رغم انحسار الأضواء عنه، فإن لتفسير القرآن الكريم الذي وضعه شيخ الأزهر السابق محمد سيد طنطاوي (1928-2009)، والمسمى بـ”التفسير الوسيط”، مكانة مهمة في مسار التجديد الديني، رغم أن التجديد المنشود لن يأتي دفعة واحدة، وبصورة فجائية، بل سيكون سياقاً يتكوّن من مجموع خطوات ومراحل تتراكم.
وربما كان اختلاف “وسيط” طنطاوي عن بقية التفاسير هو ما أسهم في إهماله، فهو ليس بالتفسير الوجداني الذي تفضله الصوفية كما في “لطائف الإشارات” للقشيري (ت. 465هـ) ولا يشبه تفسير النَّسفي (ت. 710هـ) الذي يختاره الأزهر لتدريسه في المرحلة الثانوية، ولا تفسير ابن كثير (ت. 774هـ) الذي يدعمه شيوخ السلفية، ولا “في ظلال القرآن” لسيّد قطب أو “الأساس في التفسير” للسوري سعيد حوى اللذين تفضّلهما جماعة الإخوان المسلمين كون المؤلفيْن من أعضائها.
بعد مطالعته للعشرات من التفاسير، أدرك طنطاوي، المتخصص في التفسير والحديث، إشكاليات التفاسير القديمة المتعلقة باللغة والقصص، وأزمات التفاسير الحديثة الموغلة في الاتجاهات الطائفية أو المنضوية تحت لواء جماعات الإسلام السياسي، لذا سعى إلى وضع تفسير عصري ينشغل بدور القرآن الكريم في التهذيب والإصلاح.
كتاب هداية
في مقدمة قصيرة، يشير طنطاوي إلى “مقاصد التنزيل” ويريد مما كتبه التنبيه إلى كون القرآن يقصد هداية الإنسان، من خلال تقويم أخلاق الناس، وتحقيق سعادة النفوس التي تتطلع إليها القلوب، بجانب كون كتاباً يشمل العقائد والعبادات والأحكام والآداب والعظات، ويتقرب به المؤمن إلى الله بتلاوته وحفظه وتدبره والعمل بتوجيهاته.
ابتعد “الوسيط” عن اعتبار النص الديني منجماً للاكتشافات العلمية، فلم ينخدع بالتوافق السطحي بين منطوق الآيات وبين اكتشافات العصر الحديثة. فمثلاً، عند تفسيره آية ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ﴾ (الأنعام:125) يرى أنها تشبيه لقلب الإنسان الضال و”مبالغة في ضيق صدره حيث شُبِّهَ بمَن يزاول ما لا يقدر عليه، فإن صعود السماء مَثلٌ فيما هو خارج عن دائرة الاستطاعة، أي: كأنما إذا دُعي إلى الإِسلام قد كُلِّف الصعود إلى السماء وهو لا يستطيعه بحال”.
مقابل ذلك، يحلو لأصحاب تتفاسير أخرى لنفس الآية الربط بين الصعود إلى القمر وتناقص الأكسجين أو انعدام التنفس، ومشقة الأجسام في معاندة الجاذبية، وهو ما فعله الشيخ الشعراوي، مطالباً “المخلصين” بالربط بين القرآن وما فيه من معجزات قرآنية مع معجزات الكون، وأن يمتلكوا اليقظة فلا يربطوا آيات القرآن إلا بالحقائق العلمية
وبحسب المستشرق المجري إيغناس غولدتسهير، في كتابه “مذاهب التفسير الإسلامي”، فإن التفسير في ضوء التمدن دفع بعض الاتجاهات مثل مجلة “المنار” التي قادها محمد رشيد رضا إلى اعتبار القرآن وثيقة سبقت العلوم والمعارف، وتعبيراً عن الآراء الحديثة للفلسفة وعلوم الطبيعة والاجتماع.
ويعتقد طنطاوي أن مقاصد التنزيل هي الهداية، وأن التفسير يقوم بدور المساعد والكاشف عن “الهدايات السامية، والتوجيهات النافعة، والعظات الشافية، والكنوز الثمينة التي احتواها الكتاب الكريم، وبدون تفسير القرآن تفسيراً علمياً مستنيراً، لا يمكن الوصول إلى ما اشتمل عليه هذا الكتاب من هدايات وتوجيهات مهما قرأه القارئون وردد ألفاظه المرددون”.
مؤلفات السابقين
رغم انحيازه إلى مدرسة التفسير بالمأثور، فإن طنطاوي، بحسب مقدمة “الوسيط”، استفاد من تفاسير مدرسة الرأي، والتفاسير الفقهية، والبلاغية، والفلسفية والكلامية، والصوفية، والاجتماعية، وحتى التفاسير التي يغلب عليها فكر واتجاه كاتبيها.
انفتاح الوسيط على مؤلفات السابقين يشير إلى سبب التسمية، فهو يبحث عن المنطقة الوسطى بين الجميع. ولم ينفرد طنطاوي باسم “الوسيط” بل سبقه الواحدي النيسابوري (ت. 468هـ) بعنوان “الوسيط في تفسير القرآن المجيد”، وربما قصد به الحجم لأنه وضع تفسيراً سماه “البسيط”، أي المتسع، وتفسيراً سماه “الوجيز”، أي المختصر. كما سبقه مجمع البحوث الإسلامية بإخراج “التفسير الوسيط للقرآن الكريم”، وهو من تأليف لجنة من العلماء تحت إشراف المجمع في العام 1979، وأراد مؤلفوه أن يكون وسيطاً بين التفاسير المختلفة التي “أوجزت حتى قلَّ الانتفاع وأطنبوا حتى جاوزوا القصد”، بحسب مقدمته.
رغم انحسار الأضواء عنه، فإن لتفسير القرآن الكريم الذي وضعه شيخ الأزهر السابق محمد سيد طنطاوي، والمسمى بـ”التفسير الوسيط”، مكانة مهمة في مسار التجديد الديني، رغم أن التجديد المنشود لن يأتي دفعة واحدة
وجمع الوسيط في إعجابه عدداً من المفسرين القدماء وآخرين من العصر الحديث، فتأثر أولاً بتفسير “الجامع لأحكام القرآن” للقرطبي (ت. 671هـ)، ومن بعده “تفسير القرآن العظيم” لابن كثير، وتفسير “الكشاف” للزمخشري (ت. 538هـ)، وتفسير روح المعاني للألوسي (ت. 1270هـ)، والتفسير الكبير للفخر الرازي (ت. 606هـ)، إلى جانب غريب القرآن للأصفهاني (ت. 502هـ)، والانتصاف على الكشاف لابن المنير (ت. 683هـ)، والترغيب والترهيب للمنذري (ت. 656هـ)، وأحكام القرآن لابن العربي (ت. 543هـ)، وغيرها.
أما التفاسير الحديثة، فقد اعتمد على تفسير القرآن الكريم للشيخ محمد أبو زهرة، وتفسير القرآن العظيم للشيخ محمود شلتوت، و”تفسير الجواهر” للشيخ طنطاوي جوهري، وتفسير آيات الأحكام للشيخ محمد علي السايس، و”تفسير المنار” للشيخ رشيد رضا، وتفاسير مقتطفة نشرتها المجلات الدينية للشيخ محمد الخضر حسين، وغيرها.
ومن تفاسير الشيعة، تأثر طنطاوي باجتهادات تفسير “مجمع البيان في تفسير القرآن” للفضل بن الحسن الطبرسي (ت. 548هـ)، وهو من أهم تفاسير الشيعة، ويحظى بمكانة كبيرة.
عيوب التفاسير القديمة
لا تستغرق التفاصيل طنطاوي، لذا تجاهل القصص الباطلة والخرافات وأسباب النزول غير المقبولة، وتمكن من الهروب من فخ الإعجاب بالقصص الغريبة والمنافية للمنطق والعقل والتي تستهوي كثيرين من المسلمين، مشيراً إلى كل هذا بقوله: “أقدّم لك تفسيراً وسيطاً… وقد بذلت فيه أقصى جهدي ليكون تفسيراً علمياً محققاً محرراً من الأقوال الضعيفة والشبه الباطلة والمعاني السقيمة”.
وتجنب الخوض في التفريعات الطويلة والألغاز الشاقة الناتجة عن المسائل النحوية والصرفية، إلى جانب الإعراض عن القضايا الكلامية الجدلية والخلافية، وكلها عيوب أعاقت التفاسير القديمة عن التواصل مع القراء الجدد.
وطرح طنطاوي تفسيره بلغة رشيقة بعيدة عن التعقيدات اللغوية القديمة والألفاظ المعجمية، متجنباً التفسيرات الطائفية التي تأخذ المسلمين بعيداً عن أهداف القرآن ككتاب هداية، مستوعباً الكتابات العصرية والأسلوب العلمي في التأليف.
ويكاد يكون الوسيط التفسير الذي انفرد ببيان المناسبة بين الآيات غير المترابطة، واختيار أقوال المفسرين وأسباب النزول في ضوء السياق الدلالي العام، بشكل يسهّل تكوين رؤية كلية متناسقة حول النص القرآني، واستقراء جميع جوانبه للوصول إلى مقاصده العليا.
بعد مطالعته للعشرات من التفاسير، أدرك شيخ الأزهر السابق محمد سيد طنطاوي إشكاليات التفاسير القديمة المتعلقة باللغة والقصص، وأزمات التفاسير الحديثة الموغلة في الاتجاهات الطائفية أو المنضوية تحت لواء جماعات الإسلام السياسي
وفي دراسة بعنوان “المناسبات في التفسير الوسيط: أمثلة تطبيقية على سورة البقرة”، منشورة في مجلة جامعة الشارقة (كانون الأول/ ديسمبر 2019)، رصد حسن سالم هبشان عدة نماذج للمناسبات التي طرحها طنطاوي بين الآيات لتحقيق منظومة متكاملة بين آيات السورة الواحدة.
وحول منهجه، شرح طنطاوي طريقته في التفسير: “ستلاحظ أنني كثيراً ما أبدأ بشرح الألفاظ القرآنية شرحاً لغوياً مناسباً، ثم أبيّن المراد منها إذا كان الأمر يقتضى ذلك، ثم أذكر سبب النزول للآية أو الآيات إذا وجد وكان مقبولاً، ثم أذكر المعنى الإجمالي للآية أو الجملة، مستعرضاً لما اشتملت عليه من وجوه البلاغة والبيان والعظات والآداب والأحكام، مدعماً ذلك بما يؤيد المعنى من آيات أخرى ومن الأحاديث النبوية ومن أقوال السلف الصالح، وقد تجنبت التوسع في وجوه الإعراب واكتفيت بالرأي أو الآراء الراجحة إذا تعددت الأقوال، وذلك لأنني توخيت فيما كتبت إبراز ما اشتمل عليه القرآن الكريم من هدايات جامعة وأحكام سامية وتشريعات جليلة وآداب فضيلة وعظات بليغة وأخبار صادقة وتوجيهات نافعة وأساليب بليغة وألفاظ فصيحة”.
الحاكمية والخوارج
عارض طنطاوي في تفسيره مقولات الإسلام السياسي، وخاصة ما يتعلق بتكفير الحاكم المسلم الذي لا يطبّق الأحكام المستمدة من النصوص الدينية، استناداً إلى الآية: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ﴾ (المائدة:44). رفض هذا التفسير، فبرأيه “كفر الحاكم لحكمه بغير ما أنزل الله مقيد بقيد الاستهانة به، والجحود له، وهذا ما سار عليه كثير من العلماء”.
يميّز هذا التفسير بين التوقف عن التطبيق الفعلي وبين الرفض القلبي أو الإيمان الداخلي، وهو تفريق لم تقبل به فرقة الخوارج التي ألزمت الربط بين عمل القلب والجوارح، وفق ما عرضه طنطاوي ووصفه بـ”شبهة الخوارج”، ونقل الرد عليها من تفسير “صفوة البيان” للشيخ حسنين مخلوف، وأعقبه بقوله: “الذى يحكم بغير حكم الله مع إقراره بحكم الله واعترافه به، فإنه لا يصل في عصيانه وفسقه إلى درجة الكفر”.
آيات القتال في سورة التوبة
في نحو 24 صفحة، أعطى طنطاوي تمهيداً طويلاً قبل سورة التوبة واعتبرها مع سورة الأنفال تعطيان صورة تاريخية مجملة لدعوة النبي محمد، وتحدث عن طريقة القرآن في حسم علاقة المسلمين بالمشركين.
يقول: “فهي في أولها تعلن براءة الله ورسوله من المشركين بسبب خياناتهم وتمنحهم الأمان لمدة أربعة أشهر لكي يدبّروا فيها أمر أنفسهم، وتعلن للناس عامة يوم الحج الأكبر أن الله ورسوله قد برئا من عهود المشركين، وأنها قد نبذت إليهم، وتستثني من هؤلاء المشركين أولئك الذين لم ينقضوا”.
ويذهب في تفسير آية ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ” التوبة﴾ (آية:5) إلى أن قتال المشركين مرتبط بخيانة العهد، وإظهار العدوان، أما غير الأعداء فأعطى لهم الأمان في قوله: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ﴾ (التوبة:6).
وفي تفسيرها، نقل طنطاوي رأي الشيخ محمود شلتوت القائل: “الإسلام يبيح بهذا الأمان التبادل التجاري والصناعي والثقافي، وفي سائر الشؤون ما لم يتصل شيء منها بضرر الدولة” ويعقبه برأيه أن “هذه الآية الكريمة تشهد بسمو تعاليم الإسلام وسماحتها وحرصها على هداية الناس إلى الحق، وعلى صيانة دمائهم وأموالهم وأعراضهم من العدوان عليها، حتى ولو كان هؤلاء الناس من أعداء الإِسلام”.
وانشغل طنطاوي خلال تفسيره بإبراز دور النص الديني في إصلاح النفوس وتهذيب الأخلاق، ويبدو أن المُحرك الأول للكتابة في التفسير لديه متعلق بالمشكلات العديدة التي وقعت فيها التفاسير السابقة، بعد احتوائها على أقوال ضعيفة ودخولها في تفريعات جانبية واهتمامها بإظهار الخلافات الكلامية والدفاع عنها، أي أن الدافع التجديدي لديه ارتبط بأزمات السابقين أكثر مما هو مرتبط بالمفاهيم الدينية المغلوطة.
وفي ظني أنه لو تأخر طنطاوي في وضع تفسيره لتمكن من التخلص من أي رواسب تكون علقت به من مؤلفات السابقين، مثل التقيّد الشديد بالمرويات وأقوال المفسرين وتضاؤل مساحة اجتهاده الذاتي، فقد بدأ تأليف تفسيره في مطلع السبعينيات، وبالمقارنة بين هذه السنوات المبكرة التي كان فيها أستاذاً للتفسير في كلية أصول الدين وبين السنوات الأخيرة من حياته عندما كان شيخاً للأزهر، نكتشف أن العديد من أفكاره نضجت بصورة كبيرة، حيث أطلق العديد من الآراء والفتاوى الجديدة والجريئة بشأن المرأة والمعاملات البنكية وغيرها.