إذا كانت لعليّة القوم في العصر العباسي سبلهم المختلفة للترف واللهو والترويح عن النفس، فإن حانات بغداد مثّلت ملاذاً لبقية الفئات التي وجدت فيها طوق نجاة من براثن الهموم والمتاعب اليومية، فاتجهوا إليها للشراب وسماع الموسيقى وأمور أخرى.
وحانات بغداد لم تكن مقصداً لأبناء الطبقة الأرستقراطية، بل كانت قِبلةً لأبناء الطبقة المتوسطة، وكانت بسيطةً وتقتصر محتوياتها على تحقيق الغاية من ارتيادها، وليس فيها غير البُسط والنمارق التي يستلقي عليها الشاربون، والدِّنان (الأوعية) التي توضع فيها الخمر، والأباريق والقناني والطاسات والكؤوس، وبعض آلات الطرب كالعود والطنبور وغيرهما، كما يروي عبد الكريم العلّاف في كتابه “قيان بغداد في العصر العباسي والعصر العثماني الأخير”.
الخمّارون ورجال الشرطة
مع ذلك، كانت الحانات متواريةً عن الأنظار، ولا يجرؤ أصحابها على الظهور أمام الناس، خوفاً من رجال الشرطة الذين عُهدت إليهم مراقبتها وأصحابها، وكشف ما استتر من مخالفاتهم في جنح الليل. لذا، كثيراً ما كان الروّاد يطرقون باب الحانة ليلاً فلا يعيرهم الخمّار التفاتةً ويتظاهر بالنوم خوفاً من مداهمة الشرطة.
وبحسب العلّاف، كان الخمّار يتوجس خيفةً من رجال الشرطة، لأن مداهمتهم حانته تؤدي إلى إهراق الخمور المُعتّقة على الطرقات، وإلى جلده وحبسه ومصادرة كل ما يملك من مال ومتاع، هذا إذا كان صاحب الحانة يهودياً أو مسيحياً، والويل لصاحبها إذا كان مسلماً، فإن عقابه يكون أدهى وأمرّ.
لذلك، تفنن أصحاب الحانات بشتى الوسائل لرد أذى الشرطة عنهم، وكانت النساء أكثر من الرجال في احتراف هذه المهنة وابتكار أساليب ذكية لا تخطر على البال للتخفّي والتستر عن الأنظار.
ومن تلك الأساليب أنهن جعلن لأبواب حاناتهن طاقاتٍ صغيرةً في مستوى وجه الباب، يفتحنها وينظرن منها إلى الطارق للتعرف إليه، حتى إذا اطمأنّن له فتحنَ الباب ليدخل. وبالرغم من ذلك، كان رجال الشرطة يشددون المراقبة ويغضّون البصر عن نشاط الحانات مقابل الحصول على شيء من أصحابها ينعمون به من دون علم رؤسائهم.
رشوة أصحاب النفوذ
يذكر العلّاف أن الحانات كانت تدرّ على أصحابها المال الغزير، ما ساعدهم على البذل في رشوة أصحاب النفوذ المسؤولين، حتى أن بعضهم ظهروا عياناً، وأقاموا حاناتهم بجانب البساتين لجذب الزبائن.
وهذا ما فعله مقرّب من الخليفة المتوكل (205-247هـ)، أقام حانةً فخمةً لتكون مأوى للشاربين والقوّاد وأبناء الأسر المشهورة في بغداد، فلم يكن يسمح لأحد من العامة بالدخول إليها والتمتع بملذاتها، وأعدّ فيها كل ما يلزم الشرب ليرضي زبائنه، واتخذ لها خمّاراً يعرف من أين تؤكل الكتف، حال بعلاقاته دون قيام الشرطة بواجبها، خاصةً أن كثيرين من كبار بغداد أُغرموا بهذه الحانة، وكانوا يتوافدون إليها ليلاً ونهاراً.
وصف الحانة من الداخل
يصف العلّاف الحانة في العصر العباسي، بقوله إنها كانت تشتمل على غرفتين أو ثلاث، تُطرح في إحداها الزقاق (مفردها زقّ، وهي مصنوعة من جلد الغنم ويوضع فيها الخمر)، في زاوية بعيدة عن الأنظار، ويجلس الشاربون في غرفة أخرى على البُسط، وكل منهم قابض على كأسه، وتمر القينة (الفتاة التي تعمل في الحانة)، بالشاربين حاملةً إبريقاً معدنياً له عنق طويلة فتملأ الكؤوس الفارغة.
وآثر بعض الخمّارين وضع الخمرة المُعتّقة في خابية (جرّة)، يختم فاها بالطين المُطيّب، وعمد آخرون إلى الزقاق المصنوعة من جلد الغنم، ويُربط رأس الزق بحبل أو خيط، ويُحلّ رأسه عندما تُسكب الخمرة منه، يشرح العلّاف.
كانت للحانات قيان خُصصن لها، يبعثن المرح في قلوب مرتاديها، عبر الغناء والرقص والمنادمة، ويتفننّ في إظهار ملاحتهن وجلب الأنظار إليهن. فمنهن مَن يتخذن أزياء الغلمان، ويعقربن سوالفهن، ومنهن من يرتدين ثياباً تتراءى من تحتها أجسادهنّ، إغراءً للشاربين
وكانت الأباريق والكؤوس مختلفة الأصناف والأنواع، تُصنع من الفخار والبلور، وتُزيّن بالرسوم والتصاوير الدقيقة الصنع، وتتمثل فيها نقوش مشاهد من معارك حربية ترمز إلى العهدين الفارسي والبيزنطي.
قيان الحانات
وكانت للحانات قيان خُصصن لها، يبعثن المرح في قلوب مرتاديها، عبر الغناء والرقص والمنادمة، ويتفنّن في إظهار ملاحتهن وجلب الأنظار إليهن.
فمنهن مَن يتخذن أزياء الغلمان، ويعقربن سوالفهن على مستدار الأذن، ومنهن من يرتدين ثياباً مصنوعةً من نسيج شفاف تتراءى من تحته أجسادهنّ الناعمة، إغراءً للشاربين، ويكنّ رهن إشارة الشاربِين متقيدات بتلبية طلباتهم، فيغنين لهم ما يروق لهم من الغناء الشائع يومذاك.
ومن طبيعة مهنة القيان أن يتوددن إلى صاحب المال ويعمدن إلى جميع وسائل الغواية لإيقاعه في حبائلهن. وهذا ما رصده الجاحظ في كتابه “المفاخرة بين الغلمان والجواري”، فذكر أن القينة لا تكاد تخلص لعشيقها، لأنها مجبولة على نصب الأشراك للمرابطين عندها ليقعوا في أسرها.
وينقل العلّاف عن الجاحظ أن القينة ترمي المتردد على الحانة بنظراتها وتداعبه بالتبسم المصطنع، وتغازله بأشعار الغناء وتنشط للشرب معه، وتظهر الشوق إلى طول مكوثه عندها والصبوة إلى سرعة عودته والحزن العميق لفراقه.
وإذا أحست بأن الحيلة انطلت عليه، تكثر في ما شرعت فيه لتوهمه بأن ما فيها منه أكثر مما فيه منها، وإذا غاب عنها غياباً طويلاً تأتيه وتشكو إليه ألم بعده وفراقه، وتقسم له أنها لا تهنأ بطعام وتلتذ بشراب.
وأحياناً تعمد القينة إلى مثل هذه الحيل مع ثلاثة أو أربعة من المترددين عليها، فتبكي لواحد بعين، وتضحك للثاني بالأخرى، وتوهم كلاً منهما بأنها له دون الآخر، وتظل تثابر على هذا النحو إلى أن تنتزع ما بيده من مال فتنبذه بعد ذلك، كما روى الجاحظ.
أشهر الحانات
أشهر الحانات في العراق كانت أربع ذاعت أخبارها على ألسنة العامة والخاصة، وتناقل ذكرها الشعراء، ومدحوا سقاتها وخمّاريها، يذكر الدكتور خير الله سعيد في كتابه “أوراق بغدادية من العصر العباسي”.
ولأبي نواس الكثير من الشعر في هؤلاء الخمّارين. وهذه الحانات هي حانة “طيزناباذ”، وأشهر خمّاريها يُدعى سرجس، ثم حانة “قطربل” وكان خمّارها “ابن أُذنين”، وكان من الذين يخدمون بكياسة ولباقة، وأشهر مَن نزلوا عنده أبو نواس وأبو الشبل البرجمي وله فيه أشعار.
كان من طبيعة مهنة القيان أن يتوددن إلى صاحب المال ويعمدن إلى جميع وسائل الغواية لإيقاعه في حبائلهن. وهذا ما رصده الجاحظ في كتابه “المفاخرة بين الغلمان والجواري”
هناك أيضاً حانة “الشط”، وكانت في عقار للخليفة الواثق بالله (200-232هـ)، إذ عُرف عنه أنه كان يحب المواخير، فأنشأ حانتين، إحداهما في دار الحُرم، والأخرى على الشط، واختار لها خمّاراً مسيحياً ماهراً من أهل قطربل.
وجعل الواثق حانة الحُرم للنساء، وحانة الشط للرجال، ونقل إليهما طرائف الشرب وفرشهما من فراش الخلافة، وعلّق عليهما الستور، وجعل فيهما الأواني المذهبة، وأمر بإحضار المغنّين إليهما، روى سعيد.
والرابعة هي حانة “خويث”، وتُعرف بـ”حانة بُزيع”، وهو خادم الخليفة المتوكل، وكانت لا يتعرض لها “أصحاب المعاون”، أي جباة الضرائب، وكان فيها خمّار يهودي لا يقدّم الشراب إلى أحد من العامة، وكانت حانته لنزهة الخاصة والسُراة من الناس، وكانت موصوفةً بالحسن والنظافة.
حانات خارج بغداد
لم تكن الحانات في العراق مقتصرةً على بغداد، بل تعدّت عاصمة الخلافة إلى أماكن خارجها، وهي أماكن نزهة محفوفة بالكروم والأشجار، كان يقصدها معاقرو الخمر والمواظبون على اللهو والعبث والدعارة فيقيمون فيها أياماً غير معدودة، كما يروي العلّاف.
ومن هذه الحانات تلك التي نزلها أبو نواس عندما أزمع إلى الحج في أحد الأعوام، وهي بين الكوفة والقادسية، فلما حلّ فيها وذاق خمرتها تشهّى متعها ونازعته نفسه على الإقامة فيها والتسويف في أمر دينه في سبيل دنياه، فتحول عن الحج واستقر فيها يشرب، وما زال يحتسي الكؤوس ويداعب القيان بشِعره حتى وفد أوائل الحجاج عائدين من أداء المناسك، فرجع معهم إلى بغداد، وكأنه كان معهم، روى العلّاف.
كذلك، كانت في الشام حانتان هما حانة “عزاز” وحانة “هُشيمة”.
حانات حول الأديرة
استغلّ الخمّارون شهرة الأديرة المسيحية بصناعة الشراب، فأنشأوا حولها الحانات أيضاً، مثل دير العذارى. يذكر أحمد أمين، في كتابه “ضحى الإسلام”، أن من غريب الأمر أن هذه الأديرة كانت منبعاً لشيئين بينهما أشد التناقض، إذ كانت مصدراً للزهد والورع والبُعد عن الدنيا وشؤونها، ومحطّاً لبعض زهّاد المسلمين، وكانت كذلك مقصد الخليعين من الشعراء والأدباء يخرجون إليها، ويتشببون بفتيانها وفتياتها، ويقولون في ذلك القول الخليع والشعر الجميل. ولأن الأديار كانت غالباً في أجمل المواضع وأحسنها هواءً، وتحيط بها أنواع البساتين، وجد الخمّارون في القرب منها مكاناً مناسباً لإقامة حاناتهم.
وارتبطت كثرة الحانات في العراق، سواء في بغداد، أو خارجها في المدن الأخرى، بانتشار أنواع اللهو والترف وتعددها في العصر العباسي، وهذا الأمر ارتبط بدوره بمتغيّر وقتذاك. يشرح أمين، أن العراق الذي كان في العصر الأموي جاداً إذا قيس بغيره مثل الشام والحجاز، أصبح في العصر العباسي لاهياً، بل محط أنظار اللاهين، وسائر الأمصار إنما تقتبس من لهوه.
ويذكر سببين لذلك، الأول هو المال، فالعراق كان مصبّ أموال الدولة الإسلامية الغنية، بحكم أنه مركز الخلافة، والمال كل شيء في اللهو، وأينما وُجد يتبعه الترف.
والسبب الثاني أن العراق كان أكثر بلاد الله تنوّعاً، فقديماً تعاقبت عليه أمم مختلفة، ومدنيات متتابعة، وفي العصر العباسي كان حاضرة الخلافة، وكان مقصد الأمم من الفرس والهند والروم وغيرهم، وكانت تُجلب إليه أحاسن الرقيق من كل جنس، ولهؤلاء جميعاً تاريخ في اللهو وتفنن في الترف.
مغنيات الحانات في بلاط الخلفاء
غصّت الحانات بالجواري اللواتي كن يحيين لياليها بالغناء والرقص والمجون، وكانت قيمة الجارية ترتفع إذا أتقنت مع حسن هيئتها الغناء والرقص، ليزيد دخلها، فكان لإبراهيم الموصلي، أشهر المغنّين في العصر العباسي، أكثر من ثمانين جاريةً يعلّمهن الغناء، وتجاوز ثمن الجارية منهن الآلاف من الدنانير، وتسابق الخلفاء والوزراء على امتلاك المميَّزات منهن، تروي زينب سيد نور في كتابها “شعراء الزهد في العصر العباسي الأول”.
وبحسب سعيد، برزت في الحانات أسماء كثيرة للمغنيات وتحوّلن من العامة إلى الخاصة، وصرن في بلاط الخلافة ودُور عليّة القوم، وأصبحن نساءً للخلفاء وأمهات لهم، مثل غادر جارية الهادي، وعُضيض جارية الرشيد، وهيلانة وفريدة، ومؤنسة المأمونية، وقرّة العين، وفريدة الأمينية، وناشب المتوكلية، وضرار والدة المعتضد، ودولة جارية ابن الخليفة المعتز، وهذه الطائفة من أسماء المغنيات حالفهن الحظ وأصبحن في عزة ومنعة ورغد عيش، وجاه وسلطان، أما البقية الباقية، وهن العدد الأكبر، فبقين في تلك الملاهي والحانات.
وكان للحانات الحظ الوفير من الشهرة وتناقل الأخبار بين أوساط المجتمع العباسي، وبمختلف طبقاته، وصارت مرتعاً للأدباء والشعراء والظرفاء والمتماجنين من الجنسين، وبها ابتُدعت أشهر الألحان الموسيقية وأعذبها، فقيل إن إبراهيم الموصلي كان يغنّي في هذه الحانات “صوت الماخوري”، وهو امتداد تاريخي لمقام “الماهوري”، أحد المقامات الموسيقية المعروفة، والذي ما زال يؤدَّى حتى هذه اللحظة من زمانننا الذي نعيش فيه.