«على الدول الغربية أن تستعد لحرب استنزاف طويلة المدى» في أوكرانيا.

روسيا والصين أسواق استهلاكية كبيرة تعتمد عليها كثير من الشركات الغربية الكبرى.

سيعتمد الفوز في حرب الاستنزاف الاقتصادية على تكيف كل طرف بالاستغناء عما يستورده من غريمه أو إيجاد بدائل عنه.

انتقدت شركات غربية حكوماتها جراء العقوبات الصارمة ضد روسيا وحذرت من تداعيات عقوبات ألحقت خسائرَ غربية بحجم 400 مليار دولار.

اندلعت حرب استنزاف اقتصادية تتفاوت فيها موازين القوة، حيث يملك كل طرف نقاط قوة ونقاط ضعف ستحدد الفائز في نهاية هذه الحرب.

تعتمد دول الناتو الكبير على الطاقة المستوردة مما لا يمكن التخفف منه لسنوات قادمة، كما تعتمد على استيراد المعادن؛ وتعصف باقتصاداتها أزمات مالية واقتصادية.

* * *

تحولت الحرب بين روسيا ودول الناتو بواجهة أوكرانية إلى حرب استنزاف، كما يؤكد أمين عام الحلف، ينس ستولتنبرغ، بقوله بداية الشهر الجاري في واشنطن: إن «على الدول الغربية أن تستعد لحرب استنزاف طويلة المدى» في أوكرانيا.

لكن حرب الاستنزاف التي تطرّق لها ستولتنبرغ تختلف تماماً عن حرب الاستنزاف التي سنتناولها في هذه المقالة، فأمين عام الناتو يتحدث عن حرب استنزاف عسكرية، وهو أمر ربما مستبعد بسبب التدمير الشامل الذي لحق بالبنية العسكرية لأوكرانيا.

إذ أن ما نقصده هنا هو بروز حرب استنزاف اقتصادية تتفاوت فيها موازين القوة، حيث يملك كل طرف نقاط قوة ونقاط ضعف ستحدد الفائز في نهاية هذه الحرب.

وسنحاول هنا بقدر ما تسمح به هذه المساحة توضيح نقاط القوة والضعف لدى الطرفين، والتي ستتيح الخروج باستنتاجات حول مَن سيرفع الراية عند خط النهاية.

فدول الناتو والبلدان المتضامنة معها تتركز نقاط القوة لديها في هيمنتها المالية على نظام «سويفت» للدفع المالي وامتلاكها تقنيات حديثة متطورة وسيطرة شركاتها العابرة للحدود على العديد من القطاعات المهمة.

أما نقاط ضعفها فتكمن في اعتمادها الكبير على مصادر الطاقة المستوردة، وهو اعتماد لا يمكن التخلص منه لسنوات طويلة قادمة، ومعه اعتماد مماثل على استيراد المعادن، بالإضافة إلى الأزمات المالية والاقتصادية التي عصفت باقتصادياتها في العقدين الماضيين، والتي خلّفت تداعيات أثّرت في موقعها ضمن الموازين الاقتصادية الدولية، فتراجعت اقتصاداتُها من المراكز الأولى المتقدمة لتحل محلها اقتصادات دول ناشئة، مثل الصين والهند والبرازيل وإندونيسيا.

أما روسيا والدول المتعاطفة معها، وهي دول كبيرة ومهمة اقتصادياً، فإن أهم نقاط القوة لديها تكمن في امتلاكها مواردَ الطاقة الهائلة؛ مما أتاح لها التحكم بصورة شبه كاملة في إمدادات الطاقة، وهو ما ينطبق أيضا على إمدادات الأغذية والمعادن.

كما أن أسواقها تحولت إلى أسواق استهلاكية كبيرة تعتمد عليها الكثير من الشركات الغربية الكبرى التي انتقدت حكوماتها جراء العقوبات الصارمة ضد موسكو، كتحذير شركة (باسيفيك انفستمنت مانجمنت» (بيمكو) لوزارة الخزانة الأميركية من تداعيات هذه العقوبات والتي ألحقت خسائرَ غربية بحجم 400 مليار دولار.

في حين تكمن أهم نقاط الضعف لديها في اعتمادها على نظام الدفع المالي الأميركي، وكذلك اعتمادها على استيراد التقنيات الغربية والكثير من السلع الاستهلاكية.

وسيعتمد الفوز في حرب الاستنزاف الاقتصادية على قدرة كل جهة على التكيف من خلال إما الاستغناء عن ما تستورده من غريمها أو إيجاد بدائل عنه، حيث سنتطرق لذلك وباختصار أيضا.

وبالنسبة لدول الناتو فإن الاستغناء عن موارد الطاقة الروسية لا يعتبر صعباً فحسب، وإنما مدمراً للاقتصادات الغربية، بدليل موجة التضخم العالية في الغرب التي تتراوح بين 8 و10% لمجرد مقاطعة جزئية لنسبة بسيطة من النفط الروسي بعيداً عن الغاز الذي ما زال يتدفق بغزارة ليبث الحياة في الاقتصادات الأوروبية، وكذلك الارتفاع الكبير في الأسعار والذي أثار موجات من الاستياء والتذمر الشعبي في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.

أما إمدادات السلع الغذائية والمعادن، فإن تأثيرها أقل حدة، إذ يمكن على سبيل المثال للصناعات النووية الأميركية إيجاد بديل لوارداتها من المعادن الروسية.

وفيما يتعلق بقدرة روسيا على تحمل تداعيات حرب الاستنزاف الاقتصادية الدائرة، فقد قللت كثيراً من اعتمادها على نظام «سويفت» من خلال توقيع اتفاقيات تجارية ومالية مع شركائها الرئيسيين، كالهند والصين، باعتماد عملاتهم الوطنية في التبادل، كما أنها تستخدم الآن نظاماً صينياً بديلا للمدفوعات المالية، وهو ما يهدد نظام «سويفت» مستقبلا، علماً بأنها اعتمدت الروبل، كبديل للدولار واليورو في مبيعاتها من الغاز لأوروبا.

أما التقنيات الغربية والسلع الاستهلاكية طويلة المدى، فالصين على أتم استعداد لتزويد روسيا بكامل احتياجاتها منها. نأمل أن يتيح هذا الموجز إمكانية الخروج باستنتاجات حول سير ونتائج حرب الاستنزاف الاقتصادية الدائرة بقوة وعنف، والتي ستستمر لأشهر طويلة سيكون العالَمُ بعدها غير العالَم الذي نعرفه الآن.

* د. محمد العسومي خبير ومستشار اقتصادي

المصدر | الاتحاد