إيران ترفض قبول «وثيقة استسلام» لإحياء الاتفاق النووي وأمريكا تهدد

القدس العربي :

لم تقدم الولايات المتحدة جديدا في جولة مفاوضات الدوحة لإحياء الاتفاق النووي، والعودة للالتزام به تماما. المفاوض الأمريكي روبرت مالي حمل في جيبه مشروع الاتفاق الذي عرضته الولايات المتحدة على مائدة المفاوضات في فيينا في اذار/مارس الماضي، ورفضته إيران في حينه. المشروع الأمريكي عبارة عن «وثيقة استسلام» تتنازل فيها إيران عن حقوقها النووية بالكامل، في مقابل «رفع جزئي ومؤقت للعقوبات» مع وضع المنشآت النووية الإيرانية تحت نظام صارم للرقابة والتدقيق بواسطة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
المفاوض الإيراني علي باقري أعاد التأكيد على طلب إيران ضمانات لتنفيذ الالتزامات بشكل متبادل ومتزامن فيما يخص الولايات المتحدة وإيران. وبعد 48 ساعة من الدبلوماسية المكوكية بين جناحين في فندق واحد في الدوحة قام بها إنريكي مورا، نائب الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي، لم يغير أي من الطرفين موقفه؛ فتعثرت المحاولة وسط حالة توتر شديدة في واشنطن والعواصم الأوروبية الثلاث المعنية بالاتفاق النووي. ورغم هذا التوتر فإن الأطراف كلها أعادت التأكيد على ضرورة استمرار المفاوضات. طهران رفضت ان تقول إن المفاوضات فشلت، وأكدت رسميا استمرار المشاورات. وفي نيويورك أصدرت الدول الأوروبية الثلاث (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) بيانا مشتركا بعد يوم من جولة المفاوضات غير المباشرة في الدوحة، شنت فيه هجوما قاسيا على إيران واتهمتها بتهديد السلم العالمي وتقويض نظام منع الانتشار النووي وإشاعة عدم الاستقرار الإقليمي حولها. لكنها أكدت في الوقت نفسه على ضرورة استمرار المفاوضات. وكذلك فعل السفير ريتشارد ميللز نائب رئيس بعثة أمريكا في الأمم المتحدة في كلمة ألقاها أمام جلسة المراجعة النصف سنوية التي عقدها مجلس الأمن مساء الخميس الماضي، لتقييم حالة تنفيذ قرار المجلس رقم 2231 بخصوص البرنامج النووي الإيراني. ومع ذلك فإن الرغبة في استمرار المفاوضات لا تكفي على الإطلاق لتحقيق النجاح فيها، خصوصا وأن هناك فجوة واسعة بين طهران وواشنطن في خصوص ما تسعى إلى تحقيقه كل منهما.
وطبقا لوكالة «تسنيم» نقلا عن مصادر قريبة من المفاوضات، فإن عدم تحقيق تقدم في جولة الدوحة لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، يعود إلى تمسك الولايات المتحدة بالمسودة التي أعدتها في فيينا، التي تخلو من أي ضمانات بأن تتمتع إيران بكافة المنافع الاقتصادية من رفع العقوبات. وأضيف هنا أن إيران رفضت هذه المسودة في وقتها، ووضعت على مائدة المفاوضات قائمة من الشروط، تشمل النص على ضمانات سياسية بعدم إعادة فرض العقوبات مرة أخرى، ووضع نظام للتحقق من رفع العقوبات تماما، وحرية إيران في استخدام مواردها العينية والمالية بدون قيود. وقالت إن هذا النظام سيكون موازيا لنظام التحقق من التزام إيران بتفاصيل الاتفاق النووي. بمعنى آخر فإن إيران طالبت بالتزام قابل للمراقبة مقابل التزام مماثل بينها وبين الولايات المتحدة وأطراف الاتفاق النووي. تمسك الولايات المتحدة بمسودة مرفوضة إما أنه سذاجة سياسية، أو هو محاولة غير بريئة لإضاعة الوقت، والظهور أمام المجتمع الدولي كأنها الطرف الطيب الباحث عن السلام بينما إيران هي الطرف الشرير.

رسالة إيرانية «فعلية»

وترافقا مع بدء المفاوضات يوم الثلاثاء الماضي وجهت طهران رسالة شديدة الوضوح، لم تفهمها واشنطن، إذ أعلن محمد إسلامي رئيس هيئة الطاقة النووية الإيرانية بدء تركيب سلسلة جديدة من أجهزة الطرد المركزي في منشأة «فوردو» الحصينة. وكانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد ذكرت أن إيران تخطط لتشغيل سلسلة من أجهزة الطرد المركزي، تتكون من 166 جهازا طراز IR-6 المتطور، لكن لا إيران ولا الوكالة قدرتا نسبة تخصيب اليورانيوم المستهدفة بواسطة الأجهزة الجديدة. وفي تقديرنا أنها لا تقل عن 60 في المئة، وهو ما يعزز كمية مخزون المخصب إلى هذه النسبة في إيران. قبل ذلك أجرت طهران بنجاح تجربتها الثانية لصاروخ قادر على حمل مركبة لإطلاق صواريخ بعيدة المدى. إيران تخطط لإجراء تجربة ثالثة قبل وضع المنظومة الصاروخية الجديدة داخل نطاق الخدمة العملياتية.
تناقض التوجه الاستراتيجي

عدم تحقيق تقدم في مفاوضات الدوحة يعود إلى ما هو أعمق من الأسباب المباشرة مهما كانت. الطرفان، إيران والولايات المتحدة دخلا إلى مفاوضات الدوحة باستراتيجيتين مختلفتين تماما. وكان من الطبيعي ألا تصل المفاوضات إلى نتيجة. الاستراتيجية الإيرانية للمفاوضات هدفها، على حد تعبير علي شمخاني رجل طهران القوي، سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي، التوصل إلى اتفاق «قوي، مستدام، له مصداقية مؤكدة» تعتمد إيران عليه في المضي قدما بدون قلق أو تهديدات. بمعنى آخر فإن إيران لا تتفاوض لإحياء الاتفاق النووي من باب الضيق، أو تجنب المتاعب أو لتحقيق مكاسب وقتية. إيران ببساطة ليست تحت أي ضغط، ولن تقدم للولايات المتحدة تنازلات مجانية. في السياسة لا أحد يقدم تنازلات مجانية، إلا إذا كان غبيا أو متواطئا. التنازلات تقع إما كُرها وتحت الضغط، وإما بسبب إدراك وجود تغيرات في توازن القوى تتطلبها. وعلى العكس فإن استراتيجية التفاوض الأمريكية تستهدف التوصل إلى اتفاق قصير الأمد، أقل تشددا ضد إيران، وأقل تسامحا معها. اتفاق يقع في مسافة بين هذا وذاك. إنها استراتيجية المساومة والحل الوسط، الذي يعطي بمقدار ويأخذ بمقدار، على أمل أن الغد قد يأتي بتطورات تساعد على التوصل إلى اتفاق آخر. استراتيجية التفاوض الأمريكية تنطلق من مفهوم وأدوات «إدارة الأزمة» وليس من مفهوم وأدوات «حل الأزمة» هذا مهم جدا لفهم منطق التفاوض الأمريكي. كذلك فإن استراتيجية التفاوض الأمريكية تخضع لضغوط قوية لها أضرار، وتريد واشنطن تقليلها، خصوصا مع شدة ضغط عاملين عاجلين، أحدهما محلي هو قرب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، وخوف الديمقراطيين من فوز خصومهم الجمهوريين بأغلبية مقاعد مجلس الشيوخ، وزيادة عدد مقاعدهم في مجلس النواب. العامل الآخر خارجي، يتعلق بتداعيات الحرب الأوكرانية، واتساع جبهة المواجهة في أوروبا وآسيا، وأزمة الطاقة في الدول الصناعية الرأسمالية، وهي أزمة تؤدي إلى تصاعد معدل التضخم، وتخبط السياسات النقدية بين الرغبة في مكافحة التضخم مع المحافظة على معدل نمو معتدل. الولايات المتحدة لم تدرك حتى الآن أنها، هي وليس إيران، تتفاوض تحت رحمة ضغوط محلية وخارجية، فهي تريد من إيران نفطها، بينما لا تريد إيران غير استرداد أصولها المالية المجمدة ورفع العقوبات عنها.
الولايات المتحدة تتفاوض مع إيران على أنها دولة صغيرة لا يجوز لها أن تحتفظ بقدرات نووية. هذا المنطق ينطوي على سذاجة مضحكة، لأن أمريكا لا تدرك أن إيران حققت نقلة نوعية في برنامجها النووي خلال العام الماضي، ليس فقط في القفز بنسبة تخصيب اليورانيوم من 3.76 في المئة إلى 20 في المئة، ثم إلى 60 في المئة، ولكن الأهم من ذلك أنها وضعت استراتيجية لدمج الصناعة النووية عضويا في الاقتصاد الإيراني أفقيا ورأسيا، من قطاع الزراعة إلى قطاع الخدمات الصحية مرورا بالصناعية التحويلية، وصناعات النفط والغاز والكهرباء. هذا يعني الكثير في المفاوضات النووية، فهو يقدم الأدلة الساطعة على الطابع السلمي للبرنامج النووي. كما أنه يؤسس لمبررات رفض أي قيود على البرنامج، بما في ذلك نسبة تخصيب اليورانيوم وخصائص مفاعلات الطرد المركزي المتطورة التي تنتجها إيران محليا. وقد نجحت إيران أخيرا في تصنيع محطة طاقة نووية صغيرة، وهو ما يؤهلها بعد سنوات من الآن لاقتحام سوق المحطات النووية في العالم، وهو السوق الذي تسيطر عليه روسيا بامتياز. ويتطلب تصنيع وتشغيل المحطات النووية أن تكون إيران قادرة على إنتاج قضبان اليورانيوم المخصب بنسب مرتفعة. وإذا أرادت إيران تشغيل بعض وحداتها الإنتاجية بمحركات تعمل بالوقود النووي، فإنها ربما تحتاج إلى تخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 90 في المئة.
اختلاف استراتيجيتي التفاوض، يعني وجود فجوة واسعة تفصل بين مواقف الطرفين المتفاوضين. ولنجاح المفاوضات فإن من الضروري تضييق هذه الفجوة. وليس ذلك مستحيلا، لكنه يتطلب شجاعة كافية من الجانب الأمريكي لإدراك الحقائق القائمة على الأرض، والتخلي عن عنجهية القطب الأوحد الذي يأمر العالم؛ فيطيع! ولن تستطيع واشنطن الاقتراب من النجاح في مفاوضاتها مع إيران إلا بتبني مقاربة صحيحة للمفاوضات.

تهديدات أمريكية وأوروبية

التهديدات الضمنية التي انطوى عليها بيان الدول الأوروبية الثلاث الأطراف في الاتفاق النووي، وكلمة ممثل الاتحاد الأوروبي، والبيان الذي ألقاه السفير ريتشارد ميللز نائب رئيس البعثة الأمريكية في الأمم المتحدة، بمناسبة الاجتماع الدوري العادي لمجلس الأمن الدولي في خصوص مراجعة حالة الاتفاق النووي الإيراني مساء الخميس الماضي، تترك انطباعا بأن الولايات المتحدة وأوروبا تريد التعامل مع إيران على أنها «دولة مهزومة» وأن عليها ان توقع وثيقة استسلام أعدتها الولايات المتحدة. وربما تلجأ تلك الأطراف إلى فرض عقوبات جديدة على إيران خارج النظام الدولي، نظرا لصعوبة اتخاذ قرار في مجلس الأمن مع المعارضة المؤكدة لذلك من جانب روسيا والصين.
السفير ريتشارد ميللز قال في كلمته أمام مجلس الأمن الولايات المتحدة ما تزال ملتزمة بالعودة المتبادلة للتنفيذ الكامل لبنود الاتفاق النووي. «هناك صفقة متاحة منذ اذار/مارس الماضي. وبإمكاننا ان نتوصل لاتفاق إذا أسقطت إيران مطالبها الإضافية الخارجة عن نطاق الاتفاق النووي». وفي الوقت نفسه فإنه دعا الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالاستمرار في الالتزام ببنود القرار 2231 بما فيها الملحق «ب» الخاص بالعقوبات، الذي يتضمن حظر نقل المواد أو الأجهزة والمعدات أو التكنولوجيا والخدمات المرتبطة بإنتاج الصواريخ الباليستية القادرة على حمل رؤوس نووية الى إيران. واستمرار تجميد ممتلكات الأفراد والهيئات والمنظمات الواردة أسماؤهم في قائمة العقوبات.
واتهم نائب رئيس البعثة الأمريكية لدى الأمم المتحدة إيران بنشر تكنولوجيا صناعة الصواريخ وطائرات الدرونز لدى وكلائها في المنطقة، واستخدام مكونات إيرانية في تصنيع الصواريخ والطائرات التي هوجمت بها السعودية وإيران. وقال إن تقرير الأمين العام للأمم المتحدة يؤكد هذه الاتهامات. وذكر أن التكنولوجيا التي استخدمتها إيران في إطلاق صواريخ باليستية وفي صناعة صواريخ قادرة على حمل مركبات إلى الفضاء، في التجارب التي أجريت في كانون الأول/ديسمبر 2021 ثم في اذار/مارس من العام الحالي تبين أنها يمكن أن تحمل رؤوسا نووية. وأن تصميم إيران على المضي قدما في هذه الخطوات قد تبين مرة أخرى في يوم 26 حزيران/يونيو 2022.
كما عبرت الولايات المتحدة والدول الأوروبية عن قلقها من الخطوات التي اتخذتها إيران لعرقلة عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية في مراقبة الالتزام بالاتفاق، بما في ذلك إزالة الكاميرات وأجهزة المراقبة، وتعتبر أن هذه الخطوات تجعل العودة للاتفاق شيئا صعبا وأن إيران يجب أن تعود إلى التعاون الضروري مع الوكالة بدون أي تأخير.

عن مركز القلم للأبحاث والدراسات

يهتم مركز القلم بمتابعة مستقبل العالم و الأحداث الخطرة و عرض (تفسير البينة) كأول تفسير للقرآن الكريم في العالم على الكلمة وترابطها بالتي قبلها وبعدها للمجامع والمراكز العلمية و الجامعات والعلماء في العالم.

شاهد أيضاً

“فايننشال تايمز” : الاتحاد الأوروبي سيمنح تونس 165 مليون يورو لكبح الهجرة غير الشرعية

RT : قالت صحيفة “فايننشال تايمز” يوم الأحد إن الاتحاد الأوروبي سيقدم لقوات الأمن التونسية …