الخليج الجديد :
أصبح الملف الليبي مرة أخرى أمام فشل آخر بعد نحو شهرين من المحادثات رفيعة المستوى بين مجلس النواب في طبرق والمجلس الأعلى للدولة لتحديد إطار دستوري من أجل إجراء انتخابات وطنية.
وفشلت المحادثات، التي عقدت في مصر والتي نظمتها المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة “ستيفاني ويليامز”، في التوصل إلى توافق في الآراء بشأن ما وصفته بـ “الإجراءات التي تحكم الفترة الانتقالية المؤدية إلى الانتخابات”.
تم إلقاء المسؤولية في نهاية المطاف على عاتقي قائدي المجلسين، “عقيلة صالح” و”خالد المشري”، لحل خلافاتهم قبل انتهاء فترة “ويليامز”.
ومن المثير أن هذه ليست المرة الأولى التي تراهن فيها الأمم المتحدة على هاتين الهيئتين للاتفاق على إطار قانوني للانتخابات التي من شبه المؤكد أن تكتب نهاية لدورهما. ومع افتقاد الطرفين للمصداقية بين السكان لما يقرب من 10 سنوات سيكون من غير المحتمل إعادة انتخاب أي منهما. وهذه الحقيقة تجعل الاعتقاد بأنهما سيوافقان على أي شيء يشبه الانتخابات مجرد سذاجة.
إن إصرار الأمم المتحدة المستمر على الاعتماد على “المفاوضات” بين هذه الهيئات لتحقيق أي نتائج إيجابية أصبح نموذجا لما وصفه “أينشتاين” بأنه تعريف الجنون “فعل الشيء نفسه مرارًا وتكرارًا وتوقع نتائج مختلفة في كل مرة”.
ويأتي هذا الفشل الأخير بعد مرحلة مضطربة منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي حيث سحب البرلمان الثقة من حكومة الوحدة الوطنية التي تتخذ من طرابلس مقراً لها وشكّل سلطته المؤقتة الخاصة به برئاسة وزير الداخلية السابق “فتحي باشاغا”.
وبدوره، رفض رئيس حكومة الوحدة الوطنية “عبدالحميد الدبيبة” تسليم السلطة إلى حكومة “باشاغا” التي لا تزال تتمتع بدعم كبير في أجزاء من غرب ليبيا. وهكذا أدى موقف “الدبيبة” إلى خلق انقسامات وولاءات وتحالفات جديدة في جميع أنحاء البلاد، مما أضاف تعقيدات جديدة لمرحلة انتقالية معقدة.
من جانبها، لم تفضل الأمم المتحدة وعدد من الداعمين الغربيين تقديم الدعم لحكومة “باشاغا”، واختارت بدلاً من ذلك التمسك بعملية سياسية معيبة وغير متماسكة وغير متسقة بدلاً من البحث عن مسارات بديلة وأكثر عملية لإنهاء العقد الضائع في ليبيا.
ولطالما أعرب المجتمع الدولي عن اهتمامه بالأوضاع في ليبيا بالنظر إلى سجل المؤتمرات الفاشلة في الدار البيضاء والقاهرة وباريس وبروكسل وحتى برلين. لكن هذا الاهتمام يتركز علي مصلحة الدول الأجنبية وليس الليبيين. وحتى بعد انهيار محادثات القاهرة، ظل معظم اهتمام العالم بليبيا متركزا على التراجع الحاد في إنتاج النفط في البلاد حيث انخفض بنحو 88%- أقل بنحو مليون برميل يوميًا – مقارنة بالعام الماضي.
ويجب على المجتمع الدولي الذي يبحث عن مصلحته إدراك أن انخفاض صادرات النفط مجرد عرض لمشكلة أكبر. وعلى مدى عقد من الزمان، لم يتم الاقتراب من حل دائم للمأزق في ليبيا بالرغم من هوس المواعيد النهائية الصارمة، والتهديدات الفارغة بفرض عقوبات على المفسدين، وتبدل المبعوثين الخاصين للأمم المتحدة.
ولحسن الحظ، لا يزال المأزق سياسيًا في الوقت الحالي. ولم تسفر مفاوضات القاهرة إلا عن اتفاق بشأن ثلثي مواد مسودة الدستور والتي يبلغ عددها حوالي 200 مادة، فيما انهارت في الثلث الأخير الذي يتضمن أساسًا دستوريًا للانتخابات.
وحتى بالنسبة للمراقبين الأقل اهتمامًا، فإن إنشاء إطار دستوري للانتخابات خلال 4 أشهر فقط من المناقشات لم يكن هدفًا واقعيًا منذ البداية، بالنظر لحجم الانقسام والخلاف. وبالمثل، فإن الدفع الفوري لسلطة مؤقتة جديدة بعد فشل المحادثات لن يكون حلاً لأمراض العملية السياسية الليبية.
في الواقع، يتفق معظم الفاعلين داخل ليبيا وخارجها على أن حكومتي “باشاغا” و”الدبيبة” تفتقران إلى القدرة على إدارة عملية الانتقال في ليبيا بكفاءة. ومع الانشغال العالمي بأزمة أوكرانيا، تتراجع فرص التوصل إلى حل للمشاكل التي تعيق الانتقال السياسي في ليبيا.
وعلى مدار عقد كامل، قام الفاعلون المحليون والأجانب على حد سواء بإعادة التموضع وتنظيم أنفسهم وفقًا لميزان القوى المتغير من أجل استباق أي تغييرات على الوضع الراهن أو معالجة المشاكل الجذرية التي تعيق الإدارة الحذرة لعملية سياسية هشة للغاية.
ومن الغريب أنه في مثل هذه البلاد المنقسمة، يبدو أن معظم الفاعلين يتفقون على أن “عدوهم” المشترك هو أي تدخل ذي مصداقية يمكن أن يجمع الليبيين مع خلق بيئة مواتية لإجراء انتخابات وطنية آمنة وشرعية.
لذلك ليس من المستغرب أن يفشل أكثر مبعوثي الأمم المتحدة كفاءة في وضع حد للمعضلة الليبية. ومؤخرا، حذرت وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية وبناء السلام “روزماري ديكارلو” في إحاطة لمجلس الأمن من أن عدم وجود حل سيكون له تأثير سلبي على الأمن.
وفضلا عن الاستقطاب الشديد والحاجة الملحة لحل هذا المأزق السياسي، فإن التقاعس الطويل له أيضًا تكاليف اجتماعية واقتصادية كبيرة تزيد من تفاقم مشاكل الليبيين العالقين بين المؤسسات الموازية.
وبالرغم من ارتفاع أسعار النفط، تخسر الدولة التي مزقتها الحرب ما يقرب من 80 مليون دولار يوميًا من عائدات النفط بسبب عمليات الإغلاق المطولة التي كرسها الخلاف بين الشرق والغرب، بدلاً من استخدامها في علاج مشاكل البلاد.
ويمكن إلقاء اللوم على عقد من الاحتراب الداخلي وتضارب المصالح بين الجهات الخارجية الانتهازية لكن أسوأ “سرطان” يصيب ليبيا هو خرائط الطريق المفخخة والمصممة من قبل اللاعبين الأقل مصداقية. ونتيجة لذلك لم تنجح أي تدخلات تم الترويج لها دعائيا في إخراج البلاد من المستنقع الذي تقع فيه.