فوكوياما العرّاف : انهيار روسيا بعد فانتازيا «نهاية التاريخ»

القدس العربي :

صبحي حديدي : 

على نقيض هنري كيسنجر، الأعتق منه والأدهى والأمكر والأوسع خبرة، لم يقترح فرنسيس فوكوياما أن تقدّم أوكرانيا بعض التنازلات لروسيا على سبيل وقف الغزو الذي انخرطت فيه موسكو منذ 24 شباط (فبراير) الماضي؛ بل لقد استبعد وجود أيّ منفذ دبلوماسي يمكن أن ينهي القتال، فتسكت المدافع وتُنزَل الصواريخ عن منصاتها وتجثم القاذفات في مرابضها. ما الحلّ، إذن، في ناظر الرجل الذي أنهى التاريخ ذات يوم، ثمّ عاد فاستأنف بعض تجلياته ليس من دون تراجع أقرب إلى التلفيق منه إلى الاعتذار؟ لا إجراء يمكن أن يوقف الحرب سواء في ساحات القتال أو أروقة المفاوضات، ولا حاجة تستدعي هذا أو ذاك أصلاً وعملياً؛ لأنّ روسيا سوف تنهار من الداخل، هكذا ببساطة، ليس تباعاً أو تدريجياً أيضاً بل دفعة واحدة وبأسرع مما هو متوقّع!
الأسباب يمكن أن تبدأ من تخطيط الجيش الروسي المثقل بالأخطاء وسوء الحسابات، ولها أن تمرّ بطموح بوتين السياسي المفرط، وتتقاطع مع الإدارة اللوجستية البائسة، ولا يلوح أنها تنتهي عند نقص الاحتياط الستراتيجي للقوات… وهذه طائفة اعتبارات عجيبة دفعت البعض إلى التساؤل، عن طريق تحكيم منطق جادّ، ما إذا كان الرجل يمزح أو يعابث أو أنه ربما أُصيب بلوثة؛ أو إحالة هذه الأفكار المبتسرة التبسيطية إلى قاعدة قياس مبدئية، تفيد بأنّ من الخير لجنرال مختصّ أو خبير عسكري أو حتى مراسل حربي أن يحلّ محلّ شيخ العرّافين صاحب النبوءات الفانتازمية حول طيّ صفحة التاريخ، وانتصار الإنسان الليبرالي الأخير، وهيمنة اقتصاد السوق مرّة وإلى الأبد. وكيف لا تُقابل تنظيرات فوكوياما هذه بردود أفعال تتراوح بين الاستغراب والتهكم والرفض، إذا كانت الخلاصة القصوى لتحليلاته تأخذ صيغة الاختزال التالية: «أفضل كثيراً أن نجعل الأوكرانيين يهزمون الروس بأنفسهم، منتزعين من موسكو ذريعة أنّ الحلف الأطلسي يهاجمهم، فضلاً عن تفادي كلّ إمكانيات التصعيد الواضحة»؟ إنه لا يطالب أن تخوض أوكرانيا الحرب ضدّ روسيا بالنيابة عن الأطلسي والولايات المتحدة فقط، بل هو جازم تماماً بأنّ النصر حليف كييف لا محالة.
نحن، بالطبع، على مبعدة كافية، زمنية وفكرية وجيو- سياسية في آن، عن أيلول (سبتمبر) 1989 حين نشر فوكوياما مقالته الشهيرة التي شيّع فيها التاريخ إلى مثواه الأخير، على يد «الإنسان الأخير». آنذاك كانت الأطروحة تقول ما معناه، للتذكير المفيد: التاريخ لعبة كراسٍ موسيقية بين الإيديولوجيات (الأنوار، الرأسمالية، الليبرالية، الشيوعية، الإسلام، القِيَم الآسيوية، ما بعد الحداثة…)؛ وقد انتهى التاريخ وانتهت اللعبة لأنّ الموسيقى توقفت تماماً (انتهاء الحرب الباردة) أو لأنّ الموسيقى الوحيدة التي تُعزف الآن هي تلك الخاصة بالرأسمالية والليبرالية واقتصاد السوق. وليس في استعارة لعبة الكراسي الموسيقية أيّ إجحاف بحقّ أطروحة فوكوياما، بل لعلها أفضل تلخيص للتمثيلات الكاريكاتورية التي وضعها الرجل لعلاقة البشر بالتواريخ، ولتأثير البنية الفوقية (الإيديولوجيا والنظام الفكري) على البنية التحتية (الاقتصاد والنظام الاجتماعي) وعلى ولادة إنسان لا حاجة له بالتاريخ لأنه ببساطة خاتم البشر.

إحالة أفكار فوكوياما المبتسرة إلى قاعدة قياس مبدئية تفيد بأنّ من الخير لجنرال مختصّ أو حتى مراسل حربي أن يحلّ محلّ شيخ العرّافين صاحب النبوءات الفانتازمية حول طيّ صفحة التاريخ، وانتصار الإنسان الليبرالي الأخير، وهيمنة اقتصاد السوق مرّة وإلى الأبد

بعد عقد من الزمان (وفي غمرة احتفاله باليوبيل العاشر للمقال إياه!) نشر فوكوياما في صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» مقالاً بعنوان «نهاية التاريخ بعد عشر سنوات» سرعان ما تناقلته وترجمته حفنة من كبريات الصحف الغربية. ولم يكن يبدو البتة أنّ السنوات العشر قد فتتت في عضد الرجل، إذْ لا شيء في شؤون السياسة الدولية أو معضلات الاقتصاد الكوني يبرهن على بطلان أطروحة نهاية التاريخ وانتصار القِيَم الليبرالية واقتصاد السوق: لا شيء، حرفياً! لا الحروب الإقليمية، ولا الأشباح الإثنية التي تستيقظ من سبات قرون طويلة، ولا انهيار الاقتصادات الآسيوية العتيدة أو الاقتصادات الأوروبية الشرقية الوليدة أو زلازل نظام الإقراض المصرفي الأمريكي، ولا حروب الصومال أو مذابح رواندا أو انفجار البلقان أو تعطّل عملية السلام في الشرق الأوسط وانفلات الفاشية الإسرائيلية من كل عقال… لا شيء، حرفياً!
التنازل الوحيد الذي قدّمه فوكوياما، بتواضع العالِم/ العرّاف، هو ذاك الخاصّ بفكرة أنّ «الدولة الليبرالية الحديثة هي الصيغة السياسية التي تتوّج التاريخ. كانت هذه الأطروحة خاطئة تماماً» كتب فوكوياما. لماذا؟ «لأنّ التاريخ لا يمكن أن ينتهي ما دامت علوم الطبيعة المعاصرة لم تبلغ نهايتها بعد، ونحن على أعتاب اكتشافات علمية ذات جوهر كفيل بإلغاء الإنسانية في حدّ ذاتها»! في البدء انتهى التاريخ، ثم بعدئذ انتهى الاقتصاد (وهذه هي الأطروحة المركزية في كتاب فوكوياما الثاني «الثقة: الفضائل الاجتماعية وخلق الرخاء») واليوم «تنتهي الإنسانية نفسها أو في حدّ ذاتها»… من دون تاريخ دائماً، وعلى صعيد الحالات الثلاث. وفي ختام مقالة اليوبيل العاشر تلك كتب فوكوياما: «السمة المفتوحة لعلوم الطبيعة المعاصرة تسمح لنا بالقول إنّ تكنولوجيا علوم الأحياء سوف تتيح لنا، وخلال جيلَين قادمَين، استكمال ما فشل اختصاصيو الهندسة الاجتماعية في القيام به. وفي المرحلة تلك سوف تكون علاقتنا بالتاريخ الإنساني قد انتهت تماماً، لأننا سوف نكون قد أبطلنا الوجود الإنساني في حدّ ذاته. عندها سوف يبدأ تاريخ جديد عابر للإنساني».
على أصعدة مختلفة في الاقتصاد الكوني، الذي هو بعض تجليات التاريخ الإنساني اليومي، تواترت بعد فانتازيا «نهاية التاريخ» أحوالٌ عجيبة تنتهك القواعد التي اعتبرتها القرون السابقة بمثابة حدود دنيا لما هو مقبول إنسانياً بين فريقَي الغنيّ والأغنى، من جهة أولى؛ والفريقَيْن معاً ضد الفقير والأفقر والمعدم والجائع، من جهة ثانية. تقرير «برنامج الأمم المتحدة للتنمية» ظلّ يقدّم عشرات الحقائق الفاجعة، الكفيلة بردّ الإنسانية القهقرى إلى عصور مظلمة خُيّل لفرسان الليبرالية أنها انطوت إلى غير رجعة. الناتج الداخلي الإجمالي على نطاق دولي بلغ، بالنسبة إلى 1993 كسنة قياس، ما قيمته 23.000 مليار دولار، بالمقارنة مع 4.000 مليار قبل عشرين سنة فقط؛ وكن كيف يتوزع هذا الانفجار الخرافي في الإنتاج والاستثمار؟
ـ الدول المصنّعة استأثرت بما قيمته 18.000 مليار دولار، وسائر العالم كانت له حصة الـ 5.000 مليار المتبقية. من جانب آخر، كان هنالك 350 فرداً يملكون من الثروات المادية (على شكل رساميل واستثمارات وأسهم مالية خاصة) أكثر مما يملكه نحو مليارين ونصف المليار من البشر المبعثرين هنا وهناك على هذه البسيطة.
ـ وبينما ارتفع معدّل النموّ الدولي بنسبة 40٪ بين أعوام 1975 و1985، فإنّ نسبة الفقر الأقصى زادت بمعدل 17٪، واتسع نطاق الخطّ الأحمر للفقر ليشمل قطاعات جديدة. أيضاً، يُنتظر أن يتواصل ارتفاع معدلات النموّ العالمي بحيث يبلغ ما قيمته 56.000 مليار دولار في العام 2030، ولكن حصّة الدول النامية سوف تنخفض بنسبة 30٪ عن سنة القياس 1993!
وتقارير برامج الأمم المتحدة للتنمية تكرّر الخلاصة التالية: «العالم اليوم مسرح لاستقطاب جلي حادّ على الصعيد الاقتصادي (…) وإذا تواصلت الاتجاهات الراهنة فإن التباينات بين الدول المصنّعة والدول النامية لن تكون مجحفة فحسب، بل ستكون غير إنسانية أيضاً». وعبارة «غير إنسانية» هذه تردّد أصداء نهاية الإنسانية كما يقول بها فوكوياما، مع فارق كبير في طبيعة العذاب البشري بالنسبة إلى المعنى الأوّل، وطبيعة الرفاه الفلسفي بالنسبة إلى المعنى الثاني. وقد تكون هذه المعادلة وجهة أخرى لاستئناف فانتازيا إنهاء التاريخ، عبر التنجيم بانهيار روسيا.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

عن مركز القلم للأبحاث والدراسات

يهتم مركز القلم بمتابعة مستقبل العالم و الأحداث الخطرة و عرض (تفسير البينة) كأول تفسير للقرآن الكريم في العالم على الكلمة وترابطها بالتي قبلها وبعدها للمجامع والمراكز العلمية و الجامعات والعلماء في العالم.

شاهد أيضاً

“فايننشال تايمز” : الاتحاد الأوروبي سيمنح تونس 165 مليون يورو لكبح الهجرة غير الشرعية

RT : قالت صحيفة “فايننشال تايمز” يوم الأحد إن الاتحاد الأوروبي سيقدم لقوات الأمن التونسية …