عبد القاهر الجرجاني في المنظور الأسلوبي : قراءة في المنجز البلاغي

القدس العربي :

 مصطفى عطية جمعة
للعالم البلاغي عبد القاهر الجرجاني منجزان كبيران، جعل اسمه محفورا بأحرف من نور في تراث الفكر البلاغي العربي، المنجز الأول: نظرية النظم؛ قارئا وباحثا وموظفا الكثير من الآيات القرآنية والشواهد الشعرية، بتحليل لغوي وبلاغي عميق، مستخرجا منها منجزه الثاني، ألا وهو علم المعاني، حيث تعددت ـ في ذلك – إشاراته إلى مصطلحات علم البيان، مثل: المجاز والاستعارة والتشبيه والكناية، وفعل ذلك أيضا في كتابه «أسرار البلاغة» الذي انصبّ على علم البيان، لكنه تناول فيه، وبشكل تفصيلي، الجناس والسجع مقيدا بما يطلبه المعنى، رافضا التصنع والتكلف، يقول في كتابه «أسرار البلاغة»: « إنك لا تجد تجنيسا مقبولا، ولا سجعا مسجوعا، حتى يكون المعنى هو الذي طلبه، واستدعاه وساق نحوه، وحتى تجده لا تبتغي به بدلا، ولا تجد عنه حولا، ومن ها هنا، كان أحلى تجنيس تسمعه وأعلاه وأحقه بالحسن وأولاه، ما وقع من غير قصد المتكلم إلى اجتلابه».

إن تعدد المضامين والمباحث في الكتابين وتنوّعهما إنما يعبّر عن موسوعية الفكر البلاغي عند الجرجاني، مع اتساع وعمق في الطرح والمعالجة، فصاغ رؤاه بوضوح، وعمّقَ تحليله بفهم، معتبرا أن التميز في الصياغة النصية يعود إلى براعة الأديب وتمكنه من الصياغة اللغوية والجمالية لما ينشئ، ودربته في الكتابة والتأليف، فلن يكون صدور الجناس والسجع بشكل متدفق غير متكلف، دون خبرة ممتدة يمتلكها الأديب، ناتجة من براعته في السبك والصياغة. وفي موضع آخر في الكتاب نفسه يؤكد ما تقدم بقوله: «ولم أزل منذ خدمتُ العلم، أنظر في ما قاله العلماء في معنى الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة، ووجدت أن المعول على أن ههنا نظما وترتيبا، وتأليفا وتركيبا، وصياغة وتصويرا، ونسجا وتحبيرا، وأن سبيل هذه المعاني في الكلام، الذي هي مجاز فيه، سبيلها في الأشياء التي هي حقيقة فيها، وأنه كما يفضل هناك النظمُ النظمَ، والتأليفُ التأليفَ، والنسجُ النسجَ، والصياغةُ الصياغةَ».

لقد شيّد عبد القاهر الجرجاني بناء مكتملا في نظريته للنظم، ارتكز إلى أسس فكرية تعود إلى علم الكلام، ولغوية تعود إلى علم النحو، وبلاغية تستند إلى علوم البلاغة العربية، ما جعلها نظرية نصية عميقة الجذور، شاملة الجوانب.

فالأسلوب البديع لا يعود إلى فصاحة الألفاظ وبلاغتها، وإنما إلى صورتها ونسجها الذي تظهر فيه، وعلى قدر براعة الأديب في إحكام بنائه النصي، تكون الألفاظ أكثر توهجا وإيحاء، وأوضح دلالة وتعبيرا. فنظرية النظم كما شيدها عبد القاهر، تعبر عن مرحلة مهمة من مراحل نمو العقل المعرفي البياني العربي، أي نمو الوعي الذاتي – على حد تعبير محمد عابد الجابري في كتابه «بنية العقل العربي» – بعيدا عن التأثر بالمنطق اليوناني، فلم يكن له أثر في هذه النظرية كما ادعى البعض، فيمكن القول إنه طرح لـ» أنا « العربي الإسلامي، في مواجهة الآخر اليوناني الدخيل. وقد وفق عبد القاهر في تطوير مستوى النقاش حول قضية اللفظ والمعنى، من العلاقة العمودية بين شقي الكلام، إلى العلاقة الأفقية بين الألفاظ بعضها مع بعض، والمعاني بعضها مع بعض، بين نظام الألفاظ ونظام المعاني، واستطاع في بحوثه إماطة اللثام عن معطيات تكشف عن الطابع الاستدلالي للأساليب البيانية البلاغية، والنظر إلى النحو بوصفه رؤية شاملة، لا تجعل النحو أبوابا وفصولا، بل نظاما من العلاقات هو ذاته نظام العربية كلغة، وكنص، وكخطاب، حيث يرى والجرجاني، النحو بوصفه خصوصية في كيفية النظم، وطريقة مخصوصة في نسق الكلم مع وصف تلك الخصوصية وتبيانها.
إن وعي عبد القاهر في نظريته بالسياق مرتبط بتحليل النظم القرآني بذكر السبب والعلة، وبعبارة أخرى: فإن التعليل النصي (النحوي واللفظي والبلاغي والدلالي) يستند إلى البرهان والدليل المفصَّل، يقول في كتابه «دلائل الإعجاز»: «جملة ما أردت أن أبينه في إعجاز القرآن أنه لا بد لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة، وعلة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل، وهو باب من العلم، إذا أنت فتحته، اطّلعت منه على فوائد جليلة، ومعان شريفة، ورأيت له أثرا في الدين عظيما، وفائدة جسيمة، ووجدته سببا إلى حسم كثير من الفساد فيما يعود إلى التنزيل، وإصلاح أنواع من الخلل في ما يتعلق بالتأويل، وأنه ليؤمنك من أن تغالط في دعواك، وتدافع عن مغزاك، ويربأ بك عن أن تستبين هدى، ثم لا تهتدي إليه، وتُدِلَّ بعرفان ثم لا تستطيع أن تَدُلَّ عليه وأن تكون عالما في ظاهر مقلد، ومستبينا في صورة شاك» وكلام عبد القاهر السابق يحوي أمورا عديدة:
أولها: أهمية التحليل والتعليل للنظم القرآني، بشكل علمي (جهة معلومة، وعلة معقولة) تنطلق من النص وإليه، أي يكون التحليل النصي مستندا إلى أسس ومنهجية علمية واضحة. وكما يوضح صلاح فضل – في كتابه «بلاغة الخطاب وعلم النص» – فإن الأدب خطاب نصي كلي، وليس وحدات جزئية مشتتة كما تصوره الأقدمون، فلم يستطيعوا التعرف الحيوي على خواصه الحقيقية، ومن ثم فإن غطاءه البحثي لا بد من أن يستوفي شروط الخطاب العلمي، حتى يتسم بكفاءة احتوائه وقدرة تمثّله، ما يجعله يكف في المقام الأول عن إصدار أحكام القيمة ليضع مكانها أحكام الواقع وقوانينه المتغيرة.. فالتجديد المبدع في الخطاب الأدبي لا يتجلى في الوحدات الصغرى، وإنما في الأبنية الكلية النصية.
ثانيها: إن هذا التحليل يخدم الجميع، اللغوي والبلاغي في التعرف على أوجه الإعجاز في النظم والبناء، وعالم الشريعة (الفقيه، المفسر..) بالاستناد إلى معطيات نصية للنظم القرآني في تركيبته النحوية والبلاغية والدلالية، فتمنع الانزلاق إلى تأويل مخالف أو فاسد، أو فساد في الفهم والتفسير، وهي باب عظيم يربط ما بين التحليل النصي، والاستنباط الشرعي.
ثالثها: إن الوقوف على النظم القرآني بآليات ومباحث علمية واضحة، يكون حجة دامغة، لكل طالب علم وهدى، يبتغي التعرف على الإعجاز الرباني.
لقد شيّد عبد القاهر الجرجاني بناء مكتملا في نظريته للنظم، ارتكز إلى أسس فكرية تعود إلى علم الكلام، ولغوية تعود إلى علم النحو، وبلاغية تستند إلى علوم البلاغة العربية، ما جعلها نظرية نصية عميقة الجذور، شاملة الجوانب، ساعية إلى استيفاء بنية النص حقه في الدرس والتحليل، مثلما وضع الأسس لعلم المعاني.

كاتب مصري

عن مركز القلم للأبحاث والدراسات

يهتم مركز القلم بمتابعة مستقبل العالم و الأحداث الخطرة و عرض (تفسير البينة) كأول تفسير للقرآن الكريم في العالم على الكلمة وترابطها بالتي قبلها وبعدها للمجامع والمراكز العلمية و الجامعات والعلماء في العالم.

شاهد أيضاً

“فايننشال تايمز” : الاتحاد الأوروبي سيمنح تونس 165 مليون يورو لكبح الهجرة غير الشرعية

RT : قالت صحيفة “فايننشال تايمز” يوم الأحد إن الاتحاد الأوروبي سيقدم لقوات الأمن التونسية …