التديّن المصري كمزيج من المذهب السنّي والمذهب الشيعي الموروث عن الفاطميين

رصيف 22 : 

أحمد عبد العال رشيدي

شكلت الطقوس الفاطمية جانباً كبيراً من مظاهر احتفالات المصريين بالمناسبات الدينية، وساهمت تركيبة الشخصية المصرية المولعة بالبهجة وحب آل البيت، في تعزيز هذه الممارسات، مع تفاوت متباين في درجة الالتزام بجملة الثوابت الفقهية التي تميّز المذهب الشيعي الإسماعيلي.

فشل صلاح الدين

وإلى اليوم لا يزال المصريون يتمسكون بمعطيات ثقافية نشأت مع الدولة الفاطمية التي حكمت مصر ما يقارب القرنين من الزمان، ثم عبرت الأجيال من دون أن تشيخ. وذلك برغم أن العديد من المصادر التاريخية تؤكد أن صلاح الدين الأيوبي شن حملات لطمس آثار الفاطميين وثقافتهم، واشتد بطشه بهم إلى حد قيامه بحرق كتبهم وتحديداً مكتبة “دار العلم” التي كانت تضم مليوني ومئتي ألف كتاب، فضلاً عن عشرات الوثائق والمخطوطات المهمة الدالة على فترتهم، والتي كان من شأنها أن تساعد على تأريخ حكمهم بشكل أفضل.

ونجح الأيوبي إلى حد ما في قلقلة هذا التاريخ في أذهان المصريين، إبان حكمه. هذا ما أجمع عليه محمود مرسي، أستاذ الآثار الإسلامية بكلية الآثار في جامعة القاهرة، وزبيدة عطا الله، أستاذة العصور الوسطى بكلية الآداب في جامعة حلوان، ومحمود إسماعيل، أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب في جامعة عين شمس، في ندوة عقدتها لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة في ديسمبر 2010، وأدارها الدكتور حسنين ربيع.

ولكن ظلت الطقوس الروحية الفاطمية حيّة في أوساط بعض المريدين الذين استطاعوا أن يحفظوها ويتناقلوها جيلاً بعد جيل إلى عصرنا هذا. وبحسب البعض، اتخذ هؤلاء من التصوف حيلة وستاراً أظهروا من خلاله التسنن مضمرين التشيع، إلى أن استطاعت الصوفية أن توفر لهم حاضنة اجتماعية لممارسة شعائرهم من دون رقيب.

وفي دراسة بعنوان “الشيعة في مصر”، أشار الكاتب صالح الورداني إلى أن مصر ما زالت تحتفظ ببعض الممارسات المرتبطة بالتشيع، معتبراً أن الحركة الصوفية عكست فى بداية ظهورها انهيار الدولة الفاطمية وأتت تطبيقاً لمبدأ “التقية”، فقد تذرع المصريون بالتصوف للهروب من بطش صلاح الدين.

وبمرور الوقت تحول التسنن، على يد الأبناء والأحفاد، من مجرد ادعاء إلى حقيقة. وتجدر الإشارة إلى أن الزعيم أحمد عرابي الذي قاد الثورة العرابية في مصر هو من نسل “الأشراف” الذين يرون أنهم ينتسبون إلى ذرية علي بن أبي طالب.

العادات الفاطمية

تتصدر الاحتفالات الرمضانية العادات الموروثة عن الفاطميين، ولا تنافسها سوى احتفالات المولد النبوي الشريف، ثم تليهما من حيث الشيوع والممارسة احتفالات رأس السنة الهجرية، وليلة النصف من شعبان، وإحياء الموالد الشعبية، وزيارة الأضرحة تبركاً بآل البيت، وحلقات الذكر والتفقير، وطقوس الموتى (طلعة اليوم الخامس عشر للمتوفي والأربعين). 

وتتنوع مظاهر الطقوس الرمضانية الفاطمية، ومنها: المسحراتي وهي عادة حرص عليها الفاطميون في مصر، وتولاها الخليفة الفاطمي المعز لدين الله بنفسه في بدايات عهدهم في القاهرة.

ويرجع فانوس رمضان إلى ليلة دخول المعز لدين الله الفاطمي إلى القاهرة، التي وافقت أول ليلة في رمضان. حينذاك أمر القائد الفاطمي جوهر الصقلي بخروج الناس لاستقباله حاملين الشموع بعد أن يثبتوها على قاعدة من الخشب ويحيطوها بالجلد الرقيق لإنارة الطريق أمامه. وأعجب الخليفة الفاطمي بهذا الاستقبال، فاعتمد الفوانيس منذ تلك اللحظة كتقليد رمضاني. وفي عهد الخليفة الفاطمي العاضد، بدأت تجمعات الأطفال بالفوانيس، فحين كان يخرج الخليفة لاستطلاع هلال رمضان كان يخرج الأطفال معه لإنارة الطريق بالفوانيس.

وتعد الحلويات الرمضانية (الكنافة، والقطايف) تقليداً يعود إلى الفاطميين الذين كانوا يصنعونها بشكل معين يخدم جوهر مذهبهم ويرسخه بهدوء في الشخصية المصرية، كما يشير الباحثون. وكانت البداية مع موائد الرحمن التي كان يقيمها الخليفة الفاطمي العزيز بالله، في شهر رمضان، ليفطر عليها رواد الجامع العتيق (عمرو بن العاص) والجامع الأزهر. وكان يخرج من مطبخ القصر في شهر رمضان يوميّاً 1100 قِدر من الطعام، لتوزع على المحتاجين والضعفاء.

كذلك الأمر بالنسبة لعادة ختم القرآن الكريم في اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان. فقد كان القصر الفاطمي يشهد احتفالاً في هذا اليوم بختم القرآن الكريم، بحكم أنها ليلة ختام الشهر الكريم، وكانت تصرف بعض الأموال للمقرئين والمؤذنين.

وظل العقل الجمعي للمصريين يقدس هذه المظاهر الاحتفالية والشعائر الفاطمية، لكونها مرتبطة بالدين، من دون التحري عن أصل الاعتقاد بها أو الهدف منها. وتحدث الكاتب الراحل يحي حقي في كتابه “قنديل أم هاشم” عن مدى تمسك المصريين بتلك العادات وتقديسهم لآل البيت. وقد احتفظت الذاكرة المصرية أيضاً بطقس الاحتفال بعيد الغدير، وهو أبرز الأعياد الشيعية حتى عهد قريب، من دون أن يدرك الكثيرون مغزى الاحتفال به.

التدين المصري كمزيج من المذهب السني والمذهب الشيعي الموروث عن الفاطميين - 1

احتفالات مولد الحسين في القاهرةواللافت أيضاً أن عبارات كانت في الأصل تستخدم بقصد الإساءة إلى الخليفة عمر بن الخطاب وعائشة أم المؤمنين، ما زال يتردد صداها بين المصريين حتى اليوم من دون أن يدركوا معناها. فيقول بعض المصريين في مشاداتهم الكلامية: “نعم يا عمر؟!”، أو: “مش حسيبك إلا لما تقول أنا عيشة”. وفي المقابل ظهرت عبارات تعبر عن شتائم سنية للشيعة في العصر الأيوبي وما زال يتردد صداها إلى اليوم مثل “يا ابن الرفضي” وأساسها نعت الشيعي بالرافضي.

التشيع الديني

وقال لرصيف22 الشيخ محمد عبد الله نصر، مؤسس جبهة أزهريون والباحث في علوم الشريعة الإسلامية: “المصريون هم الشعب الشيعي الوحيد في العالم، فهم شعب متشيع دينيّاً بالفطرة، ويقدّس آل البيت. أما ما عدا ذلك فهو تشيع سياسي، لا يمت إلينا بصلة”، مؤكداً أن المصريين لا يمارسون العادات الفاطمية لمجرد أنها موروث فحسب، بل يتفاعلون معها تفاعلاً وجدانيّاً وروحيّاً.

وأوضح نصر أن الشعب المصري هضم جميع الثقافات التي مرت عليه، “فاحتفالات رمضان عادة فاطمية ولكن الأغنية التي نرددها في الشهر الكريم “وحوي يا وحوي” هي في الأصل فرعونية”، وتابع: “هو شعب له كينونة خاصة صنع بها حالة من التدين المصري”.

وعن ممارسات صلاح الدين ضد الدولة الفاطمية، قال نصر: “صلاح الدين من الأصنام التاريخية، وله جانب سلبي كبير، وحاول مراراً وأد هوية الشعب المصري لكنها استعصت على المسخ والاندثار”، وأضاف أن “الحركة الوهابية حاولت إلغاء الاحتفالات بالموالد، لكن دون جدوى، فما زلنا نحتفل سنويّاً بمولد السيد البدوي ومولد سيدنا الحسين ومولد السيدة زينب والسيدة نفيسة”.

تفطم لا تشيع

وقال الدكتور عبد الحليم العزمي الحسيني، الأمين العام والمتحدث الرسمي للاتحاد العالمي للطرق الصوفية لرصيف22: “العادات التي ورثناها عن الفاطميين لها مشروعية في الإسلام، وهناك لجنة الموالد وهي تابعة للمشيخة العامة للطرق الصوفية، تنظم احتفالات الطرق الصوفية في الموالد حبّاً بآل البيت وتقرباً إلى الله”، مؤكداً “أن المسلمين كافة يحتلفون بالمولد النبوي ما عدا الوهابية، ودواعش مصر”، في إشارة منه إلى السلفيين.

وأضاف أن الدولة الفاطمية اعتنقت المذهب الشيعي الإسماعيلي، ولها محاسن جمّة، منها بناء الجامع الأزهر الذي استطاع أن يحفظ الإسلام، فضلاً عن العديد من الأعياد والمناسبات، لافتاً إلى أن الاتحاد يحتفل بالمناسبات الدينية بموافقة الجهات المختصة، عن طريق إحياء سير آل البيت، “أما المظاهر الأخرى المصاحبة للاحتفالات كالألعاب واللهو والمرح، فليست من التصوف في شيء”.

وفي الموضوع نفسه قال الدكتور عودة حسان أبو شيخة، أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة بكلية التربية في جامعة عين شمس: “إن ما بقي من تراث الفاطميين حفظه المصريون كموروث ثقافي اجتماعي، لندرته وخروجه عن المألوف”، مؤكداً أن المصريين لم يعبأوا بسقوط الدولة الفاطمية.

وعن الثورات التي اندلعت لمناهضة صلاح الدين وحماية الدولة الفاطمية من السقوط مثل ثورة عمارة اليمني وثورة كنز الدولة، قال عودة: “لم تكن هذه الثورات صراعاً بين السنة والشيعة، وكان زعماؤها حفنة من المنتفعين من وجود الدولة الفاطمية، بدليل أن عمارة اليمني الذي ثار ضد سقوط الدولة الفاطمية كان مذهبه سنيّاً شافعيّاً”.

واتفقت معه الدكتورة زبيدة عطا الله، أستاذة التاريخ في جامعة حلوان، واعتبرت “أن الفاطميين اتخذوا من طقوسهم الجذابة المحببة إلى النفوس والشعور الديني لدى المصريين وتقديسهم لآل البيت، حيلة تيسر لهم ترسيخ مذهبهم في المجتمع المصري”، مشيرةً إلى أن المصريين احتفظوا بالعادات الفاطمية، كما احتفظوا بالعديد من عادات الحضارات التي تعاقبت عليهم.

وأضافت عطا الله أن هذه الطقوس، وإن كانت جزءاً من تكوين الشخصية المصرية الآن، لا علاقة لها بالمذهب الشيعي، فكلها تتلخص في محبة آل البيت، موضحةً أن المصريين عادوا وانخرطوا في الدولة الأيوبية التي شجعت على التصوف لمواجهة التشيع.

عن مركز القلم للأبحاث والدراسات

يهتم مركز القلم بمتابعة مستقبل العالم و الأحداث الخطرة و عرض (تفسير البينة) كأول تفسير للقرآن الكريم في العالم على الكلمة وترابطها بالتي قبلها وبعدها للمجامع والمراكز العلمية و الجامعات والعلماء في العالم.

شاهد أيضاً

دوتش فيليا : تهديد لأوروبا.. شولتس يحذر من تنامي نفوذ اليمين الشعبوي

DW : حذر المستشار أولاف شولتس خلال مؤتمر الاشتراكيين الأوروبيين من تعاظم نفوذ اليمينيين الشعبويين …

اترك تعليقاً