ساسةبوست :
محمد شعبان
في فترات تاريخية مختلفة، ومن أماكن شتى، نزح اليهود إلى المغرب، وجذبتهم المدن والأماكن بأنشطتها الاقتصادية، أو بما تمنحه لهم من أمان.
تذكر فاطمة بوعمامة، في كتابها “اليهود في المغرب الإسلامي خلال القرنين 7 و8 هـ – 14 و15 م”، أن اليهود تمتعوا بحرية تامة في حركتهم اليومية، وعاشوا في المدن الكبرى والقرى، واختلطوا بالمسلمين، وكانوا ضمن قوافلهم يتاجرون معهم، ويُقرضونهم المال، ويذبحون لهم الماشية ويُهيئون لهم الطعام.
وسُمح لليهود بالإقامة في كل الأحياء شرط ألا تكون منازلهم أعلى من مساجد أو مساكن المسلمين، ولم يكن هناك أي مانع لحيازتهم وغيرهم من أهل الذمة للملكيات الخاصة، كما أجاز لهم الفقهاء بناء بيعة (كنيس) خاصة بهم لإقامة شعائرهم، شريطة ألا يضربوا النواقيس.
نشأة الملّاح
في ما بعد، وتحديداً في العصر المريني (1269 – 1464) خصّص ملوك المغرب الإسلامي أماكن لسكنى اليهود قريبة من قصورهم لحمايتهم، عُرفت بـ”الملّاح”، والتي تباينت الروايات حول نشأتها، منها أن السلطان أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق وهو مؤسس الدولة المرينية أنزل اليهود في حي الملّاح الواقع إزاء مدينة فاس الجديد، بعدما أخرجهم من فاس القديمة، حسب ما يقول مزاحم علاوي الشاهري في دراسته “يهود المغرب في العصر المريني (668-869 هـ/1269-1464) دراسة سياسية واقتصادية”.
وبُني هذا الملّاح عام 1275، عقب اعتداء أحد اليهود على جارية مسلمة في فاس القديمة افتضها قهراً في داره، ما أدى إلى غليان شعبي تجاههم لم يتوقف إلا بعد أن تدخل السلطان نفسه وقام بنقلهم إلى حيهم الجديد.
ويطرح الشاهري رأياً آخر يقول إن السلطان أبو سعيد عثمان بن يعقوب (1276- 1331) بنى مدينة حمص في فاس الجديدة والمعروفة أيضاً بالملّاح، وقيل إنها اتُخذت حياً لليهود، وكان بجانبه حي النصارى.
لكن الرواية الأكثر شيوعاً تشير لها بوعمامة، فتذكر أن أول ملّاح أُنشئ كان عام 1438، عندما تعرّض يهود فاس للطرد بعد أن “دنّسوا” مسجداً ووضعوا خمراً داخل فوانيسه، فاضطر السلطان عبد الحق الثاني المريني إلى نقل اليهود إلى العاصمة الجديدة لحمايتهم، ثم انتشرت هذه الأحياء في مناطق تازة، وباديس، ونفزة وأزمور في المغرب.
وتذكر بوعمامة أن مصادر يهودية أرجعت سبب ترحيلهم إلى ملّاح فاس الجديد إلى العثور على قبر السلطان إدريس الأول (يرجع نسبه للنبي محمد وأقام الدولة الأدارسة عام 788)، فتم إخراج اليهود من فاس القديمة “حتى لا يُدنّسوا المكان الشريف والطاهر الذي به قبر السلطان”.
وبحسب بوعمامة، أشارت المصادر اليهودية إلى أن عملية النقل هذه زادت من تدهور أوضاع اليهود الذين رفضوا التخلي عن مساكنهم ومتاجرهم، ما جعل الكثير من اليهود يعتنقون الإسلام.
عاشوا فيه بين القرنين التاسع عشر والعشرين… لماذا هاجر اليهود إلى الخليج العربي؟
يعيشون بين إقليمي أمهرا وتيغراي… يوميات الفلاشا في إثيوبيا وعلاقتهم مع محيطهم
“استكشاف فلسطين”… الصندوق الذي مهّد لتوطين اليهود في الأراضي المقدسة
تدابير أمنية لحماية حي اليهود
كان لحي الملّاح في فاس منفذٌ واحد متصل بباب السمارين، والذي كان أكثر أبواب فاس الجديدة نشاطاً من جهة الجنوب. وكما جرت العادة في سائر الملّاحات فقد وُضعت تدابير عدة لحمايته، منها تحصينه ببرجين للاستطلاع والمراقبة لم يبق لهما أثر حالياً، كما وصف هشام الركيك في دراسته “من حومة فندق اليهودي إلى ملاح فاس الجديد. تجليات الحضور اليهودي في المشهد العمراني لمدينة فاس”.
عاش اليهود في المغرب بحرية تامة، واختلطوا بالمسلمين، وكانوا يتاجرون معهم ويذبحون لهم الماشية، كما سُمح لهم بالإقامة في كل الأحياء شرط ألا تكون منازلهم أعلى من مساجد ومساكن المسلمين… لاحقاً، عاش اليهود في أحياء عُرفت بـ”الملّاح” فكيف كانت حياتهم فيها؟
كما نُصّب حرسٌ التزمت الجماعة اليهودية بالإنفاق عليه، وتكفّلت السلطة بتسليحه بالعصي والبنادق أيام الفتن وعند تفشي الفوضى وانعدام الأمن، وكان الملّاح يُغلَق عند حلول الليل وأيام السبت والأعياد الدينية اليهودية.
ورغم هذه التدابير، تقول بوعمامة، إن ملّاح فاس الجديد تعرّض عام 1465 لاقتحام من قبل بعض المسلمين والذين قتلوا كثيراً من اليهود، على خلفية العثور على جثة مسلم واتهام اليهود بقتله.
استقلال ذاتي وإداري
داخل الملّاح، تمتّع اليهود باستقلال ذاتي إداري وثقافي، وفقاً لما تسمح به الشريعة الإسلامية، وكان لهم نظامهم ومحاكمهم وماليتهم الخاصة، وحقهم في التديّن والرعاية والتعليم وتطبيق ما يتعلق بأحوالهم الشخصية، وفق ما ذكر عبد العزيز السعود في كتابه “تطوان في القرن الثامن عشر (السلطة – المجتمع – الدين)”.
وضِمن هذا الاستقلال الذاتي، كانت السلطة العليا في يد رئيس الجماعة اليهودية ويُدعى بارناس، وهو يدير شؤون مجلسها الذي سُمي “خونته” أو “معمد” ويتمتع بسلطة مطلقة.
ويتألف المجلس من سبعة أعضاء يُسمون “برناسيم”، ويُنتخبون تحت إشراف الحبر الأعظم، وينتمي أربعة منهم إلى أعيان الملّاح، والثلاثة الباقون من الأحبار.
ويدير هذا المجلس شؤون اليهود من أشغال عمومية ونظافة، ويقوم بتصريف الموارد المالية المتأتية من التبرعات والأوقاف اليهودية، ومن مداخيل ضريبة “كاشير” وتفرض اللحم المذبوح وفقاً للشريعة اليهودية، كما يهتم المجلس بتدبير أمور البيعة والأعمال الخيرية وشؤون التعليم، ويتكلف رئيسه بحمل الجزية إلى قائد المدينة كل سنة، حسب السعود.
وتُمثّل البيعة المكان الطبيعي لتجمع أفراد الجماعة، وهي فضلاً عن كونها محل إقامة الصلوات، فإنها تؤدي أيضاً دور المدرسة كما هو حال الكُتاب عند المسلمين، ويقوم بتسييرها ثلاثة أشخاص.
أما الهيئة القضائية الدينية العليا فتمثلت في “المحكمة الحبرية العليا”، وهي تتألف من ثلاثة قضاة أحبار يفصلون في النزاعات التي تحدث بين سكان الملّاح في ما يتعلق بالقضايا المدنية والعقارية، بينما يؤول النظر في القضايا الجنائية إلى القاضي الشرعي، وكذلك الشأن بالنسبة للقضايا والخلافات التي تنشأ بين اليهود وبين من ليسوا من ملتهم.
وكان يُكلَّف بالسهر على الأمن والحفاظ على النظام العام داخل الملّاح موظف يدعى “شيخ اليهود” أو “نكيد” وهو بمثابة ممثل الحاكم، ويكون تعيينه من طرف “المعمد” بعد مصادقة الحاكم، ودوره يشبه إلى حد كبير دور “المقدم” في أماكن المسلمين، أي أنه يمارس مهمة الشرطة تحت سلطة القائد، وفق ما روى السعود.
ويذكر حاييم الزعفراني، في كتابه “ألف سنة من حياة اليهود في المغرب” (ترجمه للعربية أحمد شحلان وعبد الغني أبو العزم)، أن الملّاح احتوى على سجن صغير خُصّص لمرتكبي المخالفات الدينية، وأولئك الذين تصدر بشأنهم السلطات الدينية اليهودية عقوبات بعد موافقة السلطات الحاكمة على ذلك، ويقوم بحراسة هذا السجن مسلم مسلح.
وداخل الملّاح، وُجدت مجموعة طوبوغرافية خاصة بكل مهنة، مثل “سوق الصرافين” وكان أصحابه يتاجرون بالذهب، وسوق صناعة الخيط المعدن الثمين من الذهب والفضة وكانت أكثر الصناعات اليهودية ازدهاراً، وأُطلق على أرباب العمل والعمال الذين يمارسون هذه المهنة اسم “الصقليين”، إضافة إلى سوقي صناعة الجلد والنحاس الأصفر، واحتكر اليهود داخل الملّاح أيضاً صناعة التقطير وتجارة شمع النحل.
عادات وتقاليد
وُجدت لدى اليهود في الملّاح بعض العادات التي كانت ترسخ الحفاظ على الذات، وتتمثل في الزواج المبكر أو الزواج عند سن البلوغ. ويرى السعود أن هذه الظاهرة كانت توحي بإحساس الأقلية اليهودية بضرورة الحفاظ على النوع من الانقراض.
بيد أن الزعفراني يرصد لأهل الملّاح عادات وتقاليد خرافية، فعندما يؤجر أحدهم داراً أو دكاناً، فإنه لا يسكنه أو يستعمله إلا بعد أن يضع ليلة انتقاله له أربع قطع من الحنة، ويشعل فوق كل واحدة شمعة متوسلاً إلى الجن ساكني المكان ليرحبوا بالجيران الجدد الذين يتهيأون للسكنى معهم، ثم يغلق البيت بالمفتاح ويغادره.
وفي صباح اليوم التالي، يعود بديك أسود فيذبحه وسط المكان، سواء كان بيتاً أو دكاناً، ويرش أركانه الأربعة بدم الديك، ثم يُعدّ بلحم الديك المذبوح طعام “الكسكس” ليتناول منه كل أفراد العائلة ويُعطى منه للجيران، ويُرمى ببعض منه في البئر والمراحيض. أما الذى بنى بيتاً جديداً، فإن الديك لا يكفيه، بل عليه أن يذبح تيساً أسود، أو بقرة من نفس اللون.
وعندما يطول المرض بمريض، أو يتكرر إجهاض امرأة أو يموت أبناؤها بعد الولادة أو في سن مبكرة، أو يحدث أي ظرف مؤلم، فإنهم كانوا يعدون وجبة تُقدم للجن، ويطلبون عفوهم، ويسمون هذا الطقس التقربي بـ”نسرا”. والوجبة هي عبارة عن كسكس مع قطع صغيرة من لحم ديك أسود، وتُقدّم لكل أفراد العائلة.
ويتناول الحاضرون الوجبة في المساء عند غروب الشمس، ويوضع منها في طبق كبير، فتذهب به بعض النساء المختصات في السحر والرقي وتلقي به في مجاري مياه المدينة أو في المسالخ، كما روى الزعفراني.
تباين فكري وعقائدي
رغم كل ذلك لم يسُدْ في الملّاح نسق فكري أو قيمي واحد. تذكر زبيدة عطاالله في كتابها “اليهود في العالم العربي”، أن أعداداً كبيرة من يهود إسبانيا هاجروا إلى المغرب نتيجة حركة الاسترداد المسيحية (سقوط الأندلس) في الفترة بين 1391 و1492، حيث تعرضوا في إسبانيا للتهديد بالقتل، فتركوا أراجون وقشتالة ومايوركا وغيرها من المناطق، واتجه منهم نحو 150 ألفاً إلى المغرب، فانتشروا في فاس ومكناس وطنجة وتطوان وسلا وأصيلة والرباط وأسفى وتلمسان، وكانوا أكثر ثقافة من يهود المغرب، فتعالوا عليهم ووُجدت فجوة حضارية بين الطرفين.
وزاد الشقاق بين اليهود الوافدين وسموا بـ”مكورشيم” والمقيمين وسموا بـ”توشقيم”، وذلك بسبب ظهور تفوق القادمين من أوروبا الفكري والاقتصادي، وظهرت خلافات علنية بينهم بشأن عدد من الطقوس وقوانين الذبائح، وفي النهاية حُسم الأمر لصالح القادمين الجدد الذين قادوا الجماعات اليهودية.
هجرات داخلية
في بعض الفترات التاريخية ونتيجة لأسباب مختلفة، هاجر اليهود من الملّاح إلى مناطق أخرى، ففي حالات الثورات كانوا يُرغمون في كثير من الأحيان على ترك مناطقهم بأمر ملكي، ولم يكن اليهود وحدهم هم الضحايا، بل كان هذا الانتقام موجهاً لمعاقبة جماعة الثائرين المسلمين ضد السلطة الحاكمة.
ولم يكن ترحيل اليهود الإجباري من المناطق التي سببته هذه التدابير القهرية يكتسي طابعاً عنصرياً، بل كان في بعض الأحيان يرفق بامتيازات خاصة، ويُخوّل للمهجرين الذميين بعض الحظوة.
ويضرب الزعفراني مثالاً في هذا الصدد بمغادرة الجماعات اليهودية زاوية الدلاء واتجاهها نحو مكناس وفاس في عهد السلطان الرشيد بن علي الشريف عام 1668، واجتذاب السكان اليهود من أكادير نحو الصويرة أيام السلطان محمد بن عبدالله عام 1765.
وفي فترات الأوبئة والمجاعات، توافد الأفراد والجماعات اليهودية على المناطق الأقل مصاباً، بحثاً عن الغوث عند إخوانهم الأسعد حظاً أو الأكثر غنى، فقد غادر اليهود مكناس سنة 1738 هرباً من المجاعة التي حلت بها، واتجهوا إلى دكالة (بين الدار البيضاء ومراكش) أولا، ثم ضربوا بعيداً نحو الجنوب حتى وصلوا درعة.
بعد عام 1956، بدأ تمزق الطائفة اليهودية في المغرب وهجرة الأغلبية الساحقة من أفرادها، فحُكم بالاختفاء نهائياً على مجتمع ظل مستقراً في البلاد منذ ما يقرب من ألفي عام… كيف عاش اليهود في المغرب وكيف كانت أحياؤهم التي عُرفت بـ”الملّاح” محكومة سياسياً وثقافياً؟
وبحسب الزعفراني، مثلّت الزيارات الدينية سبباً آخر لترحيل اليهود عبر المغرب، إذ كانت عائلات بأكملها تتحمل في بعض الأحيان الأسفار الطويلة المُهلكة من أجل الوصول إلى قبر ولي من الأولياء، لتفي بنذر قطعته على نفسها في وقته المحدد له. وكان المسافرون غالباً ما يتنكرون في ثياب المسلمين، فيتعمم الرجال وتتحجب النساء، حتى يستطيعون الحركة خارج الملّاح، ولا يتعرض لهم قطاع الطرق.
وكانت المدارس الدينية لدى يهود المغرب مزاراً يتردد عليه الطلبة الذين يأتون من مناطق بعيدة ليتلقوا تعليماً تلمودياً وشرعياً ينتهي بالحصول على إجازة، ثم يرجعون بعد ذلك إلى الملّاح في مسقط رأسهم، ليقوموا بالمهام الدينية، أو يقيمون نهائياً في مستقرهم الجديد حيث تلتحق بهم عائلاتهم.
هجرات خارجية
لم تنقطع هجرة اليهود إلى خارج المغرب أيضاً، حيث أصبح بالنسبة لليهود القادمين من إسبانيا مجرد أرض معبر ومرحلة على الطريق الطويل المؤدي إلى فلسطين باعتبارها “أرض الميعاد”، فذهبوا ليقيموا مدارس التلمود أو ليقضوا بقية عمرهم هناك. كما استمرت الهجرة نحو الشرق الإسلامي أو الإمبراطورية العثمانية بحثاً عن أوضاع معيشية أفضل.
ودفع انعدام الأمن في كثير من الفترات بكثير من العلماء والأدباء إلى أراضٍ أكثر أمناً، حيث وجدوا ملجأ لهم في أوروبا الغربية، خصوصاً في إيطاليا وهولندا، حتى أن البعض منهم ذهب إلى ما وراء المحيط إلى الأمريكيتين.
ويذكر الزعفراني أن الاتصالات مع المجموعة اليهودية الأخرى لم تنقطع طيلة القرون الطويلة، سواء بواسطة الفتاوى المتبادلة بين الأحبار، أو العلاقات التجارية، أو التبادل الثقافي، خصوصاً في مجال تبادل المؤلفات.
الهجرة لإسرائيل
بعد النكبة وقيام دولة إسرائيل عام 1948 واستقلال المغرب عام 1956، بدأ تمزق الطائفة اليهودية في المغرب وهجرة الأغلبية الساحقة من أفرادها، وهكذا حُكم بالاختفاء نهائياً على مجتمع ظل مستقراً في البلاد منذ ما يقرب من ألفي عام.
لم يبقَ الآن من بين 250 ألف يهودي، كانوا يسكنون الملّاح ويتساكنون كذلك مع بعض المسلمين في أحياء بعض المدن ومع الأوروبيين في الأحياء الجديدة بين 1950 و1960، سوى 20 ألف نسمة، يتمركز أغلبهم في العاصمة الدار البيضاء.
وبينما اختارت بعض المجموعات فرنسا وكندا وأمريكا اللاتينية موطناً هاجرت إليه، اتجهت الأغلبية الساحقة إلى إسرائيل طواعية، وكوّنت مع جماعات أخرى من اليهود الشرقيين مجتمعاً منفصلاً متميزاً عن المجموعة الأشكنازية التي جاءت من أوروبا الوسطى أو الشرقية.