القدس العربي :
سعيد يقطين :
بدا لي، منذ بداية تعاملي مع الوسيط الجديد في أواخر التسعينيات، أن رهان الثقافة العربية في المستقبل يكمن في ولوج العالم الرقمي. وكاد الانغماس في خوض تجربة مع هذا العالم أن يأخذني إلى اتجاه آخر مختلف عن مساري البحث الذي بدأت به حياتي الثقافية. غير أني آثرت عدم الانخراط فيه كليا لأنني مقتنع بأن قضايا أخرى ما قبل رقمية تستدعي منا المزيد من التفكير والاجتهاد. مرت علاقتي بالكتاب منذ بداية بروز المنجزات الرقمية العربية بمرحلتين: تبرز أولاهما في الإقدام على شراء المكتبات الإلكترونية العربية المختلفة. ولقد بينت رأيي في هذه المنجزات المهمة في كتاب «من النص إلى النص المترابط»، حيث وقفت على الإكراهات التي تعترضها. لكن الكتاب الإلكتروني العربي لم يتطور كما أو كيفا، فقلت الإصدارات، بل يمكننا الذهاب إلى أنها توقفت تقريبا. وصار الكتاب العربي المصور يملأ ما لا حصر له من المواقع التي تتضاعف أعدادها، وتجاربها تتنوع في تقديم الكتب العربية القديمة، والحديثة على السواء. وبذلك أضحى الكتاب الإلكتروني العربي (المصور) وكأنه بديل عن الكتاب الرقمي الذي يمكن التعامل معه بطريقة مرنة من خلال شاشة الحاسوب أو الهاتف.
لا أنكر أهمية الكتاب الإلكتروني العربي. إنه على الأقل يوفر المادة النصية المفتقدة في غياب حضور الكتاب العربي في أغلب المكتبات في الأقطار العربية، رغم ما يثيره ذلك من تسلط على حقوق المؤلف والناشر. لكن التأخر في التفكير وتعطيل الإقدام على الانتقال إلى «إبداع» الكتاب الرقمي وفق المواصفات التي يفرضها الوسيط الجديد سيظل عائقا دون تطور علاقتنا بالنص العربي سواء على مستوى التلقي أو التحليل. وفي زخم اليومي، وشساعة الفضاء الافتراضي، قلما يتم الانتباه إلى بعض المجهودات الرائدة والجليلة في خدمة التراث والثقافة العربيين التي تحجبها الوسائط الرقمية الشعبية التي تيسر انتشار الرداءة، وسيادة التفاهة.
أرسل إلي الباحث المغربي مصطفى فوضيل في منتصف شهر أيار (مايو) رابطا حول مشروع رقمي متميز، هو جزء من سلسلة أعمال جليلة أنجزتها «مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)» التي يتحمل مسؤولية أمانتها العامة أستاذي الفاضل الشاهد البوشيخي، وتتعلق كلها بترقيم التراث العربي. إنه «الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم». فتحت الرابط ( https://play.google.com/store/apps/details?id=com.mobdii.jamaie_albayan) فور توصلي به لأني أعرف جيدا مجهودات المؤسسة من خلال بعض الأسطوانات التي أمدني به الباحث فوضيل مشكورا، والتي تبرز المجهودات الكبيرة التي تبذلها في ترقيم التراث العربي، والتي لم أتمكن قط من الكتابة عنها لضغط الانشغالات. سررت كثيرا بالعمل وحملته على هاتفي، وبعد الاطلاع عليه، تبين لي أن هذا هو المجهود التي كنت أطرحه منذ مقالاتي الأولى التي كانت تنافح عن الإقدام على الدخول إلى العالم الرقمي. تبين لنا من جهة أننا أمام مشروع متكامل، وأي مشروع قد تكون له بداية، ولكنه عمل متواصل ومستمر. ومن جهة ثانية يشترك فيه باحثون مختصون في النص التراثي ينشغلون به في ضوء الإنسانيات، وبمختص في المعلوميات. وبتآزر الإنسانيات والمعلوميات أمكن إنجاز العمل الذي يمكن تقديمه نموذجا لما يمكن الاشتغال به على النص العربي في مختلف أجناسه وأنواعه.
إن هذا العمل الجليل يصب فيما تناولته مرارا تحت عنوان «الإنسانيات الرقمية». ما أكثر ما نتحدث عن «الدراسات البينية»، وعن «النص الرقمي»، ولكننا في الواقع بمنأى عن ترجمة هذا في أعمال تبرز لنا التقدم الذي نحرزه في هذه الدراسات وحول ذاك النص. للأسف الشديد لا نجد اهتماما واسعا بمثل هذه المشاريع. وأصرح لولا بعث الزميل رابط هذا العمل ما كنت لأتعرف عليه. هذا في الوقت الذي تصلني فيه يوميا عشرات الفيديوهات والرسائل المختلفة.
أشرت إلى المكتبات الإلكترونية العربية مثل ما يقدمه موقع «روح الإسلام»، وموقع «المكتبة الشاملة» على سبيل التمثيل، وهما يتجددان باستمرار. وأعتبرها رائدة في هذا المجال. لكن ما أثارني في مشروع «الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم» هو دقته في تقديم النص والمجهود الكبير الذي بذل في مراجعته وتدقيقه. لقد ساهم في استخلاص المادة وتصحيحها ومراجعاتها الثلاث أزيد من مئة باحث من أكثر من عشرين مؤسسة علمية وكلية وأكاديمية من المغرب والوطن العربي، تحت إشراف الأمين العام الشاهد البوشيخي، والمشرف العلمي مصطفى فوضيل والمشرف التقني عبد العلي حواتي.
يتقدم إلينا المشروع من خلال التعريف به من خلال عدة محاور تتناول خطته، ومسيرته، وحصيلته، والمسهمين فيه، والمؤسسة التي سهرت على تنفيذه. يتبين لنا من خلال قراءة خطة المشروع أننا أمام رؤية واضحة لمشروع اقتضى عدة سنوات لتحقيق بعض مراميه منذ تأسيس المؤسسة في مدينة فاس سنة 2007. تبرز هذه الرؤية الواضحة من خلال الإنجاز الذي يقدم إلينا من خلال مفهومين: الجامعية والتاريخية والذي يعني: «ذلكم التفسير الجامع لكل ما بُيِّن به المراد من كلام الله تعالى في كتب التفسير حسب وفيات المفسرين، محذوفا منه كل ما لا حاجة إليه اليوم في بيان المراد من كلام الله تعالى».
إنه عمل لا يقوم على القص واللصق كما اعتدنا على ذلك في الكثير من المكتبات الإلكترونية. إنه ينهض على أساس تقديم كتب التفسير وفق رؤية منهجية تركز على ما هو جوهري في التفسير، مع حذف كل الزوائد التي تعتبر نوعا من الحشو الذي لا يضر حذفه في إبلاغ ما كان يرمي إليه المفسرون. لقد قدم في هذا المشروع من خلال 65 كتابا في التفسير مرتبة تاريخيا حسب أزمنة مؤلفيها، أي من تفسير مقاتل بن سليمان (150هـ) إلى «نظرات في الهدى المنهاجي في القرآن الكريم» للشاهد البوشيخي. ولقد قسمت مادة التفسير تبعا لأحزاب القرآن الكريم، وتقدم كل آية منه من خلال كتب التفسير مرتبة حسب تاريخ صدورها. ويسمح البحث بإمكانيات مهمة سواء داخل النص القرآني مشفوعا بإحصائيات، أو داخل متون التفسير. واجهة البرنامج سهلة وبسيطة ومرنة وجميلة، وتيسر على القارئ الانتقال بين الأحزاب والسور والآيات. ورغم كون الاشتغال بالبرنامج يتم من خلال الهاتف المحمول فإنه بدون أي مشاكل. فهناك إمكانية لتكبير الخط أو تصغيره. كما أن هناك إمكانية مشاركة ما تود تقاسمه مع غيرك من مواد.
إن بساطة التعامل مع هذا البرنامج يكشف لنا بالملموس أن التخطيط والتدبير والسهر على الإنجاز بصدق وتفاعل إيجابي بين مختلف المساهمين في المشروع كفيل بجعلنا نخطو خطوات قوية، وإن كانت بطيئة، فإنها ستحقق مقاصدها النبيلة. وأرى أن مثل هذه المشاريع هي ما ينبغي العمل من أجله داخل كلياتنا ومعاهدنا من أجل دخول العصر الرقمي. ولعل غزارة التراث العرب الإسلامي في مختلف جوانبه يستدعي تضافر جهود الباحثين من كل الأقطار العربية والإسلامية ومن اختصاصات متعددة، وليس «بينية» كما نتوهم، من أجل أن يقدم كل اختصاص معين معرفته بالموضوع، وصلته العميقة به، ويشتغل جنبا إلى جنب مع اختصاصات أخرى (المعلوميات ضرورة) بهدف إنجاز عمل مشترك تبدو فيه مميزات أي اختصاص، ودقته، وصرامته أيضا.
تساءلت منذ عدة سنوات: متى نقرأ «لسان العرب»؟ و«الأغاني»، ومؤلفات أعلامنا القدامى رقميا؟ مشروع «الجامع التاريخي» بداية جواب.
*كاتب من المغرب