sasapost :
«بهادر شاه ظفر»: المغولي الأخير الذي بارك الثورة ضد الاستعمار
هو محمد شاه الثاني بن محمد أكبر شاه، المُلقب «بهادر»، المغولي، الهندي نشأةً وإقامة، وآخر أباطرة المغول المسلمين في الهند. تولى العرش بعد وفاة والده محمد أكبر شاه وكان حاكمًا اسميًّا وفقًا للدكتور فؤاد صالح السيد وكتابه «أشهر الأحداث العالمية (1 إلى 1899 م)»، إذ كان بعيدًا عن أي نشاط سياسي، ولم يسمح له سوى باختيار ولي العهد فقط.
ولد الإمبراطور المغولي الأخير عام 1775، في وقتٍ كان فيه البريطانيون مجرد قوة متواضعة في الهند؛ وخلال حياته شهد تنامي هذه القوة؛ والتحول التدريجي للبريطانيين من مجرد تجار لا حول لهم إلى قوة عسكرية لها تطلعات توسعية. وكلما تنامت قوة البريطانيين، تضاءل أمامها عظمة وسلطان أباطرة المغول؛ حتى صارت سلطتهم اسمية في نهاية حكم الإمبراطورية. وهي الفترة التي وصل فيها بهادر شاه ظفر إلى الحكم في الستين من عمره.
ظفر محل – أطلال القصر الصيفي لآخر أباطرة المغول بهادر شاه ظفر في نيو دلهي
يقولون عنه: «كان خطاطًا وموسيقيًّا وشاعرًا باللغة الأردية»، فاشتهرت القلعة الحمراء في دلهي بإقامة الندوات العلمية والأمسيات الشعرية، وتتلمذ بهادر شاه ظفر على يد الشاعر شاه نصير الدين الدهلوي المتصوف، والشيخ إبراهيم ذوق، الذي ترجمت أشعاره تحت اسم «ذوق»، فأصبح شاعرًا قديرًا سهل العبارة الأسلوب، كتب في جميع أنواع الغزل، وكان يختار لنفسه البحور الطويلة؛ ومن أشعاره:
«متى يستقر الفؤاد المعنى.. وهل يطمئن غريب الديار
وهل يثق المرء في عالم.. قريب الزوال سريع الدمار» *بهادر شاه ظفر
يشير فؤاد صالح إلى أن سلطان الإمبراطور بهادر قد انحصر في «القلعة الحمراء» في دلهي، وقد أنذره الإنجليز في النهاية بأنه آخر الملوك الذين يسكنون القلعة؛ فقد كانوا ينوون تحويلها إلى ثكنة عسكرية. وكان الإمبراطور يتقاضى راتبًا شهريًّا من «شركة الهند الشرقية» البريطانية، فأخبره البريطانيون بأن المخصصات التي يأخذها منهم ستنقطع بوفاته؛ فقاد الإمبراطور الانتفاضة الكبرى ضد البريطانيين في الهند عام 1857م.
عُرف الإمبراطور بهادر برعايته لرسامي المنمنمات، وبمحبته للحدائق، فهو الشاعر الصوفي الذي على الرغم من أنه الابن الأكبر للإمبراطور أكبر شاه، وولي عهده، لم يكن – وفقًا لويليام داريمبل– ابنه المفضل. وعندما تولى العرش، احتفظ لنفسه في خمسينيات القرن التاسع عشر بوصفه إمبراطور مُسن بقليلٍ من السلطة؛ لكنها كانت كافية لأن يمنح مباركته للثوار الذين اقتحموا قصره 11 مايو (أيار) 1857، مطالبين إياه بالوقوف مع الانتفاضة ضد البريطانيين. وكانت تلك هي فرصة الإمبراطور الأخيرة في حماية سلالته من الانقراض بعد وفاته؛ خاصةً مع تهديدات البريطانيين بتحويل القلعة الحمراء في دلهي إلى ثكنة عسكرية؛ فكانت الثورة.
الإمبراطور المغولي الأخير، بهادر شاه ظفر، مصدر الصورة: the print
يقول المؤرخ ويليام داريمبل، أن بهادر شاه ظفر وصل إلى الحكم متأخرًا جدًّا؛ في فترة كان من المستحيل فيها عكس تدهور حكم المغول وتقليص نفوذ سلطة بريطانيا العظمى. لكنه على الرغمِ من ذلك، تمكن من عمل نهضة كبيرة، كيف لا، وهو الفنان الخطاط الماهر والشاعر الموهوب؛ ففي الوقت الذي استولى فيه البريطانيون تدريجيًّا على ما تبقى من سلطة الإمبراطور ذاته، كان بهادر شاه ظفر يقود أعظم نهضة أدبية عرفها تاريخ الهند الحديث، تلك التي قدم فيها شعراء مثل الشاعر الهندي العظيم «ميرزا غالب».
وفي كتابه «المغولي الأخير»، يقول داريمبل: «على الرغم من أن ظفر لم يكن قط قائدًا بطوليًّا أو ثوريًّا، فإنه يظل مثل سلفه الإمبراطور أكبر، رمزًا جذابًا للحضارة الإسلامية في أكثر حالاتها تسامحًا وتعددية».
في نهاية حكمه، كان اسمه قد أزيل عن العملات المعدنية؛ واستولى البريطانيون على مدينة دلهي نفسها؛ ولم يبق أمامهم سوى وضع اليد على «القلعة الحمراء» التي اكتفت حينذاك بدورها «راعية الفنون».
«اقتلوا كل حي!».. هكذا انتهت انتفاضة «المغول الأخيرة»
مع انحصار سلطة المغول السياسية في الهند نتيجة للغزو البريطاني، استبدل الطموح الديني محل التنوع السياسي؛ فظهر عدد من علماء الدين يحثون الناس على التمسك بدينهم وتقوية قلوبهم والتكاتف لإنقاذ الهند من التسلط البريطاني. فأدت هذه المشاعر الدينية المتأججة، وهذا السخط السياسي الذي يحركه في الواقع دمار اقتصادي مؤلم تسبب فيه «الإنجليز» – كما أطلق عليهم – بعدما دمروا أسس النظام الاقتصادي، وحطموا الأنوال والمغازل الهندية لمنع منسوجاتهم القطنية من غزو أسواق أوروبا؛ إلى سخط عام في الهند على الوجود الاستعماري ككل، في وقتٍ عانت فيه البلاد من التفكك.
ما نتج منه ظهور جماعات سرية تدعو للثورة، وتحث طوائف الهند كافةً على التكاتف ضد العدو البريطاني المشترك. وبالفعل بدأت الثورة من داخل ثكنات الجيش البريطاني نفسه؛ وهو ما لم يتوقعه الإنجليز!
(بهادر شاه ظفر، المغولي الأخير في نهاية أيامه – المصدر بي بي سي)
كانت البداية من ثكنات الجنود الهندوس والمسلمين في الجيش البريطاني المُعْسكرين في (ميرت)، إذ أجبرهم قادة الجيش على قطع دهن الخنزير والبقر بأسنانهم لتشحيم أسلحتهم؛ على الرغم من معرفتهم المسبقة أن الهندوس يقدسون البقر وأن المسلمين محرمًا ءشي عليهم تذوق لحم الخنزير؛ لكن قادة بريطانيا لم يراعوا تلك الفروق العقائدية؛ وعاقبوا الجنود الذين امتنعوا عن تشحيم أسلحتهم بالطريقة السابقة، فأجج ذلك السخط داخل ثكنات الجنود، فانقضوا على الضباط وقتلوهم؛ وانطلقوا بعدها إلى دلهي مُعلنين الثورة.
قامت الانتفاضة الهندية الكبرى هكذا مصادفةً؛ دون تخطيط دقيق مسبق، أو قيادة مُنظمة، وهنا وجدوا في إحياء إمبراطورية المغول أملًا لنجاح ثورتهم الوليدة، فذهبوا إلى قصر الإمبراطور المغولي الأخير، بهادر شاه ظفر، يعرضون عليه استعادة كامل سلطاته بوصفه إمبراطورًا، في مقابل قيادة الثورة؛ وبالفعل قبل الإمبراطور العرض.
لم يكن لدى كلٍّ من الإمبراطور أو الثوار أية دراية بأساليب الحرب الحديثة؛ فدخلوا بشجاعة معركة غير متكافئة القوى، انتهت بانقضاض الإنجليز على معاقل الثوار وإلقاء القبض على الإمبراطور أسيرًا هو وأفراد عائلته، وساقوهم مقيدين، وفي الطريق أطلق أحد الضباط الرصاص من بندقيته على أبناء الملك وأحفاده، فقتل ثلاثة منهم، وقطعوا رؤوسهم.
لم يكتف الإنجليز بهذا الفعل الدموي، فوفقًا لبعض الروايات التاريخية، فقد فاجأ الإنجليز الملك وهو في محبسه بما لم يخطر على باله؛ إذ وضعوا رؤوس أبنائه/أحفاده الثلاثة في إناء وغطُّوه، وجعلوه على المائدة التي يُقدم له عليها الطعام، فلما أقبل على تناول الطعام وكشف الغطاء وجد رؤوس أبنائه الثلاثة وقد غطيت وجوههم بالدم، فما كان من الإمبراطور الشاعر إلا أن قال في ثبات وهو ينظر إلى من حوله: «إن أولاد التيموريين البواسل يأتون هكذا إلى آبائهم محمرة وجوهم»، كناية عن النصر والفوز في اللغة الأردية.
جدير بالذكر أن الثورة الهندية، كانت آخر محاولة قامت بها سلطات المغول في وجه الغزو البريطاني، لكنها انتهت بسقوط إمبراطورية المغول الإسلامية وإعلان الهند مستعمرة بريطانية. ورغم كل هذا لم يكن فشل الثورة، هو الأمر الأكثر قسوة، فبعد نفي الإمبراطور بهادر شاه ظفر إلى مدينة ريغون عاصمة بورما هو وأسرته، أراد البريطانيون القضاء على أي أثر للسلالة الحاكمة داخل الهند، فعمد القائد البريطاني، الكابتن هدسون، إلى استدعاء أفراد الأسرة الحاكمة الذين لم يغادروا الهند؛ فذبحوا عن بكرة أبيهم، ولم يستثنَ منهم أحد.
تلا ذلك مذبحة كبيرة أخرى، انقضت فيها القوات البريطانية وأنصارها من رجال السيخ، على الهنود المسلمين بشكلٍ وحشي، فقتلوا مئات الآلاف وأحرقوا المدن، في واحدة من أبشع المذابح التي شهدتها عاصمة المغول القديمة، وقد جاءت الأوامر بـ«قتل كل حي» في خنادق الثوار.
ولهذا أرادت بريطانيا «محو» آثار المغول
كان بهادر شاه ظفر، يمثل الحاكم المنفتح الشاعر والصوفي، فقد رعى الفنون والآداب وفتح قلعته للموهوبين من الشعراء ورسامي المنمنمات. رغم ذلك؛ عندما فشلت الثورة الهندية ضد الوجود البريطاني عام 1857، حرصت القيادة البريطانية بعد انتصارها على محو أي أثرٍ له، يشير إلى أن هناك حاكمًا «مسلمًا» وُجد بالفعل وحكم إمبراطورية في أواخر أيامها.
(لحظة وقوع الإمبراطور في الأسر – المصدر Daily O)
كان العصر المغولي معروفًا بتسامحه الديني مع الغالبية الهندية، فوالدة الإمبراطور ظفر كانت هندوسية، وكان هناك تسامح كبير فيها يتعلق بالهندوس وديانتهم، وقد حافظت مدينة دلهي على تسامحها هذا في عهد بهادر شاه ظفر، وذلك على الرغم من أنها عرفت بطابعها الإسلامي في طقوسها.
هذا الانفتاح والتسامح الديني الذي جعل الإمبراطور يمنع المسلمين عن ذبح البقر المقدس لدى الهندوس، وعندما اشتكى إليه السكان المسلمون، قال لهم إن الإسلام لا يعتمد في وجوده على البقر، وهو السبب الذي جعل الهندوس والمسلمين ينظرون إليه بوصفه جزءًا من تاريخهم العريق، وربما لهذا وافق الأمبراطور على دعم ثورة الشعب. وفي منفاه كتب هذه الأبيات، قبل وفاته:
«أفي غير أرض بلادي وقومي .. عليَّ كؤوس المنايا تُدار
غريب الحياة غريب الممات .. بعيدًا وحيدًا غريب المزار».
* بهادر شاه ظفر في منفاه بمدينة ريجون – بورما
عندما مات الملك المغولي الأخير في منفاه عام 1862، لم تصدر أي صحيفة بريطانية أو هندية خبر وفاة شاه ظفر بأي تفاصيل؛ إذ كان هناك الكثير من الاضطهاد البريطاني وإراقة الدماء حتى بعد مرور خمس سنوات على فشل الثورة ونفي «المغولي الأخير» من المدينة.
كتم القائد البريطاني الخبر، وحرص على تغطية قبر الإمبراطور – حفيد جنكيز خان وتيمورلنك– بالكلس، أملًا في أن تمحى ذكراه بعد قليل. ليس هذا فقط؛ بل أرادت بريطانيا المنتصرة محو أي أثر لهذا الإمبراطور في التاريخ، فأزيل شاهد قبره بعد شهر واحد، وعبث الجنود البريطانيون بقصره الذين كان قلعة للفنون؛ محاولين إزالة آثاره وآثار سلالته من مدينة دلهي الهندية التي كانت شاهدة على استمرارية حكم المغول.
مسلمة تزور ضريح الإمبراطور بهادر شاه ظفر
بالعودة إلى الوراء، نجد أن حركات التبشير بالمسيحية كانت قد بدأت بالفعل قبل هذه الثورة بكثير من خلال شركة الهند الشرقية، التي أفسحت المجال للمبشرين بمباشرة عملهم من خلال المدينة الهندية دلهي. ومع زيادة التعصب المسيحي بدأت شركة الهند الشرقية ترسم تفاصيل التخلص من الإمبراطور المغولي شاه ظفر.
فرفضت الاعتراف بنجله «ميرزا جوان» ابن زوجة الإمبراطور المفضلة «نواب زينات محل» وريثًا للعرش، وقد جاءت رغبتهم نتاج قوة وغطرسة تزاوجت مع حس ديني تبشيري – وفقًا لمقال «المغولي الأخير: نهاية الإمبراطورية وتاريخ مدينة دلهي في زمن العصيان» المنشور في صحيفة «القدس العربي» – وأن الإمبراطور ظفر يجب أن يكون نهاية خيط السلالة المغولية في الهند، وهو ما كان بالفعل.
تجاهلت كتابات المستشرقين آثار المغول الثقافية والحضارية والفنية التي تركوها في بلاطهم، فلم يذكر تاج محل إلا لمامًا في كتابات المنتصرين؛ في الوقت ذاته كانت جهود الكتابة التاريخية التي تناولت الإمبراطور المغولي الأخير قليلة، بل تحاشى البعض ذكر اسمه وذلك لارتباطه بالانتفاضة الهندية التي حدثت في مملكته ضد البريطانيين، والتي كانت نقطة فاصلة في تاريخ بريطانيا داخل الهند.
أما عن إجابة سؤال لماذا سعت بريطانيا لمحو آثار المغولي الأخير؟ فقد جاء حرص المنتصرين على إهانة الحاكم بهادر شاه ظفر، نابعة من أنه لم يحفظ الجميل من وجهة نظرهم، فمملكة دلهي منذ نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر أصبحت آخر مملكة يسيطر عليها المغول، ومن هنا وفقًا لمقال «القدس العربي»، كان وجود الملك المغولي وسلطته الاسمية في مدينة دلهي، «منحة وهبة من الإنجليز» وفق زعمهم، ومن هنا عدُّوا مشاركة شاه ظفر في الانتفاضة خيانة، فسعوا بعدها لمحو أثره.
ولأكثر من 100 عام، نجح البريطانيون فعلًا في طمس أثره؛ وذلك وفقًا لتقرير وكالة «بي بي سي» البريطانية، عن الإمبراطور المغولي المنسي؛ الذي حكم أسلافه إمبراطورية كبيرة امتدت من الهند لباكستان وأجزاء من أفغانستان وبنجلاديش، واستمرت في الحكمِ قرابة الثلاثة قرون.
تاريخ
لغز الانسحاب بعد النصر.. كيف أفلتت أوروبا من اجتياح المغول؟