصريحة إلى اتباع الهدى . فلم يسعهم إلا الاعتراف بمجيء الرسل إليهم بالبينات فقالوا : بلى ، فرد عليهم خزنة جهنم بالتنصل من أن يدعوا الله بذلك ، إلى إيكال أمرهم إلى أنفسهم بقولهم فادعوا تفريعا على اعترافهم بمجيء الرسل إليهم بالبينات
خزنة : جمع خازن ، وهو الحافظ لما في المكان من مال أو عروض . و خزنة جهنم هم الملائكة الموكلون بما تحويه من النار فهنا جهنم إظهارا في مقام الإضمار إذ لا يحسن إضافة خزنة إلى النار,فلما ظنو أن الخزنة أرجى للاستجابة سألوا التخفيف يوما من أزمنة العذاب وهو أنفع لهم
والسبب في جزم يخفف بعد الأمر بالدعاء ، ولعله بتقدير لام الأمر وذلك لكثرة الاستعمال .
ومن أهل العربية من يجعله جزما في جواب الطلب وذلك لتحقيق التسبب . فيكون المعنى فيه إيذان بأن الذين في النار واثقون بأن خزنة جهنم إذا دعوا الله استجاب لهم .وحقق مطلبهم(3)
يخفف معنى ينقص فنصب يوما ،أو هو على تقدير مضاف ، أي عذاب يوم ، أي مقدار يوم ، وانتصب يوما على المفعول به ليخفف ,وذلك اليوم كناية عن القلة ، أي يخفف عنا ولو زمنا قليلا .
كثرة الاستفهام الانكاري ,الدال على تعجب الخزنة لحال اهل النار ,رغم وجود الرسل والبينات لهم .
فجواب خزنة جهنم لآهل النار سؤال خرج عن معناه إلى طريق الاستفهام التقريري والمعنى والمقصد منه: إظهار سوء صنيعهم بأنفسهم إذ لم يتبعوا الرسل حتى وقعوا في هذا العذاب ، وتنديمهم على ما أضاعوه في حياتهم الدنيا من وسائل النجاة من العقاب .
وهو كلام جامع يتضمن التوبيخ ، والتنديم ، والتحسير ، وبيان سبب تجنب الدعاء لهم ، وتذكيرهم بأن الرسل كانت تحذرهم من الخلود في العذاب .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
(1) القرآن الكريم (سورة غافر) رقم الآية (50)
(2) القرطبي ., محمد عبدالرحمن محمد ملخص عن كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان سورة» غافر رقم الأية 49
(3)-ابن عاشور ,محمد الطاهر,كتاب التحرير والتنوير المسألة الخامسة سورة غافر رقم الجزء25 عدد الأجزاء15صـ224
والواو في قوله أولم تك تأتيكم رسلكم .هي واو العطف عطف بها حوار خزنة جهنم على حوار الذين في النار من قبيل طريقة عطف المتكلم كلاما على كلام صدر من المخاطب
وذلك ليفيد معنى الإيماء إلى أن حقه أن يكون من بقية كلامه وأن لا يغفله ، وهو ما يلقب بعطف التلقين فادعوا على ذلك ظاهر على كلا التقديرين .
.
وهمزة الاستفهام مقدمة من التأخير على التقديرين ، وذلك لوجوب صدارتها, ثم خصص و حصر دعاء الكافرين أنه في ظلال مهما بلغ وكثر
وهنا جملة (قالوا بلى ))استئنافية لا محل لها من الاعراب وهو التعريض كما يسميه البلاغيون فهو أن يؤتي في أثنا الكلام أو بين كلامين متصلين في المعنى ,بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب لفائدة معينة وهنا اثبات مجيء الرسل والبينات (1)
وجملة وما دعاء الكافرين إلا في ضلال يجوز أن تكون من كلام خزنة جهنم تذييلا لكلامهم يبين أن قولهم فادعوا مستعمل في التنبيه على الخطأ ، أي دعاؤكم لم ينفعكم لأن دعاء الكافرين في ضلال والواو اعتراضية ، ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى تذييلا واعتراضا . (2)
.
وفي الآية وضع الظاهر موضع المضمر: في قوله تعالى «لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ» .(3)
حيث وضع جهنم موضع الضمير،وذلك للتهويل والتفظيع، أو لبيان محلهم فيها، بأن تكون جهنم أبعد دركات النار، وفيها الكفرة
كان السؤال بمعني الرجاء في حصول الشيء فيأتي دائماً متعلقاً بطلب ظاهر في سياق الآية
اشتملت الآية على الإيغال وهو ختم الكلام بما يفيد فائدة يتم المعنى ,وهنا الفائدة هي الترهيب والتوكيد (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (
أيضا التكرار وتكثر في الآية (قالوا) تكررت أربع مرات للتعجب بين الطرفين وذلك لاستمرارية الحوار ومحاولة الوصول إلى نتيجة مرضية
تم التذييل في نهاية الآية.وهو تعقيب الجملة بجملة أخرى مستقلة في مكوناتها تشتمل على معناها التاكيد والتقوية للمعنى المراد به وهنا جاري مجرى الأمثال في فشو الاستعمال (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (
والملاحظ هنا الاكثار من الأساليب الإنشائية.وذلك لآن المقام مقام طلب ومساعدة ونجاة حيث تتنوع ,بين أسلوب أمر تارة , وأسلوب استفهام تارة آخرى ,أيضا تكثر الأفعال المضارعة في الآية وهي الدالة على الاستمرار
ومن خلال التحليل الأدبي لهذه الآية ,تبين أن غرض الحوار هو طلب المساعدة والنجاة,ثم سرعان ما يستجيب المحاور الآخر بالسؤال يحمل في طياته معاني التعجب و الانكار ,غرضه التحقير ,والنتيجة هو الظلال والفشل في حصول ما تمنوا وما طلبوا من نجاة
وطرفا الحوار هما .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
1–لاشين,د عبد الفتاح ,المعاني في ضوء أساليب في القرآن الكريم,دار الفكر العربي,كلية الدراسات الأسلامية 1424هـ2003م
2-زورين,محمد محمود عبود,,, عن الدعاء والمعاني والصيغ والانواع ,دراسة قرآنية سلسلة المعارف الاسلامية ,اصدارات المركز بالمتابعة والتقويم والاشراف العلمي .
3–كحلي د,احمد,موسوعة أعراب القرآن الكريم,اللغة العربية,وفهم القرآن الكريم (سورة غافر(
(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) (1)
الصورة هنا تصف حال الأشقياء الكفار، كيف يساقون إلى النار سوقاً عنيفاً، بزجر وتهديد ووعيد قوله تبارك وتعالى: {حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها} أي بمجرد وصولهم إليها فتحت لهم أبوابها سريعاً لتعجل لهم العقوبة، ثم يقول لهم خزنتها من الزبانية، الذين هم غلاظ الأخلاق شداد القوى، على وجه التقريع
والتوبيخ والتنكيل:
{ألم يأتكم رسل منكم}؟ أي من جنسكم تتمكنون من مخاطبتهم والأخذ عنهم، {يتلون عليكم آيات ربكم} أي يقيمون عليكم الحجج والبراهين على صحة ما دعوكم إليه، {وينذرونكم لقاء يومكم هذا} أي ويحذرونكم من شر هذا اليوم، فيقول الكفار لهم: {بلى} أي قد جاءونا وأنذرونا وأقاموا علينا الحجج والبراهين، {ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} ولكن كذبناهم وخالفناهم لما سبق لنا من الشقوة.
{قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها} لم يسند هذا القول إلى قائل معين بل أطلقه ليدل على أن الكون شاهد عليهم بأنهم يستحقون ما هم فيه، بما حكم العدل الخبير عليهم به، ولهذا قال جلَّ وعلا: {قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها} أي ماكثين فيها لا خروج لكم منها ولا زوال لكم عنها، {فبئس مثوى المتكبرين} أي فبئس المصير أداة ذم , وبئس المقيل لكم بسبب تكبركم في الدنيا وإبائكم عن اتباع الحق، فبئس الحال وبئس المآل. (2)
وصفتهم في الدخول زمرا اي أفواجا متفرقة بعضها في أثر بعض على تفاوت أقدامهم في الضلالة والشرارة.
زمرة,اسم جمع اشتقاقه من الزمر وزنه فعلة بضمّ فسكون، ووزن زمر فعل بضمّ ففتح., وهو الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه، أو من قولهم: شاة زمرة قليلة الشعر ورجل زمر قليل المروءة وهي الجمع القليل
حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها ليدخلوها وحتى وهي التي تحكي بعدها الجملة.
(خزنتها) ، جمع خازن، اسم فاعل من الثلاثيّ خزن، وزنه فاعل، ووزن خزنة فعلة بثلاث فتحات
يقال ادخلوا أبواب جهنم ولا يقال ادخلوا جهنم؟
لأن العذاب يصل إليهم من الباب ، فالباب من حين ما يفتح يفجرهم بعذاب مهيب وصوت مفزع فيُقال ادخلوا الأبواب فما ينتظركم في النار أعظم مما يأتيكم في الباب. أما المتقين ما قال ادخلوا أبوابها لأن المؤمنين لا يجدون النعيم عند الباب ، النعيم في الداخل ، الغرف والدور والقصور ، أما الكفار (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ ) لأنه عند الباب يبدأ العذاب ، عذاب لا يطاق.(3)
قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها أبهم القائل لتهويل ما يقال لهم. فبئس مثوى مكان المتكبرين اللام فيه للجنس والمخصوص بالذم سبق ذكره، ولا ينافي إشعاره بأن مثواهم في النار لتكبرهم عن الحق أن يكون دخولهم فيها لأن كلمة العذاب حقت عليهم، فإن تكبرهم وسائر مقابحهم مسببة عنه كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل [ ص: 50 ] من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار
الآية وضحت إعجاز بلاغي وبيان علمي وتحليل نفسي دقيق ومبهر ,وهذه واحدة من تلك المشاهد من مشاهد يوم القيامة و كيفية نيل الجزاء الاخروي
أن الجملة الرابطة بين وصول أصحاب جهنم إلى أبواب جهنم (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا ) وفتح الأبواب (فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) جاء دون ذكر حرف ( الواو) ، ولعدم ذكر (الواو) هنا إعجاز بياني وعلمي عظيم يصف لنا بدقة متناهية إعجاز هذا المشهد ، بحيث من الطبيعي جدا أن لا يحضر حرف ( الواو ) هنا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1–سورة الزمر رقم الآية 71
2- البيضاوي, ناصر الدين أبي الخيرعبد الله بن عمر بن علي تفسير البيضاوي , سورة الزمر,مسألة الجزء الخامس دار إحياء التراث العربي عدد الأجزاء: خمسة أجزاء
3- الخضيري, د.محمد بن عبد العزيز. درة الأترجة . تفسير سورة الزمر / /
فجهنم لكونها تمثل كارثة من الكوارث العظمى وفزع عظيم وصاعقة ستنزل على أهل الكفر والشرك جزاء كفرهم واستكبارهم على الحق ، لا تحتاج أن تُمهِل الكافر!! بل دوماً تأخذ الكوارث والصواعق الإنسان على حين غرة .
ومن أجل ذلك وُصِفت الكارثة ( بالفاجعة) ، فهي تفجع أهلها على غير موعد ولا انتظار, ( بجهنم) ونار جهنم ، فهي الصاعقة العظمى والفزع الأكبر لأصحاب الكفر الذين سيخلدون فيها أبد الآبدين ، لذلك فجهنم لم تُمهِلهم وقوفاً عند أبوابها ،فما كاد يصل الكافر إلى مشارف جهنم حتى فَتحَت تلك الأخيرة أبوابها في تعطش لإحلال العقاب بأهل الكفر والعصيان ، وفي ذلك قال أهل التفسير : (وقوله تبارك وتعالى ” حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ” أي بمجرد وصولهم إليها فتحت لهم أبوابها سريعاً لتعجل لهم العقوبة.
فعدم ذكر حرف ( الواو ) يهدف إلى خلق مشهد فظيع مفاجئ لأهل الكفر والعصيان في تصوير ذلك المشهد .
فأصحاب جهنم مكبلون بالسلاسل يساقون إلى أبواب جهنم سوقا عنيفا بزجر وتهديد ووعيد ،حالتهم النفسية في رعب عظيم وفزع أعظم ، وهم يحاولون الرجوع والفكاك ، ولكن هيهات أين المفر!! ..
وفجأة دون مقدمات تُفتَح أبواب جهنم ، فتحل الصاعقة و الصدمة المفاجأة بهم ، كلها حالات توافق وفاقاً تاماً نوع الجزاء ونوع العقوبة المستحقة للمشركين .تتجلى في حضور الحالات التالية :
الفزع الرعب ثم ــــــــــ حضور عنصر المباغتة والمفاجأة .ثم ـــــــــــــ الكارثة . ثم ـــــــــــــ الصدمة
والملاحظ في هذا المشهد أن الخطاب جاء لأهل الكفر بالدخول أولا إلى (أبواب جهنم) في قوله تعالى
(ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ)، ولم تأتي الآية مثلا بصيغة ( ادخلوا جهنم خالدين فيها )
فلماذا ذكرت هنا ( أبواب جهنم) ولم تذكر( جهنم ) مباشرة
إن الإجابة يحمل معه إعجازاً عظيماً ومبهراً يوافق حالة تصعيد الهلع والفزع الأعظم المرتقب من عذاب جهنم ، حيث نلاحظ أن حالة تصعيد الفزع تلك ابتدأت بحضور (عنصر المباغتة والمفاجأة ) بفتح أبواب جهنم مباشرة
و بدخول أهل الكفر من ( أبواب جهنم ) أولاً قبل وصولهم إلى مقاعدهم من النار، فذلك الوقت وتلك المسافات التي يقطعها كل كافر داخل تلك الأبواب ( باب جهنم جزء من عذاب جهنم وكل قد عرف بابه ) حتى يصل إلى موقعه القار داخل قاع جهنم ، يحمل الكثير والكثير من عناصر تصعيد وثيرة الفزع والهلع من العذاب الخالد المقترب .
ولتقريب الصورة نلاحظ هذا المشهد وهو تشبيهاً لا تطابقاً يلقي الضوء على عنصر تصعيد الفزع
بالنسبة لذكر وحذف الواو في كلمة (فتحت) و (وفتحت) حذف الواو مع النار وهذا نوع من اذلال الكافرين والمضي في عقابهم لأن الذين كفروا عندما يساقون الى جهنم كأنهم ينتظرون ثم تفتح لهم الأبواب عندما يصلون اليها وهم في خوف ولكن تفتح الأبواب عند وصولهم وتفاجئهم النار بينما المؤمنون يرون أبواب الجنة مفتحة لهم من بعيد ويشمون رائحتها من بعد وائحتها تشم من مسافة 500 عام وهذا نوع من الاكرام لهم لأن الأبواب مفتحة لهم قبل وصولهم اليها فيكونون في حالة اطمئنان في مسيرهم الى الجنة.
طرفا الحوار هما أهل النار,مع خزنة جهنم
[ ومن هنا نلخص الفكرة , وهي التي تدور حول الحوار الذي يدور حول أهل الجنة و خزنتها, ثم تساؤل الخزنة وتعجبهم من حال أهل النار , رغم وجود الرسل والبينات ,لكنهم استكبروا واختاروا النار و بئس المصير – النعيمي, للدكتور حسام سعيد,بحث علمي عن لمسات بيانية في سورة الزمر ]
))وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ – الزمر 73 ))
هنا تصوير الجنة و أبوابها بأنها مفتوحة، ما هي مغلّقة، لأن من عادة الكريم أن يفتح بابه لمن يريد أن يكرمهم قبل أن يصلوا إلى بيته ليروا غاية الإكرام ، لكن إذا أغلقوا الباب دل ذلك على الإهانة.
فإن قلت قال في الآية السابقة (حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) قلنا نعم جاؤوها عند المجيء تفتح فصار فُتِحت جواب (إذا) وهنا لم يأتِ بالجواب بل جعله مقدراً (حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) حصل لهم من السعادة والسرور والطيب واللذة والحبور والنعمة والفضل والمنزلة والدرجة شيء لا يوصف ولا يقادر.
فالجملة الرابطة بين وصول أصحاب الجنة إلى الجنة (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا) وفتح الأبواب (وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) جاء مع ذكر حرف (الواو) ، فما المعنى وما المقصود من هذا الفرق بحضور حرف ( الواو ) هنا ؟!
فهذا مشهد من مشاهد الفوز العظيم ، حيث يصف صورة استعداد أهل الجنة دخولهم إلى نعيمها الخالد ، فهل رأيتم مرة عرسا دون استعدادات !! فما بالك بعرس الجنة ، القائم عليه ملائكة الرحمن ، برعاية من الحنان المنان الله مالك الملك رب السموات والأرض ونعيم الجنان .
والمعلوم أن لكل أداة في اللغة وظيفة تشغلها في التركيب اللغوي، ومعنى تؤديه في السياق0 [ ووظيفة الأدوات جميعًا هي الربط؛ فكما تكون الفاء في جواب( إذا ) رابطة له يشرطها، كذلك تكون( الواو ) رابطة لجواب( حتى إذا )0 والشواهد اللغوية هي التي تحكم بصحة ذلك، لا القواعد النحوية0. – كحلي د,احمد,موسوعة أعراب القرآن الكريم,اللغة العربية,وفهم القرآن الكريم (سورة الزمر ) رقم الآية 73 ]
فوظيفة( الواو ) – كوظيفة أي أداة- هي الربط0 أما معناها الذي تؤديه في التركيب فلا يمكن معرفته إلا من السياق0 ومعنى( الواو ) في الآية هو معنى الجمع بين الشرط والجواب في الحدوث0 فمجيء أهل الجنة إلى الجنة، وفتح أبوابها لهم تمَّ حدوثهما في وقت واحد0
ومن هنا ندرك أن حضور أو غياب حرف من حروف القرآن الكريم صنع إعجازا عظيما في الآية الكريمة
أن حرف ( الواو ) يمثل فاعلية ربط بين معاني ودلالات الجمل والعبارات المستهدفة في الحديث أو في (الجملة- حيث ظهر حرف ( الواو) في مشهد أصحاب الجنة وكانت كلمة ( وفتحت )، أي هناك رابط تبادلي بين أصحاب النعيم وذلك النعيم ، فالجنة احتوت ( فُتِحَت ) للمؤمنين برابط تبادلي ( راضية مرضية ) ادخلوها بسلام آمنين .
أما في حالة أصحاب النار(السابقة ) فلا يوجد رابط تبادلي مثل أهل الجنة بل (فائقية تبادلية) أي رغما على أنوفهم يدخلون جهنم والتبادلية هي مع أفعالهم التي فعلوها ، فاختف بذلك القصد باختفاء حرف الواو.
والسر في حذف الجواب في آية أهل الجنة وذكره في آية أهل النار يقال هذا أبلغ في الموضعين فإن الملائكة تسوق أهل النار إليها وأبوابها مغلقة حتى إذا وصلوا إليها فتحت في وجوههم فيفجأهم العذاب بغتة فحين انتهوا إليها فتحت أبوابها بلا مهلة فإن هذا شأن الجزاء المرتب على الشرط أن يكون عقيبه فإنها دار الإهانة والخزى فلم يستأذن لهم في دخولها ويطلب إلى خزنتها أن يمكنوهم من الدخول
أما الجنة فإنها دار الله ودار كرامته ومحل خواصه وأوليائه فإذا انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أن يفتحها لهم ويستشفعون إليه بأولي العزم من رسله وكلهم يتأخر عن ذلك حتى تقع الدلالة على خاتمهم وسيدهم وأفضلهم فيقول أنا لها فيأتي إلى تحت العرش ويخر ساجدا لربه فيدعوه ما شاء الله أن يدعوه ثم يأذن له في رفع رأسه وان يسأله حاجته فيشفع إليه سبحانه في فتح ابوابها فيشفعه ويفتحها تعظيما لخطرها وإظهارا لمنزلة رسوله وكرامته عليه وإن مثل هذه الدار هي دار ملك الملوك ورب العالمين إنما يدخل إليها بعد تلك الأهوال العظيمة التي أولها من حين عقل العبد في هذه الدار إلى أن انتهى إليها وما ركبه من الأطباق طبقا بعد طبق وقاساه من الشدائد شدة بعد شدة حتى أذن الله تعالى لخاتم أنبيائه ورسله وأحب خلقه إليه أن يشفع إليه في فتحها لهم وهذا أبلغ وأعظم في تمام النعمة وحصول الفرح والسرور مما يقدر بخلاف ذلك لئلا يتوهم الجاهل أنها بمنزلة الخان الذي يدخله من شاء فجنة الله غالية بين الناس وبينها من العقبات والمفاوز والأخطار مالا تنال إلا به فما لمن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ولهذه الدار فليعد العدة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالغرض في حذف الجواب ، إذ كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهى ، فجعل الحذف دليلا على ضيق الكلام عن وصف ما يشاهدونه ، وتركت النفوس تقدر ما شأنه ، ولا يبلغ مع ذلك كله ما هنالك ، لقوله (عليه الصلاة والسلام) : فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر”.\
ومن الناحية البيانية أن جواب الشرط في حال جهنم (إذا جاؤوها) مذكور وهو: (فتحت أبوابها)، أما في حال الجنة فلا يوجد جواب للشرط لأنه يضيق ذكر النعمة التي سيجدها المؤمنون في الجنة فكل ما يقال في اللغة يضيق بما في الجنة
وهي الواو الحالية أي وقد فتحت أبوابها أي وهي في حالة انفتاح أي سيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة زمراً حتى اذا جاؤها حال كونها مفتّحة ابوابها. فالنار اذن ابوابها موصدة حتى يساق اليها الكافرون فتفتح فيتفاجؤن بها وهذا نوع من الاذلال لهم واخافتهم وارعابهم بما سيجدون وراء الأبواب أما الجنة فأبوابها مفتوحة وهذا نوع من التكريم للمؤمنين.
[ الظاهر أن قوله تعالى: (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا) … عطف على (فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) وجواب (إذا) محذوف مقدر بعد (خالدين) للإيذان بأن لهم حينئذ من فنون الكرامات ما لا يحيط به نطاق العبارات كأنه قيل: إذا جاؤها مفتحة لهم أبوابها وقال لهم خزنتها (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) أي من جميع المكاره والآلام وهو يحتمل الإخبار والإنشاء. – الشعراوي,محمد متولي,تفسير نداء الايمان,تفسير سورة الزمر رقم الآية (73 D(
والفرق الدقيق .قال في النار { فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } وفي الجنة { وَفُتِحَتْ } بالواو، إشارة إلى أن أهل النار، بمجرد وصولهم إليها، فتحت لهم أبوابها من غير انتظار ولا إمهال ، وليكون فتحها في وجوههم، وعلى وصولهم، أعظم لحرها، وأشد لعذابها. وأما الجنة، فإنها الدار العالية الغالية، التي لا يوصل إليها ولا ينالها كل أحد، إلا من أتى بالوسائل الموصلة إليها، ومع ذلك، فيحتاجون لدخولها لشفاعة أكرم الشفعاء عليه، فلم تفتح لهم بمجرد ما وصلوا إليها، بل يستشفعون إلى اللّه بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، حتى يشفع، فيشفعه اللّه تعالى.
والخطاب هنا جاء لأهل التقوى والإيمان بالدخول مباشرة إلى جنات النعيم في قوله (فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) أي ادخلوا نعيم الجنة خالدين فيها ، على العكس المشهد الخاص بأهل الجحيم بالدخول أولا إلى أبواب جهنم ( ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ)
فلِمَ لم تذكر هنا لفظ (الأبواب) وجاء المعنى بالدخول مباشرة إلى ( جنات النعيم ) ؟
أن الجواب واضح وميسر لحمله دلالات اعجازية عظيمة ومبهرة ، فمن سمة النعيم وصفاته أن يكون شاسعاً مفتوحاً للعيان لا تعكره حواجز أو موانع أو أبواب توصد ، ولكي نفهم هذا المعنى فنرى مثلا كيف يقيم أي شخص على إقامة بستانه الخاص في حديقة منزله أو قصره ، فهو يحرص أن تكون مساحة بستانه ذا أفق واسع لا يعكر صفو جمالها ولا سعة افقها أي أبواب توصد ، أو حواجز تَمنع الاستمتاع بكل مساحة البستان وجماله وخضرته ، حتى إذا فتح صاحب الدار باب بيته أو قصره ففورا سيرى أمامه منظر ذلك البستان بأبعاده المتنامية وأفقه الجميل ، فيسرح ببصره مغتبطاً برؤية تلك الخضرة وذلك الجمال دون حواجز أو أبواب تعوق رؤية ذلك الجمال صورت هذه الآيات الكريمات, حالتين متقابلتين الحالة الأولى تتمثل في تصوير حالة أهل الجنة وما ينعمون به من نعيم مقيم، والحالة الثانية تتمثل في تصوير حالة أهل النار وما يعانون فيها من عذاب أليم في النيران..
وفيه من تصوير الحالتين بجمال المقابلة البديعة بين الحالتين التي تبرز المعنى وتوضحه ويبرز بجمال هذا التصوير لما فيه من حيوية وحركة كما يبرز بجمال الأسلوب القرآني وبلاغته في جذب الانتباه وتحريك الوجدان، وفي قوله نادى أصحاب الجنة أصحاب النار نجد بلاغة القرآن في لفظ نادى فهو فعل ماض جاء في زمن المستقبل ليفيد التحقق والتثبت، فالتعبير عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيه على تحقق وقوعه•
أما الإعجاز يكمل في الدقة في وصف حالة أصحاب الجنة وأصحاب النار واستعدادهم للدخول إلى جنات النعيم أو عذاب الجحيم ، وكما ورد في المشهد الأول أهل النار) فان هذا المشهد الثاني( أهل الجنة )جاء ليوافق توافقاً مبهراً
الفرق بين الرد على الحوارين
)- أصحاب جهنم) : (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ))
(أصحاب الجنة ): وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ))
والفرق بين مشهد أهل النار واهل الجنة تَمثّل في حضور أو غياب حرف (الواو ) عند الآية الكريمة التي تصف مشهد أصحاب جهنم (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) و الأخرى التي تصف مشهد أصحاب الجنة ( حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) ، حيث صنع تواجد حرف الواو مع لفظ (فُتِحَتْ) من عدمه في كلا المشهدين إعجازا عظيماً مبهراً ، يصف لنا في دقة متناهية الفرق بين المشهدين بما يوافق حال أصحاب الجنة مقارنة مع حال أصحاب جهنم ،:
أن التصوير البلاغي للمعذبين جاء مملوءا بالفنون البلاغية، كما اتسم بجمال الأسلوب وبراعة التعبير
كذلك التفخيم والإعظام :ويؤثر ذلك في المواضع التي يراد بها التعجب والتهويل فترك النفس تحول في الأشياء المكتفية بالحال عن ذكرها .
إنما يحسن الحذف لقوة الدلالة عليه ، أو يقصد به تعديد الأشياء فيكون في تعدادها طول وسآمة كما في قوله تعالى
{ حتى إذ جاؤوها وفتحت أبوابها –الزمر 71 } ، فحذف الجواب ، إذ كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهى ، وتركت النفوس تقدر ما شاءته ولا تبلغ مع ذلك كله ما هناك ،
ذكر ربهم مع الذين اتقوا ولم يذكرها مع الذين كفروا فالذين كفروا عندما يساقون الى النار فهؤلاء لا يستحقون أن يرد معهم اسم الله سبحانه وتعالى فضلاً عن أن يذكر اسم الرب (ربهم) الذي يعني المربي والرحيم العطوف الذي يرعى عباده فلا تنسجم كلمة ربهم هنا مع سوق الكافرين الى جهنم وعدم ذكر كلمة ربهم مع الذين كفروا هو لسببين
الأول أنهم يساقون الى النار وثانياً أنهم لا يستحقون ان تذكر كلمة ربهم معهم فلا نقول وسيق الذين كفروا ربهم الى جهنم لأن كلمة الرب هنا :ان فيها نوع من التكريم والواقع أنه كما قال تعالى (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا)
لكن مع المؤمنين نقول (وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة) ذكر كلمة ربهم هنا تنسجم مع الذين اتقوا. وفعل كفر يتعدّى بنفسه أو بحرف الجر وهنا لم يتعدى الفعل وهذا يدل على اطلاق الذين كفروا بدون تحديد ما الذي كفروا به لتدل على أن الكفر مطلق فهم كفروا بالله وبالايمان وبالرسل وبكل ما يستتبع الايمان.. (وسيق الذين كفروا الى جهنم زمراً) لم تذكر كلمة (ربهم) لأن الربوبية رعاية ورحمة ولا تنسجم مع السوق للعذاب ولا يراد لهم أن يكونا قريبين من ربهم لكنها منسجمة مع سوق الذين اتقوا ربهم الى الجنة فهي في هذه الحالة مطلوبة ومنسجمة. كلمة الرب فيها نوع من التكريم فلا تذكر مع الكافرين لكن مع المؤمنين تكون مطمئنة ومحببة اليهم (وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة زمرا
ملاحظة السجع في الآيتين ، إذ تقوم كثير من آيات القرآن على الفواصل المسجوعة .ثم لم تخلوا من المقابلة الخفيفة اللطيفة التي أبرزت المعنى ووضعته أمامنا موضع المقارنة والموازية
)- أصحاب جهنم) : (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ))) -أصحاب الجنة ) : وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ))
التكرار ، ويكثر في القرآن لتأكيد المعنى ، (وسيق)
استخدام الالتفات ، وهو الانتقال من ضمير إلى ضمير للفت الانتباه وشد الذهن لما سيقال
التنوع و المراوحة بين الأساليب الخبرية والإنشائية ,ثم التذييل في نهاية الآية.[ وهو تعقيب الجملة بجملة أخرى مستقلة في مكوناتها تشتمل على معناها التاكيد والتقوية للمعنى المراد به وهنا جاري مجرى الأمثال في فشو الاستعمال (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ- ( د لاشين, عبد الفتاح ,المعاني في ضوء أساليب في القرآن الكريم,دار الفكر العربي,كلية الدراسات الأسلامية 1424هـ2003م ]
{ وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ – الأعراف 44 }
تصور الآية مشهدا وهو ,عندما يستقر أهل الجنّة في مساكنهم وقصورهم وينظرون إلى ما حولهم بحثاً عن أصدقائهم ومعارفهم لا يجدون أفراداً منهم ويدركون أنهم صاروا من أهل النار وحرموا الورود إلى الجنّة وبذلك يتحاورون مع أهل النار.
[ فتبين لنا الآية كيف يرى أهل الجنة أهل النار، وهذا الترائي من ضمن النعيم ومن ضمن العذاب الأليم ، فحين يرى المؤمن بمنهج الله من عاداه وقهره وآذاه وهو في النار فهذا من تمام اللذة. والآخر حين يرى مخالفه في الجنة فهذا أيضاً من تمام العذاب. إذن لابد أن يتراءوا ، ولذلك يحدث الحوار، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار -الشعراوي ,محمد المتولى كتاب تفسير نداء الايمان من كتاب اهوال يوم القيام ]
(ينادي)، فيه إعلال بالقلب، أصله نادي- بالياء في آخره- جاءت الياء متحرّكة بعد فتح قلبت ألفا.
فيبدأ الحوار بأنهم معترفين بأنهم وجدوا ما وعدهم به الله حقاً وصدقاً، وأن الحق قد وهبهم هذه الجنة. فهل – يا أهل النار – وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟
هنا خلافاً بين الحوارين والأسلوبين مع أن السياق المنطقي واحد؛ فأهل الجنة يقولون: ” قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ” ، ولم يأت بالكاف في كلمة ما وعد (الثانية) بل قال: ” فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ”
إنه قال سبحانه: ” ما وعد ” فقط، ولم يقل ما وعدكم كما قال: (ما وعدنا) لأن المراد أن يلفتهم إلى مطلق الوعد، وليس الخاص بهم فقط، بل وأيضاً الخاص بالمقابل، وهكذا يتحقق الوعد المطلق لله. فأهل الجنة بإيمانهم وأعمالهم في الجنة فضلاً من الله، وأهل النار بكفرهم وعصيانهم عقاباً من الله.
فيستمر الحوار فيجيب أهل النار على هذا السؤال بالإيجاب وأن الله قد أنجز ما وعدهم من العذاب والعقاب الاُخروي وهذا إقرار منهم بالواقع الذي عاشوه واقعاً بعد أن، كان وعيداً، وهم لم يكابروا لأن المكابرة إنما تحدث بين الخصمين في غير مشهد، وهم في الدنيا قبل أن يوجد المشهد كانوا يكذبون البلاغ عن الله، وصارت الدار الآخرة واقعاً، وتحقق وجودهم في النار
(فأذن مؤذن) (مؤذّن)، اسم فاعل من أذّن الرباعيّ، وزنه مفعّل بضمّ الميم وكسر العين المشدّدة والمعنى أي فينادي مناد من الملائكة يُسمع أهلَ الجنَّة وأهل النار بأن الطرد من رحمة الله على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم؛ بعدم الإِيمان وبالتكذيب باليوم الآخر.
والسؤال هنا لماذا بدر الحوار من أهل الجنّة بطرح الأسئلة لأهل النار دون العكس ؟
1-يحتمل أن سؤالهم كان لغرض تحصيل إطمئنان أكثر وإيمان أعلى بما وعد الله رغم أن أهل الجنّة يؤمنون بجميع ما وعدهم الأنبياء من اُمور الغيب ويعتقدون به ولكنهم عندما يرون ذلك باُمّ أعينهم أو يسمعون من أهل النار تحقّق الوعيد الإلهي بحقّهم فإنّ إيمانهم سيزداد ويتعمق أكثر.
2-الاحتمال الآخر هو أنهم يسألون أهل النار من أجل التهكم والذم والتقريع لهم كما كان أهل النار يلومون المؤمنين في الدنيا ويذّمونهم ويسخرون منهم على اعتقاداتهم وإيمانهم بالغيب فهذه المساءلة نوع من المقابلة بالمثل
التذييل ظهر جليا واضحا ومخيفا (فأذن مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ اَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظّالِمينَ)( كختام للمحاورة المذكورة بين أهل الجنّة وأهل النار لابدّ وأن يكون هناك من يختم هذا الحوار ولذلك ورد النداء الإلهي «أن لعنة الله على الظالمين» وتنتهي بذلك المساءلة ويسدل الستار على هذه المحاورة.
فمن هو هذا الشخص (المؤذن) الذي يختم الحوار المذكور بالنداء الإلهي والذي توحي الآية أن له سلطة على الجنّة والنار والقيامة ؟
ومن هو هذا الشخص الذي يسمعه جميع الناس في ذلك اليوم ويختم بكلامه عملية المحاورة بين أهل الجنّة وأهل النار : اَلْمُؤَذِّنُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَه
أن الحكمة في الاختلاف بين التعبيرين (وعدنا ربنا بنون العظمة لأصحاب الجنة) – (وعد ربكم) بالغائب لأصحاب النار تتجلى فيما يلي.
1- لتكريم أهل الجنة واحتقار أهل النار.
2- يؤكد التحقير الذي ذكرناه في النقطة الأولى أن الرب عز وجل ذكر خطابه لأهل النار بلفظ (الوعد) وهو في الحقيقة (وعيد)، فكأن لسان حال أهل النار أنهم يقولون (أهذا وعد ونحن نعذب والوعد لا يكون إلا بالخير) ؟
3- لبيان أن المؤمنين على يقين من وعد الله لهم وأما الكفار فهم على تكذيب وعيد الله لهم، فأصاب كل واحد منهم ما ناسب حالهم من اليقين والتكذيب، فلفظ (وعدنا) الذي خص به أهل الجنة يدل على أن هناك ارتباطا واتصالا برباط الإيمان والتصديق بين الواعد والموعود، وأما ما خص به الكفار (وعد) فدل على أن هناك عدم ارتباط بين الواعد والموعود بل هم كذبوا بوعد الله وسخروا منه ولم يصدقوا به.
توضح الآية الخطاب في الآخرة بين أصحاب النار وأصحاب الجنة وعبَّر عنه بالنداء فلِمَ اختير النداء دون القول أي عندما قال تعالى
وذلك إن في خطاب أصحاب الجنة لأصحاب النار بالنداء دون القول كناية عن بلوغه أسماع أصحاب النار من مسافة سحيقة البعد فإن سعة الجنة وسعة النار تقتضيان ذلك
ولقد جاء التصوير القصصي للمعذبين مملوءا بالإثارة لما فيه من تسلسل الأحداث وتناسق المشاهد وتدرج الحوارات بينهم وكأنها شاخصة أمامنا مناظرهم
تكرر حرف النون في الآية أكثر من أربعة عشر مرة في الآية الكريمة .مصحوبة بمؤثرات تناسب جوها، وتتناسق مع إيقاعها وصورها وظلالها
لا تخلو الآية من السجع إذ تقوم الاية على الفواصل المسجوعة التى لها تأثيرها في أبراز المعنى بوضوح
أيضا احتوت الآية على التكرار في الالفاظ ويكثر في القرآن عامة لتأكيد المعنى ، ومن الكلمات المتكررة (حقا)
إضافة إلى الالتفات وهو الانتقال من ضمير إلى ضمير ، الانتقال من ضمير المتكلم إلى المخاطب ، مثل قوله تعالى : { ((ربنا,ربكم ((
والملاحظ في الآية التنوع والمراوحة بين الأساليب الخبرية(أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا) والإنشائية (فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟))
[ ومن خلال التحليل الأدبي نصل أن أن الحوار في القران الكريم لم يكن قاصرا على المشركين بل هناك حوارات مع أهل الجنان.- عبد الرحمن د⁄إسماعيل محمد علي بحث مقدم إلى مؤتمر الحوار مع الآخر في الفكر الإسلامي 28-30ربيع الأول 1428هـ 6 -8⁄4 ⁄2007م كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة الشارقة ]
فهنا الحوار دار بين أهل الجنة والنار ,وبدأ من سؤال أهل الجنة لطرف الأخر وهو أهل النار ,وذلك بعد استقرارهم في مكانهم وهو (الجنات) وفي الآية توضيح لقمة التوازن والعدل بين جزاء الفريقين من جنس عملها في الدنيا .
وطرفا الحوار هما. أهل الجنة والنار, ومكان كل طرف في المكان المناسب الذي أعده الله له
فالقرآن لا يجيز الحوار إلا لبيان الحق, والعدل واقناع الآخرين به، واتمام الحجة عليهم
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ – الأعراف 50 }
صورت هذه الآيات الكريمات حالتين متقابلتين الحالة الأولى تتمثل في تصوير حالة أهل الجنة وما ينعمون به من نعيم ورزق مقيم من ماء وغيره ، والحالة الثانية تتمثل في تصوير حالة أهل النار وما يعانون فيها من عذاب أليم وحرمان في النيران ,
وفيه من تصويردقائق الآحوال التي تبرز المعنى وتوضحه ويبرز بجمال هذا الفكرة لما فيه من حيوية وحركة كما يبرز بجمال الأسلوب القرآني وبلاغته في جذب الانتباه وتحريك الوجدان.
أن التصوير البلاغي للمعذبين جاء مملوءا بالفنون البلاغية، كما اتسم بجمال الأسلوب وبراعة التعبير,ودقة التصوير
حيث يعرض لنا المولى عز وجل في هذه الآية مشهدا من مشاهد الآخرة، فحينما يصير أهل الأعراف إلى الجنة يطمع أهل النار فينادون أهل الجنة بأعلى الأصوات: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } ولكن هيهات:ثم سرعان ما يرد الطرف الآخر {قالوا إن الله حرمهما على الكافرين} اي طعام الجنة وشرابها. إنه موقف عصيب رهيب
فالندم هنا والحسرة جزاء تكذيبهم ولكنه ندم لا ينفع، وتحسر لا يفيد؛ فالآخرة دار حساب وجزاء لا دار عمل. إنهم من هول ما يرونه وفظاعته يستنجدون بأي أحد ويستغيثون بأي شيء، رغم أنهم ربما يعلمون أنه لا فائدة من اسلوب الاستغاثة!!
جاء فعل الفيض : ويفيض الماء حقيقته هي سيلان الماء وانصبابه بقوة ويستعمل مجازا في الكثرة ،
ويجوز أن يحمل الفيض على المعنى المجازي ، وهو سعة العطاء والسخاء ، من الماء والرزق ، إذ ليس معنى الصب بمناسب بل المقصود الإرسال والتفضل ز
ويكون العطف عطف مفرد على مفرد وهو أصل العطف ، ويكون سؤالهم من الطعام مماثلا لسؤالهم من الماء في الكثرة ، فيكون في هذا المحمل
هنا تعريض بأن أصحاب الجنة أهل سخاء ، وتكون من على هذا الوجه بيانية لمعنى الإفاضة ، ويكون فعل ( أفيضوا ) منزلا منزلة اللازم ، فتتعلق من
والرزق مراد به الطعام فالإفاضة:يحمل معنى التوسعة، أي صبوا علينا وضمير قالوا لأصحاب الجنة ، وهو جوابهم عن سؤال أصحاب النار ، ولذلك فصل على طريقة المحاورة . والتحريم في قوله حرمهما على الكافرين مستعمل في معناه اللغوي وهو المنع
والمراد بالكافرين المشركون ، لأنهم قد عرفوا في القرآن بأنهم اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، وعرفوا بإنكار لقاء يوم الحشر . و ” الهاء والميم ” في قوله : ” إن الله حرمهما ” ، عائدتان على ” الماء ” وعلى ” ما ” التي في قوله : ” أو مما رزقكم الله ” .
اشتملت الآية على الإيغال وهو ختم الكلام بما يفيد فائدة يتم المعنى ,وهنا الفائدة هي الترهيب والتوكيد (إن الله حرمهما على الكافرين )أضافة إلى أداة التوكيد أن وتأثيرها في المعنى واضح
تم التذييل في نهاية الآية. [ وهو تعقيب الجملة بجملة أخرى مستقلة في مكوناتها تشتمل على معناها التاكيد والتقوية للمعنى ((إن الله حرمهما على الكافرين )- د لاشين عبد الفتاح ,المعاني في ضوء أساليب في القرآن الكريم,دار الفكر العربي,كلية الدراسات الأسلامية 1424هـ2003م ]
والملاحظ هنا الاكثار من الأساليب الإنشائية.وذلك لآن المقام مقام طلب ومساعدة ونجاة حيث خير اصحاب النيران أصحاب الجنة بالافاضة أم بالماء أو بالرزق,كناية عن حاجتهم الملحة ,وذلهم وحسرتهم على صنيعهم
[ ومن خلال التحليل الأدبي لهذه الآية ,تبين أن غرض الحوار هو طلب أصحاب النار أصحاب الجنة أن يفيضوا عليهم من الماء ” أي صبوه ،وهو دليل على أن الجنة فوق النار . ” أو مما رزقكم الله ” من سائر الأشربة وتم اختيار هنا الماء وتحديده ليلائم الإفاضة – ابن عاشور ,محمد الطاهر,كتاب التحرير والتنوير المسألة الخامسة سورة غافر رقم الجزء25 عدد الأجزاء15صـ224 ]
وطرفا الحوار هما . أصحاب النار و أصحاب الجنة , ومن خلال الحوار التالي تبين المكان فالجنة فوق النار , والنار تحت الجنة , وذلك لآن الإفاضة عادة تأتي من الأعلى إلى الأسفل
ومكان هذا الحوار والنداء من أهل النار كان بعد دخول أهل الأعراف الجنة.
[ إن حوارات القرآن الكريم كلها دروس وعبر ومنها أنها تناشد المخالفين لبيان سر مخالفتهم حتى توضح لهم الطريق الذي حادوا عنه علهم يرجعون إليه,حيث تبين مصيرهم ,وتصف حالتهم الذليلة وافتقارهم – عبد الرحمن د⁄إسماعيل محمد علي بحث مقدم إلى مؤتمر الحوار مع الآخر في الفكر الإسلامي 28-30ربيع الأول 1428هـ 6 -8⁄4 ⁄2007م كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة الشارقة ]
والملاحظ إن جدل القرآن لا يتجه إلى مجرد الإفهام والإلزام ،بل يتجه في الكثير الغالب إلى إرشاد القارئين والمدركين والأخذ بأيديهم من خلال الترهيب والتخويف وتوجيه النظر إلى الحقائق المصيرية ,فالحوار بين أهل الجنة والنار جاء واضح الدلالة , دقيق التصوير, جلي الفكرة,وذلك لمعرفة كل شخص ماله وماعليه,لكي يحد مصيره الخالص .
النتائج
1-إن العقلية الإسلامية حينما تنادي اليوم للحوار مع الأخر فإنما تحاول أن تتواصل مع أصولها وجذورها الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة وسيرة سلفنا الصالح
2-أن ورود الحوار مع الآخر بهذه الكثرة في القرآن الكريم لاسيما الحوار بين أهل الجنة والنار يؤكد حقيقة البعث والحساب والجزاء من جنس العمل
3-في أيات أهل النار وجد أن الأفعال كثير ماتميل إلى المبني للمجهول ربما لآحتقار الفاعل
4- كثرة الحذف في أيات أهل النارمثل (ولو) المحذوفة جوابها في أكثر من موضع وكثرة الاضمار بعكس آيات الجنة التي ذكر فيها حرف الواو عند دخولهم ,وإسناد الرب إليهم تحببا منهم واحتراما.
5-كثرة الإنشاء استخدام أساليب التمني,والطلب , 4- الدقة في وضع الظروف المكانية ,الدالة على دقة التصوير في المكان (فأذن مؤذن بينهم )(ماكانوا يخفون من قبل )(يخفف عنا يوما )((أفيضوا)(لقاء يومكم هذا(
6- كثرة استخدام الجمل الخبرية في آيات أهل الجنة مقارنة بأهل النار التي تملؤها أساليب الإنشاء ولعل أبرزها الطلب ,ثم الدعاء,والتمني ,
7-تنوعت أغراض الحوار بين أهل النار وأهل الجنة ,فكل آية احتوت على غرض معين يفهم من السياق والتركيب والنظم التي وضع فيها .
8-تساوت معنى الآيات في المفهوم العام , والمقصد الشرعي,تمثلت في العدل في الدخول (زمرا)أي واحد لا أحد معه ,كناية عن العدل والتساوى في هيئة الدخول , والاختلاف سيكون في مكان الدخول والمصير الخالد لكلا الطرفين.
9-تصوير الآيات جاء على عدة طرق ,في وصف هيئة حالة أهل النار ,فتارة مظطربين,وتارة محتاجين,وتارة متساءلين.
10-يعتمد الحوار القرآني على الوصف التصويري,يعرض فيها قصصا واقعية ومشاهد مثيرة وذلك بقصد تبسيط الفكرة وتقريبها ,من خلال الحوار والوصف وتحديد المكان والزمان
11-تميز الحوار في القرآن في إبراز المعنى,ومعرفة المجهول,وكشف المضمون,وبراعة الفكرة, ودقة التصوير .وجودة الألفاظ, والتنوع في الأساليب والبلاغة من سجع وجناس ومقابلة
12-التكرار في الكلمات , والحروف, والمعنى, له قيمة في الآيات ,الذي ينسجم مع ايقاعها وتوازنها
13- معرفة الحالة النفسية للطرفين ,تظهر واضحة في أساليبهم ,ولاشك دلالة الألفاظ له آثرها الايحائي في النفوس مثل (طبتم,لعنة,خالدين,بئس,افيضوا,سيق,الكافرين,سلام,أبوابها
المراجع والمصادر
1- القرآن الكريم
1- أبو الحسين أحمد ابن فارس, ، معجم المقاييس في اللغة ، ( بيروت : دار الفكر ،1418هـ)
2- احمد عمر اليافعي نماذج التصوير الحسي في القران , بحث جامعة ام القرى ,درجة الماجستير
3- احمد محمد ,-كحلي موسوعة أعراب القرآن الكريم,اللغة العربية,وفهم القرآن الكريم (سورة الزمر )
4- إسماعيل محمد علي عبد الرحمن بحث مقدم إلى مؤتمر الحوار مع الآخر في الفكر الإسلامي 28-30ربيع الأول 1428هـ 6 -8⁄4 ⁄2007م كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة الشارقة
5- إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي .التفسير,المسألة الخامسة دار طيبة سنة النشر: 1422هـ / 2002م رقم عدد الأجزاء: ثمانية أجزاء. ,تفسير سورة الأنعام رقم الآية (27)
6- تيسير محجوب الفتياني ,الحوار القرآني في قصة موسى عليه السلام,مركز الكتاب الأكاديمي,الطبعة الأولى,2004م,1424هـ عمان,
7- جمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري ,ابن منظور ، لسان العرب ( بيروت : دار صادر ،1412هـ) ، الجزء الخامس ،
8- خالد بن محمد المغامسي ، الحوار آدابه وتطبيقاته في التربية الإسلامية ، ط 1( الرياض : مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني ،1425) ،
9- صالح بن بن حميد عبدالله . بحث في مكة المكرمة أصول الحوار وآدابه في الإسلام .
10- عبد الفتاح -لاشين, ,المعاني في ضوء أساليب في القرآن الكريم,دار الفكر العربي,كلية الدراسات الأسلامية 1424هـ2003م
11-محمد أحمد حسن,مفهوم الحوار وأهميته وأسسه المنهجية وضوابطه كوسيلة فعالة للاتصال بين الأفراد والجماعات” القضاة كلية الشريعة /الجامعة الأردنية
12-محمد عبدالله,أصول التربية الإسلامية,ط 4, 1429هـ_2008م
13-محمد رشيد رضا مسألة: الجزء السابع تفسير المنار . الهيئة المصرية للكتاب عدد الأجزاء: اثنا عشر جزءا
14-محمد عبدالرحمن محمد القرطبي ملخص عن كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان سورة» غافر رقم الأية 49
15-محمد الطاهر,ابن عاشور , كتاب التحرير والتنوير المسألة الخامسة سورة غافر رقم الجزء25 عدد الأجزاء15صـ224
16-محمد محمود عبود زورين بحث علمي عن الدعاء والمعاني والصيغ والانواع ,دراسة قرآنية سلسلة المعارف الاسلامية ,اصدارات المركز بالمتابعة والتقويم والاشراف العلمي .
17-محمد بن عبد العزيز الخضيري,. درة الأترجة . تفسير سورة الزمر / /
18-محمد متولي الشعراوي, ,تفسير نداء الايمان,تفسير سورة الزمر رقم الآية (73)
19-ناصر الدين أبي الخيرعبد الله بن عمر بن علي البيضاوي تفسير البيضاوي , سورة الزمر,مسألة الجزء الخامس دار إحياء التراث العربي عدد الأجزاء: خمسة أجزاء
20-هالا سعيد مقبل بحث ,بحث متقدم لنيل درجة الماجستير,تخصص اللغة العربية ,الحوار في مشاهد القرآن الكريم,دراسة دلالية بيانية,كلية الآداب والعلوم الأنسانية , بجامعة الشرق الأوسط 2010,2
21-يوسف القرضاوي,السنة مصدرا للمعرفة ,القاهرة ,دار الشروق,ط 2, 1418هـ\1998م,صـ218. –
https://alawg50.wordpress.com/2016/01/07 ]]]
7- الأداء البياني في خطاب أهل الجنة :
7- الأداء البياني في خطاب أهل الجنة
Advertisements
[[[وصف الجنَّة والنَّار في القرآن الكريم دراسة في البناء اللغوي والأسلوب البلاغي
الجبالي, مهند حسن حمد
تتناول هذه الدراسة موضوعاً هاماً من موضوعات القرآن الكريم، وهو وصف الجنَّة، والنَّار الأبديتان اللتان أعدَّهما الله سبحانه وتعالى للمؤمنين والكفَّار دراسةً في البناء اللغوي، والأسلوب البلاغي. وتقوم الدراسة على أساس لغوي وبلاغي، أي أنَّ الرسالة ستدرس وصف الجنَّة، والنَّار من ناحية لسانيَّة بغيَّة بيان الإعجاز اللغوي، والبلاغي للقرآن الكريم في التعبير عن مشاهد الجنَّة، والنَّار القرآنيَّة الكريمة. وتبعاً لهذا الاختيار فقد أتت الرسالة مشتملة على تمهيد وثلاثة فصول، ففي التمهيد تحدَّثت عن مشاهد الجنَّة، والنَّار في القرآن الكريم، ومضامينها، حيث درست الجنَّة، والنَّار لغة، واصطلاحاً والتطوُّر الدَّلالي لهما، والصور الماديَّة المحسوسة لنعيم الجنَّة، ولعذاب النَّار، والصور المعنويَّة غير المحسوسة لنعيم الجنَّة، ولعذاب النَّار. أمَّا الفصل الأوَّل فتحدَّثت فيه عن بلاغة المستوى الصوتي، والصرفي لآيات الجنَّة، والنَّار، ويضمَّ القضايا الفرعيَّة الآتية: جمال الفاصلة القرآنيَّة الكريمة، من حيث التماثل، والتجانس، وتمكِّنها من الآية القرآنيَّة الكريمة، وأهميَّتها من ناحيتي القيمة التعبيريَّة، والفنيَّة للأصوات، ووقفت على المقاطع الصوتيَّة، وبراعة استخدام القرآن الكريم لبعضها، وعلى بناء الكلمة القرآنية الكريمة من حيث التنكير والتعريف ومعرفة أغراضهما البلاغية. وفي الفصل الثاني تحدَّثت عن مسألة الثروة اللفظية في آيات الجنَّة، والنَّار، فقد حاولت الدراسة أن تكشف النقاب عن الثروة اللفظيَّة، وما يتصِّل بها من غريب، ومعرَّب، ودخيل. أمَّا الفصل الثالث والأخير فقد تحدَّثت فيه عن بلاغة المستوى التركيبي (النحوي) في آيات الجنَّة والنَّار، ويضمُّ القضايا الفرعيَّة الآتية:
بناء الجملة القرآنيَّة الكريمة بشقيِّها” الاسميَّة والفعليَّة من حيث أسلوب الحذف والذكر، والتقديم والتأخير وبلاغة أسلوب الخطاب بين الجملة الاسميَّة والفعليَّة (المثبتة والمنفيَّة)، وأسلوب التوكيد، والتكرار وأنواعهما، وعلاقتهما بالمعنى، ونظام الربط بين الجمل (الفصل والوصل)، وبناء الجملة الإنشائيَّة الطلبيَّة، وغير الطلبيَّة من استفهام، وأمر، ونهي
. كما أنه يبيِّن بالدرجة الأولى المقاربات الأسلوبيَّة في آيات الجنَّة، والنَّار، والمقارنة بينهما، والثروة اللفظيَّة فيهما، إضافة إلى أنَّ المعلومات التي درسها الباحث تعدَّ جديدةً في بعضها، ومرتبة في مواطنها اللغويَّة، والبلاغيَّة في بعضها الآخر فضلاً عن أنَّ أغلب التفاسير القرآنيَّة الكريمة قد اهتمت بالمعاني المباشرة للآيات القرآنيَّة الكريمة التي تصوِّر الجنَّة، والنَّار ما عدا قليلاً منها، فهذا القليل قد اقتصر على المعاني الجزئيَّة للموضوع، ولم يحط بالموضوع من جميع أركانه، فجاءت وظيفة الرسالة لجمع شتات المتفِّرق في بوتقة واحدة، وتكميل الناقص، وتفصيل المجمل، وترتيب المختلط. وبناءً على ما تقدَّم فقد جمع الباحث الآيات التي تصوِّر مشاهد الجنَّة، والنَّار في القرآن الكريم، وقام بتبويبها، وتوزيعها حسب مخطط يتماشى وموضوعات الدراسة اللغويَّة حيث درس الأنماط الصوتيَّة في الآيات القرآنيَّة الكريمة، وعالج معظم الظواهر الأسلوبيَّة فيها، إضافةً إلى محاولة الرسالة أن تتَّجه إلى دراسة الألفاظ التي استخدمها القرآن الكريم للكشف عن مشاهد الجنَّة والنَّار. وذهب الباحث إلى إكمال دراسته هذه خارجياً أي أن يتتبع تصوير الجنَّة، والنَّار في أقوال الكتَّاب، والشعراء من خلال اختيار أمثلة متفرِّقة، ومدى اتفاق هذه الأقوال، وتباينها عن الجنَّة، والنَّار القرآنيتين الكريمتين. وقد خلص الباحث – ممَّا ذكر سابقاً- إلى نتائج يرى أنَّها طريفة تمسَّ صلب الموضوع على مستوى الأنظمة المبحوثة كافةً، ويمكن تلخيص النتائج بالقول: إنَّ القرآن الكريم قد شحذ معظم الطاقات اللغويَّة، والبلاغيَّة للتعبير عن مشاهد الجنَّة والنَّار من ناحية تصويرها الداخلي، من خلال بيان طبيعة الحفاوة، ومدى التكريم الذي يحظى به المؤمنون في الجنَّة، وما يناله الكفَّار من العذاب الأليم في النَّار ]]] .
الأداء التصويري في القرآن و مشاهد الجنة
يغلب التصوير الحسي على مشاهد الجنة في القرآن. وهذا التصوير يجعل المشهد المحسوس حيًّا متحركاً وبارزًا مشخصًا. وتتضافر مكونات المشهد في وحدة جمالية متنوعة بحيث تؤدي الدور المرسوم. وتوحي بالمعنى المستكن خلف المشهد فتخفق القلوب، وتتشوق الأرواح، وتسري في النفس الطمأنينة ويشيع سكون القلب.. وذلك كلما خطر على القلوب خاطرُ الجنة ومشاهدها البالغة الروعة. ومشاهد الجنة بما تتضمنه من متع وجمال ولذة قد أعدت للذين آمنوا وعملوا الصالحات. ومن منطق التقابل لإدراك جمال النعمة، وعظمة الرضى الإلهي، ورحمته بالمؤمنين.. تأتي مشاهد النار حافلةً بالعذاب ناضحةً بالألم، دامغةً بمفردات التكوين الجمالي، حافلةً بصور شتى تنضح بالمتعة في أنساق مادية ولونية وحركية فتتجسد عالمًا كامل التكوين، حافلاً بالروعة والمتعة، والراحة، والرضى.. [ “وتتراءى عشرات من الأوضاع والأشكال والسمات، وتؤلف بذلك ملاحم فنية رائعة، تتملاها النفس، ويتابعها الخيال، ويستغرق فيها الحس، وتتراءى فيها الظلال، وتضيف إلى الثروة الأدبية الفنية صفحات مفردةً، لاشبيه لها ولا مثال” – مشاهد القيامة في القرآن سيد قطب ص 43 ]
إنها مشاهد حية تقاس فيها الأبعاد بالمشاعر والوجدان، وتصور المشاهد متفاعلةً في النفوس، وقد خلعت عليها الطبيعة الحياة بأبعادها المتنوعة. ويصبح النعيم في الجنة، وقد تمتعت به الأجسام وسعدت به الجوارح – دقيقًا في رسمه، عميقًا في تصويره، يحمل الظلال النفسية الرقيقة التي تتبَّدى على الملامح سكينةً، وجمالاً وحبورًا واطمئنانًا. .. ولعل أهم ملامح التصوير في مشاهد الجنة، هو تجسيم ذلك النعيم تجسيمًا ماديًا ملموسًا.. كأنك تلمسه بأصابعك وتحسه بنفسك. ويتحول المشهد المادي إلى قطعة مصورة من الجمال؛ حيث يتجلى التناسق في مفردات المشهد من حيث التماثل أو التشابه أو التقابل أو التداعي كما يتجلى في جرس الألفاظ ليعطي الإيقاع المناسب لجو المشهد، كما يتجلى في اتساق المشهد كله بألفاظه ومعانيه وجرسه وإيقاعه مع السياق العام الذي يعرض فيه. ذلك أن مشاهد الجنة [ “مسوقة لأداء الغرض الديني، ذلك الغرض الأول للقرآن؛ ولكنها تتصل بالوجدان الديني عن طريق الوجدان الفني” – مشاهد القيامة ص 47] . … ولنقف أمام مشهد الجنة الذي ورد في سورة الواقعة، لنتدبر هذا التناسق الجميل في تكوينات المشهد الجمالية. قال تعالى: ﴿عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقـٰـبِلِيْنَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ – الواقعة 15-24 ﴾
.
وهذا مشهد حسي من مشاهد النعيم التي يتمتع بها أهلُ الجنة؛ فهم يجلسون على أسرة مذهبة، ويضطجعون في استرخاء لذيذ شأن الإنسان المترف المنعم، يتواجهون في سرور وحبور لا ينظر أحدهم في ظهور أحد انطلاقاً من حسن العشرة وتهذيب الأخلاق . ويطوف عليهم، يخدمونهم ويلبون حاجاتهم، أطفال صغار يتسمون بالنضارة والجمال، ومعهم الأقداح والأباريق والكؤوس وقد امتلأت بخمر لذيذة تتدفق من العيون، فيها لذة لمن يشرب، ولاتتصدع من شربها الرؤوس، ولا تغيب الحواس منها أو تتخدر العقول.. وهم في متعتهم تنضاف متع أخرى تشعر باللذة حين يمدون أيديهم فيتناولون ما يشتهون من فاكهة طازجة ناضجة، ولحم طير على أشهى ما يريدونه. “قال ابن عباس : [يخطر على قلب أحدهم لحم الطير، فيطير حتى يقع بين يديه على ما اشتهى مقليًا أو مشويًا” – صفوة التفاسير ج3 ص 307 ]
ويتألق النعيم الحسي حين يأتي الحديث عن نعيم النساء الذي وُعِدَ به أهل الجنة. فهن نساءٌ واسعات العيون، بالغات حدًّا فائقًا من الجمال والبهاء والصفاء وكأنهن في نقاء اللؤلؤ وصفائه. إنه لؤلؤ مكنون لا يتغير حسنه ولا يتبدل.. سألت أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التشبيه فقال: “صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي”. وهذا التشبيه الحسي يجمع بين طرفين حسيين يشع الجمال منهما.. * ولقد وردت هذه الصورة متكررةً في آيات آخرى.. مما يوحي بحرص القرآن على تكريس الصورة الحسية.. والتي تحمل معنىً خلقيًا عفيفًا في جوانب الصور الأخرى .. قال تعالى: ﴿وَعِنْدَهُمْ قـٰـصِرَاتُ الطَّرْفِ عِيْن* كَأَنّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُوْنٌ – الصافات 48-49 ﴾
إن نساء الجنة يتمتعن بالعفة والحياء؛ فهن يقصرن أبصارهن على أزواجهن؛ فلا يسرحن النظر هنا أوهناك، لما يتمتعن به من حياء يصون عليهن الكرامة، وهو حياء يحتوي النفس والسلوك معًا.. وهو ما يشعر بالحب للزوج والوفاء له. وهن مع هذا الحياء جميلات العيون يتصفن بالحسن والبهاء؛ فعفتهن عن ثقة بالنفس وعن تكامل في الجمال، وليس عن انتقاص في الشكل والهيئة.. كما أنّهن كاللؤلؤ المكنون في أصدافه. “لا تبتذله الأيدي ولا العيون. والعرب تشبه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها”. وقال تعالى: ﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوْتُ وَالْمَرْجَانُ – الرحمن 58 ﴾
فالنساء في جمالهن وصفاء ألوانهن والوجوه المشربة بالحمرة كأنهن الياقوت في صفاء لونه، والمرجان في حمرته الدافئة . “قال قتادة: كأنهن في صفاء الياقوت وحمرة المرجان، لو أدخلتَ في الياقوت سلكاً ثم نظرت إليه لرأيته من ورائه”. ولعل الصورة التشبيهية التي وضحت المعنى المراد من الجمال والبهاء، قد عقدت صورةً حسيةً كاملة الأبعاد حتى أصبح الطرفان في الصورة واضحين في مجال التشبيه من حيث البهاء والصفاء”. [ “إن تشبيهات القرآن الكريم أيًّا كان وجهها صور بيانية، تتضح منها الحقائق الظاهرة، والمعاني العاطفة، كأنها أمور محسوسة مرئية، فإذا كان التشبيه بأمر محسوس كانت الصورة البيانية كأنها مرئية واضحة” – القرآن – المعجزة الكبرى محمد أبو زهرة ص 255 ]
فكأننا نرى رأى العين النساءَ في الجنة، جمالاً وبهاءً وصفاءً كأنهن قطع من اللؤلؤ والياقوت. تشع وجوههن بالبهاء، ويشى لونهن باحمرار يتغلغل في بياض ناصع كالدر المكنون.. وتبدو المرأة كأنها قُدّت من اللؤلؤ الخالص. إنه تصوير يريك الجمال والبهاء مُجَسَّدَيْن في صورة متحركة تشبع القلب وتريح الحس وتُثِيرُ الوجدان.. * وتصوّر آيات أخرى في “الواقعة” نساء الجنة تصويرًا يعطي تكاملاً لأبعاد الصورة المرسومة للمرأة في الجنة.. فتبدو الصورة متناسقةً مع مشهد النعيم الذي يتمتع به الرجل. قال تعالى: ﴿إنَّا أَنْشَأْنـٰـهُنَّ إنْشَاءً * فَجَعَلْنـٰـهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا – الواقعة 35-37 ﴾
الصورة فيها تكوين جديد يعطي أبعادًا عميقةً تشرح البهاء والجمال في الآيات السابقة.. فلقد خلق الله نساء الجنة خلقًا جديدًا؛ فهن دائمًا عذارى، وهن دائمًا متحببات للأزواج، عاشقات لهم. قال مجاهد: [ هن العاشقات لأزواجهن، المتحببات اللواتي يشتهين أزواجهن”. كما أنهن مستويات ومتماثلات في السن. فهن “على ميلاد واحد في الاستواء كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارًا. فلما سمعت عائشة رضي الله عنها ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وا وجعاه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس هناك وجع” – الكشاف ج4 ص 59. ]
إن مفردات الصورة تعطينا أبعاد المشهد في تكوين يحتوي عناصر المتعة والجمال.. وقد توخت الصورة البعد الحسي انطلاقًا من تقريب البعيد، وتجسيد المتخيل، وتجسيم المعنوي، وتأكيدًا على المعنى الديني العميق الذي يترقرق تحت الصورة.. وهو رضى الله عن عباده المؤمنين المتقين، وإغراءٌ بالتقوى لنيل هذا النعيم الممتع اللذيذ . * ويتكرر المشهد في صور مماثلة تقريبًا.. ويتأكد الجمال من خلال السياق وعبر المفردات المحملة بظلال من المعاني المصاحبة في جدّة وتجدُّد. * قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّـٰـتٍ وَنَعِيمٍ* فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقـٰـهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنـٰـهُمْ بِحُورٍ عِينٍ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنـٰـهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ* وَأَمْدَدْنـٰـهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ* وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ* قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ – الطور 17-26﴾
فالمتقون يتنعمون بالجنة نعيمًا مقيمًا، ويتلذذون بما أعطاهم الله من أصناف المأكل والمشرب. ويَمُنّ الله عليهم أن نجاهم من النار. “يقول ابن كثير: [ وتلك نعمة مستقلة بذاتها مع ما أضيف إليها من دخول الجنة” – مختصر ابن كثير ج3 ص 290 ] .
وهم يجلسون في جنتهم على سُرر مذهبة مكللة بالياقوت مرصعة بالدر مع زوجات بيضاوات حسان، ومعهم الأبناء حتى تقر العيون وتهدأ النفوس. وراحة النفس معنى صاحب أهل الجنة من المتقين، بما يضفي على النفس السكينة وبما يجعل طبيعة المشهد ساكنةً في جلال، مطمئنةً في رضى، تشع عنصرًا جماليًا نفسيًا يضاف إلى عناصر الحس الممتعة الأخرى.. فالنفس لاتتوزع ولا تنشطر ولا يشغلها شاغل.. قال ابن عباس، إن الله عز وجل ليرْفَع ذرية المؤمن معه إلى درجته في الجنة.. وإن لم يبلغها بعمله، لتقَرّبهم عينه). “ويقول الزمخشري: [ فيجمع الله لأهل الجنة أنواع السرور، بسعادتهم في أنفسهم، ومزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أهلهم ونسلهم بهم” – الكشاف ج4 ص 34 ]
وهم يتعاطون في الجنة كؤوس الخمر يتجاذبونها في تلذذ وأنس وسرور، دون أن يقع بينهم ما يسيء، ولا يلحقهم أذى مما يحدث في خمر الدنيا . “قال قتادة: [ نزه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها، فنفى عنها صداع الرأس، ووجع البطن، وإزالة العقل، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام الفارغ الذي لافائدة فيه، المتضمن للهذيان والفحش ووصفها بحسن منظرها، وطيب طعمها”. ويخدمهم غلمان مخصصون لهم كأنهم اللؤلؤ جمالاً وصفاءً.. وهم في نهاية المشهد يتشامرون تلذذًا واعترافًا بالنعمة، متسائلين عن أحوال الدنيا وأعمالهم فيها؛ حيث كانوا خائفين من الله مشفقين من عذابه وهاهم قد مَنّ الله عليهم بالجنة ووقاهم عذاب جهنم . ذلك أنهم “عاشوا على حذر من هذا اليوم، عاشوا في خشية من لقاء ربهم، عاشوا مشفقين من حسابه. عاشوا كذلك وهم في أهلهم، حيث الأمان الخادع؛ ولكنهم لم ينخدعوا، وحيث المشغلة الملهية، ولكنهم لم ينشغلوا” – الظلال ج6 ص 3397. ]
ولعلنا نلاحظ في المشهد تنوعًا جديدًا في التعبير يصوّر حالة المؤمنين تصويرًا دقيقًا، ومن ثم وشت المفردات بذلك . [ فالكأس يتنازعها أهل الجنة، وليس في الجنة تنازع وإنما هي المنادمة على الشراب زيادةً في الصفاء وتأكيدًا للمحبة؛ فالتبادل تلذّذ بالكأس المشتركة وهي تدور عليهم فردًا فردًا مع ما يصاحب الفعل من حركة ونظرة وحديث. وأصبحت الكأس قاسمًا للذة مشتركةً تبعث على السرور والرضى. وهي ليست واحدةً إنما متعددة تحوي شرابًا من نوع واحد. (والكأس “لاَ لَغْوٌ فِيْهَا وَلاَتَأثِيْمٌ” وهو تعبير لطيف؛ فهذه الكأس لا لغو فيها. كأنما اللغو الذي يهذر به الشاربون من خمر الدنيا كامن في ذات الكأس التي بها يشربون. أما هذه الكأس الفردوسية فمبرأة من اللغو، مبرأة من الإثم أيضًا) – مشاهد القيامة ص 207. ]
كما أن مشهد السمر اللذيذ الممتع يعكس حالة الاسترخاء المحبب وحولهم كل ما يلذ ويشتهي . “وبهذا المشهد تتم صورة المتاع؛ فهو متاع الحس، ومتاع الخاطر، ومتاع الضمير”. * والمشهد استعراض لمفردات الصورة التي تناولت النعيم ومساحته وتنوع لذائذه . ولعلنا نلاحظ مساحة المجال – المكان – وقد انفسح وتنوع. وغلب على المكان اللون، وأصبحت المساحة تشكلّ صورةً مرسومةً لتكوينات لونية حسية تشغل حيزًا في المساحة، وكل تشكيل يتنامى مع الآخر فيعطي للمجال التشكيل التصويري العام . وأرضية اللوحة الكلية مترعة بجمال حسيٍّ متعدد الدرجات. فثمة بساط من الخضرة، وقد رصت على جوانبه أرائك تتحاور لونيًا مع لون المساحة.. فيبرز الذهب والياقوت في تألق لوني وبهاء مشع. وفي وسط المساحة تتبدى الفاكهة في طزاجتها ونضجها أنواعًا من اللون في درجاته المتنوعة، واتخذت نظامًا يعكس جمالاً في مجال الرؤية؛ حيث رصت في نظام بديع يكشف الجمال اللوني، ويغري بالاشتهاء.. ومن خلال هذه الطزاجة اللونية والحسية، تفوح الرائحة من الفاكهة والطعام؛ فتثير النفس وتنعش القلب، وتدغدغ الحس. والكأس شغل حيزًا متحركاً يضوي بالنور ويمتليء بشراب له لون الخمر يتناسق ويتحاور مع بهاء الولدان وما يتبدى منهم من جمال . والأفراد يضفون على سكون المجال وسكينته حركةً متوازنةً مع توزع مفردات المساحة وتنوعها. إن اللون يتسيّد الوحدة التصويرية ويستدعي إثارة الحس البصري واستكناه الخيال لإدراك الصورة . ولقد تكاملت الوحدة بتنويعات تشكيلية منسجمة . ** وثمة نمط مشهدي آخر يتناول صور النعيم فيفصلها تفصيلاً . قال تعالى : ﴿إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقـٰـهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقّـٰـهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزٰهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلـٰـلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عـٰـلِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقـٰـهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا – الإنسان 5-22 ﴾
الآيات الكريمة تشى بصور النعيم الحسية المفصلة. ولقد وصفت الأبرار بما يناسب النعيم الهادئ الرغيد. فشرابهم في الجنة ممزوج بالكافور من عين تتفجر تفجيرًا، فيها الكثرة والوفرة. ولذة الشعور به تتضاعف وترقى. وهو نعيم يتلاءم مع عباد الله، الأبرار، الذين شفّت قلوبهم وأخلصت لله العبادة. وقد آنسهم الله وأكرمهم ولعل الإضافة المعنوية في عبارة (عباد الله) توحي بهذا المعنى. ومن ثم صورت الآيات هؤلاء في صورة وضيئة شفافة لقلوب مخلصة عازمة على الوفاء. إنهم يلتزمون بدينهم شاعرين بثقل الواجب، يتصفون بشعور البر والعطف والخير، يخافون الله ويخشون يوم الحساب. ومن ثم أسرع السياق بوقايتهم من شر هذا اليوم وإنعامه عليهم بالجنة. وكانت صورة الجنة بمفرداتها واشيةً بهذا الجزاء. وتمازجت الصورتان صورة المحتفى به، وأدوات الاحتفاء . فهم يتمتعون بجو جميل لا هو بالبارد ولا هو بالحار، يستروحون جمال الظلال؛ فهم لايرون فيها شمسًا ولازمهريرًا، كما أن الظلال دانية، والثمار دانية. قال ابن عباس: إذا همّ أن يتناول من ثمارها تدلّت إليه حتى يتناول منها ما يريد . وتضاف صورة جديدة لألوان المتعة واللذة التي ينعم بها الأبرار المتقون وهي أنهم يلبسون ثيابًا غايةً في الجمال والنعومة؛ حيث صنعت من الحرير ما رقَّ منه وما غلظ كما يتزينون بالأوساور الفضية.. وهذا النعيم كله إنما هو عطاء من الله. عطاء كريم من معطٍ كريم . ومن الجدير ذكره [ أن الأساور قد تنوع وصفها في السياق القرآني فقد وردت في سورة الكهف ﴿يُحَلَّوْنَ فِيْهَا مِنْ أسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ﴾. وفي سورة فاطر ﴿يُحَلُّوْنَ فِيْهَا من مِنْ أسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَّلُؤْلُؤًا﴾.. (إنهم تارةً يلبسون الذهب فقط، وتارةً يلبسون الفضة، وتارةً يلبسون اللؤلؤ فقط على حسب ما يشتهون، ويمكن أن يجمع في يد أحدهم أسورة الذهب والفضة واللؤلؤ) .
– صفوة التفاسير ج3 ص 495. ]
وثمة تفصيل آخر يدور حول مفردة من مفردات الصورة؛ فهذه أواني الشراب الفضية صافية كالزجاج، متنوعة الأحجام في تناسق بديع، ثم هي تمتزج بالزنجبيل مرةً بالكافور مرةً أخرى. كما تملأ من عين عذبة جارية.. ولعل المناسيب الجمالية مقدرة بحيث يتحقق المتاع والجمال معًا. ومما يزيد جمال الأواني أن الساقين أطفال في سن الصباحة والوضاءة؛ كأنهن قطع من اللؤلؤ الفائق الجمال . إن السياق يمد بأبصارنا فحيثما اتجه النظر فثمة نعيم عظيم وملك كبير، وتتمازج مفردات المشهد في إبراز هذا النعيم العظيم؛ فعباد الله يتنعمـون بمتاع الجنــة من شــراب، وظلال، وثياب وحُلى . وصورة عباد الله وهم على أرائكهم صورة تبين هذا النعيم المقيم . فثمة استرخاء وتمدد، وراحة واسترواح وإحساس بالسعادة تشرق به الوجوه، فتلك الأشجار التي تلقي بظلالها تنويعًا لألوان المتاع، تتدانى بأغصانها المترعة بالثمر فتتدلى الثمار حتى تصبح عند أطراف الأصابع تلتقطها في شوق ولذة . * وفي سورة محمد يتضح لنا بعد آخر من أبعاد الصورة . قال تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهـٰـرٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهـٰـرٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهـٰـرٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهـٰـرٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ – محمد 15 ﴾
الآية الكريمة تعطينا بُعدًا آخر لصورة الجنة، بُعدًا تتكامل فيه الجزئيات، وتسيطر مفردة واحدة على المساحة. إنها الأنهار الجارية، الممتلئة المتدفقة التي ينبثق من جريانها هذا الصوت الجميل فتسعد به النفس ويمتلىء القلب سرورًا.. إن العين في رصدها للمجرى تحدث لذةً جماليةً، والأذن وهي تتسمع هذا الصوت تلتذ بإيقاع الحركة المتناغم الداخل إلى الوجدان الباعث في الشعور سرورًا وفرحًا.. ثم تأتي حاسة التذوق بما يسدّ رغبات النفس والجسم معًا. لقد توزعت المفردة الكبرى (الأنهار) إلى جزئيات تتباين من حيث المادة التي يحتويها المجرى.. إنه تنوع في المحتوى، يحدد طبيعة النهر وسر النعمة فيه. فثمة أنهار تجري فيها المياهُ الصافية العذبة التي لايتغير طعمها أبدًا؛ فتظل تحتفظ بعذوبتها، وأنهار تمتلىء باللبن المصفى حلاوةً ودسمًا لايفسد ولايتحول، وأنهار تجري بخمر لذيذة الطعم يتلذذ بها الشاربون، خاليةً من كل ما يُفسد أو يسيء، وأنهار جارية بالعسل المصفى حسن اللون والرائحة، طيب الطعم حلو المذاق، وذلك فضلاً عن الثمرات المتعددة من كل نوع وصنف . ولعلنا نلاحظ الأداء التعبيري الذي يصف الصفاء في محتوى النهر، ماءً ولبنًا، وبأنه مرةً “غير آسن” ثم “لم يتغير طعمه” ووشت المفردات بالمعنى عن طريق النفي، كما أن اللفظين “لذة” و”مصفى” يؤكد أن المعنى عن طريق الإثبات.. ثم تتحاور الألفاظ لتثبت المعنى وتؤكده . [ وصور النعيم ترق وتشف كلما ارتقى السامعون في درجات الرقي الأخلاقي. ولقد واكبت الآيات أنواع المخاطبين وتنوع حالاتهم التي تتكرر كنماذج بشرية . “والله الذي خلق البشر أعلم بمن خلق. وأعرف بما يؤثر في قلوبهم، وما يصلح لتربيتهم، ثم ما يصلح لنعيمهم ولعذابهم، والبشر صنوف، والنفوس ألوان، والطبائع شتى، تلتقي كلها في فطرة الإنسان، ثم تختلف وتتنوع بحسب كل إنسان، ومن ثم فصل الله ألوان النعيم والعذاب، وصنوف المتاع والآلام وفق علمه المطلق بالعباد) –
– الظلال ج6 ص 3291. ]
وهذا هو الهدف الديني الذي يترقرق خلف مشاهد الجنة. ** والجنة هي ملاذ الآمنين المتقين . ولقد وردت صورة الجنة في آيات قرآنية بما يصفها بالهدوء والسكينة . قال تعالى في سورة الواقعة: ﴿لاَ يَسْمَعُوْنَ فِيْهَا لَغْوًا وَّلاَ تَأثِيْمًا إلاَّ قِيْلاً سَلاَمًا سَلاَمًا﴾. فالجنة مكان مبرأ من كل ما يسيء أو يجرح المشاعر؛ إنه مكان يصون النفس ويحافظ على الكرامة ويحقق الاحترام. إنه ليس المكان الجميل فحسب؛ وإنما هو المكان النظيف؛ فلا يصل إلى أسماع أهل الجنة كلام فاحش أو لفظ نابٍ، ومن ثم فلا ارتكاب للإثم ماداموا لايقولون أو ينطقون فاحشًا من القول أو هذرًا من الحديث. وينحصر القول والحديث في إشاعة التحية الجالبة للمسرة والمودة، فكل واحد يلقي السلام على أخيه؛ فيفشو السلام ويسود الإلف . وهذا تصوير نفسي جميل حيث تعطي الآية دلالةً للشعور الداخلي الذي يجعل النفس تشعر بالسكينة والهدوء، وتُقْبل على التمتع في شوق ورضى وإحساس باللذة لايكدره كدر ولا تشوبه شائبة.. ومن ثم ورد التكرار ليكرس هذا المعنى النفسي الجميل، ولتصبح حياتهم سلامًا وليشع في جنبات الجنة السلام حتى ليضحي الجو ناعمًا آمنًا والسلام يبسط أجنحته وينشر عطره الذي يشمل النفس والمكان معًا . وقال تعالى في سورة مريم: [ ﴿لاَيَسْمَعُوْنَ فِيْهَا لَغْوًا إلاَّ سَلاَمًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيْهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ “فلا فضول في الحديث، ولا ضجة ولا جدال، إنما يسمع فيها صوت واحد يناسب هذا الجو الحالم الراضي.. هو صوت السلام”- مشاهد القيامة 119.]
ويكلل هذا الجو الناعم سماعهم للملائكة يسلمون عليهم على وجه التحية والتكريم. ولقد تمازج التعبير عن الرزق مع هذا الجو الناعم الرضيٍ؛ فالزق في الجنة مكفول لايحتاج إلى كدّ، ولا يشغل النفس، ولا يقلقها ولايجعل للخوف سبيلاً إلى القلوب . إنه أمان نفسي مكفول للنفس في سكينتها ورغباتها معًا. وهذا البعد الصوتي الجميل – من أبعاد الصورة الكلية – ينساب في جنبات المكان في إيقاع محبب يريح النفس ويرطب الوجدان . * * *- بقلم : محمد قطب عبد العال ]] .
آيات الخطاب بين أهل الجنة والنار :
1- { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ – الأعراف 37-39}
2- {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ – الأعراف 43 }
3- { وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ۚ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ – الأعراف 44-50 }
[[ وهكذا نرى التبكيت، وتصور لنا الآية كيف يرى أهل الجنة أهل النار، وهذا الترائي من ضمن النعيم ومن ضمن العذاب الأليم، فحين يرى المؤمن بمنهج الله من عاداه وقهره وآذاه وهو في النار فهذا من تمام اللذة. والآخر حين يرى مخالفه في الجنة فهذا أيضاً من تمام العذاب. إذن لابد أن يتراءوا، ولذلك يحدث الحوار، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار معترفين بأنهم وجدوا ما وعدهم به الله حقاً وصدقاً، وأن الحق قد وهبهم هذه الجنة. فهل – يا أهل النار – وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟
ونلاحظ أن هناك خلافاً بين الأسلوبين مع أن السياق المنطقي واحد؛ فأهل الجنة يقولون: ” قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ” ، ولم يأت بالكاف في كلمة ما وعد (الثانية) بل قال: ” فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً “؟
إنه قال سبحانه: ” ما وعد ” فقط، ولم يقل ما وعدكم كما قال: (ما وعدنا) لأن المراد أن يلفتهم إلى مطلق الوعد، وليس الخاص بهم فقط، بل وأيضاً الخاص بالمقابل، وهكذا يتحقق الوعد المطلق لله. فأهل الجنة بإيمانهم وأعمالهم في الجنة فضلاً من الله، وأهل النار بكفرهم وعصيانهم عقاباً من الله.
وهنا يجيب أهل النار: (قالوا نعم)
وهذا إقرار منهم بالواقع الذي عاشوه واقعاً بعد أن، كان وعيداً، وهم لم يكابروا لأن المكابرة إنما تحدث بين الخصمين في غير مشهد، وهم في الدنيا قبل أن يوجد المشهد كانوا يكذبون البلاغ عن الله، وصارت الدار الآخرة واقعاً، وتحقق وجودهم في النار. {…فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ – الأعراف 44 }
أي فينادي مناد من الملائكة يُسمع أهلَ الجنَّة وأهل النار بأن الطرد من رحمة الله على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم؛ بعدم الإِيمان وبالتكذيب باليوم الآخر.
(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ ) 45 الأعراف
والذي يصد عن سبيل الله هو من امتنع عن سبيل الله، وصد غيره، أي ضلّ في ذاته ثم أضل غيره، وهؤلاء هم الذين يطلبون منهج الله معوجاً، ويذمونه ولا يؤمنون به فيعترضون على إقامة الحدود والقصاص، وينفرون الناس عن منهج الله؛ لينصرف الناس عن الدين. هم إذن قد صدوا عن سبيل الله وطلبوا العوج فيما شرع الله لينفروا الناس عمّا شرع الله، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل هم بالآخرة كافرون، ولو كان الواحد منهم مؤمناً بالآخرة ويعلم أن له مرجعاً ومرداً إلى الله لما فعل ذلك.
– من كتاب اهوال يوم القيامة للشيخ الشعراوى ]] .
- {هَٰذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَٰذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ – ص 59-64 }
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ – سبأ 31-33}
5- { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ – فاطر 36-37}
6- ورد فى سورة الصافات حوار بين اهل الجنه
{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِى سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّى لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ الصافات 50-61 } .
هذه الآية ترد على من يشككون فى حقيقة البعث والحساب والثواب والعقاب
وفى الآيه وصف لمجموعه من اهل الجنه (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) يتساءلون عن ماذا احضرهم إلى الجنه ؟ او بماذا أُدخِلُوا الجنه ؟
(رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ – 193 آل عمران) والمنادى هو الرسول سنعرف عندها قيمة الاسلام والإيمان والإحسان والتقوى وإسلام الوجه لله تعالى فى الجنه واستعمال لفظ يتساءلون بدلاً من يسألون دليل على ان التساؤل يدور بينهم جميعاً وكلهم يَسأل ويُسأل.
(قال قائل منهم إنى كان لى قرين) هذا القرين كان يستهزئ بالآخرة والحساب ويقول (إءذا متنا وكنا تراباً وعظاما) ولو كان مُحِقاً لقال عظاماً وتراباً لكنه قال تراباً وعظاماً وهذا مغاير للترتيب الطبيعى.
وقوله (لمدينون) نذكر فى سورة الفاتحه قوله تعالى (مالك يوم الدين) اى يوم الجزاء فمعنى (لمدينون) اى هل نحن نُحاسب ونُجزى ؟ اى مُحاسَبون ؟ هذا معنى مدينون
وسأل هذا الانسان اهل الجنه (هل انتم مُطَّلِعون) وهو سؤال استفهامى لم يقل لهم هل تروه ؟ لأن الرؤيه فى النار ليست ذاتيه وهم لن يروه لأنه تغيّر شكله فى العذاب واحترق ولكن المقصود ليست الرؤيه وإنما الاطّلاع على حال هذا القرين فى النار
وهذا الاطّلاع يكون بتوفيق من الله تعالى وتدليل منه سبحانه (فاطّلع فرآه فى سواء الجحيم)
( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثُوِّب الكفار ما كانوا يفعلون ) .
سورة الانشقاق
وكلمة السواء تدل على التساوى بين كل المسافات من كل الجوانب فهو فى المنتصف بالضبط ويستوى فيه مقاييس البدايات له من كل جانب.
وعلينا ان نفرّق بين المنزله والمكانه فالمنزله هى سواء الجحيم اما المكانه فهى الدرك الأسفل.
ثم قال تعالى (تالله) لم يقل والله لأن تالله قسم مشوب بحمد الله تعالى
(إن كدت لتردين) كدت من افعال المقاربه لانه كان على وشك ان يوقعه فى الهلاك. وكلمة (تردين) الموته التى ليس بعدها حياه.
(ولولا نعمة ربى لكنت من المحضرين) من محضرين عذابك انت وعذابه هو ليس عذاب نسيان وإنما عذاب حضور ويعذّب فى سلسله ذرعها سبعون ذراعاً لأنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا باليوم الآخر ولا البعث ولولا رحمة الله تعالى على هذا الانسان لكان مثله فى العذاب.
)أفما نحن بميتين) تأكيد على قوله تعالى (إن الدار الآخرة لهى الحيوان)
(إلا موتتنا الأولى) هذا استثناء فموتتنا الاولى رأيناها بعد الحياة الدنيا اى الدار الاولى اما الثانيه اى الدار الآخره فلا موت بعدها
(وما نحن بمعذَبين) فلا عذاب فى الجنه
(ان هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون) فكل نعيم سوى الجنه حقير وكل عذاب سوى النار هيّن فالفوز بالجنه هو ما يستحق التعب والمكابده فى الدنيا
وفى قصة نوح عليه السلام اظهار لثقته بالله تعالى عندما تحمل من قومه ما تحمّل من استهزاء به وهو يصنع الفلك (واصنع الفلك بأعيينا ووحينا)
قال تعالى : (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ – المطففين)
فالتنافس يكون فى الدنيا على الفوز بالجنه وعلى العمل الذى يؤدى بنا الى الجنّه .
7- { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ – الحديد 13-14}
كلام أهل الجنّة وأمنياتهم :
رأينا إطناباً في وصف جمال الجنّة وأنهارها وشرابها وطعامها ونسائها وولدانها، وهذه الأوصاف والمسّرات تجعلنا نعتقد أن القرآن يزخرُ بصلواتِ الحمد والتسبيح والتمجيد التي سيرفعها أهل الجنة لله بسبب ما هم فيه من نعيم، ولأن الله يستحق ذلك من المتّقين، ولكننا نصاب بخيبةٍ كبيرةٍ عندما نكتشِفُ أنَّ الجملة الوحيدة التي تحتوي على دعاءٍ سيرفع لله في الجنّة هي ما جاء في سورة النساء 10:10 “دعواهُم فيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وتحيَّتهُم فيها سلامٌ وآخِر دعواهمُ أنَّ الحمدُ للهِ رَبَّ العالمين” وجملةُ حمدٍ لله، ولكنها لا تخاطب الله مباشرةً في سورة الزُّمر 74:39 “وقالوا الحمدُ للهِ الذي صَدَقَنا وعَدهُ وأوْرثَنا الأرضَ نتبوَّأ مِنَ الجنّةِ حيثُ نشاءُ فَنَعْمَ أجرُ العامِلين”. لذلك يحق لنا أن نتساءَل:
ما هو سِرُّ هذا الصمت؟
فهل هو هذا ما يستحقه الله من المؤمنين الأتقياء؟
أم أنَّ صلواتهم في الجنة أقدس وأجّل من إعلانِها في القرآن؟
أم أنَّ السبب الحقيقي هو حقيقة جنّة المسلمين كما وصفها القرآن، فهي جنّة الملذات والمسَرات والشهوات والطعام والشراب والجنس مع الحوريات الفاتنات، وبالتالي لن يجد الأتقياء وهم في هذا النعيم أيَّ وقت فائضٍ لديهم ليرفعوا ترنيمة شكر أو تسبيحه أو صلاة أو حتى دعاء لرب العالمين. ونُصدَم عندما نقرأ تفاسير المسلمين للدُّعاء اليتيم الذي سيقوله الأتقياء في الجنّة، وذلك عندما نجدهم يقولون في تفاسيرهم أنَّ “دعواهم فيها سبحانكَّ اللهُمَّ” يرتفع من حناجرهم عندما يريدون طعاماً أو عندما يمر طيراً فيشتهونَهُ. ومع أنَّ النبي محمد قال في أحاديثه “إنَّ أهل الجنّة يلهمون التسبيح والتحميد كما تُلهمونَ النَفَسَ (رواه مسلم وأحمد) إلاّ أنَّهُ لم يخبرنا بمضمون التكبير والتسبيح والحمد.
ولكن أهل الجنّة سيتبادلون الكلام فيما بين أنفسهم، وكذلك سيتحدّثون مع أهل النّار؟!.وقد سجل لنا القرآن حوار أهل الجنّة مع أهل النّار في سورة الأعراف 50:7 حيث يقول: “ونادى أصحابُ النّارِ أصحابَ الجنّة أن أفيضوا علينا من الماءِ أو مِمَا رزقكُمُ اللهُ قالوا إن اللهَ حَرَّمَها على الكافرين”. وفي سورة المدّثر39:74-42 “إلاّ أصحاب اليمين. في جَنّاتٍ يتساءَلون. عن المجرمين. ما سَلًكَكُم في سَقَر” ولا نفهم كيف سيتم مثل هذا الحوار بين أهل الجنّة والنّار؟ كذلك سجل لنا القرآن الحوار بين أهل الجنة أنفسهم،وكيف تساءلوا عن ماضيهم في الأرض، ومحاولة الشياطين والجن ضلالهم، وكيف أطاعوا الله وأعطاهم الجنة التي بها ينعمون، فيقول في سورة الصّافات 50:37-60 “فأقبلَ بعضهم على بعضٍ يتساءلون.قال قائلٌ منهم إنىّ كانَ لي قرينٌ. يقول أئِنَّكَ لِمَنَ المصَدِّقين. أئِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً ائنَّا لَمَدينون. قال هل أنتم مُطَّلِعونَ. فاطّلَعَ فرآهُ في سواءِ الجحيم. قال تاللهِ إن كِدْتَ لَتُرْدينِ. ولولا نعمة ربي لكنتُ مِنَ المُحْضَرينَ. أفما نحنُ بميِّتينَ إلا مَوتَتنا الأولى وما نحنُ بمُعَذّبينَ.
إنَّ هذا لَهُمَ الفوزُ العظيمُ” وفي الطور 25:52-28 “وأقبَلَ بعضُهُم على بعضٍ يتساءَلونَ. قالوا إنّا كُنّا قَبْلُ في أهلنا مشفقينً. فَمَنَّ اللهُ علينا ووقانا عذابَ السَّموم. إنّا كُنّا مِنْ قَبلُ ندعوهُ إنَّهُ هو البَرُّ الرَّحيمُ”. وذكر القرآن أيضاً كلام أهل الجنة في طلب الطعام “متّكئين فيها يَدْعونَ فيها بفاكهةٍ كثيرةٍ وشراب” (ص 51:38 أنظر أيضاً الدخان 55:44 ويس 57:36). كذلك لن يسمع أي نوع من الكلام الباطل في الجنة، فليس هناك من يتحدث بكلامٍ لا ضرورة له، ولا يسمع أهل الجنة كلام كذبٍ أو كلام إثمٍ بل تحية السلام من بعضهم البعض ومن رب العالمين. فنقرأ في الواقعة25:56-26 “لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سَلاماً” وفي النبأ 35:78 “لا يسمعون فيها لغواً ولا كَذّاباً” (أنظر أيضاً الغاشية 11:88 ومريم 62:19) وفي إبراهيم 23:14 “تحيّتُهُم فيها سلامٌ”. ولكن القرآن أخبرنا أنَّ أهل الجنّة سيسمعون كلام أهل النار كما رأينا في سورة الأعراف 50:7، وبالتالي فأهل الجنّة سيسمعونَ لغواً، إلا إذا كان كلام أهل النّار حسناً؟!
إضافةً إلى الكلام المنطوق، يخبرنا القرآن أنَّ أهل الجنّة ستكون لهم أمنياتهم الخاصَّة بهم، ولا نعرف بالضبط إن كانوا سيعرفون هذه الأمنيات إلى الله أم لا، ولكننا نعلم من آيات القرآن أنَّهم سينالون ما يشتهون، كما نقرأ في سورة النمل 31:16 “لهم فيها ما يشاؤون” وفصّلت 31:41 “ولكم فيها ما تشتهي أنفُسكُم ولكم فيها ما تدَّعون (أنظر أيضاً الفرقان 16:25 وسورة ق 35:50). وما قاله المفسرون عن شهوات أهل الجنة يدور بالكامل حول الطعام والشراب والنساء والجنس، ولا نقرأ عن أمنيةٍ لأحدهم في قضاء وقت في حضرة الله للتسبيح والتمّجيد.
في زيارة أهل الجنة بعضهم بعضآ، وتذاكرهم ما كان بينهم في الدنيا
قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُون قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}
فأخبر الله سبحانه وتعالى: إن أهل الجنة اقبل بعضهم على بعض يتحدثون ويسأل بعضهم بعضا عن أحوال كانت في الدنيا فأفضت بهم المحادثة والمذاكرة إلى أن قال قائل منهم إني كان لي قرين في الدنيا ينكر البعث والدار الآخرة ويقول ما حكاه الله عنه يقول أئنك لمن المصدقين بانا نبعث ونجازى بأعمالنا ونحاسب بها بعد أن مزقنا البلى وكنا ترابا وعظاما ثم يقول المؤمن لإخوانه في الجنة هل أنتم مطلعون في النار لننظر منزلة قريني هذا وما صار إليه.
هذا أظهر الأقوال وفيها قولان آخران أحدهما: إن الملائكة تقول لهؤلاء المتذاكرين الذين يحدث بعضهم بعضا هل انتم مطلعون رواه عطاء عن ابن عباس
والثاني أنه من قوله الله عز وجل لأهل الجنة يقول لهم هل أنتم مطلعون والصحيح القول الأول وان هذا قول المؤمن لأصحابه ومحادثيه والسياق كله والأخبار عنه وعن حال قرينه قال كعب: بين الجنة والنار كوى فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو كان له في الدنيا اطلع من بعض تلك الكوى وقوله فاطلع أي اشرف قال مقاتل لما قال لأهل الجنة هل انتم مطلعون قالوا له أنت اعرف به منا فاطلع أنت فاشرف فرأى قرينه في سواء الجحيم ولولا إن الله عرفه إياه لما عرفه لقد تغير وجهه ولونه وغيره العذاب أشد تغيير فعندها قال الله تعالى: {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} أي إن كدت لتهلكني ولولا أن أنعم الله علي بنعمته لكنت من المحضرين معك في العذاب وقال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} وقال الطبراني حدثنا الحسن ابن إسحاق حدثنا سهل بن عثمان حدثنا المسيب بن شريك عن بشر بن نمير عن القاسم عن أبي أمامة قال سئل رسول الله أيتزاور أهل الجنة قال يزور الأعلى الأسفل ولا يزور الأسفل الأعلى إلا الذين يتحابون في الله يأتون منها حيث شاؤوا على النوق محتقبين الحشايا”
وقال الدورقي حدثنا أبو سلمة التبوذكي حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال بلغنا إن أهل الجنة يزور الأعلى الأسفل ولا يزور الأسفل الأعلى وقد تقدم حديث علقمة بن مرثد عن يحيى بن إسحاق عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال الطبراني حدثنا محمد بن عبدوس حدثنا الحسن بن حماد حدثنا جابر بن نوح عن واصل بن السائب عن أبي سورة عن أبي أيوب يرفعه إن أهل الجنة يتزاورون على النجائب وقد تقدم فأهل الجنة يتزاورون فيها ويستزير بعضهم بعضا وبذلك تتم لذتهم وسرورهم ولهذا قال حارثة للنبي وقد سأله كيف أصبحت يا حارثة قال أصبحت مؤمنا حقا قال إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك قال عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني انظر إلى عرش ربي بارزا والى أهل الجنة يتزاورون فيها والى أهل النار يعذبون فيها فقال عبد نور الله قلبه”
وقال ابن أبي الدنيا حدثنا عبد الله حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا سعيد بن دينار
عن الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إذا دخل أهل الجنة الجنة فيشتاق الإخوان بعضهم إلى بعض قال فيسير سرير هذا إلى سرير هذا وسرير هذا إلى سرير هذا حتى يجتمعا جميعا فيقول أحدهما لصاحبه تعلم متى غفر الله لنا فيقول صاحبه يوم كنا في موضع كذا وكذا فدعونا الله فغفر لنا” قال وحدثني حمزة بن العباس أنبأنا عبد الله بن عثمان أنبأنا ابن المبارك أنبأنا إسماعيل بن عياش قال حدثني ثعلبة بن مسلم عن أيوب بن بشير العجلي عن شفي بن مانع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن من نعيم أهل الجنة أنهم يتزاورون على المطايا والنجب وأنهم يؤتون في الجنة بخيل مسرجة ملجمة لا تروث ولا تبول فيركبونها حتى ينتهوا حيث شاء الله عز وجل فيأتيهم مثل السحابة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت فيقولون: أمطري علينا فما يزال المطر عليهم حتى ينتهي ذلك فوق أمانيهم
ثم يبعث الله ريحا غير مؤذية فتنسف كثائب من مسك عن إيمانهم وعن شمائلهم فيأخذ ذلك المسك في نواصي خيولهم وفي مفارقهم وفي رؤوسهم ولكل رجل منهم جمة على ما اشتهت نفسه فيتعلق ذلك المسك في تلك اللجام وفي الخيل وفيما سوى ذلك من الثياب ثم يقبلون حتى ينتهوا إلى ما شاء الله تعالى فإذا المرأة تنادي بعض أولئك يا عبد الله أما لك فينا حاجة فيقول ما أنت ومن أنت فتقول إنا زوجتك وحبك فيقول ما كنت علمت بمكانك فتقول المرأة أو ما علمت إن الله قال فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون فيقول بلى وربي فلعله يشتغل عنها بعد ذلك الموقف أربعين خريفا لا يلتفت ولا يعود ما يشغله عنها إلا ما هو فيه من النعيم والكرامة”
حدثني حمزة أنبأني عبد الله بن عثمان أنبأنا بن المبارك أنبأنا رشدين ابن سعد قال حدثني ابن انعم إن أبا هريرة قال: “إن أهل الجنة ليتزاورون على العيس الجون عليها رحال الميس تثير مناسمها غبار المسك خطام أو زمام أحدها خير من الدنيا وما فيها
وذكر ابن أبي الدنيا من حديث أبي اليمان حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمرو بن محمد عن زيد بن اسلم عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سال جبريل عن هذه الآية ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله قال هم الشهداء يبعثهم الله متقلدين أسيافهم حول عرشه فأتاهم ملائكة من المحشر بنجائب من ياقوت أزمتها الدر الأبيض برحال الذهب أعناقها السندس والإستبرق ونمارقها ألين من الحرير مد خطاها مد أبصار الرجال يسيرون في الجنة على خيول يقولون عند طول النزهة انطلقوا بنا ننظر كيف يقضي الله بين خلقه يضحك الله إليهم وإذا ضحك الله إلى عبد في موطن فلا حساب عليه
قال ابن أبي الدنيا وحدثنا الفضل بن جعفر ابن حسن حدثنا أبي عن الحسن بن علي عن علي قال سمعت رسول الله يقول أن في الجنة لشجرة يخرج من أعلاها حلل ومن أسفلها خيل من ذهب مسرجة ملجمة من در وياقوت لا تروث ولا تبولا لها أجنحة خطوها مد بصرها فيركبها أهل الجنة فتطير بهم حيث شاءوا فيقول الذين أسفل منهم درجة يا رب بما بلغ عبادك هذه الكرامة قال فيقال لهم كانوا يصلون في الليل وكنتم تنامون وكانوا يصومون وكنتم تأكلون وكانوا ينفقون وكنتم تبخلون وكانوا يقاتلون وكنتم تجبنون”
فصل ولهم زيارة أخرى أعلى من هذه واجل وذلك حين يزورون ربهم تبارك وتعالى فيريهم وجهه ويسمعهم كلامه ويحل عليهم رضوانه وسيمر بك ذكر هذه الزيارة عن قرب إن شاء الله تعالى
ذكر تزاور أهل الجنة بعضهم بعضا وتذاكرهم أمورا كانت بينهم في الدنيا من طاعات وزلات
قال تعالى { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم – الطور : 25 – 28 }
وقال تعالى : { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أإنك لمن المصدقين الآيات إلى قوله : أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم – الصافات : 50 – 62 } .
قال ابن أبي الدنيا : حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا سعيد بن دينار ، عن الربيع بن صبيح ، عن الحسن ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إذا دخل أهل الجنة الجنة ، فيشتاق الإخوان بعضهم إلى بعض ، فيسير سرير هذا إلى سرير هذا ، حتى يجتمعا جميعا ، فيقول أحدهما لصاحبه : تعلم متى غفر الله لنا ؟ فيقول صاحبه : كنا في موضع كذا وكذا ، فدعونا الله ، عز وجل ، فغفر لنا ” .
وقال تعالى: { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أإنك لمن المصدقين أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما الآيات إلى قوله : فليعمل العاملون- الصافات 50-61 } . وهذا القرين يشمل الإنسي والجني ، يقول : كان يوسوس لي بالكفر والمعاصي واستبعاد أمر المعاد ، فبرحمة الله ونعمته نجوت منه . ثم أمر أصحابه أن يطلعوا معه على النار ، لينظر ما حال قرينه ، فاطلع فرآه في سواء الجحيم . أي : في غمراتها يعذب ، فحمد الله تعالى على نجاته مما قرينه فيه من العذاب .
ثم قال : تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين . أي : معك فيما أنت فيه من العذاب . ثم ذكر الغبطة التي هو فيها ، وشكر الله عليها ، فقال : أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين . أي : أما قد نجونا من الموت والعذاب بدخولنا الجنة ؟ إن هذا لهو الفوز العظيم . وقوله تعالى : لمثل هذا فليعمل العاملون يحتمل أن يكون من تمام مقالة المؤمن ، ويحتمل أن يكون من كلام الله ، عز وجل ، حثا لعباده على مثل هذا الفوز ، وليتنافس المتنافسون في الفوز عنده من النار ، ودخول الجنة ، لا موت فيها . ولهذا نظائر كثيرة ، قد ذكرناها في ” التفسير ” .
وذكرنا في أول ” شرح البخاري ” في كتاب الإيمان حديث حارثة حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” كيف أصبحت يا حارثة ؟ ” فقال : أصبحت مؤمنا حقا . قال : ” فما حقيقة إيمانك ؟ ” قال : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وإلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وإلى أهل النار يعذبون فيها . فقال صلى الله عليه وسلم : ” عبد نور الله قلبه ” .
وقال سليمان بن المغيرة ، عن حميد بن هلال قال : بلغنا أن أهل الجنة يزور الأعلى الأسفل ، ولا يزور الأسفل الأعلى .
قلت : وهذا يحتمل معنيين : أحدهما : أن صاحب المرتبة السافلة لا يصلح له أن يتعداها; لأنه ليس فيه أهلية لذلك .
الثاني : لئلا يرى من النعيم فوق ما هو فيه ، فيحزن لذلك ، وليس في الجنة حزن ، والله أعلم .
وقد ورد ما قاله حميد بن هلال في حديث مرفوع ، وفيه زيادة على ما قال ; فقال الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق ، حدثنا سهل بن عثمان حدثناالمسيب بن شريك ، عن بشر بن نمير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيتزاور أهل الجنة ؟ قال : ” يزور الأعلى الأسفل ، ولا يزور الأسفل الأعلى إلا الذين يتحابون في الله ، عز وجل ، فإنهم يأتون منها حيث شاءوا على النوق محتقبين الحشايا ” .
وقال ابن أبي الدنيا : حدثني حمزة بن العباس ، حدثنا عبد الله بن عثمان ، أنا ابن المبارك ، أنا إسماعيل بن عياش ، حدثني ثعلبة بن مسلم ، عن أيوب بن بشير العجلي ، عن شفي بن ماتع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن من نعيم أهل الجنة أنهم يتزاورون على المطايا والنجب ، وأنهم يؤتون في الجنة بخيل مسرجة ملجمة ، لا تروث ولا تبول فيركبونها ، حتى ينتهوا ، حيث شاء الله عز وجل ، فتأتيهم مثل السحابة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، فيقولون : أمطري علينا ، فما يزال المطر عليهم حتى ينتهي ذلك فوق أمانيهم ، ثم يبعث الله ريحا غير مؤذية ، فتنسف كثبانا من مسك عن أيمانهم وعن شمائلهم فيأخذ ذلك المسك في نواصي خيولهم ، وفي معارفها ، وفي رءوسهم ، ولكل رجل منهم جمة على ما اشتهت نفسه ، فيتعلق ذلك المسك في تلك الجمام ، في الخيل ، وفيما سوى ذلك من الثياب ، ثم ينقلبون حتى ينتهوا إلى ما شاء الله عز وجل ، فإذا المرأة تنادي بعض أولئك : يا عبد الله أما لك فينا حاجة ؟ فيقول : ما أنت ؟ ومن أنت ؟ فتقول : أنا زوجتك وحبك : فيقول : ما كنت علمت بمكانك . فتقول : أوما تعلم أن الله ، عز وجل ، قال: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون -السجدة 17 }
. فيقول : بلى وربي . فلعله يشتغل عنها بعد ذلك الوقت أربعين خريفا ، لا يلتفت ولا يعود ، ما يشغله عنها إلا ما هو فيه من النعيم والكرامة ، وهذا حديث مرسل غريب جدا ، والله أعلم .
وقال ابن المبارك : حدثنا رشدين بن سعد ، حدثني ابن أنعم ، عن أبي هريرة قال : إن أهل الجنة ليتزاورون على العيس الخور ، عليها رحال الميس ، تثير مناسمها غبار المسك ، خطام أو زمام – أحدها خير من الدنيا وما فيها .
وروى ابن أبي الدنيا من طريق إسماعيل بن عياش ، عن عمر بن محمد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عن هذه الآية : {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله الزمر 68} ، قال : هم الشهداء ، يبعثهم الله متقلدين أسيافهم حول عرشه ، فأتاهم ملائكة من المحشر بنجائب من ياقوت ، أزمتها الدر الأبيض ، برحال الذهب ، أعنتها السندس والإستبرق ، ونمارقها من الحرير ، تمتد خطاها مد أبصار الرجال ، يسيرون في الجنة على خيول ، يقولون عند طول النزهة : انطلقوا بنا ننظر كيف يقضي الله بين خلقه ؟ يضحك الله إليهم ، وإذا ضحك الله سبحانه إلى عبد فلا حساب عليه .
تصوير أهل الجنة :
((وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)) سورة الزمر رقم الآية 73
وهنا تصوير الجنة و أبوابها بأنها مفتوحة، ما هي مغلّقة، لأن من عادة الكريم أن يفتح بابه لمن يريد أن يكرمهم قبل أن يصلوا إلى بيته ليروا غاية الإكرام ، لكن إذا أغلقوا الباب دل ذلك على الإهانة.
فإن قلت قال في الآية السابقة (حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) قلنا نعم جاؤوها عند المجيء تفتح فصار فُتِحت جواب (إذا) وهنا لم يأتِ بالجواب بل جعله مقدراً (حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) حصل لهم من السعادة والسرور والطيب واللذة والحبور والنعمة والفضل والمنزلة والدرجة شيء لا يوصف ولا يقادر.
فالجملة الرابطة بين وصول أصحاب الجنة إلى الجنة (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا) وفتح الأبواب (وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) جاء مع ذكر حرف (الواو) ، فما المعنى وما المقصود من هذا الفرق بحضور حرف ( الواو ) هنا ؟!
فهذا مشهد من مشاهد الفوز العظيم ، حيث يصف صورة استعداد أهل الجنة دخولهم إلى نعيمها الخالد ، فهل رأيتم مرة عرسا دون استعدادات !! فما بالك بعرس الجنة ، القائم عليه ملائكة الرحمن ، برعاية من الحنان المنان الله مالك الملك رب السموات والأرض ونعيم الجنان .
والمعلوم أن لكل أداة في اللغة وظيفة تشغلها في التركيب اللغوي، ومعنى تؤديه في السياق
[ ووظيفة الأدوات جميعًا هي الربط؛ فكما تكون الفاء في جواب( إذا ) رابطة له يشرطها، كذلك تكون( الواو ) رابطة لجواب( حتى إذا )0 والشواهد اللغوية هي التي تحكم بصحة ذلك، لا القواعد النحوي –كحلي د,احمد,موسوعة أعراب القرآن الكريم,اللغة العربية,وفهم القرآن الكريم (سورة الزمر ) رقم الآية 73ة0.]
فوظيفة( الواو ) – كوظيفة أي أداة- هي الربط0 أما معناها الذي تؤديه في التركيب فلا يمكن معرفته إلا من السياق0 ومعنى( الواو ) في الآية هو معنى الجمع بين الشرط والجواب في الحدوث0 فمجيء أهل الجنة إلى الجنة، وفتح أبوابها لهم تمَّ حدوثهما في وقت واحد0
ومن هنا ندرك أن حضور أو غياب حرف من حروف القرآن الكريم صنع إعجازا عظيما في الآية الكريمة
أن حرف ( الواو ) يمثل فاعلية ربط بين معاني ودلالات الجمل والعبارات المستهدفة في الحديث أو في (الجملة- حيث ظهر حرف ( الواو) في مشهد أصحاب الجنة وكانت كلمة ( وفتحت )، أي هناك رابط تبادلي بين أصحاب النعيم وذلك النعيم ، فالجنة احتوت ( فُتِحَت ) للمؤمنين برابط تبادلي ( راضية مرضية ) ادخلوها بسلام آمنين .
أما في حالة أصحاب النار(السابقة ) فلا يوجد رابط تبادلي مثل أهل الجنة بل (فائقية تبادلية) أي رغما على أنوفهم يدخلون جهنم والتبادلية هي مع أفعالهم التي فعلوها ، فاختف بذلك القصد باختفاء حرف الواو.
والسر في حذف الجواب في آية أهل الجنة وذكره في آية أهل النار يقال هذا أبلغ في الموضعين فإن الملائكة تسوق أهل النار إليها وأبوابها مغلقة حتى إذا وصلوا إليها فتحت في وجوههم فيفجأهم العذاب بغتة فحين انتهوا إليها فتحت أبوابها بلا مهلة فإن هذا شأن الجزاء المرتب على الشرط أن يكون عقيبه فإنها دار الإهانة والخزى فلم يستأذن لهم في دخولها ويطلب إلى خزنتها أن يمكنوهم من الدخول
أما الجنة فإنها دار الله ودار كرامته ومحل خواصه وأوليائه فإذا انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أن يفتحها لهم ويستشفعون إليه بأولي العزم من رسله وكلهم يتأخر عن ذلك حتى تقع الدلالة على خاتمهم وسيدهم وأفضلهم فيقول أنا لها فيأتي إلى تحت العرش ويخر ساجدا لربه فيدعوه ما شاء الله أن يدعوه ثم يأذن له في رفع رأسه وان يسأله حاجته فيشفع إليه سبحانه في فتح ابوابها فيشفعه ويفتحها تعظيما لخطرها وإظهارا لمنزلة رسوله وكرامته عليه
وإن مثل هذه الدار هي دار ملك الملوك ورب العالمين إنما يدخل إليها بعد تلك الأهوال العظيمة التي أولها من حين عقل العبد في هذه الدار إلى أن انتهى إليها وما ركبه من الأطباق طبقا بعد طبق وقاساه من الشدائد شدة بعد شدة حتى أذن الله تعالى لخاتم أنبيائه ورسله وأحب خلقه إليه أن يشفع إليه في فتحها لهم وهذا أبلغ وأعظم في تمام النعمة وحصول الفرح والسرور مما يقدر بخلاف ذلك لئلا يتوهم الجاهل أنها بمنزلة الخان الذي يدخله من شاء فجنة الله غالية بين الناس وبينها من العقبات والمفاوز والأخطار مالا تنال إلا به فما لمن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ولهذه الدار فليعد العدة فالغرض في حذف الجواب ، إذ كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهى ، فجعل الحذف دليلا على ضيق الكلام عن وصف ما يشاهدونه ، وتركت النفوس تقدر ما شأنه ، ولا يبلغ مع ذلك كله ما هنالك ، لقوله (عليه الصلاة والسلام) : فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر”.
ومن الناحية البيانية أن جواب الشرط في حال جهنم (إذا جاؤوها) مذكور وهو: (فتحت أبوابها)، أما في حال الجنة فلا يوجد جواب للشرط لأنه يضيق ذكر النعمة التي سيجدها المؤمنون في الجنة فكل ما يقال في اللغة يضيق بما في الجنة
وهي الواو الحالية أي وقد فتحت أبوابها أي وهي في حالة انفتاح أي سيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة زمراً حتى اذا جاؤها حال كونها مفتّحة ابوابها. فالنار اذن ابوابها موصدة حتى يساق اليها الكافرون فتفتح فيتفاجؤن بها وهذا نوع من الاذلال لهم واخافتهم وارعابهم بما سيجدون وراء الأبواب أما الجنة فأبوابها مفتوحة وهذا نوع من التكريم للمؤمنين.
[ الظاهر أن قوله تعالى: (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا) … عطف على (فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) وجواب (إذا) محذوف مقدر بعد (خالدين) للإيذان بأن لهم حينئذ من فنون الكرامات ما لا يحيط به نطاق العبارات كأنه قيل: إذا جاؤها مفتحة لهم أبوابها وقال لهم خزنتها (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) أي من جميع المكاره والآلام وهو يحتمل الإخبار والإنشاء. – الشعراوي,محمد متولي,تفسير نداء الايمان,تفسير سورة الزمر رقم الآية (73( ]
والفرق الدقيق .قال في النار { فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } وفي الجنة { وَفُتِحَتْ } بالواو، إشارة إلى أن أهل النار، بمجرد وصولهم إليها، فتحت لهم أبوابها من غير انتظار ولا إمهال ، وليكون فتحها في وجوههم، وعلى وصولهم، أعظم لحرها، وأشد لعذابها. وأما الجنة، فإنها الدار العالية الغالية، التي لا يوصل إليها ولا ينالها كل أحد، إلا من أتى بالوسائل الموصلة إليها، ومع ذلك، فيحتاجون لدخولها لشفاعة أكرم الشفعاء عليه، فلم تفتح لهم بمجرد ما وصلوا إليها، بل يستشفعون إلى اللّه بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، حتى يشفع، فيشفعه اللّه تعالى.
والخطاب هنا جاء لأهل التقوى والإيمان بالدخول مباشرة إلى جنات النعيم في قوله (فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) أي ادخلوا نعيم الجنة خالدين فيها ، على العكس المشهد الخاص بأهل الجحيم بالدخول أولا إلى أبواب جهنم ( ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ)
فلِمَ لم تذكر هنا لفظ (الأبواب) وجاء المعنى بالدخول مباشرة إلى ( جنات النعيم ) ؟
أن الجواب واضح وميسر لحمله دلالات اعجازية عظيمة ومبهرة ، فمن سمة النعيم وصفاته أن يكون شاسعاً مفتوحاً للعيان لا تعكره حواجز أو موانع أو أبواب توصد ، ولكي نفهم هذا المعنى فنرى مثلا كيف يقيم أي شخص على إقامة بستانه الخاص في حديقة منزله أو قصره ، فهو يحرص أن تكون مساحة بستانه ذا أفق واسع لا يعكر صفو جمالها ولا سعة افقها أي أبواب توصد ، أو حواجز تَمنع الاستمتاع بكل مساحة البستان وجماله وخضرته ، حتى إذا فتح صاحب الدار باب بيته أو قصره ففورا سيرى أمامه منظر ذلك البستان بأبعاده المتنامية وأفقه الجميل ، فيسرح ببصره مغتبطاً برؤية تلك الخضرة وذلك الجمال دون حواجز أو أبواب تعوق رؤية ذلك الجمال
صورت هذه الآيات الكريمات, حالتين متقابلتين الحالة الأولى تتمثل في تصوير حالة أهل الجنة وما ينعمون به من نعيم مقيم، والحالة الثانية تتمثل في تصوير حالة أهل النار وما يعانون فيها من عذاب أليم في النيران..
وفيه من تصوير الحالتين بجمال المقابلة البديعة بين الحالتين التي تبرز المعنى وتوضحه ويبرز بجمال هذا التصوير لما فيه من حيوية وحركة كما يبرز بجمال الأسلوب القرآني وبلاغته في جذب الانتباه وتحريك الوجدان، وفي قوله نادى أصحاب الجنة أصحاب النار نجد بلاغة القرآن في لفظ نادى فهو فعل ماض جاء في زمن المستقبل ليفيد التحقق والتثبت، فالتعبير عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيه على تحقق وقوعه•
أما الإعجاز يكمل في الدقة في وصف حالة أصحاب الجنة وأصحاب النار واستعدادهم للدخول إلى جنات النعيم أو عذاب الجحيم ، وكما ورد في المشهد الأول أهل النار) فان هذا المشهد الثاني( أهل الجنة )جاء ليوافق توافقاً مبهراً
الفرق بين الرد على الحوارين :
)- أصحاب جهنم) : (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ))
(أصحاب الجنة ): وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ))
والفرق بين مشهد أهل النار واهل الجنة تَمثّل في حضور أو غياب حرف (الواو ) عند الآية الكريمة التي تصف مشهد أصحاب جهنم (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) و الأخرى التي تصف مشهد أصحاب الجنة ( حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) ، حيث صنع تواجد حرف الواو مع لفظ (فُتِحَتْ) من عدمه في كلا المشهدين إعجازا عظيماً مبهراً ، يصف لنا في دقة متناهية الفرق بين المشهدين بما يوافق حال أصحاب الجنة مقارنة مع حال أصحاب جهنم ،:
أن التصوير البلاغي للمعذبين جاء مملوءا بالفنون البلاغية، كما اتسم بجمال الأسلوب وبراعة التعبير
كذلك التفخيم والإعظام :ويؤثر ذلك في المواضع التي يراد بها التعجب والتهويل فترك النفس تحول في الأشياء المكتفية بالحال عن ذكرها .
إنما يحسن الحذف لقوة الدلالة عليه ، أو يقصد به تعديد الأشياء فيكون في تعدادها طول وسآمة كما في قوله تعالى
{ حتى إذ جاؤوها وفتحت أبوابها} ( الزمر : 71 ) ، فحذف الجواب ، إذ كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهى ، وتركت النفوس تقدر ما شاءته ولا تبلغ مع ذلك كله ما هناك ،
ذكر ربهم مع الذين اتقوا ولم يذكرها مع الذين كفروا
فالذين كفروا عندما يساقون الى النار فهؤلاء لا يستحقون أن يرد معهم اسم الله سبحانه وتعالى فضلاً عن أن يذكر اسم الرب (ربهم) الذي يعني المربي والرحيم العطوف الذي يرعى عباده فلا تنسجم كلمة ربهم هنا مع سوق الكافرين الى جهنم وعدم ذكر كلمة ربهم مع الذين كفروا هو لسببين
الأول أنهم يساقون الى النار وثانياً أنهم لا يستحقون ان تذكر كلمة ربهم معهم فلا نقول وسيق الذين كفروا ربهم الى جهنم لأن كلمة الرب هنا :ان فيها نوع من التكريم والواقع أنه كما قال تعالى (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا
لكن مع المؤمنين نقول (وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة) ذكر كلمة ربهم هنا تنسجم مع الذين اتقوا. وفعل كفر يتعدّى بنفسه أو بحرف الجر وهنا لم يتعدى الفعل وهذا يدل على اطلاق الذين كفروا بدون تحديد ما الذي كفروا به لتدل على أن الكفر مطلق فهم كفروا بالله وبالايمان وبالرسل وبكل ما يستتبع الايمان.. (وسيق الذين كفروا الى جهنم زمراً) لم تذكر كلمة (ربهم) لأن الربوبية رعاية ورحمة ولا تنسجم مع السوق للعذاب ولا يراد لهم أن يكونا قريبين من ربهم لكنها منسجمة مع سوق الذين اتقوا ربهم الى الجنة فهي في هذه الحالة مطلوبة ومنسجمة. كلمة الرب فيها نوع من التكريم فلا تذكر مع الكافرين لكن مع المؤمنين تكون مطمئنة ومحببة اليهم (وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة زمرا
ملاحظة السجع في الآيتين ، إذ تقوم كثير من آيات القرآن على الفواصل المسجوعة .ثم لم تخلوا من المقابلة الخفيفة اللطيفة التي أبرزت المعنى ووضعته أمامنا موضع المقارنة والموازية
)- أصحاب جهنم) : (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ))
(أصحاب الجنة ): وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ))
التكرار ، ويكثر في القرآن لتأكيد المعنى ، (وسيق) استخدام الالتفات ، وهو الانتقال من ضمير إلى ضمير للفت الانتباه وشد الذهن لما سيقال التنوع و المراوحة بين الأساليب الخبرية والإنشائية ,ثم التذييل في نهاية الآية.وهو تعقيب الجملة بجملة أخرى مستقلة في مكوناتها تشتمل على معناها التاكيد والتقوية للمعنى المراد به وهنا جاري مجرى الأمثال في فشو الاستعمال
(فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) – د لاشين, عبد الفتاح ,المعاني في ضوء أساليب في القرآن الكريم,دار الفكر العربي,كلية الدراسات الأسلامية 1424هـ2003م ]
وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ – الأعراف 44 )
[ تصور الآية مشهدا وهو ,عندما يستقر أهل الجنّة في مساكنهم وقصورهم وينظرون إلى ما حولهم بحثاً عن أصدقائهم ومعارفهم لا يجدون أفراداً منهم ويدركون أنهم صاروا من أهل النار وحرموا الورود إلى الجنّة وبذلك يتحاورون مع أهل النار.
فتبين لنا الآية كيف يرى أهل الجنة أهل النار، وهذا الترائي من ضمن النعيم ومن ضمن العذاب الأليم ، فحين يرى المؤمن بمنهج الله من عاداه وقهره وآذاه وهو في النار فهذا من تمام اللذة. والآخر حين يرى مخالفه في الجنة فهذا أيضاً من تمام العذاب. إذن لابد أن يتراءوا ، ولذلك يحدث الحوار، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار – الشعراوي ,محمد المتولى كتاب تفسير نداء الايمان من كتاب اهوال يوم القيام ]
(ينادي)، فيه إعلال بالقلب، أصله نادي- بالياء في آخره- جاءت الياء متحرّكة بعد فتح قلبت ألفا.
فيبدأ الحوار بأنهم معترفين بأنهم وجدوا ما وعدهم به الله حقاً وصدقاً، وأن الحق قد وهبهم هذه الجنة. فهل – يا أهل النار – وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟
هنا خلافاً بين الحوارين والأسلوبين مع أن السياق المنطقي واحد؛ فأهل الجنة يقولون: ” قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ” ، ولم يأت بالكاف في كلمة ما وعد (الثانية) بل قال: ” فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ”
إنه قال سبحانه: ” ما وعد ” فقط، ولم يقل ما وعدكم كما قال: (ما وعدنا) لأن المراد أن يلفتهم إلى مطلق الوعد، وليس الخاص بهم فقط، بل وأيضاً الخاص بالمقابل، وهكذا يتحقق الوعد المطلق لله. فأهل الجنة بإيمانهم وأعمالهم في الجنة فضلاً من الله، وأهل النار بكفرهم وعصيانهم عقاباً من الله.
فيستمر الحوار فيجيب أهل النار على هذا السؤال بالإيجاب وأن الله قد أنجز ما وعدهم من العذاب والعقاب الاُخروي
وهذا إقرار منهم بالواقع الذي عاشوه واقعاً بعد أن، كان وعيداً، وهم لم يكابروا لأن المكابرة إنما تحدث بين الخصمين في غير مشهد، وهم في الدنيا قبل أن يوجد المشهد كانوا يكذبون البلاغ عن الله، وصارت الدار الآخرة واقعاً، وتحقق وجودهم في النار
(فأذن مؤذن) (مؤذّن)، اسم فاعل من أذّن الرباعيّ، وزنه مفعّل بضمّ الميم وكسر العين المشدّدة والمعنى أي فينادي مناد من الملائكة يُسمع أهلَ الجنَّة وأهل النار بأن الطرد من رحمة الله على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم؛ بعدم الإِيمان وبالتكذيب باليوم الآخر.
والسؤال هنا لماذا بدر الحوار من أهل الجنّة بطرح الأسئلة لأهل النار دون العكس ؟
1-يحتمل أن سؤالهم كان لغرض تحصيل إطمئنان أكثر وإيمان أعلى بما وعد الله رغم أن أهل الجنّة يؤمنون بجميع ما وعدهم الأنبياء من اُمور الغيب ويعتقدون به ولكنهم عندما يرون ذلك باُمّ أعينهم أو يسمعون من أهل النار تحقّق الوعيد الإلهي بحقّهم فإنّ إيمانهم سيزداد ويتعمق أكثر.
2-الاحتمال الآخر هو أنهم يسألون أهل النار من أجل التهكم والذم والتقريع لهم كما كان أهل النار يلومون المؤمنين في الدنيا ويذّمونهم ويسخرون منهم على اعتقاداتهم وإيمانهم بالغيب فهذه المساءلة نوع من المقابلة بالمثل
التذييل ظهر جليا واضحا ومخيفا (فأذن مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ اَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظّالِمينَ)( كختام للمحاورة المذكورة بين أهل الجنّة وأهل النار لابدّ وأن يكون هناك من يختم هذا الحوار ولذلك ورد النداء الإلهي «أن لعنة الله على الظالمين» وتنتهي بذلك المساءلة ويسدل الستار على هذه المحاورة.
فمن هو هذا الشخص (المؤذن( الذي يختم الحوار المذكور بالنداء الإلهي والذي توحي الآية أن له سلطة على الجنّة والنار والقيامة ؟
ومن هو هذا الشخص الذي يسمعه جميع الناس في ذلك اليوم ويختم بكلامه عملية المحاورة بين أهل الجنّة وأهل النار : اَلْمُؤَذِّنُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَه
أن الحكمة في الاختلاف بين التعبيرين (وعدنا ربنا بنون العظمة لأصحاب الجنة) – (وعد ربكم) بالغائب لأصحاب النار تتجلى فيما يلي.
1- لتكريم أهل الجنة واحتقار أهل النار.
2- يؤكد التحقير الذي ذكرناه في النقطة الأولى أن الرب عز وجل ذكر خطابه لأهل النار بلفظ (الوعد) وهو في الحقيقة (وعيد)، فكأن لسان حال أهل النار أنهم يقولون (أهذا وعد ونحن نعذب والوعد لا يكون إلا بالخير) ؟
3- لبيان أن المؤمنين على يقين من وعد الله لهم وأما الكفار فهم على تكذيب وعيد الله لهم، فأصاب كل واحد منهم ما ناسب حالهم من اليقين والتكذيب، فلفظ (وعدنا) الذي خص به أهل الجنة يدل على أن هناك ارتباطا واتصالا برباط الإيمان والتصديق بين الواعد والموعود، وأما ما خص به الكفار (وعد) فدل على أن هناك عدم ارتباط بين الواعد والموعود بل هم كذبوا بوعد الله وسخروا منه ولم يصدقوا به.
توضح الآية الخطاب في الآخرة بين أصحاب النار وأصحاب الجنة وعبَّر عنه بالنداء فلِمَ اختير النداء دون القول أي عندما قال تعالى
وذلك إن في خطاب أصحاب الجنة لأصحاب النار بالنداء دون القول كناية عن بلوغه أسماع أصحاب النار من مسافة سحيقة البعد فإن سعة الجنة وسعة النار تقتضيان ذلك
ولقد جاء التصوير القصصي للمعذبين مملوءا بالإثارة لما فيه من تسلسل الأحداث وتناسق المشاهد وتدرج الحوارات بينهم وكأنها شاخصة أمامنا مناظرهم
تكرر حرف النون في الآية أكثر من أربعة عشر مرة في الآية الكريمة .مصحوبة بمؤثرات تناسب جوها، وتتناسق مع إيقاعها وصورها وظلالها
لا تخلو الآية من السجع إذ تقوم الاية على الفواصل المسجوعة التى لها تأثيرها في أبراز المعنى بوضوح
أيضا احتوت الآية على التكرار في الالفاظ ويكثر في القرآن عامة لتأكيد المعنى ، ومن الكلمات المتكررة (حقا)
إضافة إلى الالتفات وهو الانتقال من ضمير إلى ضمير ، الانتقال من ضمير المتكلم إلى المخاطب ، مثل قوله تعالى : { ((ربنا,ربكم ((
والملاحظ في الآية التنوع والمراوحة بين الأساليب الخبرية)أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا) والإنشائية ) فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟))
[ ومن خلال التحليل الأدبي نصل أن أن الحوار في القران الكريم لم يكن قاصرا على المشركين بل هناك حوارات مع أهل الجنان – عبد الرحمن د⁄إسماعيل محمد علي بحث مقدم إلى مؤتمر الحوار مع الآخر في الفكر الإسلامي 28-30ربيع الأول 1428هـ 6 -8⁄4 ⁄2007م كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة الشارقة ]
فهنا الحوار دار بين أهل الجنة والنار ,وبدأ من سؤال أهل الجنة لطرف الأخر وهو أهل النار ,وذلك بعد استقرارهم في مكانهم وهو (الجنات) وفي الآية توضيح لقمة التوازن والعدل بين جزاء الفريقين من جنس عملها في الدنيا .
وطرفا الحوار هما. أهل الجنة والنار, ومكان كل طرف في المكان المناسب الذي أعده الله له
فالقرآن لا يجيز الحوار إلا لبيان الحق, والعدل واقناع الآخرين به، واتمام الحجة عليهم
{ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ – الأعراف 50 }
صورت هذه الآيات الكريمات حالتين متقابلتين الحالة الأولى تتمثل في تصوير حالة أهل الجنة وما ينعمون به من نعيم ورزق مقيم من ماء وغيره ، والحالة الثانية تتمثل في تصوير حالة أهل النار وما يعانون فيها من عذاب أليم وحرمان في النيران ,
وفيه من تصويردقائق الآحوال التي تبرز المعنى وتوضحه ويبرز بجمال هذا الفكرة لما فيه من حيوية وحركة كما يبرز بجمال الأسلوب القرآني وبلاغته في جذب الانتباه وتحريك الوجدان.
أن التصوير البلاغي للمعذبين جاء مملوءا بالفنون البلاغية، كما اتسم بجمال الأسلوب وبراعة التعبير,ودقة التصوير
حيث يعرض لنا المولى عز وجل في هذه الآية مشهدا من مشاهد الآخرة، فحينما يصير أهل الأعراف إلى الجنة يطمع أهل النار فينادون أهل الجنة بأعلى الأصوات: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } ولكن هيهات:ثم سرعان ما يرد الطرف الآخر {قالوا إن الله حرمهما على الكافرين} اي طعام الجنة وشرابها. إنه موقف عصيب رهيب
فالندم هنا والحسرة جزاء تكذيبهم ولكنه ندم لا ينفع، وتحسر لا يفيد؛ فالآخرة دار حساب وجزاء لا دار عمل. إنهم من هول ما يرونه وفظاعته يستنجدون بأي أحد ويستغيثون بأي شيء، رغم أنهم ربما يعلمون أنه لا فائدة من اسلوب الاستغاثة!!
جاء فعل الفيض : ويفيض الماء حقيقته هي سيلان الماء وانصبابه بقوة ويستعمل مجازا في الكثرة ،
ويجوز أن يحمل الفيض على المعنى المجازي ، وهو سعة العطاء والسخاء ، من الماء والرزق ، إذ ليس معنى الصب بمناسب بل المقصود الإرسال والتفضل ز
ويكون العطف عطف مفرد على مفرد وهو أصل العطف ، ويكون سؤالهم من الطعام مماثلا لسؤالهم من الماء في الكثرة ، فيكون في هذا المحمل
هنا تعريض بأن أصحاب الجنة أهل سخاء ، وتكون من على هذا الوجه بيانية لمعنى الإفاضة ، ويكون فعل ( أفيضوا ) منزلا منزلة اللازم ، فتتعلق من
والرزق مراد به الطعام فالإفاضة:يحمل معنى التوسعة، أي صبوا علينا
وضمير قالوا لأصحاب الجنة ، وهو جوابهم عن سؤال أصحاب النار ، ولذلك فصل على طريقة المحاورة . والتحريم في قوله حرمهما على الكافرين مستعمل في معناه اللغوي وهو المنع
[ والمراد بالكافرين المشركون ، لأنهم قد عرفوا في القرآن بأنهم اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، وعرفوا بإنكار لقاء يوم الحشر . و ” الهاء والميم ” في قوله : ” إن الله حرمهما ” ، عائدتان على ” الماء ” وعلى ” ما ” التي في قوله : ” أو مما رزقكم الله ” .
اشتملت الآية على الإيغال وهو ختم الكلام بما يفيد فائدة يتم المعنى ,وهنا الفائدة هي الترهيب والتوكيد (إن الله حرمهما على الكافرين )أضافة إلى أداة التوكيد أن وتأثيرها في المعنى واضح
تم التذييل في نهاية الآية.وهو تعقيب الجملة بجملة أخرى مستقلة في مكوناتها تشتمل على معناها التاكيد والتقوية للمعنى ((إن الله حرمهما على الكافرين ( – د لاشين, عبد الفتاح ,المعاني في ضوء أساليب في القرآن الكريم,دار الفكر العربي,كلية الدراسات الأسلامية 1424هـ2003م]
والملاحظ هنا الاكثار من الأساليب الإنشائية.وذلك لآن المقام مقام طلب ومساعدة ونجاة حيث خير اصحاب النيران أصحاب الجنة بالافاضة أم بالماء أو بالرزق,كناية عن حاجتهم الملحة ,وذلهم وحسرتهم على صنيعهم
ومن خلال التحليل الأدبي لهذه الآية ,تبين أن غرض الحوار هو طلب أصحاب النار أصحاب الجنة أن يفيضوا عليهم من الماء ” [ أي صبوه ،وهو دليل على أن الجنة فوق النار . ” أو مما رزقكم الله ” من سائر الأشربة وتم اختيار هنا الماء وتحديده ليلائم الإفاضة – ابن عاشور ,محمد الطاهر,كتاب التحرير والتنوير المسألة الخامسة سورة غافر رقم الجزء25 عدد الأجزاء15صـ224 ]
وطرفا الحوار هما . أصحاب النار و أصحاب الجنة , ومن خلال الحوار التالي تبين المكان فالجنة فوق النار , والنار تحت الجنة , وذلك لآن الإفاضة عادة تأتي من الأعلى إلى الأسفل
ومكان هذا الحوار والنداء من أهل النار كان بعد دخول أهل الأعراف الجنة.
[ إن حوارات القرآن الكريم كلها دروس وعبر ومنها أنها تناشد المخالفين لبيان سر مخالفتهم حتى توضح لهم الطريق الذي حادوا عنه علهم يرجعون إليه,حيث تبين مصيرهم ,وتصف حالتهم الذليلة وافتقارهم – عبد الرحمن د⁄إسماعيل محمد علي بحث مقدم إلى مؤتمر الحوار مع الآخر في الفكر الإسلامي 28-30ربيع الأول 1428هـ 6 -8⁄4 ⁄2007م كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة الشارقة ]
والملاحظ إن جدل القرآن لا يتجه إلى مجرد الإفهام والإلزام ،بل يتجه في الكثير الغالب إلى إرشاد القارئين والمدركين والأخذ بأيديهم من خلال الترهيب والتخويف وتوجيه النظر إلى الحقائق المصيرية ,فالحوار بين أهل الجنة والنار جاء واضح الدلالة , دقيق التصوير, جلي الفكرة,وذلك لمعرفة كل شخص ماله وماعليه,لكي يحد مصيره الخالص .
النتائج
1- إن العقلية الإسلامية حينما تنادي اليوم للحوار مع الأخر فإنما تحاول أن تتواصل مع أصولها وجذورها الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة وسيرة سلفنا الصالح
2-أن ورود الحوار مع الآخر بهذه الكثرة في القرآن الكريم لاسيما الحوار بين أهل الجنة والنار يؤكد حقيقة البعث والحساب والجزاء من جنس العمل
3- في أيات أهل النار وجد أن الأفعال كثير ماتميل إلى المبني للمجهول ربما لآحتقار الفاعل
4- كثرة الحذف في أيات أهل النارمثل (ولو) المحذوفة جوابها في أكثر من موضع وكثرة الاضمار بعكس آيات الجنة التي ذكر فيها حرف الواو عند دخولهم ,وإسناد الرب إليهم تحببا منهم واحتراما.
5- كثرة الإنشاء استخدام أساليب التمني,والطلب , 4- الدقة في وضع الظروف المكانية ,الدالة على دقة التصوير في المكان (فأذن مؤذن بينهم )(ماكانوا يخفون من قبل )(يخفف عنا يوما )((أفيضوا)(لقاء يومكم هذا)
6- كثرة استخدام الجمل الخبرية في آيات أهل الجنة مقارنة بأهل النار التي تملؤها أساليب الإنشاء ولعل أبرزها الطلب ,ثم الدعاء,والتمني ,
7- تنوعت أغراض الحوار بين أهل النار وأهل الجنة ,فكل آية احتوت على غرض معين يفهم من السياق والتركيب والنظم التي وضع فيها .
8- تساوت معنى الآيات في المفهوم العام , والمقصد الشرعي,تمثلت في العدل في الدخول (زمرا)أي واحد لا أحد معه ,كناية عن العدل والتساوى في هيئة الدخول , والاختلاف سيكون في مكان الدخول والمصير الخالد لكلا الطرفين.
9- تصوير الآيات جاء على عدة طرق ,في وصف هيئة حالة أهل النار ,فتارة مظطربين,وتارة محتاجين,وتارة متساءلين.
10- يعتمد الحوار القرآني على الوصف التصويري,يعرض فيها قصصا واقعية ومشاهد مثيرة وذلك بقصد تبسيط الفكرة وتقريبها ,من خلال الحوار والوصف وتحديد المكان والزمان
11- تميز الحوار في القرآن في إبراز المعنى,ومعرفة المجهول,وكشف المضمون,وبراعة الفكرة, ودقة التصوير .وجودة الألفاظ, والتنوع في الأساليب والبلاغة من سجع وجناس ومقابلة
12- التكرار في الكلمات , والحروف, والمعنى, له قيمة في الآيات ,الذي ينسجم مع ايقاعها وتوازنها
13- معرفة الحالة النفسية للطرفين ,تظهر واضحة في أساليبهم ,ولاشك دلالة الألفاظ له آثرها الايحائي في النفوس مثل (طبتم,لعنة,خالدين,بئس,افيضوا,سيق,الكافرين,سلام,أبوابها
المراجع والمصادر
1- القرآن الكريم
1- أبو الحسين أحمد ابن فارس, ، معجم المقاييس في اللغة ، ( بيروت : دار الفكر ،1418هـ)
2- احمد عمر اليافعي نماذج التصوير الحسي في القران , بحث جامعة ام القرى ,درجة الماجستير
3- احمد محمد ,-كحلي موسوعة أعراب القرآن الكريم,اللغة العربية,وفهم القرآن الكريم (سورة الزمر )
4- إسماعيل محمد علي عبد الرحمن بحث مقدم إلى مؤتمر الحوار مع الآخر في الفكر الإسلامي 28-30ربيع الأول 1428هـ 6 -8⁄4 ⁄2007م كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة الشارقة
5- إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي .التفسير,المسألة الخامسة دار طيبة سنة النشر: 1422هـ / 2002م رقم عدد الأجزاء: ثمانية أجزاء. ,تفسير سورة الأنعام رقم الآية (27)
6- تيسير محجوب الفتياني ,الحوار القرآني في قصة موسى عليه السلام,مركز الكتاب الأكاديمي,الطبعة الأولى,2004م,1424هـ عمان,
7- جمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري ,ابن منظور ، لسان العرب ( بيروت : دار صادر ،1412هـ) ، الجزء الخامس ،
8- خالد بن محمد المغامسي ، الحوار آدابه وتطبيقاته في التربية الإسلامية ، ط 1( الرياض : مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني ،1425) ،
9- صالح بن بن حميد عبدالله . بحث في مكة المكرمة أصول الحوار وآدابه في الإسلام .
10- عبد الفتاح -لاشين, ,المعاني في ضوء أساليب في القرآن الكريم,دار الفكر العربي,كلية الدراسات الأسلامية 1424هـ2003م
11- محمد أحمد حسن,مفهوم الحوار وأهميته وأسسه المنهجية وضوابطه كوسيلة فعالة للاتصال بين الأفراد والجماعات” القضاة كلية الشريعة /الجامعة الأردنية
12- محمد عبدالله,أصول التربية الإسلامية,ط 4, 1429هـ_2008م
13- محمد رشيد رضا مسألة: الجزء السابع تفسير المنار . الهيئة المصرية للكتاب عدد الأجزاء: اثنا عشر جزءا
14- محمد عبدالرحمن محمد القرطبي ملخص عن كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان سورة» غافر رقم الأية 49
15- محمد الطاهر,ابن عاشور , كتاب التحرير والتنوير المسألة الخامسة سورة غافر رقم الجزء25 عدد الأجزاء15صـ224
16- محمد محمود عبود زورين بحث علمي عن الدعاء والمعاني والصيغ والانواع ,دراسة قرآنية سلسلة المعارف الاسلامية ,اصدارات المركز بالمتابعة والتقويم والاشراف العلمي .
17- محمد بن عبد العزيز الخضيري,. درة الأترجة . تفسير سورة الزمر / /
18- محمد متولي الشعراوي, ,تفسير نداء الايمان,تفسير سورة الزمر رقم الآية (73)
19- ناصر الدين أبي الخيرعبد الله بن عمر بن علي البيضاوي تفسير البيضاوي , سورة الزمر,مسألة الجزء الخامس دار إحياء التراث العربي عدد الأجزاء: خمسة أجزاء
20- هالا سعيد مقبل بحث ,بحث متقدم لنيل درجة الماجستير,تخصص اللغة العربية ,الحوار في مشاهد القرآن الكريم,دراسة دلالية بيانية,كلية الآداب والعلوم الأنسانية , بجامعة الشرق الأوسط 2010,2
21-يوسف القرضاوي,السنة مصدرا للمعرفة ,القاهرة ,دار الشروق,ط 2, 1418هـ\1998م,صـ218.]]]
التشبيه :
[[ التشبيه عند علماء السلف :
قال أبو هلال العسكري في ” الصّناعتين ” ( ت 400 هـ ) : “التّشبيه يزيد المعنى وُضوحا، ويُكسِبُه تأكيدا، ولهذا أطبق جميع المتكلّمين من العرب والعجم عليه، ولم يستغن أحدٌ عنه “.ومن مزايا التّشبيه أنّ أبوابه متعددة وألوانه متنوعة، وأصنافه كثيرة مختلفة، وقد ارتأيت دراسةَ أحد أرقى أقسام هذا الباب وأمتعها، وهو فنّ التّشبيه التّمثيلي، والسعيَّ لتلمس جمالياته، والكشف عن أسراره ومحاسنه في القرآن الكريم .وقد استحثّني للتّشمير لذلك: قلة الحديث عن هذا الضّرب من البلاغة، والغموض المكتنف لمصطلحه ومدلوله، بما يُوقع كثيرا من اللّبس بينه وبين ألوان بيانية مغايرة، وكذا تقَصُّد الإحساس بجمالياته في القرآن الكريم، وتذوق محاسنه في أفصح قول وأبلغِه، خصوصا مع الحضور الظّاهر لصورة التّشبيه التّمثيلي في القرآن الكريم، ممّا يجعلها حرية بالدّراسة والبيان قصد محاولة الكشف عن الإضافة الجمالية التي تحملها هذه الصّورة في القرآن الكريم، وملاحظة أثرها البالغ في إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللّفظ .وقد انتهجت في هذا المقال خطة بحث مصغرة تمثلت فيما يلي :
تمهيد:
في التّعريف بالتّشبيه وضوابطه.
المبحث الأول: تاريخ مصطلح التّشبيه التّمثيلي وتحرير الفرق بينه وبين التّشبيه العادي.
المبحث الثّاني: قيمة التّمثيل وفضله .
المبحث الثّالث : مفهوم الجمال البلاغي ومظاهره .
المبحث الرابع : أصناف الجماليات في التّشبيه التّمثيلي في القرآن الكريم وتطبيقاتها.
أصل لفظة التّشبيه في اللّغة ترجع بجميع صيغها وأحوالها إلى التّمثيل والمماثلة . وفي ذلك يقول جمال الدّين ابن منظور ( ت 711هـ) :
“الشّبه والشّبه والشّبيه: المِثل، والجمع أشباه، وأشبه الشّيء الشّيء: ماثله، والتّشبيه: التّمثيل، وشبّهه إِياه وشبّهه به مثلّهُ ” .وأمّا في الاصطلاح فقد ذكرت له تعاريف عدة أشهرها، ما عرّفه به أبو الحسن الرّماني (ت 382 ) في قوله: ” التّشبيه هو العقد على أنّ أحد الشيئين يسدّ مسدّ الآخر في حسّ أو عقل ” .و حدّه أبو هلال العسكري بقوله:
” التّشبيه:
الوصف بأنّ أحد الموصوفين ينوب مناب الآخر بأداة التّشبيه، ناب منابه أو لم ينب، وقد جاء في الشّعر وسائر الكلام بغير أداة التّشبيه” .
والملاحظ على هذين التّعريفين هو إيهام إمكانية المطابقة بين طرفي التّشبيه، وهذا ردّه كثير من أئمة البلاغة، وقد تنبه ابن رشيق القيرواني ( ت 463 هـ ) لهذا المحذور فتفاداه في بيانه للتّشبيه بقوله : ” التّشبيه: صفة الشّيء بما قاربه وشاكله، ومن جهة واحدة أو جهات كثيرة لا من جميع جهاته، لأنّه لو ناسبه مناسبة كلية لكان إياه”.ومن أجود ما رأيت في تقرير ذلك قول الإمام أبو يعقوب السّكاكي (ت 626 هـ ): ” أنت خبير بأنّ ارتفاع الاختلاف من جميع الوجوه حتى التّعين يأبى التّعدد فيبطل التّشبيه، لأنّ تشبيه الشّيء لا يكون إلاّ وصفا له بمشاركته المشبّه به في أمر، والشّيء لا يتصف بنفسه ” .و في تعريفه يقول ضياء الدّين ابن الأثير ( ت 637 هـ ):
” التّشبيه هو اللّفظ الدّال على غير الوضع الحقيقيّ لجامع بين المشبّه والمشبّه به وصفة من الأوصاف” ، وهذا الكلام فيه لبس وتداخل مع باب الاستعارة، حيث لا نجد بين هذا الحدّ وبين تعريف أجلة من العلماء للاستعارة كبير فرق . ومعلوم أنّ الحدود يلزم فيها الوضوح والبعد عن الالتباس والخلط بين الفنون .والتّعريف الذي يمكنني الإسهام به في هذا المجال من خلال مطالعتي لجهود العلماء وتقويماتهم بما يكشف عن ماهية هذا الفنّ، ويجمع أنواعه المتعددة ويحترز عن سائر الصّور البيانيّة التي لها تداخل وتقارب مع هذا اللّون هو أنّ: التّشبيه: صفة مفرد أو متعدد بمشاركة غيره من جهة فأكثر من غير مطابقة .
المبحث الأول:
تاريخ مصطلح التّشبيه التّمثيلي وتحرير الفرق بينه وبين العادي. أولا: تعريف التّمثيل لغة : يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت170 هـ ):
” التّمثيل: تصويرُ الشّيء كأنّه تنظُر إليه ” .
وجاء في لسان العرب: ” مثل كلمة تسوية يقال هذا مِثله ومثله، كما يقال شِبهه وشبهُه بمعنى، والمِثل الشّبه يقال مِثل ومثل وشِبه وشبه بمعنى واحد ” . ثانيا: تعريف التّشبيه التّمثيلي اصطلاحا :
أول ما عرف هذا المصطلح بين أرباب البلاغة بلفظ ” التّمثيل “، وكان مفهومه عاما واسعا عند المتقدمين من علماء البلاغة، فقد أطلقوه على كثير من الصّور البيانيّة كالاستعارة والمجاز والكناية والتّشبيه الاصطلاحي، ولم يجعلوه نوعا خاصا بعينه له خصائصه ومقوماته التي يرتكز عليها، وأسسه ومبادئه التي يتميز بها، وهذا شأن سائر الفنون الأدبية والبلاغيّة في تلك الفترة، إذ انصرف أهل العلم آنذاك إلى الجمع والتّدوين ونسبة الأشعار والأقوال إلى أصحابها، ولم يكن لهم كفاية وقت لتنظير الفنون وتقنينها ووضع القواعد وضبط الشوارد…
و كان أعرق ما رأيت من كلام عن التّمثيل ما ذكره أبو الفرج قدامة بن جعفر ( ت 337 هـ ) في كتابه ” نقد الشّعر ” حيث جعله تحت باب نعت ائتلاف اللّفظ مع المعنى فقال: ” التّمثيل وهو أن يريد الشّاعر إشارة إلى معنى فيضع كلاما يدلّ على معنى آخر، وذلك المعنى الآخر والكلام منبئان عمّا أراد أن يشير إليه “. و الملاحظ أنّه بهذا التّعريف أقرب إلى باب الكناية منه إلى باب التّمثيل . وتكلم عنه أبو هلال العسكري فأورد له كثيرا من الشّواهد القرآنية والأدبية تحت أبواب التّشبيه الاصطلاحي والكناية والمجاز والاستعارة ولم يجعله بابا بعينه .. وهو عند ابن رشيق القيرواني من ألوان الاستعارة حيث قال:
” ومن ضروب الاستعارة التّمثيل، وهو المماثلة عند بعضهم، وذلك أن تمثل شيئا بشيء فيه إشارة، نحو قول امرئ القيس وهو أول من ابتكره، ولم يأت أملح منه : وما ذرفت عيناك إلاّ لتقدحي … بسهميك في أعشار قلب مقتل فظاهر من خلال هذه النّقول أنّ التّمثيل في كلام هؤلاء العلماء لم يكن له ضابط معين يضبطه ويميزه عن سائر ألوان البيان. وأول ما وقفت عليه من كلام أهل البلاغة في محاولة ضبط هذا اللّون البلاغي، والتّفريق بينه وبين التّشبيه الاصطلاحي كلام نفيس للإمام الحكيم التّرمذي ( ت 320 هـ ) عليه رحمة الله في كتابه ” الأمثال من الكتاب والسّنة ” لم أر ــ والله أعلم ــ من سبقني لنقله ــ ولله الحمد وذلك فضله وكرمه ــ في سياق ذكره مثالا للتّالي لكتاب الله حيث فرق بينهما بأنّ التّمثيل ما كان الغرض منه بيان معاني الغيبيّات وتمثيلها للسّامع من ما هو ماثل وشاهد أمامه .
و قد ذكر ذلك بعد أنْ شبه التّالي لكتاب الله بمن له حبيب حنين إلى قلبه، ثمّ قال على إثر ذلك:” فإن نفر نافر من هذا فقال أليس هذا تشبيه؟ قيل له هذا تمثيل وليس بتشبيه، قال والتّمثيل أن تصف شيئا غاب عنك فتمثل له في الشّاهد ليقف على ما يؤدي معنى الغائب ” ، فالتّرمذي ــ كما هو ظاهر ــ خصّه بما تناول الغيبيّات دون غيرها من مقامات الكلام كيفما كانت صفته وأسلوبه . رأي الشّيخ عبد القاهر الجرجاني ( ت471هـ) : كان شيخ البلاغييّن عبد القاهر الجرجاني ـرحمه الله ـ بحق صاحب الفضل الكبير على هذا اللّون البيانيّ ومؤسس دعائمه ومقيم أركانه، إذ حدد له مفهومه وفرق بينه وبين التّشبيه الاصطلاحي وكشف النّقاب عن بلاغته .. فقد قسم الشّيخ عبد القاهر التّشبيه من حيث وجه الشّبه إلى قسمين: تشبيه عادي وتشبيه تمثيلي. التّشبيه العادي: هو ما كان وجه الشّبه فيه أمرا بينا بنفسه لا يحتاج فيه إلى تأول وصرف عن الظّاهر لأنّ المشبّه مشرك للمشبّه به في نفس وجه الشّبه وحقيقة جنسه لا في مقتضاه ولازمه. وذلك يتحقق في أمرين اثنين:
الأول: أن يكون وجه الشّبه حسيا أي مدركا بإحدى الحواس الخمس الظّاهرة سواء أكان الوجه مفردا أم مركبا. والثّاني: أن يكون وجه الشّبه غرزيا طبعيا ( عقليا حقيقيا ) .
أمّا التّشبيه التّمثيلي:
فهو ما لا يكون وجه الشّبه فيه أمرا بينا بنفسه بل يحتاج في تحصيله إلى تأول وصرف عن الظّاهر، لأنّ المشبّه غير مشارك للمشبّه به في حقيقة وجه الشّبه الظّاهري وجنسه بل في مقتضاه ولازمه. فإذا قلت ( ألفاظ فلان كالعسل في الحلاوة ) فإنّ الحلاوة وجه شبه ظاهري فقط، لأنّ المشبّه به وهو العسل يوصف بالحلاوة على سبيل الحقيقة بخلاف المشبّه وهو “الألفاظ “، فإنّه لا يوصف بالحلاوة على سبيل الحقيقة، ولذا يحتاج إلى التّأول بإرادة ما تستلزمه الحلاوة من قبول النّفس للشّيء وحسن وقعه فيها، ولا كذلك الحسيّ .
والملاحظ أنّ التّشبيه التّمثيلي عند عبد القاهر محصور في كل تشبيه كان وجه الشّبه فيه عقليا غير غرزيّ، سواء أكان مفردا أم مركبا .
ثانيا:
رأي أبو يعقوب السّكاكي : و أما السّكاكي فالتّشبيه التّمثيلي عنده ما كان وجه الشّبه فيه مركبا عقليا غير حقيقي . حيث يقول: “واعلم أنّ التّشبيه متى كان وجهه وصفا غير حقيقي، وكان منتزعا من عدة أمور خصّ باسم التّمثيل .. والتّشبيه غير التّمثيلي عنده : ما كان وجه الشّبه فيه على خلاف ذلك، وهذا صادق بالعقليّ الحقيقيّ ( الغرزيّ ) والشّأن فيه أن يكون مفردا، وكذلك العقلي غير الحقيقي إذا كان مفردا، وكذا جميع الحسيات مفردة كانت أم مركبة . فنخلص إلى أنّ السّكاكي اشترط في التّشبيه التّمثيلي أمرين اثنين: أن يكون مركبا، فخرج من ذلك ما كان مفردا، وأن يكون عقليا فخرج منه الحسيّ الملموس ..
رأى الخطيب جلال الدّين القزويني (ت 739هـ ) :
يقول الإمام القزويني: ” التّمثيل ما كان وجه الشّبه فيه وصفا منتزعا من متعدد أمرين أو أمور” . والتّشبيه غير التّمثيلي عنده : ” ما كان وجه الشّبه بخلاف ذلك” . فالتّشبيه التّمثيلي عند صاحب الإيضاح هو ما انتزع فيه وجه الشّبه من متعدد أمرين فأكثر من غير أن يضبطه بالعقلي، وهذا يتحقق في كل تشبيه يكون وجه الشّبه فيه هيئة منتزعة من متعدد سواء أكان ذلك الوجه حسيا أم عقليا. الموازنة بين هذه الأقوال : إنّ هذه الآراء مع وجاهتها ورسوخ أقدام أصحابها في البلاغة العربية فإنّه قد يلاحظ فيها شيء من القصور، فعبد القاهر يقصر تشبيه التّمثيل على ما كان الوجه فيه عقليا غير غرزي سواء أكان مفردا أم مركبا، وحجّته في ذلك أنّه يحتاج في تحصيله إلى إعمال فكر وإلطاف رويّة، وينفي التّمثيل عما كان الوجه فيه حسيا مركبا، مع أنّ هذا الوجه وإن كان مدركا بالحواس إلاّ أن انتزاعه من الطرفين ونظمه في هيئة مركبة، يحتاج إلى إعمال الفكر وإلطاف الرّوية كالوجه العقلي . والسّكاكي يخص التّمثيل بما كان وجه الشّبه فيه مركبا عقليا، لأنّ هذا المركب يحتاج في الوصول إليه إلى إعمال الفكر وإرهاف الحسّ، وقد تابع عبد القاهر في إهماله المركب الحسّي مع أنّه مشارك للمركب العقليّ في احتياجه إلى بذل الجهد والمشقّة حتى يمكن تحصيله والعثور عليه.
كما أهمل السّكاكي المفرد العقلي شأن الخطيب القزويني بعده في تقييده التّمثيل بما كان الوجه فيه مركبا سواء أكان حسيا أم عقليا، مع أنّ هذا الوجه لا يمكن تحصيله والوصول إليه إلاّ بعد كدّ الذّهن وإرهاف الحسّ، لأنّه يستلزم صرف اللّفظ عن ظاهره وإرادة مقتضاه ولازمه. وإذا تأملنا حديث هؤلاء الفرسان عن التّمثيل والتّشبيه، فإنّنا نراهم يعتمدون في إيضاح الفرق بينهِما على احتياج الوجه إلى بذل الجهد والمشقّة وعدم احتياجه إلى ذلك..
فإذا كان الطّريق إليه سهلا ميسورا لوضوحه وقربه سمّوا التّشبيه المعقود عليه ” تشبيها غير تمثيلي “، وإذا كان الطّريق إليه وعرا لدقّته وبُعده سمّوا التّشبيه المعقود عليه ” تشبيها تمثيليا “، ولذا لزم علينا إيجاد تعريف يدور عند هذه العلّة ويحوم حول حماها، بحيث لا يبقى تشبيه فيه حاجة إلى إعمال الفكر وكدّ الذّهن إلاّ وتناولناه في الاصطلاح.. ولذلك فإنّي توكلت على الله وأدليت بدلوي الضّعيف في هذه المسألة، مستعينا بما انقدح في ذهني من خلال أقوال العلماء السّابقين وملاحظات الباحثين المتأخرين، فرأيت أنّ حدّ التّشبيه التّمثيلي الذي يجمع كل صوره وأشكاله هو كالآتي: ” التّشبيه التّمثيلي ما لا يدرك وجه الشّبه فيه إلاّ بعد إعمال الفكر وبذل الجهد، حسيا كان وجه الشّبه أو عقليا، مفردا أو متعددا بأداة ” .
المذهب الثّاني:
القول بعدم التّفريق : من علماء البلاغة المتبحرين في هذا الفنّ الملمّين بقواعده وأحكامه من يرى أنّه لا فرق بين التّشبيهين، وما هما إلاّ وجهان لعملة واحدة، وقد بنو قولهم هذا على أساس اتفاق المعنى اللّغوي بين اللّفظين في أصل الوضع، فالتّشبيه لغة هو التّمثيل وقل عكس ذلك . و في هذا السياق يقول الإمام ضياء الدّين ابن الأثير: “وجدت علماء البيان قد فرقوا بين التّشبيه والتّمثيل، وجعلوا لهذا بابا مفردا ولهذا بابا مفردا، وهما شيء واحد لا فرق بينهما في أصل الوضع، يقال: شبهت هذا الشّيء بهذا الشّيء كما يقال مثلته به، وما أعلم كيف خفي ذلك على أولئك العلماء مع ظهوره ووضوحه” .
ونُسب هذا القول أيضا للإمام محمود بن عمر الزّمخشري (ت 538 هـ )، وأنّه يعتبر كلّ تشبيه تمثيلا، فلا فرق بينهما البتّة . والحقّ أنّي حاولت الوصول إلى هذا القول للإمام الزّمخشري غير أنّي لم أعثر له على أثر، لا في تفسيره ولا في غيرها من الكتب، ثمّ وجدت كلاما لبعض المعاصرين يذكر فيه أنّه في معرض دراسته عن الإعجاز لدى الزّمخشري لم يجد ما يثبت هذا الرأي عنه، اللّهم إلاّ إطلاقه لفظ التّشبيه على صور تمثيلية والعكس ، وهذا ليس كاف في إثبات هذا القول لعلامة خوارزم . و التّعقيب على هذا الرأي ـ على حسب ما بدا لي ـ أنّه وإن كان اللّفظان لهما معنى واحدا في أصل الوضع، فإنّ ذلك لا يمنع أن يكون لكل واحد منهما مفهوما خاصا به في الاصطلاح، وهذا مشهور منثور في كتب اللّغة والفقه أيضا، فالعبرة بما اصطلح عليه أهل العلم لا بأصل اللّفظ ومرجعه .
المبحث الثّاني:
قيمة التّمثيل وفضله . يقول العلامة أبو السّعود العمادي (ت 982 هـ ): ” التّمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل، واستنزاله من مقام الاستعصاء عليه، وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبي وقمع سورة الجامح الأبي، كيف لا ؟ وهو رفع الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية، وإبراز لها في معرض المحسوسات الجلية، وإبداء للمنكر في صورة المعروف، وإظهار للوحشيّ في هيئة المألوف” . ويقول العلامة بديع الزمان النّورسي ( ت1379هـ ـ 1960م) رحمة الله عليه: ” لقد أكثر القرآن الكريم من التّمثيلات إلى أن بلغت الألف، لأنّ في التّمثيل سرا لطيفا وحكمة عالية، إذ به يصير الوهم مغلوبا للعقل، والخيال مجبورا للانقياد للفكر وبه يتحول الغائب حاضرا، والمعقول محسوسا، والمعنى مجسما، وبه يجعل المتفرق مجموعا، والمختلط ممتزجا، والمختلف متحدا، والمنقطع متصلا، والأعزل مسلّحا “.
و يضيف في بيان فضله :” الكلام البليغ ما استفاد منه العقل والوجدان معا، فكما يتداخل إلى العقل يتقطر إلى الوجدان أيضا، والمتكفل لهذين الوجهين التّمثيل، إذ هو يتضمن قياسا وينعكس به في مرآة الممثل القانون المندمج في الممثل به، فكأنّه دعوى مدلّل…” . و من أجمع ما قيل في شرف التّمثيل ومكانته في إيصال المعنى إلى القلب، كلام الشّيخ عبد القاهر الجرجاني في أسرار بلاغته إذ يقول: واعلم أنّ ممّا اتفق العقلاءُ عليه أنّ التّمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو برزت هي باختصار في معرِضه ونُقِلت عن صُورها الأصلية إلى صورته، كساها أُبّهة وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشبّ من نارها، وضاعف قُواها في تحريك النّفوس لها، ودعا القُلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفا، وقسر الطِّباع على أن تُعطيها محبّة وشغفا.. فإن كان مدحا: كان أبهى وأفخم، وأنبل في النّفوس وأعظم، وأهزّ للعِطف وأسرع للإلف، وأجلب للفرح، وأغلب على المُمتدح، وأوجب شفاعة للمادح، وأقضى له بغُرِّ المواهب المنائح، وأسير على الألسن وأذكر، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدر، وإن كان ذمّا، كان مسُّهُ أوجع، ومِيسمُه ألذع، ووقعُه أشده، وحدُّه أحدّ ..
وإن كان حِجاجا: كان بُرهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر، وإن كان افتخارا كان شأوُه أمدّ، وشرفه أجدّ، ولسانه ألدّ.. وإن كان اعتذارا، كان إلى القبُول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسّخائم أسلّ، ولغرب الغضب أفلّ، وفي عُقد العُقود أنفث، وعلى حُسن الرجوع أبعث.. وإن كان وعظا، كان أشفى للصّدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التّنبيه والزّجر وأجدر بأن يُجلِّي الغياية، ويُبصِّر الغاية، ويُبرئ العليل، ويشفِي الغليل….” . ومما ورد خصوصا في فضله على غيره من صيغ التّشبيه الأخرى قول الأستاذ: أحمد الهاشمي بك (ت 1362ه): ” تشبيه التّمثيل أبلغ من غيره، لما في وجهه من التّفصيل الذي يحتاج إلى إمعان فكر، وتدقيق نظر وهو أعظم أثرا في المعاني، يرفع قدرها، ويضاعف قواها في تحريك النّفوس لها، فإِن كان مدحا كان أوقع، أو ذما كان أوجع، أو برهانا كان أسطع، ومن ثمّ يحتاج إلى كدّ الذّهن في فهمه” .
المبحث الثّالث:
مفهوم الجمال البلاغي ومظاهره : الجمال إحساس داخلي يستعصي على الحصر والتحديد، ينبثق من داخل النّفس الإنسانية باستحسان أسلوب ما أو صورة معينة أو محسنا مخصوصا أكثر من كونه هيئة محسوسة، فالجمال جمالٌ بما تولّد النّفوس من معانيه، وتقيس من مشابهه وتتخيّل من دلائله وإشاراته، لا بما يلقاها به من حدود وزخرف، وإنما هو جمال بما يثير فيها من بهجة، ويطلق من أصداء، ويحبو من حريّة وخصب . وأمّا مفهوم الجمالية في القرآن، فهي علم الجمال القرآني وفنيته الذي يعنى بالكشف عن أسراره وأساليبه من خلال المواضيع القرآنية المتعددة، ويشمل ذلك المفردة المنتقاة الصافية، والتركيب الجزل، والصّورة البارعة، والحكمة البليغة والمثل السّائر، والقصة الواعظة والحوار الفني والتشريع السّامي والتصور الكامل، والتهذيب المربي .
المبحث الرابع:
أصناف جماليات التّمثيل الواردة في القرآن الكريم وتطبيقاتها : إذا نظرنا إلى التّمثيل في القرآن وجدنا أسلوبا فوق طاقة البشر، ووجدنا تصويرا فنيا عجيبا يعجز عن إدراك شأوه أساطين البيان، وتنحني له البلاغة في أسمى درجاتها، والمتأمل لهذه الجماليات الإبداعية والخصائص الفنية الواردة في القرآن الكريم يلحظ تنوعها وتعددها من حيث الأصل والمبدأ، ومن حيث الغرض والمقصد، فمن حيث الأسلوب والطّريقة .. فهي شاملة عامة لكل نواحي الإبداع وأقسامه، فلا تطلب بابا من أبواب الإبداع ولا جزئية من جزئياته إلاّ ولفت اهتمامك صورة التّشبيه التّمثيلي المُتضمنة في القرآن العظيم، ومقامها الرفيع الظّاهر بين أترابها من الألوان البيانيّة في ذلك الباب . و قد ارتأيت نثر هذه الجماليات، وتلك الخصائص والمزايا في أقسام متعددة تتضح معالمها، وتستبين قسماتها مع التّمثيل والإيضاح لذلك، وجعلتها على ثلاثة أصناف :
- الصّنف الأول:
الجماليات المتعلقة بالأساليب .
الخاصّيّة الأولى:
المقابلة بين وجوه الشّبه في طرفي التّمثيل : إن التّقابل في التّمثيل من مبتكرات القرآن، حيث يتدرج القرآن الكريم في تعداد وجوه الشّبه بين ركني التّمثيل واحدا واحدا، فيشبه الصّفة الأولى مع صفة ما في المشبّه به، وصفة ثانية مع صفة أخرى غيرها في الممثل به، وهكذا تتقابل في أذهاننا صور متعددة متجاورة كلّ على حدا تتلخص منها الوجه الحقيقيّ المراد من التّشبيه، ومثال ذلك قوله تعالى “{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشّيطان فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) } [الأعراف: 175 – 176 ] تأمل بلاغة التّمثيل في هذه الآية الكريمة من حيث مقابلة أجزاء المشبّه لأجزاء طرفه الثّاني في صورة منسجمة متناسقة، تنبه العقل وتأخذ الذّهن في مقارنات متعددة، يخلص منها الفطن النّبيه إلى معنى التّشبيه، فهذا تشبيه تمثيل مركب منتزعة فيه الحالة المشبّهة والحالة المشبّه بها من متعدد، حيث ” تتقابل أجزاء هذا التّمثيل بأن يشبه الضّال بالكلب، ويشبه شقاؤه واضطراب أمره في مدة البحث عن الدّين، بلهث الكلب في حالة تركه في دّعة، تشبيه المعقول بالمحسوس ويشبّه شقاؤه في إعراضه عن الدّين الحقّ عند مجيئه، بلهث الكلب في حالة طرده وضربه تشبيه المعقول بالمحسوس . وقد أغفل هذا الذين فسروا هذه الآية، فقرروا التّمثيل بتشبيه حالة بسيطة بحالة بسيطة في مجرد التّشويه أو الخسة، فيؤول إلى أن ّالغرض من تشبيهه بالكلب إظهار خسّة المشبّه كما درج عليه في الكشّاف، ولو كان هذا هو المراد لما كان لذكر ( إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ) كبير جدوى، بل يقتصر على انه لتشويه الحالة المشبّه بها لتكتسب الحالة المشبّهة تشويها، وذلك تقصير في حق التّمثيل ” .
ومن ذلك أيضا ما ساقه القرآن من وجوه التّشابه بين المعرضين الكفرة، وبين الحمر المستنفرة: إذ تتلاقى الصّورتان في عدة نقاط تبرز عظمة التّمثيل القرآني، وتبين دقّة الاختيار في هذا التّشبيه الكريم، وهذه الوجوه نسوقها فيما يلي :
الوجه الأول:
في تمثيلهم بالحمر الفارة أصدق وصف للحالة النّفسية التي يكون عليها الكفرة وهم في حالة الإعراض والصّدود عن الذكر الحكيم، وما يكون عليهم من رعب وذعر وقلق واضطراب، وكذا ما يكون من انقسام نفسي داخلي بين ذلك المسلك وهذا المنفذ، في هيئة لا تمثلها إلاّ تلك الحمر المستنفرة التي رأت الهلاك والخراب فراحت تطير في كل حدب وصوب، ذاعرة مرعوبة في تدافع وتقاذف فيما بينها، لا تدري أي اتجاه تسلك وأي سبيل تأخذ وتتبع.
الوجه الثّاني:
أنّ الحمر الوحشية شديدة النّفار والاطراد في العَدْوِ بمجرد أن يريبها رائب، أو يساورها شك بوجود خطر يداهمها بما لا تراه في غيرها من الحيوان، ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل وشدّة سيرها بالحمر، وعدوها إذا وردت ماءً فأحسّت عليه بقانص يتتبعها .
الوجه الثّالث:
في تمثيلهم بالحمر الوحشية كناية عن سفاهة رأيهم وبلادة عقلهم، وقلة نصيبهم من الفهم والإدراك، ومذمة واضحة وتهجين لحالهم وتشنيع وتنكيت بهم أيمّا تنكيت، وهم قد نالوا هذا الوصف عن استحقاق وجدارة، كيف لا وقد دعاهم داع إلى ما يزعم أنّ فيه صلاح رأيهم وحسن منقلبهم ومآلهم، فلا يقفون هنيهة يسمعون كلامه، وينظرون حجته وبرهانه، فإن كان حقا أشفقوا على أنفسهم فتبعوه وأطاعوه، وإن كان باطلا ردوا إليه بضاعته وزادوه، وخلوه وكلامه وتركوه .
الخاصّيّة الثّانية:
المقارنة بين المعاني المتعارضة : من خصائص أسلوب القرآن أنّه يقرن المعاني المتعارضة في سياق واحد لتتميز الحقائق وتنكشف المبهمات، فمثلا حين ذكر الجنان والنعيم يذكر النيران والجحيم، وعند وصف دخائل الذين آمنوا واطمأنت قلوبهم يذكر الذين كفروا وتمزقت نفوسهم وهكذا ..
وهذا باب جليل من أبواب بلاغة القرآن يزيد في إقناع السّامع ويسلط على المنكر برهانه الساطع وحجاجه اللامع . ومن أبهر الأمثلة على ذلك تمثيل القرآن حال أهل التوحيد والإيمان أهل الكفر والطغيان بالنّخلة والحنظلة، بما يكشف عظم البون وشساعة الهوة بين الفريقين، من حيث الراحة النّفسية والطمأنينة القلبية في هذه الحياة الدنيا، ومآلهم ومصيرهم بعد الموت وفراق الأرواح للأبدان ..
فأمّا المؤمن الموحد الذي أنشأ أساسه على الكلمة النّورانيّة العالية، المشرقة في سماء الإخلاص “لا إله إلاّ الله”، فتغلغلت هذه الحقيقة الكونيّة، وهذا النّور الرباني العظيم في روحه وقلبه فسكنت منه الأوردة والعروق، وملأت الجوارح والأركان، فمثله كهاته النّخلة في طيبتها الكثيرة المتعددة من طيب المنظر والهيئة، وطيب الثّمر ولذته، وطيب الرّائحة وحسنها، أشبهت في ذلك كله: طيبة المؤمن التي لا تفارقه الدهر كله في اليسر والعسر والمنشط والمكره والضّيق والوسع، فهو طيب مع نفسه، طيب مع أهله وإخوانه بله مع أعدائه. وهي في تأصلها في أعماق الأرض وتجذرها في طينتها ومقاومتها للرّياح والعواصف الشّديدة المدمرة، كثبات الإيمان في جوهر هذه النّفس النّقية التقية ورسوخه فيها من غير ريب ولا امتراء.
و هاته النّخلة في شموخها في السّماء، وارتفاعها عن مثيلاتها من النّبات، وما في ذلك من رفعة القدر وعلو الشّأن والترفع عن الأقذار والشوائب، كالمؤمن في علوّ مقامه عند الله على غيره من أهل الشّرك والكفر، وتسامي روحه وترفعها عن الدّنائس والرذائل والمذمومات .
ثمّ مثل تعالى لصفة الكافر الذي أشرب الشّرك والظلم قلبه، وخالط ظلام الصنمية والوثنية فكره ولبه، حتى صار عديم الإدراك والإحساس، فاقد الفهم والبصيرة، بصفة شجرة الحنظل، كريهة الرائحة، خبيثة الطّعم والذوق، قبيحة المنظر والشّكل، عديمة الفائدة والنفع ،قد اجتواها النّاس واغتاظوا بقائها، واستقبحوا جوارها، فلا يحل موطنها قوم إلاّ وقلعوها عن آخرها وأزالوا آثارها فلا يستقر لها موطن ولا مقام . فالمشرك شابه خبث هذه الشّجرة في خبث عقيدته وفسادها ونتانة الأوثان ورجسها، وشابه هذا الكافر الحنظلة في اقتلاعها واجتثاثها من الأرض باقتلاع الخير من قلبه وطمس نور الهداية عن فكره وبصيرته بسبب اتخاذه آلهة من دون الله يدعوهم ويترجاهم .
الخاصّيّة الثّالثة:
جودة انتقاء ألفاظ التّمثيل في القرآن واختيارها اختيارا مناسبا للمعنى: مع تمام موافاته لما يتطلبه المقام ويستدعيه الحال، ومن هنا كان التّمثيل في القرآن موحيا مشعا لا يكاد ينقر حبات القلوب حتى يؤثر فيها بطريقة فنّية ونفسيّة عجيبة . فتأمل الكلمات التي نظمت منها صورة المشبّه به لا تجد في مفردات اللّغة ــ على كثرتهاــ من بقوم مقامها ويسدّ مسدّها مثل: انسلخ، أتبعه، رفعناه،أخلد، يلهث إلخ…. فإنّك لا تجد كلمات في اللّغة تصور هذه المعاني وتبرزها في صور حية متحركة سواها، ودونك هذا البيان والتفصيل : فأولها قوله تعالى: ” وآتيناه آياتنا ” فأخبر سبحانه أنّه هو الذي آتاه آياته وعرّفه إيّاها من غير حول له ولا تكلف في تحصيلها، بل هي نعمة أنعم الله بها عليه فأضافها إلى نفسه .
ثم قال : ” فانسلخ منها ” أي خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها وفارقها فراق الجلد ينسلخ عن اللّحم، إذ أنّ حقيقة الانسلاخ إزالة جلد الحيوان الميت عن جسده ، ثمّ استعير في الآية للانفصال المعنوي. وهنا سر بديع إذ لم يقل المولى جل وعلا “فسلخناه منها” كما قال قبلها ” وآتيناه آياتنا “، لأنّه هو الذي تسبب في انسلاخه منها بإتباع هواه بتكذيبه بآيات الله جلّ وعلا ، وإيثاره بهرج الدنيا وزينتها على الإيمان بآيات ربه عزّ وجلّ، وإتباع هديه فكان مآله الضّلال والخسران والعياذ بالله .. ثمّ قوله عز من قائل :”فأتبعه الشّيطان فكان من الغاوين ” معناه أنّ الشّيطان أدركه ولحقه بحيث ظفر به وافترسه وجعله من خدمه وعبيده، يأتمر بأمره وينتهي عند نهيه، ولهذا قال: ” فأتبعه الشّيطان” ولم يقل: يتبعه، فإنّ في معنى ” أتبعه “: أدركه ولحقه، وهو أبلغ من ” تبعه ” لفظا ومعنى. ثم قال الله تعالى ـ وقوله الحقّ ـ: ” ولو شئنا لرفعناه بها” وانظر إلى القرآن عندما يبلغ قمة التأثير ونهاية الإبداع حينما يصور حال المعوقين عن الجهاد وما يدور في قلوبهم من الفزع والقلق والاضطراب فيقول: { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلاّ قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِالسّنة حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } [الأحزاب: 18، 19].
فالصّورة الأولى في الآيات صورة المعوقين عن الجهاد الفزعين من المضي إليه، الذين لا يريدون أن يتحملوا نصيبا من أعبائه فهم ذو نفوس قلقة مضطربة يتنازعها عاملان أساسيان، أولهما هو الخوف الذي يسيطر عليهم من المآل الفظيع المحدق بهم لو انكشف أمرهم، وبانت سرائرهم، ومن هنا فهم يرتعدون في حركاتهم..
وثانيهما هو الوصول إلى غاية التثبيط عن واجب الجهاد وهو عامل أقل شأنا في واقعهم من العامل الأول لأنهم حينما ينادون حقيقة إلى الجهاد تترجرج أحداقهم في محاجرها دليلا على تقلصات نفوسهم من شدة الخوف.. والصّورة الثّانية هي صورة من يعالج سكرات الموت، يتنازع نفسه المال المظلم والخوف العميق من الجزاء المحتوم، دون أن تكون عنده القوة أو الإرادة التي يعتمد عليها في موقفه. أليست صورة المشبّه به موحية كل الإيحاء بما كان عليه أولئك المعوقون للجهاد من ضعف في الإرادة وخيبة في المآل. و هنا دعوة إلى النظر والتأمل في الكلمات التي اختيرت للمشبّه به ونظمت منها صورته، هل في مقدورنا أو في مقدور أي بليغ مهما كان حظه من الفصاحة البيانيّة، ومهما كان يحفظ من مفردات اللّغة العربية أن يأتي بألفاظ تسد مسد هذه الألفاظ التي نظمت منها صورة المشبّه به ؟ إن أحدا من البشر لن يستطيع، واللّغة العربية على اتساع مفرداتها ليس فيها ما يسد مسد هذه الألفاظ. إنها الصياغة الإلهية يقف البشر أمامها عاجزين حيارى مذهولين . ومن ذلك أيضا دقة اختيار لفظة ” الخرور ” للتعبير عن السقوط في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [الحج: 31] فأصل هذه اللّفظة من خرير المياه وخرير العقاب، وهو الصوت الذي يحدثانه عند السقوط من أعلى إلى أسفل ثم استعيرت للحجر الذي يهوي من أعلى إلى أسفل مصدرا صوتا، ثم إن من معاني الخرور “الموت ” كما يقال ” خر فلان ” أي مات .
فدلالتها في الآية ـ فيما بدا لي والله أعلم ـ أن هذا الساقط من السّماء يسقط بسرعة واندفاع مصدرا أصوات الاستغاثة والعون ولكن مصيره الموت الأكيد والنهاية المحتومة . ومن ذلك أيضا لفظة ” فَتَخْطَفُهُ ” في هذه الآية ، فأصل الخطف الأخذ في سرعة واستلاب، وخطفه وتخطفه بمعنى واحد، ومنه قول النبي للرماة يوم أحد ” إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل لكم ” الحديث .. أي تستلبنا وتطير بنا . فهذه اللّفظة دلالتها قوية قوة التّشبيه في هذا المقام لما دلت عليه من سرعة في الاستلاب وقوة في التنفيذ، بحيث لا تدع له فرصة في الإفلات أو النجاة بما لا تقوم لفظة مقامها في هذا الموضع .
الخاصّيّة الرابعة:
التنويع في أساليب التّشبيهات والأمثال ضمن الكلام المتتابع، والابتعاد عن التزام الوتيرة الواحدة، والمتابعة على نمط واحد، فلا يتقيد التّشبيه القرآني بصيغة واحدة أو أسلوب معين، وما ذلك إلاّ اعتبار للمقام ومراعاة لدرجة القرابة بين طرفي التّشبيه وقوة العلاقة بينهما .
و معلوم أن هذا التنويع في عرض الأمثال، مرّة ببناء المشبّه على المشبّه به ومرة أخرى بالعكس، ومرّة بالعرض المفاجئ والدخول المباشر في التّمثيل ومرة أخرى بتذييل التّمثيل في آخر الكلام، وأخرى بالتّمثيل المتقابل الذي يطابق ويقابل كل جزء منه جزءا من الممثّل له، وأخرى بالتّمثيل الذي يُنتزع منه وجهُ الشّبه بنظرة كليّة عامّة. كل ذلك ممّا يضفي حيوية على التّمثيل ويجعله متجددا على النّفس يسترعي انتباهها وتركيزها، ويجنبها السآمة والملل كما قد سبقت الإشارة إليه بما يغني عن ذكره ههنا .
وهذا ما يسميه بعض العلماء ” بالتفنن ” وهو بداعة تنقلاته من فن إلى فن بطرائق الاعتراض والتنظير والتذييل والإتيان بالمترادفات عند التكرير تجنبا لثقل تكرير الكلم وكذلك الإكثار من أسلوب الالتفات المعدود من أعظم أساليب التفنن عند بلغاء العربية فهو في القرآن كثير ثم الرجوع إلى المقصود فيكون السامعون في نشاط متجدد بسماعه وإقبالهم عليه ومن أبدع أمثلة ذلك قوله عز من قائل: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السّماءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة 17ـ 20 ] وفي هذا التفنن والتنقل مناسبات بين المنتقل منه والمنتقل إليه هي في منتهى الرقة والبداعة بحيث لا يشعر سامعه وقارئه بانتقاله إلاّ عند حصوله . وذلك التفنن ممّا يعين على استماع السامعين ويدفع سآمة الإطالة عنهم ” .
الخاصّيّة الخامسة:
الابتكار، والابتعاد عن التكرار والاجترار للتّشبيهات المستعملة في أقوال الشّعراء والأدباء، فأكثر الأمثلة القرآنية ـ إن لم نقل جميعها ـ إنما هي إبداع قرآني خالص . و إنّما ذكرت ذلك لأنّ تشبيهات عامة الشّعراء ليست في غالبها إلاّ إعادة رسكلة وصياغة لصور سُبقوا إليها، فهم يحاولون إبرازها في قالب جديد ينالون به براءة الإبداع، وهذا كثير مشهور في كتب الأدب، ومن الشّواهد على ذلك تمثيل القرآن لحال الداعين غير الله في إلحاحهم في نجواهم واستغاثتهم في قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الحقّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } [الرعد: 14]: فمن بلاغة الآية الكريمة أنّه لم يأت التعبير بالكفّ الواحدة، على نحو ما هو متداول في أمثال العرب من نحو قول القائل : وخيرك من باسط كفه … وممن ثناها قريب الجنى وقول الآخر : هل هو إلاّ باسِطٌ كفّه … يستطعمُ الوارد والصادرا إلا أنّ القرآن الكريم عدل عن ذلك إلى التعبير بالكفّين الاثنتين، عوض التّعبير المشتهر في أساليب العرب، وناسب ذلك مقتضى المقام من شديد الإلحاح والرّغبة في تحصيل الماء . الصّنف الثّاني: الجماليات المتعلقة بالتّصوير الفني البيانيّ :
الخاصّيّة الأولى:
تماسك الصّور التّمثيلية في القرآن تماسكا شديدا بحيث لو حاولنا فصل أحد الأجزاء لا نفرط عقد الصّورة، وانتثرت معالم الجمال فيها، ومن هنا نرى القوة البيانيّة متمثلة في إعطاء الفكرة عن طريق الصّورة التّمثيلية مركبة الأجزاء والعجيب في ذلك أنّ التّمثيل نفسه لم يأت عبثا، ولكننا نراه يجيء عقب فكرة يراد توضيحها، وتمكينها في ذهن السّامع، هذا لما نعلمه من أنّ الحجّة لا تقام إلاّ بعد طرح الدعوى وبسط الفكرة، فزاد على تماسك الصّورة بعضها إلى بعض تماسكها مع ما قبلها وما بعدها في القرآن الكريم، فارتباطها ارتباط وثيق عميق لا تتخلله فرجة أو تخصّه لبنة .. تأمل قوله تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [الجمعة: 5]، فقد يُتوهم أنّ المعنى يفهم لو اقتصر في التّشبيه على قوله: مثلهم كمثل الحمار الذي لا يعقل، ولكنّ الصّورة تزداد قوة والتصاقا حين يقرن بقية أجزائها إليها من حمل الأسفار وعدم الفقه بما فيها، واعتقاد أنّها كبقية الأحمال التي تثقل الكاهل وتجهد القوي، وذلك في جميع أبعاده يطابق حال اليهود وقد مُنحوا التّوراة لتكون لهم نبعا يستقون منه الحكمة والهداية، ولكنّهم يحملونها بإثقال سواعدهم بها دون أن يتدبروها، كأنّ على قلوبهم الأقفال .. فتمام الصّورة لا يحصل إلا بتجميع كل هذه الأجزاء، وإلصاق كل تلك القيود ومن هنا تبرز الصّورة قوية التّعبير صادقة الأداء.
وتأمل قوله تعالى: في تصوير نفرة الكفار من الدّعوة الإسلامية: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)} [المدثر: 49 – 51] .
فقد يظن أيضا قصير النّظر أنّه كان يمكن الاكتفاء في تصوير حالتهم بوصفهم بالحمر ولكن المراد غير ذلك، فالمشركون لا يريدون إعمال عقولهم في خلق السّماوات والأرض ليهتدوا إلى الخالق، وهم ــ في الوقت نفسه ــ لا يستجيبون إلى الدّاعي، بل كلّما عرض عليهم دعوته ابتعدوا عنه مسرعين، وكأنّ في أعماقهم شيئا يحثهم على الهرب منه والابتعاد الخاطف من طريق دعوته، هذه الحالة لا تكفي لها حالة الحمر، وإنما تقتضي كون هذه الحمر مستنفرة مدفوعة ــ من نفسها أو من غيرها ــ إلى العدوّ الجبان .. ثمّ تزداد الصّورة وضوحا، وتمكنا من النّفس عندما يلحق بها جزئية الفرار من أسد هصور يطلبها طعاما لأنيابه ومخالبه، فنجدها تتفرق في كل مكان هائمة على وجهها، والخوف الشّديد يملأ صدورها.. فهذا أبلغ تصوير لإعراض الكافرين عن الدعوة، وهو في الوقت نفسه بعث للنّفس العاقلة على السّخرية منهم .
ومن ذلك أيضا تمثيل أعمال الكفار بالرّماد، فهذا التّصوير له علاقة متينة واتصال أكيد مع ما دلت عليه الآيات السّابقة له من شدة عذاب الكفار وسوء مصيرهم في قوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)} [إبراهيم: 15 – 17] فيخطر ببالهم أو ببال ممن يسمع هذه الآيات من المسلمين أن يسأل نفسه ” أليس لهم أعمالا من الصّلة والمعروف: من إطعام الفقراء ومن عتق رقاب وو… فهل يجدون ثواب ذلك، أو أنّها تضيع سدى ولا تنفعهم ؟ . فكأنّما جيء بالجملة جوابا لما يقال: ما بال أعمالهم التي عملوها أين ذهبت وأين هو جزاؤها وأجرها حتى آل أمرهم إلى ذلك المآل ؟! فضرب هذا المثل لبيان ما يكشف جميع الاحتمالات ويزيل سائر الإشكالات والتّوهمات من جهة ، ويلخص ويكشف حالة الضياع للشّيء المرجوّ نفعه في وقت الحاجة إلى الانتفاع به من جهة أخرى، فتبين أنّ هذا التّشبيه جاء مغروسا في موضعه من السورة كما يغرس العضو من أعضاء الإنسان في موضعه الذي هو فيه .
الخاصّيّة الثّانية:
التّصوير المتحرّك الحيّ الناطق، ذو الأبعاد المكانيّة والزّمانيّة، حيث تبرز فيه المشاعر النّفسيّة والوجدانية، والحركات الفكرية للعناصر الحيّة في الصّورة، فتجسم لنا المعنويات المجردة في حركة يرتفع بها نبض الحياة وتعلوا بها حرارتها، وهذا ممّا يرتقِي بالتّمثيل إلى مستوى الذّروة. فالصّورة التّمثيلية في القرآن تحيط بالتّشبيه من سائر جوانبه وأنحاءه، فتتناول الحال الظّرفية للطرفين والأبعاد النّفسية الخفية التي لا نستطيع تحصيلها في تشبيهات الأدباء والشّعراء، لجهلهم بسرائر القلوب وخفايا النّفوس من الفرح والحزن وإرادة الخير أو كيد الشّر، فالتّصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، والقاعدة الأولى فيه للبيان . وكمثال على ذلك تصوير القرآن لحال أهل الشّرك وتمثيله إياهم بالعنكبوت وذلك في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [العنكبوت: 41] فإذا نحن تأملنا في حقيقة بيت العنكبوت ومميزاته ظهر لنا بجلاء أحقية التّشبيه به في هذا المقام دونما سواه من وجوه التّشبيه الأخرى، لأنّه مهما فتشنا ونقبنا عن صورة أخرى تلاؤم هذا المقام وتوافقه لم نجد ما يستحسن عليها ويخلفها، وهذا من عدة وجوه هي :
الأول:
أنّ البيت ينبغي أن يكون له أمور: حائط حائل، وسقف مظل، وأمور ينتفع بها ويرتفق، وإن لم يكن كذلك فلا بدّ من أحد أمرين : إمّا حائط حائل يمنع من البرد وإمّا سقف مظل يدفع عنه الحر، فإن لم يحصل منهما شيء فهو كالبيداء ليس ببيت، لكنّ بيت العنكبوت لا يُجِنّها ولا يكنّها، وكذلك المعبود ينبغي أن يكون منه الخلق والرزق وجرّ المنافع وبه دفع المضارّ، فإن لم تجتمع هذه الأمور فلا أقلّ من دفع ضرّ أو جرّ نفع، فإنّ من لا يكون كذلك فهو والمعدوم بالنّسبة إليه سواء، فإذن كما لم يحصل للعنكبوت باتخاذ ذلك البيت من معاني البيت شيء، كذلك الكافر لم يحصل له باتخاذ الأوثان أولياء من معاني الأولياء شيء .
الثّاني:
أنّ أقل درجات البيت أن يكون للظّلّ، فإنّ البيت من الحجر يفيد الاستظلال ويدفع أيضا الهواء والماء والنّار والتّراب، والبيت من الخشب يفيد الاستظلال ويدفع الحر والبرد ولا يدفع الهواء القوي ولا الماء ولا النّار، والخباء الذي هو بيت من الشّعر أو الخيمة التي هي من ثوب إن كان لا يدفع شيئا يظلّ ويدفع حرّ الشّمس، لكنّ بيت العنكبوت لا يُظلّ فإنّ الشّمس بشعاعها تنفذ فيه، فكذلك المعبود أعلى درجاته أن يكون نافذ الأمر في الغير، فإن لم يكن كذلك فيكون نافذ الأمر في العابد، فإن لم يكن فلا أقلّ من أن لا ينفذ أمر العابد فيه، لكن ّمعبودهم تحت تسخيرهم إن أرادوا أجلّوه وإن أحبوا أذلّوه.
الثّالث:
أدنى مراتب البيت أنّه إن لم يكن سبب ثبات وارتفاق لا يصير سبب شتات وافتراق، لكنّ بيت العنكبوت يصير سبب انزعاج العنكبوت، فإنّ العنكبوت لو دام في زاوية مدة لا يقصد ولا يخرج منها، فإذا نسج على نفسه واتخذ بيتا، يتبعه صاحب الملك بتنظيف البيت منه والمسح بالمسوح الخشنة المؤذية لجسم العنكبوت، فكذلك العابد بسبب العبادة ينبغي أن يستحق الثواب، فإن لم يستحقه فلا أقلّ من أن لا يستحق بسببها العذاب، والكافر يستحق بسبب العبادة العذاب .
الخاصّيّة الثّالثة:
تصوير المشبّه بهِ كأنّه عينُ المشبّه والبناءُ عليه كأنّه هو، فيُنزلُ المشبّه به منزلة المشبّه، بعد أن سِيق لإِحضار المقصود من المشبّه عن طريقه، وذلك بالبناء على الممثّل والحكم عليه كأنّه عين الممثّل له، على اعتبار أنّ المثل قد كان وسيلة لإِحضار صورة الممثّل له في ذهن المخاطب ونفسه، وإذ حضرت صورة الممثّل به ولو تقديرا، فالبيان البليغ يستدعي تجاوز المثل، ومتابعة الكلام عن الممثّل له، وتسقط صورة المثل لتبرز القضايا المقصودة . فقوة التّشبيه في القرآن الكريم في مطابقة الصّورة المشبّه بها لحال المشبّه، بحيث لو حاولت مرارا وتكرارا الإتيان بتشبيه آخر في ذلك السياق والسباق ما وجدت صورة موافقة للحال المضروب له التّشبيه من تلك التي جاء بها القرآن، ويحصل كل ذلك مع حضور ملاحظ للعناصر التي لها تأثر وتأثير بالتّمثيل المراد ضربه . وهذا ليس مقتصرا على الأطراف المتعارف عليها، والتي تواضع عليها أهل الفنّ، وإنما يتعداها ويتجاوزها إلى أشياء وكائنات أخرى من محيط الصّورة، لها فاعلية وتوجيه لمعنى التّشبيه ومقصوده . ثمّ كيف يستغرب صدق المشابهة بين المشبّه، والمشبّه به وهي صادرة من خالق الأرض والسّماوات جلّ في علاه، العالم بدقائق الأمور ولطائفها ومتغايرات الأشياء ومتشابهاتها، كما أنّ هذا التّشبيه القرآني إنّما هو كلام الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، ومن أصدق من الله قيلا ومن أصدق من الله حديثا .
الخاصّيّة الرابعة:
دقّةُ تصوير الألفاظ في محيطها الذي هي فيه، فتجد اللّفظة في موقعها قد أغنت عن الجمل الطّوال والتّعابير العديدة المتنوعة، وما ذلك إلاّ لدقّة تصويرها وحسن تموقعها في خارطة النّص وحيزه الدّلالي . وهذه الدقّة في التّصوير نابعة من أصل الكلمة ومعناها، حيث نجد التّطابق الحاصل بين خصائص هذه المفردة وأدق جزئياتها الصّرفية والبلاغيّة من جهة، وبين المعنى العام الذي جاءت في سياقه هذه اللّفظة وفحوى النّص القرآني الكريم من جهة أخرى، أي العلاقة التي تربط بين المفهوم الذي تؤديه هذه الكلمة والإطار الذي سيقت في ثناياه هذه اللّفظة، فتجد قوة الترابط والتناسق ودقة الجمع بينهما بما يعجز عنه البلغاء ويقف عن منازعته الفصحاء . و مثال ذلك كلمة ” الرّماد ” فهذه الكلمة في أصلها تفيد الخفة والضّالة والحقارة واللّافائدة، فذكرها الله عز وجل شبها ومثيلا لحال أعمال الكفار يوم القيامة، قال تعالى :” {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرّيح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ } ” [ الآية 18من سورة إبراهيم] فانظر الدّقة الحاصلة في تصوير أعمال الكفار بهذا الرّماد لحقارتها وضآلتها، وزد على هذه الصّورة حالة هذا الرّماد في اليوم العاصف الشّديدة القوية ريحه، كيف يصير حال هذا الرّماد وكيف هي خاتمته، إنّه إعجاز القرآن الكريم وعظمة كلام البارئ المصور جلّ وعلا .
الخاصّيّة الخامسة:
عدم التّصريح بالأحداث والعناصر التي يمكن أن تُدرك ذهنا من القرائن.
وهذه من أبرز الخصائص في الأساليب القرآنية على تنوعها واختلافها، فيحذف من المثل القرآني مقاطع معينة اعتمادا على ذكاء أهل الاستنباط، ويبقى في دلالات الألفاظ أو لوازم المعاني ما يدلّ على المحذوف وذلك جريا على سنن العرب في كلامها من إرادة الاختصار وطلب الإيجاز . ومثال ذلك قوله تعالى: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف: 175 – 178] فقد كان حق الكلام أن يقال { ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض } فحططناه ووضعنا منزلته ورددناه إلى أسفل سافلين، إلاّ أنّه جلّ وعلا جعل قوله: { فمثله كمثل الكلب } موقع فحططناه أبلغ حطّ” لأنّ تمثيله بالكلب في أخسّ أحواله وأرذلها أبلغ من ذلك، إذ أنّه مهما تصور السّامع شدة الحطّ والإهانة، فلن يصل خياله إلى إنزاله مرتبة الكلب الخسيس وهو يلهث من غير ارعواء ولا توقف.
الخاصّيّة السّادسة:
استمداد عناصر الصّورة ومفردات التّمثيل القرآني من الطّبيعة . والتّمثيل عندما يستمد عناصره من الطّبيعة التي تختلف من مكان إلى مكان وفي زمان عن زمان يهدف إلى أنْ يكون مؤثرا في كل وجدان، مسيطرا على كل تفكير، وكلّما امتزجت عناصر هذا الاختلاط بين الإنسان والطّبيعة ازدادت القرابة بينهما، وبرزت الألفة القائمة على معرفة الإنسان بأدقّ مظاهر الطّبيعة، ومن هنا فإنّ التّمثيل في القرآن مستمر استمرار الطّبيعة نفسها وعام يدركه النّاس جميعا، فنحن لا نكاد نجد في القرآن تمثيلا واحدا يدرك جماله شخص دون آخر، أو يتأثر به إنسان دون إنسان فالتّمثيل في القرآن يختلف عن التّمثيل عند العرب في الجاهلية مثلا، لأنّ هذا الأخير مستمد من بيئة خاصة لا يدركه إلاّ من عاش في هذه البيئة وعاشر أشياءها على اختلاف طبقاتها من نبات وحيوان وجماد. فالطّبيعة هي ميدان التّمثيلات القرآنية منها استمدت حيويتها وتجددها الدائمين دوام الإنسان والطّبيعة. فالقرآن عندما يوضح أعمال الكفار في هذه الآية: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ النّور 39 ] ..
ندرك لأول وهلة أنّ أعمال الكفار لا قيمة لها ولا غناء فيها مهما كلفت أصحابها من جهد ومشقّة، ومهما بلغت من الخير فمثلها كمثل السّراب وهو ظاهرة من ظواهر الطّبيعة، يغري منظرها الظامئ فيسرع نحوها متكلفا في ذلك جهدا حتى يصل إلى مرمى البصر لاهث الأنفاس خائر القوى.. ثمّ لا يجد شيئا، فتصور هنا كيف تكون نفسه بعد أن قطع مرحلة من المسير ولم يبل صداه، وكذلك الكافر . ثم انظر إلى الآية الثّانية: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [النّور: 40] فقد شبه -سبحانه وتعالى- حالهم من حيث الحيرة والتباس الأمور عليهم، وانقطاع الأمل وأنَّهم يظنّون الخير حيث لا مظنَّة، أعمالهم بظلمة حالكة فوقها ظلمة مثلها، وفوق هذه الظلمات سحاب يوجد غمَّة، وهل هناك أشد رهبة وظلمة من أمواج بحر لجي بعضها فوق بعض يكتنفها سحاب مظلم؟ إنّ موقف الكفار الذين لم يؤمنوا باللّه ورسوله رهيب أرهب من أي شيء، وأعمالهم مظلمة بل أشد ظلاما من الليل، وليس أمامهم بصيص من النّور يهتدون به إلى سواء السّبيل. وهذا الانسجام في التّنسيق بين الكلمات ينتقل بك إلى خضم لا تكاد تدرك فيه نفسك فتغمرك الخشية من جانب، وتمثل هؤلاء الضّالين متخبطين في عالم أسود، لا ينبلج له صبح ولا تطلع فيه الشّمس، كما أنّ كلمات المشبّه به المتّسقة المترابطة توحي بالنّهاية المحتومة التي تحيط بهؤلاء، وبقلوبهم الكالحة التي لا تنبض بالرحمة، ولا تلين للحقّ . ثمّ تأمل هذه الآية {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرّيح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ } [ إبراهيم 18 ]…
إنّ القرآن يتخذ من الرّماد وهو عنصر من عناصر الطّبيعة مثلا لأعمال الكفار الضّائعة، حيث يمثل أعمال الكفار في ضياعها وذهابها إلى غير عودة بالرّماد الهشّ الذي تذروه الرّياح وتذهب به بددا إلى حيث لا يتجمع أبدا، ثمّ يبلغ قمة التّأثير حينما يضمّ إلى الرّماد الرّيح الشّديدة العاتية، إنّ الرّماد لا يقوى على الصمود أمام قوى الرّياح العاتية العارمة، إنّه يتحلل وتتفتت ذراته، ويصبح لا شيء في دنيا العدم وأعمال الكفار مهما جلت وكثرت كهذا الرّماد الذي انعدم وتلاشى في جوف الرّيح الهادرة.
القسم الثّالث:
الجماليات المتعلقة بمقاصد التّمثيل وأهدافه :
الخاصّيّة الأولى :
إخراج ما لا تقع عليه الحاسّة إلى ما تقع عليه : وذلك بأن يُلبس المعنوي ثوب المحسوس، ويُحلى بأوصافه ومميزاته فيصير هذا الشّيء المعنوي المعقول كأنّه مشاهد محسوس يراه النّاس ويبصرونه . و مثال ذلك قول الله عزّ وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ النّور 39 ] .
فأخرج ما لا يحسّ من حال أعمال الكفار إلى ما يحسّ من حال السّراب الذي يندثر ويزول إذا ما قصده طالبه، والمعنى الذي يجمعهما بطلان المتوهم من شدّة الحاجة وعظم الفاقة، ولو قال: يحسبه الرّائي ماء لم يقع موقع قوله: الظمآن، لأنّ الظمآن أشدّ فاقة إليه، وأعظم حرصا عليه . ومثال ذلك أيضا قول الباري جل وعلا: ” { لَهُ دَعْوَةُ الحقّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } [ الرعد: 14 ].
فهذا بيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسّة إلى ما تقع عليه، وذلك أنّ حالة المشرك عندما يدعو آلهته فلا تستجيب له بشيء حالة لا تدركها حواس الإنسان فلما أن شبهت بحالة الذي يبسط كفّه لشرب الماء ــ وهي صفة محسوسة ندركها بأبصارنا ــ جعلها هذا التّشبيه وكأنّها أمر محسوس مدرك بالأبصار، والجامع بين الصّورتين “الحاجة إلى نيل المنفعة والحسرة على فوات الطلبة ” .
وكذلك قوله عزّ وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشّيطان فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) } [الأعراف: 175 – 176]، أخرج ما لا تقع عليه الحاسّة إلى ما تقع عليه من لهث الكلب، والمعنى أنّ الكلب لا يطيعك في ترك اللّهث على حال، وكذلك الكافر لا يجيبك إلى الإيمان في رفق ولا عنف.
الخاصّيّة الثّانية:
إخراج ما لم تجر به العادة إلى ما جرت به العادة ، ومعنى ذلك أن يمثل حال الأمر الشّاذ النّادر الحدوث بحال ما اعتاد النّاس وقوعه وألفوه، ومن ذلك قوله تعالى: { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ممّا يَأْكُلُ النّاس وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [يونس: 24]، ففي هذا التّشبيه تصوير لقيمة هذه الحياة وتمثيل لحقيقتها، فإنّ مثلها في بهجتها ومسراتها وهناءتها والسّعادة فيها مهما تبلغ من المظهر البهيّ، والزّينة الباهرة ليس لها بقاء، وإنّما مآلها إلى الفناء، كمثل الماء ينزل من السّماء فينبت النبات الذي يأكل منه النّاس مستمتعين، والأنعام والدواب، وأنّه إذ يبلغ أقصى زخرفه ونضرته ومتعته، وامتلاء أهل الأرض بالغرور، وظنَّوا أن كل شيء في قبضة أيديهم جاءهم أمر الله، فصار النّبات هشيمًا، والإنسان رميمًا، كأن لم يغن أحد بالأمس . فهو بيان لما جرت به العادة من حال الزّينة والبهجة والاطمئنان ثم الهلاك والخراب فكذلك حال النّاس وهذه الحياة الدنيا، وفيه العبرة لمن اعتبر، والموعظة لمن تذكّر. ومنه قوله تعالى: ” {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النّاس كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [ القمر 19 ـ 20 ] فشبه حال النّاس حين تنزعهم الرّيح العاتية ـ وهو أمر لم يألفه النّاس ولم يعتادوه ـ بما اعتاد عليه النّاس من حال النّخل المنقعرة أجزاؤها.
الخاصّيّة الثّالثة:
إخراج ما لا قوة له في الصّفة على ما له قوةٌ فيها، كقوله عزّ وجلّ: ” {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ } [ الرحمن: 24].
فهذا تشبيه قد أخرج ما لا قوة له في الصّفة إلى ما له القوة فيها. وقد اجتمعا في العظم، إلاّ أنّ الجبال أعظم. وفى ذلك العبرة من جهة القدرة فيما سخر من الفلك الجارية مع عظمها، وما في ذلك من الانتفاع بها وقطع الأقطار البعيدة فيها “وما يلازم ذلك من تسخير الرّياح للإنسان، فتضمن الكلام بناء عظيما من الفخر وتعداد النعم .
و من هذا الباب أيضا قوله تعالى: { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ } [ سورة الرحمن: 14 ] قال الرّماني :”وقد اجتمعا في الرّخاوة والجفاف، وإن كان أحدهما بالنّار والآخر بالرّياح ” . الخاصّيّة الرابعة: إخراج ما لا يعرف بالبديهة إلى ما يعرفُ بها من المعقولات والمدركات: فيشبه هذا المعلوم المعقول عند الفطن النّبيه والبليد السّفيه بما قد لا تستوعبه عقولهم، وما يمكن إدراكه من البعض دون البعض الآخر، فمن هذا قوله عزّ وجل: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [ الجمعة 5 ]، فمشهد الحمار يحمل أسفارا معلوم مفهوم لدى العام والخاصّ، فشبه به حال اليهود الذي يحملون التوراة، والجامع بين الأمرين الجهل بالمحمول وعدم الانتفاع بما فيه . ومنه قوله تعالى: { فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة 7 ]، والجامع بين الأمرين خلوّ الأجساد من الأرواح، والفائدة الحثّ على احتقار ما يؤول به الحال . وهكذا قوله سبحانه: { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت 41 ]، فمن هذا الذي لا يدري ضعف بيت العنكبوت ووهنه وسخافة من يعتمد عليه، فكذلك ضعف حال من أشرك مع الله جل وعلا آلهة أخرى يعتمد عليهم ويحتمي بحماهم.
الخاتمة :
هذه الورقات ليست في جوهرها وحقيقة أمرها إلاّ زرعا متواضعا وبذرا بسيطا، في خضم حقل رحب فسيح من جنان البيان العربي وحديقة من حدائق الإعجاز البيانيّ، حاول هذا المقال من خلالها دراسة لون التّشبيه التّمثيلي بتحديد المدلول الحقيقي لمصطلح التّمثيل، وبيان جهود العلماء والباحثين في الكشف عن جمالياته التعبيرية ومظاهره الفنية في القرآن الكريم، مع شفع ذلك بصور من التّمثيلات القرآنية وبيان لإيحاءاتها المعنوية وإشاراتها البلاغيّة مع الحرص على عذوبة اللّفظ وحسن التعبير وجزالة الكلمة وبلاغة الأسلوب. ومن النتائج التي قاربها هذا البحث المتواضع أنّ التّمثيل مصطلح قديم عريق، غير أنّه لم يكن ذا استعمال دقيق في صور مخصوصة، بل كان عاما شاملا لكثير من الألوان البيانيّة كالاستعارة والكناية وغيرها .. و كانت بداية استقلال هذا المصطلح بذاته واتضاح أصوله وقواعده مع شيخ البلاغة وفارسها عبد القاهر الجرجاني، ثم منظرها ومقننها أبي يعقوب السّكاكي، ثم موضحها وملخصها جلال الدّين القزويني، وكان لهؤلاء الأعلام اليد الطولى في هذا الفنّ بما استفاضوا فيه من الكلام عن مسائل التّمثيل وفروعه، وقد تمخض النّظر في أقوالهم وما لحقها من إثراء أو اعتراض إلى أن التّشبيه التّمثيلي مرتبط بالحاجة إلى إعمال الفكر وبذل الجهد وتركيب الصّور في الذّهن قصد استخراج وجه الشّبه وإدراك العلّة من التّمثيل. كما حاول المقال استقراء خصائص هذا التّمثيل وتتبع جمالياته، مع محاولة نظم ذلك وسلكه تحت أصناف جامعة لما تيسر تتبعه منها، والنّاظر في هذه السّمات والأسس الجمالية والمطلع على بلاغة القرآن الكريم وروعة بيانه ودقة تعبيره ومتانة إحكامه، سيعلو زئبق إيمانه وترتفع حرارة يقينه ودرجة عقيدته، ويستيقن من أعماق فؤاده أنّه ليس بكلام أفصح البشر وأروعِهم بيانا ولا أرشدِهم عقلا وحكمة ولا أقواهم حجّة وبرهانا على وجه البسيطة، بل لو اجتمع أهل كلّ هذه الصّفات ـ على قدر عددهم وعدتهم ـ على أن يأتوا بكتاب مثله ما استطاعوا .
إنّه جزالة في الألفاظ، وعمق في الإيحاء، وبلاغة في التدليل، وإشراق في المعاني، وجمال في التّمثيل ودقة في التّصوير، وقوة في التعبير، وكمال في المطابقة وغير ذلك بما لا تقدر على وصفه الكلمات، ولا توفيه حقه الجمل والعبارات، والحمد لله رب العالمين. ملاحظة: في حال عدم ظهور الهوامش فلتنظر في المقال المرفوع في المرفقات، والسلّام عليكم ورحمة الله. – شبكة الفصيح ]]
– آيات الخطاب بين أهل الجنة و أهل النار من التفاسير :
1- { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ – الأعراف 37- 39}
قال الرازي في تفسير مفاتيح الغيب :
[ اعلم أن هذه الآية من بقية شرح أحوال الكفار وهو أنه تعالى يدخلهم النار. أما قوله تعالى: { قَالَ ٱدْخُلُواْ } ففيه قولان: الأول: إن الله تعالى يقول ذلك. والثاني: قال مقاتل: هو من كلام خازن النار، وهذا الاختلاف بناء على أنه تعالى هل يتكلم مع الكفار أم لا؟ وقد ذكرنا هذه المسألة بالاستقصاء. أما قوله تعالى: { ٱدْخُلُواْ فِى أُمَمٍ } ففيه وجهان: الوجه الأول: التقدير: ادخلوا في النار مع أمم، وعلى هذا القول ففي الآية إضمار ومجاز أما الإضمار فلأنا أضمرنا فيها قولنا: في النار. وأما المجاز، فلأنا حملنا كلمة «في» على «مع» لأنا قلنا معنى قوله: { فِى أُمَمٍ } أي مع أمم. والوجه الثاني: أن لا يلتزم الإضمار ولا يلتزم المجاز، والتقدير: ادخلوا في أمم في النار، ومعنى الدخول في الأمم، الدخول فيما بينهم وقوله: { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مّن ٱلْجِنّ وَٱلإِنسِ } أي تقدم زمانهم زمانكم، وهذا يشعر بأنه تعالى لا يدخل الكفار بأجمعهم في النار دفعة واحدة، بل يدخل الفوج بعد الفوج، فيكون فيهم سابق ومسبوق، ليصح هذا القول، ويشاهد الداخل من الأمة في النار من سبقها وقوله: { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } والمقصود أن أهل النار يلعن بعضهم بعضاً فيتبرأ بعضهم من بعض، كما قال تعالى:
{ ٱلأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } ] .
2- {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ – الأعراف 43 }
3- { وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ – الأعراف 44-50 }
قال القرطبي في تفسيره : [ وذكر الثعلبيّ بإسناده عن ابن عباس في قوله عز وجل : { وَعَلَى ٱلأَعْرَافِ رِجَالٌ } قال: الأعراف موضع عالٍ على الصراط، عليه العباس وحمزة وعليّ بن أبي طالب وجعفر ذو الجناحين، رضي الله عنهم، يعرفون محبِّيهم ببياض الوجوه ومُبْغضيهم بسواد الوجوه . وحكى الزَّهرَاوِي أنهم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم، وهم في كل أمة. وٱختار هذا القول النحاس، وقال: وهو من أحسن ما قيل فيه؛ فهم على السور بين الجنة والنار، وقال الزجاج: هم قوم أنبياء ] .
قال القرطبي في تفسيره : [قوله تعالىٰ: { وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } هذا سؤال تقريع وتعيير. { أَن قَدْ وَجَدْنَا } مثل «أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ» أي أنه قد وجدنا. وقيل: هو نفس النداء. { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ } أي نادىٰ وصوّت؛ يعني من الملائكة. «بَيْنَهُمْ» ظرف؛ كما تقول: أعْلَم وسطهم. وقرأ الأعمش والكِسائي «نَعِم» بكسر العين. وتجوز على هذه اللغة بإسكان العين. قال مكيّ: من قال «نعِم» بكسر العين أراد أن يفرق بين «نَعَم» التي هي جواب وبين «نعم» التي هي اسم للإبل والبقر والغنم. وقد روي عن عمر إنكار «نعَم» بفتح العين في الجواب، وقال: قل نَعِم. ونَعَم ونَعِم، لغتان بمعنىٰ العِدَة والتصديق. فالعدة إذا استفهمت عن موجب نحو قولك: أيقوم زيد؟ فيقول نعم. والتصديق إذا أخبرت عما وقع، تقول: قد كان كذا وكذا، فيقول نعم. فإذا استفهمت عن منفيّ فالجواب بلىٰ نحو قولك ألم أكرمك، فيقول بلىٰ. فنعم، لجواب الاستفهام الداخل على الإيجاب كما في هذه الآية. وبلىٰ، لجواب الاستفهام الداخل على النفي؛ كما قال تعالىٰ:{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف: 172].
وقرأ البَزِّي وابن عامر وحمزة والكِسائيّ «أنّ لعنة الله» وهو الأصل. وقرأ الباقون بتخفيف «أن» ورفع اللعنة على الابتداء. فـ «أن» في موضع نصب على القراءتين على إسقاط الخافض. ويجوز في المخففة ألا يكون لها موضع من الإعراب. وتكون مفسرة كما تقدّم. وحكي عن الأعمش أنه قرأ «إن لعنة الله» بكسر الهمزة؛ فهذا على إضمار القول كما قرأ الكوفيون «فَنَادَاهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمحرَابِ إنَّ الله» ويُروى أن طاووساً دخل على هشام بن عبد الملك فقال له: ٱتق الله وٱحذر يوم الأذان. فقال: وما يوم الأذان؟ قال: قوله تعالىٰ: { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } فصعِق هشام. فقال طاووس: هذا ذُلُّ الصِّفة فكيف ذل المعاينة ] .
[[ وهكذا نرى التبكيت، وتصور لنا الآية كيف يرى أهل الجنة أهل النار، وهذا الترائي من ضمن النعيم ومن ضمن العذاب الأليم، فحين يرى المؤمن بمنهج الله من عاداه وقهره وآذاه وهو في النار فهذا من تمام اللذة. والآخر حين يرى مخالفه في الجنة فهذا أيضاً من تمام العذاب. إذن لابد أن يتراءوا، ولذلك يحدث الحوار، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار معترفين بأنهم وجدوا ما وعدهم به الله حقاً وصدقاً، وأن الحق قد وهبهم هذه الجنة. فهل – يا أهل النار – وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟
ونلاحظ أن هناك خلافاً بين الأسلوبين مع أن السياق المنطقي واحد؛ فأهل الجنة يقولون: ” قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ” ، ولم يأت بالكاف في كلمة ما وعد (الثانية) بل قال: ” فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً “؟
إنه قال سبحانه: ” ما وعد ” فقط، ولم يقل ما وعدكم كما قال: (ما وعدنا) لأن المراد أن يلفتهم إلى مطلق الوعد، وليس الخاص بهم فقط، بل وأيضاً الخاص بالمقابل، وهكذا يتحقق الوعد المطلق لله. فأهل الجنة بإيمانهم وأعمالهم في الجنة فضلاً من الله، وأهل النار بكفرهم وعصيانهم عقاباً من الله.
وهنا يجيب أهل النار: (قالوا نعم)
وهذا إقرار منهم بالواقع الذي عاشوه واقعاً بعد أن، كان وعيداً، وهم لم يكابروا لأن المكابرة إنما تحدث بين الخصمين في غير مشهد، وهم في الدنيا قبل أن يوجد المشهد كانوا يكذبون البلاغ عن الله، وصارت الدار الآخرة واقعاً، وتحقق وجودهم في النار. {…فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ – الأعراف 44 }
أي فينادي مناد من الملائكة يُسمع أهلَ الجنَّة وأهل النار بأن الطرد من رحمة الله على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم؛ بعدم الإِيمان وبالتكذيب باليوم الآخر.
(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ ) 45 الأعراف
والذي يصد عن سبيل الله هو من امتنع عن سبيل الله، وصد غيره، أي ضلّ في ذاته ثم أضل غيره، وهؤلاء هم الذين يطلبون منهج الله معوجاً، ويذمونه ولا يؤمنون به فيعترضون على إقامة الحدود والقصاص، وينفرون الناس عن منهج الله؛ لينصرف الناس عن الدين. هم إذن قد صدوا عن سبيل الله وطلبوا العوج فيما شرع الله لينفروا الناس عمّا شرع الله، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل هم بالآخرة كافرون، ولو كان الواحد منهم مؤمناً بالآخرة ويعلم أن له مرجعاً ومرداً إلى الله لما فعل ذلك.
– من كتاب اهوال يوم القيامة للشيخ الشعراوى ]] .
- {هَٰذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَٰذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ – ص 59-64 }
قال القرطبي في تفسيره :
[ويجوز أن يكون «هذَا» في موضع نصب بإضمار فعل يفسره «فَلْيَذُوقُوهُ» كما تقول زيداً اضربه. والنصب في هذا أولى فيوقف على «فَلْيَذُوقُوهُ» وتبتدىء «حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ» على تقدير الأمر حميم وغسّاق. وقراءة أهل المدينة وأهل البصرة وبعض الكوفيين بتخفيف السين في «وغَسَّاق». وقرأ يحيـى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي «وغسَّاق» بالتشديد، وهما لغتان بمعنى واحد في قول الأخفش. وقيل: معناهما مختلف؛ فمن خفّف فهو اسم مثل عذاب وجوَاب وصوَاب، ومن شدّد قال: هو اسم فاعل نقل إلى فعّال للمبالغة، نحو ضرّاب وقتّال وهو فعّال من غَسَق يغسِق فهو غسّاق وغاسِق. قال ابن عباس: هو الزمهرير يخوّفهم ببرده. وقال مجاهد ومقاتل: هو الثلج البارد الذي قد انتهى برده. ]
وقال البيضاوي في تفسيره أنوار التنزيل : [{ هَـٰذَا } أي الأمر هذا أو هذا كما ذكر أو خذ هذا.
{ وَإِنَّ لِلطَّـٰغِينَ لَشَرَّ مَئَابٍ }.
{ جَهَنَّمَ } إعرابه ما سبق. { يَصْلَوْنَهَا } حال من جهنم. { فَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } المهد والمفترش، مستعار من فراش النائم والمخصوص بالذم محذوف وهو { جَهَنَّمَ } لقوله { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ } الأعراف: 41] { هَـٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ } ، أي ليذوقوا هذا فليذوقوه، أو العذاب هذا فليذوقوه، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره: { حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } وهو على الأولين خبر محذوف أي هو { حَمِيمٍ } ، والغساق ما يغسق من صديد أهل النار من غسقت العين إذا سال دمعها، وقرأ حفص وحمزة والكسائي «غَسَّاق» بتشديد السين.
{ وَءَاخَرُ } أي مذوق أو عذاب آخر، وقرأ البصريان «وأخرى» أي ومذوقات أو أنواع عذاب أخر. { مِن شَكْلِهِ } من مثل هذا المذوق أو العذاب في الشدة، وتوحيد الضمير على أنه لما ذكر أو للشراب الشامل للحميم والغساق أو للغساق.]
وقال الشوكاني في فتح القدير : [قوله { هَـٰذَا } قال الزجاج هذا خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر هذا، فيوقف على هذا. قال ابن الأنباري وهذا وقف حسن، ثم يبتدىء { وَإِنَّ لِلطَّـٰغِينَ } ، ويجوز أن يكون هذا مبتدأ، وخبره محذوف، أي هذا كما ذكر، أو هذا ذكر. ثم ذكر سبحانه ما لأهل الشرّ بعد أن ذكر ما لأهل الخير، فقال { وَإِنَّ لِلطَّـٰغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ } أي الذين طغوا على الله، وكذبوا رسله { لَشَرَّ مَـئَابٍ } لشر منقلب ينقلبون إليه، ثم بيّن ذلك، فقال { جَهَنَّم يَصْلَوْنَهَا } ، وانتصاب { جهنم } على أنها بدل من { شرّ مآب } ، أو منصوبة بأعني، ويجوز أن يكون عطف بيان على قول البعض كما سلف قريباً، ويجوز أن يكون منصوباً على الاشتغال، أي يصلون جهنم يصلونها، ومعنى { يصلونها } يدخلونها، وهو في محل نصب على الحالية { فَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } أي بئس ما مهدوا لأنفسهم، وهو الفراش، مأخوذ من مهد الصبي، ويجوز أن يكون المراد بالمهد الموضع، والمخصوص بالذمّ محذوف، أي بئس المهاد هي كما في قوله
{ لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ }
الأعراف 41 شبه الله سبحانه ما تحتهم من نار جهنم بالمهاد { هَـٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } هذا في موضع رفع بالابتداء، وخبره حميم، وغساق على التقديم والتأخير، أي هذا حميم، وغساق، فليذوقوه. قال الفراء، والزجاج تقدير الآية هذا حميم وغساق فليذوقوه، أو يقال لهم في ذلك اليوم هذه المقالة. والحميم الماء الحارّ الذي قد انتهى حرّه، والغساق ما سال من جلود أهل النار من القيح، والصديد، من قولهم غسقت عينه إذا انصبت، والغسقان الانصباب. قال النحاس ويجوز أن يكون المعنى الأمر هذا، وارتفاع حميم وغساق على أنهما خبران لمبتدأ محذوف، أي هو حميم، وغساق، ويجوز أن يكون هذا في موضع نصب بإضمار فعل يفسره ما بعده، أي ليذوقوا هذا، فليذوقوه، ويجوز أن يكون حميم مرتفع على الابتداء، وخبره مقدّر قبله، أي منه حميم، ومنه غساق، ]
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ – سبأ 31-33}
5- { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ – فاطر 36-37}
قال الشوكاني في فتح القدير : [ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً غَيْرَ ٱلَّذِى كُـنَّا نَعْمَلُ } أي وهم فيها يصطرخون يقولون { ربنا } إلخ. قال مقاتل هو أنهم ينادون { ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل } من الشرك والمعاصي، فنجعل الإيمان منا بدل ما كنا عليه من الكفر، والطاعة بدل المعصية، وانتصاب { صالحاً } على أنه صفة لمصدر محذوف، أي عملاً صالحاً، أو صفة لموصوف محذوف، أي نعمل شيئاً صالحاً. قيل وزيادة قوله { غَيْرَ ٱلَّذِى كُـنَّا نَعْمَلُ } للتحسر على ما عملوه من غير الأعمال الصالحة مع الاعتراف منهم بأن أعمالهم في الدنيا كانت غير صالحة، فأجاب الله سبحانه عليهم بقوله { أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } والاستفهام للتقريع، والتوبيخ، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره، وما نكرة موصوفة، أي أو لم نعمّركم عمراً يتمكن من التذكر فيه من تذكر. فقيل هو ستون سنة. وقيل أربعون. وقيل ثماني عشرة سنة. قال بالأوّل جماعة من الصحابة، وبالثاني الحسن، ومسروق، وغيرهما. وبالثالث عطاء، وقتادة. وقرأ الأعمش ما يذكر بالإدغام { وَجَاءكُمُ ٱلنَّذِيرُ } قال الواحدي قال جمهور المفسرين هو النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عكرمة، وسفيان بن عيينة، ووكيع، والحسن بن الفضل، والفرّاء، وابن جرير هو الشيب، ويكون معناه على هذا القول أو لم نعمّركم حتى شبتم. وقيل هو القرآن، وقيل الحمى. قال الأزهري معناه أن الحمى رسول الموت، أي كأنها تشعر بقدومه، وتنذر بمجيئه، والشيب نذير أيضاً، لأنه يأتي في سنّ الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سنّ الصبا الذي هو سنّ اللهو واللعب. وقيل هو موت الأهل، والأقارب] .
6- ورد فى سورة الصافات حوار بين اهل الجنه
{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِى سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّى لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ الصافات 50-61 } .
فتح القدير للشوكاني : [ قوله { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } معطوف على يطاف، أي يسأل هذا ذاك، وذاك هذا حال شربهم عن أحوالهم التي كانت في الدنيا، وذلك من تمام نعيم الجنة، والتقدير فيقبل بعضهم على بعض، وإنما عبر عنه بالماضي للدلالة على تحقق وقوعه { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ } أي قال قائل من أهل الجنة في حال إقبال بعضهم على بعض بالحديث، وسؤال بعضهم لبعض { إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ } أي صاحب ملازم لي في الدنيا كافر بالبعث منكر له كما يدلّ عليه قوله { أَءنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدّقِينَ } يعني بالبعث، والجزاء، وهذا الاستفهام من القرين لتوبيخ ذلك المؤمن، وتبكيته بإيمانه، وتصديقه بما وعد الله به من البعث، وكان هذا القول منه في الدنيا. ثم ذكر ما يدلّ على الاستبعاد للبعث عنده، وفي زعمه، فقال { أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَـٰماً أَءنَّا لَمَدِينُونَ } أي مجزيون بأعمالنا، ومحاسبون بها بعد أن صرنا تراباً، وعظاماً، وقيل معنى مدينون مسوسون، يقال دانه إذا ساسه. قال سعيد بن جبير قرينه شريكه، وقيل أراد بالقرين الشيطان الذي يقارنه، وأنه كان يوسوس إليه بإنكار البعث، وقد مضى ذكر قصتهما في سورة الكهف، والاختلاف في اسميهما، قرأ الجمهور { لمن المصدقين } بتخفيف الصاد من التصديق، أي لمن المصدّقين بالبعث، وقرىء بتشديدها، ولا أدري من قرأ بها، ومعناها بعيد لأنها من التصدّق لا من التصديق، ويمكن تأويلها بأنه أنكر عليه التصدّق بماله لطلب الثواب، وعلل ذلك باستبعاد البعث. وقد اختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة، فقرأ نافع الأولى، والثانية بالاستفهام بهمزة، والثالثة بكسر الألف من غير استفهام. ووافقه الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين، وابن عامر الأولى، والثالثة بهمزتين، والثانية بكسر الألف من غير استفهام، والباقون بالاستفهام في جميعها. ثم اختلفوا، فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطوّلة، وبعده ساكنة خفيفة، وأبو عمرو مطوّلة، وعاصم، وحمزة بهمزتين. { قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ } القائل هو المؤمن الذي في الجنة بعد ما حكى لجلسائه فيها ما قاله له قرينه في الدنيا، أي هل أنتم مطلعون إلى أهل النار؟ لأريكم ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة كيف منزلته في النار؟ قال ابن الأعرابي والاستفهام هو بمعنى الأمر أي اطلعوا، وقيل القائل هو الله سبحانه، وقيل الملائكة، والأوّل أولى { فَٱطَّلَعَ فَرَءاهُ فِى سَوَاء ٱلْجَحِيمِ } أي فاطلع على النار ذلك المؤمن الذي صار يحدث أصحابه في الجنة بما قال له قرينه في الدنيا، فرأى قرينه في وسط الجحيم. قال الزجاج سواء كل شيء وسطه. قرأ الجمهور { مطلعون } بتشديد الطاء مفتوحة، وبفتح النون، فاطلع ماضياً مبنياً للفاعل من الطلوع. ]
وقال ابن عادل في تفسيره اللباب : [قوله: { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } وهذا على عطف قوله:
{ يُطَافُ عَلَيْهِمْ }
[الصافات:45] والمعنى يشربون فيتحادثون على الشراب قال:
4206- وَمَا بَقِيَتْ مِنَ اللَّذَّات إلاَّ | مُحَادَثَةُ الكِرَامِ علَى المُدَامِ |
وأتى بقوله ” فَأَقْبَلَ ” ماضياً لتحقق وقوعه، كقوله
{ وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ }
[الأعراف:50] وقوله: { يَتَسَاءَلُونَ } حال من فاعل ” أقْبَلَ ” والمعنى: أهل الجنة يسأل بعضهم بعضاً عن حاله في الدنيا.
قوله: { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } أي في الدنيا ينكر البعث. و { يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ } أي كان يوبِّخني على التصديق بالبعث والقيامة ويقول تعجباً: { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } أي لمحاسبون ومُجَازوْنَ، والمعنى أن ذلك القرين كان يقول هذه الكلمات على سبيل الاستنكار. واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أهل الجنة يتساءلون عند اجتماعهم على الشرب ويتحدثون كانت من جملة كَلِمَاتهم أنهم يتذكرون ما كان قد حصل لهم في الدنيا مما يوج الوقوع في عذاب الله ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالسعادة الأبدية. قال مجاهد: كان ذلك القرين شيطاناً، وقيل: كان من الإنس، وقال مقاتل: كانا أخَوَيْنِ. وقيل: كانا شريكين حصل لهما ثمانية آلاف دينار فَتَقَاسَمَاها واشترى أحدهما داراً بألف دينار فأراها صاحبه وقال كيف ترى حسنها؟ (فقال: مَا أَحْسَنَهَا)، ثم خرج فتصدق بألف دينار وقال: اللهم إنَّ صاحبي قد اتباع هذه الدار بألف دينار وإنّي أسألك داراً من دور الجنة ثم إن صاحبه تزوج امرأة حسناءَ بألفِ دينار، فتصدق صاحبه بألف دينار لأجل أن يزوجه الله تعالى من الحُورِ العِينِ ثم إن صاحبه اشترى بساتين بألفي دينار فتصدق هذا بألفي دينار، ثم إن الله تعالى أعطاه ما طلب في الجنة.
وقيل: كان أحدهما كافراً اسمه نُطْرُوس والآخر مؤمن اسمه يَهُودَا وهما اللذان قص الله خبرهما في سورة الكهف: { وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ – الكهف 32}
قوله: { لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ } العامة على التخفيف الصاد من التصديق أي لمن المصدِّقِين بلقاء الله. وقرىء بتشديدها من الصَّدَقَة، واختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة وهي قوله: { أَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ } { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً } { أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } فقرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة غير مهموسة والثالثة بكسر الألف من غير استفهام. (ووافقه الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين وابن عامر الأولى والثالثة بالاستفهام بهمزتين والثانية بكسر الألف من غير استفهام). والباقون بالاستفهام في جميعها. ثم اختلفوا فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطولة وبعدها ياء ساكنة خفيفة وأبو عمرو مطولة وحمزة وعاصم بهمزتين ]
هذه الآية ترد على من يشككون فى حقيقة البعث والحساب والثواب والعقاب
وفى الآيه وصف لمجموعه من اهل الجنه (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) يتساءلون عن ماذا احضرهم إلى الجنه ؟ او بماذا أُدخِلُوا الجنه ؟
(رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ – 193 آل عمران) والمنادى هو الرسول سنعرف عندها قيمة الاسلام والإيمان والإحسان والتقوى وإسلام الوجه لله تعالى فى الجنه واستعمال لفظ يتساءلون بدلاً من يسألون دليل على ان التساؤل يدور بينهم جميعاً وكلهم يَسأل ويُسأل.
(قال قائل منهم إنى كان لى قرين) هذا القرين كان يستهزئ بالآخرة والحساب ويقول (إءذا متنا وكنا تراباً وعظاما) ولو كان مُحِقاً لقال عظاماً وتراباً لكنه قال تراباً وعظاماً وهذا مغاير للترتيب الطبيعى.
وقوله (لمدينون) نذكر فى سورة الفاتحه قوله تعالى (مالك يوم الدين) اى يوم الجزاء فمعنى (لمدينون) اى هل نحن نُحاسب ونُجزى ؟ اى مُحاسَبون ؟ هذا معنى مدينون
وسأل هذا الانسان اهل الجنه (هل انتم مُطَّلِعون) وهو سؤال استفهامى لم يقل لهم هل تروه ؟ لأن الرؤيه فى النار ليست ذاتيه وهم لن يروه لأنه تغيّر شكله فى العذاب واحترق ولكن المقصود ليست الرؤيه وإنما الاطّلاع على حال هذا القرين فى النار
وهذا الاطّلاع يكون بتوفيق من الله تعالى وتدليل منه سبحانه (فاطّلع فرآه فى سواء الجحيم)
( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثُوِّب الكفار ما كانوا يفعلون ) .
سورة الانشقاق
وكلمة السواء تدل على التساوى بين كل المسافات من كل الجوانب فهو فى المنتصف بالضبط ويستوى فيه مقاييس البدايات له من كل جانب.
وعلينا ان نفرّق بين المنزله والمكانه فالمنزله هى سواء الجحيم اما المكانه فهى الدرك الأسفل.
ثم قال تعالى (تالله) لم يقل والله لأن تالله قسم مشوب بحمد الله تعالى
(إن كدت لتردين) كدت من افعال المقاربه لانه كان على وشك ان يوقعه فى الهلاك. وكلمة (تردين) الموته التى ليس بعدها حياه.
(ولولا نعمة ربى لكنت من المحضرين) من محضرين عذابك انت وعذابه هو ليس عذاب نسيان وإنما عذاب حضور ويعذّب فى سلسله ذرعها سبعون ذراعاً لأنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا باليوم الآخر ولا البعث ولولا رحمة الله تعالى على هذا الانسان لكان مثله فى العذاب.
)أفما نحن بميتين) تأكيد على قوله تعالى (إن الدار الآخرة لهى الحيوان)
(إلا موتتنا الأولى) هذا استثناء فموتتنا الاولى رأيناها بعد الحياة الدنيا اى الدار الاولى اما الثانيه اى الدار الآخره فلا موت بعدها
(وما نحن بمعذَبين) فلا عذاب فى الجنه
(ان هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون) فكل نعيم سوى الجنه حقير وكل عذاب سوى النار هيّن فالفوز بالجنه هو ما يستحق التعب والمكابده فى الدنيا
وفى قصة نوح عليه السلام اظهار لثقته بالله تعالى عندما تحمل من قومه ما تحمّل من استهزاء به وهو يصنع الفلك (واصنع الفلك بأعيينا ووحينا)
قال تعالى : (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ – المطففين)
فالتنافس يكون فى الدنيا على الفوز بالجنه وعلى العمل الذى يؤدى بنا الى الجنّه .
7- { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ – الحديد 13-14}
هذا وبالله التوفيق وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
خالد محيي الدين الحليبي