ساسة بوست :

في سبعينيات القرن الماضي، أمضت السيدة توماسن سنوات وسنوات تحاول إنجاب طفل، لكنها لم تنجح أبدًا حتى مع عمليات التخصيب المساعدة. في عام 1995، وبعد ما يقرب من عقدين من الزمان، أظهرت الأشعة السينية أن لديها لولب داخل الرحم (IUD)، إذ لم يكن لديها أي فكرة عن أنها واحدة من آلاف ضحايا حملة منع الحمل القسرية التي نفذتها الحكومة الدنماركية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في جزيرة «جرينلاند» القطبية الشمالية. فما القصة؟
طلائع «التجربة»: خطف وتغريب أطفال القبائل الأصلية!
تتمتع جزيرة «جرينلاند» بالحكم الذاتي داخل مملكة الدنمارك، فيتخذ برلمانها القرارات ويدير الشؤون الداخلية، لكن الدنمارك تحتفظ بسلطة إدارة الشؤون الدستورية والعلاقات الخارجية والدفاع. كانت «جرينلاند» مستعمرة أوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها لم تستقل بعد انهيار المستعمر الأوروبي، بل سقطت عام 1940 في أيدي الدنماركيين، الذين حاولوا خلال فترة الخمسينيات، وضع خطط لتنميتها واستيعاب سكانها. اعتمدت هذه الخطط على طمس الهوية واللغة الجرينلاندية، وكان يُنظر إلى اللغة والثقافة الأوروبية والدنماركية على أنهما وسيلة لتحقيق المساواة بين المحليين في «جرينلاند» والدنماركيين.
كان الدنماركيون الاستعماريون في تلك الأيام أسيادًا بالمعنى الأسوأ للكلمة، وجاءت المحاولات الدنماركية الأولى لمد جسر تواصل بين الثقافتين الدنماركية والسكان الأصليين في «جرينلاند» بتغريب شعب «جرينلاند» مع مشروع عام 1951، تحت اسم «التجربة». إذ قررت السلطات الدنماركية أن أفضل طريقة لتطوير الجزيرة كانت سرقة أطفالها، لذلك أرسلوا برقيات إلى الكهنة ومديري المدارس يطلبون منهم تحديد الأطفال الأذكياء الذين تتراوح أعمارهم بين ست و10 سنوات.
كان يشار إلى الأطفال في تلك «التجربة» بـ«الطلائع»، وقامت التجربة الاجتماعية على فكرة أخذ 22 طفلًا قهرًا من أحضان والديهم من قبيلة الإنويت – السكان المحليين في «جرينلاند» والأغلبية في تلك الجزيرة القطبية الشمالية- وإرسالهم إلى أسر حاضنة في الدنمارك لتعلم اللغة والثقافة الدنماركية.
وبالفعل انفصل الأطفال عن عائلاتهم، ونسوا لغتهم الأم، في البداية أقاموا في دار رعاية، للتأكد من خلوهم من الأمراض، ثم عاشوا مع أسر دنماركية بالتبني، وبعد عام ونصف، عاد 16 طفلًا من «طلائع التجربة» إلى «جرينلاند»، لكن لم يُجمع شملهم مع أسرهم الأصلية، بل أقاموا في دار للأيتام، وارتادوا مدرسة دنماركية، بصفتهم «نخبة»، لا يتحدثون اللغة المحلية، ما جعلهم مهمشين في وطنهم الأم، ولم يستطع من التقي بوالديه بعد ذلك من التواصل الشفهي معهم.
لم تدقق الدنمارك في نتائج «التجربة»، ولم تعلن أسبابها وتجاهلتها، لكنها استمرت في خطتها في الفترة بين الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي؛ فبعيدًا عن تجارب نزوح الأسر، أرسلت الحكومة الدنماركية آلاف الأطفال من «جرينلاند» إلى المدارس الداخلية الدنماركية، وشاعت حالات التبني، وظهرت تلك الحالات في الصحافة على أنها «مشروعات خيرية»، حتى نشر المذيع الدنماركي والأخصائي الاجتماعي، تاين برايد، كتاب «في أفضل معنى»، عام 1998، جمع فيه مجموعة من وثائق الأرشيف الوطني الدنماركي، وكانت المرة الأولى التي يعرف فيها «الطلائع» سبب ما تعرضوا له.
لم تمر التجربة على الأطفال دون أن تترك ندبات عميقة على ملامح حياتهم؛ فنشرت صحيفة «بي بي سي» نتائج تقرير صادر عام 2020، بتكليف من الحكومة الدنماركية السابقة، يفيد بأن نصف أطفال التجربة عانوا لاحقًا من مشكلات نفسية وأدمنوا على تعاطي الكحول، وتشرد منها وعاش البقية حالة اغتراب في وطنه، ومات معظمهم مبكرًا، وانتحر أحدهم.
لا يزال لذلك تأثير في العلاقة بين جرينلاند والدنمارك، بسبب عدم احترام الأخيرة لثقافة السكان الأصليين وعاداتهم، حتى إن أهل جرينلاند ما زالوا يشعرون بأنهم مواطنون درجة ثانية. زاد من مشاعر الغضب مجادلة الحكومات الدنماركية المتعاقبة حول «التجربة»، ورفض دعوات السياسيين الجريلانديين لتقديم اعتذار عدة مرات، بحجة أن للتجربة آثارًا إيجابية، أو أنها جزء من الماضي، حتى اعتذر رئيس الوزراء الدنماركي، ميت فريدريكسن، إلى ستة من «طلائع» الماضي، لكن رفضت المحكمة دعوتهم بطلب تعويض، حتى وافقت على صرف تعويضات في مارس (آذار) 2022.
لولب رحمي خفيٌّ: الدنمارك عقَّمت نساء «جرينلاند» بغرض الإبادة الجماعية
لم يتوقف تاريخ إساءة الدنمارك لشعب «جرينلاند» الأصلي، عند مشروع «التجربة»؛ فبعد أسابيع قليلة فقط من اعتذار رئيس الوزراء ميت فريدريكسن شخصيًّا للعديد من سكان «جرينلاند» عن «تجربة» الدنمارك في الخمسينيات من القرن الماضي والتي سلبوا بها أطفالهم؛ تواجه الدنمارك اتهامات جديدة بحسب نتائج تحقيق أجرته محطة «راديو الدنمارك»، أظهرت نتائجه أن الدولة حددت نسل «الجرينلاديين» قسريًّا بشكل منهجي حتى السبعينيات.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الدنمارك كانت قد سنَّت في عام 1929 تشريعًا يُلزم إجراء تعقيم للرجال والنساء القصر والمرضى النفسيين قسريًّا، لكنها استخدمت القانون نفسه بعد ذلك للقضاء على الجريلانديين! فقد غرست الدنمارك ما بين 4500 و10 آلاف لولب رحمي (IUD) في رحم فتيات «جرينلاند» من سن 13 عامًا، لمنعهم من الحمل، وعقَّمت 4 آلاف ذكر، في الفترة بين منتصف الستينيات ومنتصف السبعينيات.
وقد كشفت نتائج التحقيق الذي أجرته محطة «راديو الدنمارك» أن هذا اللولب قد غُرِس في أرحام الفتيات، دون إعلامهن، ودون إعطائهن أية معلومات، ودون الحصول على أي موافقة عليه، منهن أو من والديهم، وغالبًا ما أجريت العملية تحت ستار إجراءات أخرى، أو بعد عمليات الولادة والإجهاض.
بررت السلطات الدنماركية حملة تحديد النسل القسرية تلك، بأنها كانت قلقة بشأن الزيادة في عدد السكان في «جرينلاند»، وزيادة العبء الصحي والتربوي لتنشئة أعداد أكبر من الأطفال، الأمر الذي كان ليُمثل عقبة – وفق الحكومة- أمام عملية تحسين وضع الجزيرة.
وفي هذا الصدد، ومن أجل تبرير هذه «الجريمة»؛ نشرت مجلة «الجمعية الطبية الدنماركية»، وهي المجلة العلمية الرئيسية في الدنمارك في المجالات الصحية والطبية، دراسة تبرر حملة تحديد النسل بأنها جاءت نتيجة لزيادة معدل المواليد، وانخفاض كبير في الوفيات الناجمة عن مرض السل، خلال عام 1971، ما ينبئ بانفجار سكاني.
افترضت الدراسة وجود وسيلتين لمنع الحمل لحل الأزمة، وهما: الواقي الذكري واللولب الرحمي (IUD)، واستبعد الباحثون الواقي الذكري بسبب «ظروف معيشة الجريلانديين الضيقة التي تجعل من الصعب عليهم الالتزام بالنظافة الشخصية الضرورية لاستخدام الواقي الذكري».
بالفعل، ونتيجة لهذه الحملة القسرية، تراجع عدد المواليد في «جرينلاند» إلى النصف، بعد مرور عقد على بدء الحملة، ثم توقف المشروع في عام 1974، عندما واجه الوفد الدنماركي مشكلات في مؤتمر الأمم المتحدة الدولي في بوخارست، حين جرى تأكيد أنه لا ينبغي استخدام تنظيم الأسرة القسري، محركًا لتحسين النسل.
لم توثق الحملة القسرية، سجلات باسم النساء اللواتي عُقمن، ولم تكتشف النساء ذلك إلا بعد فترة طويلة، بعد سنوات من الألم والالتهابات وصعوبة الحمل، وبعضهن اكتشفنه بعد إجراء فحص بالأشعة السينية.
جدير بالذكر أن الدنمارك لم تعترف بما حدث إلا في عام 1997، بعدما فضحت الصحف العالمية خطة السويد للتعقيم الإجباري لـ60 ألف شخص، بين عامي 1935 و1976، آنذاك نشرت صحيفة «جيلاندس بوستن» ونقلت عنها وكالة أنباء «أسوشيتد برس» أن الدنمارك كانت أول دولة أوروبية تطبق التعقيم القسري ضد إرادة الإنسان، وعقمت ما يقرب من 11 ألف شخص، منذ عام 1929 إلى 1967.
أظهر التقرير أيضًا أن عديدًا من الدول الأوروبية طبقت برنامج التعقيم القهري لتحسين النسل والجنس البشري من خلال التحكم فيمن سيتكاثر، وقد أسس هذه النظرية البروفيسور البريطاني فرانسيس جالتون، في ثمانينيات القرن التاسع عشر، واعتبرها حلًّا بسيطًا لمشكلات اجتماعية ضخمة، وأعلنت عدة دول، بما في ذلك الولايات المتحدة، تبنيها تطبيق هذا الإجراء، في النصف الأول من القرن العشرين.
بعد انكشاف هذه الفضيحة الأوروبية عام 1997، ادَّعت الدنمارك حينها فتح تحقيق رسمي، لكنها لم تعلن نتائج هذا التحقيق، حتى دعا برلمان «جرينلاند»، في يونيو (حزيران) 2022، إلى فتح التحقيق في الحملة الدنماركية «للولب الرحمي اللاإرادي»، ودعا برلمان «جرينلاند» إلى إجراء تحقيق مستقل في البرنامج الدنماركي المشبوه، الذي أصبح صفحة تضاف إلى تاريخ الإجرام الاستعماري الأوروبي.