القاهرة ـ «القدس العربي»:
حينما تهبط للمرة الأولى على محافظة أسيوط التي تبعد عن القاهرة 392 كلم جنوباً، لا يمكن بأي حال ان تتصور ان تلك المحافظة خرج منها بني مر، الزعيم الذي قاد قرابة سدس بلدان العالم نحو التحرر وطرد الاستعمار. وبعد ما يزيد على نصف قرن على رحيله ما زال حلم آلاف الأسر ان يتم ترميم سقوف منازلهم للوقاية من برد الشتاء وحر الصيف وتوفير مكان للأطفال للعب. من المدهش إن لم يكن من قبيل الصدمة حينما تتسلل لقرية بني مر التي ولد وعاش بها لأعوام جمال عبد الناصر ان تجدها تفتقر للوسائل العصرية حتى تقرر رصدها ضمن مبادرة «حياة كريمة» التي أطلقها الرئيس السيسي. والمثير للدهشة انه عندما تطالع حياة مصر الفرعونية تجد نمطا من الحياة أكثر تطورا عن حياة أهالي القرى في القرون المتأخرة وصولاً لزمن الاستعمار وانتهاءً بالعقود التي تلت ثورة يوليو.
منزل بسيط ملحق به دورة مياه كان ذلك حلم عزيز المنال بالنسبة لمئات الآلاف من الأسر الفقيرة التي تقطن قرى أسيوط وغيرها من محافظات الصعيد والدلتا حتى جاءت مبادرة «حياة كريمة» لتعيد هندسة الأمل بين ملايين الفقراء.
رائحة الزعيم
حينما تحط في قرية بني مر لا يمكن ان تتخيل ان جمال عبد الناصر الذي تبنى خططاً غيرت وجه الحياة، ولكن قريته ما زالت مثل آلاف القرى والنجوع بينها وبين الحضارة مسافة شاسعة.
«لا أحد غير أبناء الصعيد بوسعه أن يتخيل أن هذه القرية الفقيرة بلد رئيس جمهورية» وعلى الرغم من العشق الجارف الذي ما زال يتمتع به عبد الناصر في قلوب الكثيرين إلا ان معيار العدل الذي سنه في المساواة بين المواطنين لم يشفع له عند البعض الذين اتهموه بأنه ناكر للجميل لانه لم يدعم القرية التي نشأ فيها واستمر تدهورها حتى عقب وصول الرئيس السادات، ثم مبارك وظل الحال على ما هو عليه حتى قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير. لأجل ذلك يرى كثير من أعداء الناصرية ان بني مر كغيرها من القرى نالت الإهمال في كل العقود السابقة ومن المثير للأسى أنها مسجلة ضمن القرى النموذجية رغم أنه لا يوجد فيها مستشفى، وأضاف أهالي القرية أن الوحدة الصحية فيها تفتقر لأبسط التجهيزات الطبية، ويطلب من المرضى شراء المستلزمات على نفقتهم الخاصة.
تتوسط محافظة أسيوط محافظتي المنيا شمالاً وسوهاج جنوباً والبحر الأحمر شرقا والوادي الجديد غرباً وتحدها من الغرب الهضبة الغربية ومنها يبدأ أهم طرق القوافل القديمة التي تربط مصر بالسودان دارفور وكردفان عن طريق درب الأربعين، وقد كان لهذا الطريق حتى وقت قريب أثر كبير في تاريخ أسيوط من الناحية التجارية والصناعية. وتحدها من الشرق الهضبة الشرقية ويمتد بها الوادي الأسيوطي الذي تحيط به سلاسل من جبال الرخام. وتوجد أهم المزارات السياحية بمحافظة أسيوط وهي محمية الوادي الأسيوطي ومما لا خلاف عليه ان المحافظة تعد العاصمة التجارية للصعيد. وتبلغ مساحتها الكلية 13720 كم2 والمساحة المأهولة منها 1726.53 كم2. وتشتهر بالعديد من المحاصيل الزراعية وفي مقدمتها القطن والقمح والذرة الشامية والرفيعة والفول البلدي ويتميز مناخها أنه قاري بارد شتاءً وحار صيفا. وتضم المحافظة 11 مركزا و11 مدينة، و55 وحدة محلية قروية تتبعها 235 قرية و908 كفر ونجوع. ويجمع كثير من المؤرخين على انه كان لأسيوط دور مهم في تاريخ الحضارة المصرية القديمة بل دور رائد في تاريخ البشرية وفي العصور الفرعونية المتأخرة لعبت دورا مهما لوجود 5 أقاليم فرعونية بها من العاشر حتى الرابع عشر.
البحث عن حياة
شأن العديد من قرى الصعيد تمثل عادة الثأر وصمة في جبين المجتمع، ومن أبرز القرى التي انتشرت فيها تلك العادة المذمومة قرية المعابدة، التي يشكل فيها الثأر والفقر تحالفاً يقضي على أي أمل بفجر جديد. إذ من النادر أن ترى عائلة واحدة ليست لها خصومات ثأرية، وتعد القرية صاحبة سابقة لم تحدث في تاريخ مصر، ففي إحدى السنوات في زمن الرئيس الراحل مبارك قام أهل القرية عن بكرة أبيهم بزراعة أراضيهم بمخدر الأفيون وتبلغ مساحة القرية 7200 فدان. وعندما بدأت حملة أمنية لتطهير القرية من تلك الآفة وجدوا أما تربي أيتاما ولا حول لها ولا قوة تزرع الأفيون. وأعرب رجال الأمن عن دهشتهم فردت المرأة بتلقائية «زيي زي الناس، الجيران جابولي التقاوي وقالولي المحصول ده هيكسب فزرعت واللي يخرج عن الناس عايب». ومن اللافت أن حملة أمنية نفذت على عائلتين في المعابدة أسفرت عن جمع نحو 40 قطعة سلاح، هذا ما أكده سابقاً محمد كمال أبوحطب منسق حركة تنمية أسيوط بمدينة أبنوب الذي أوضح أن المعابدة تتوق الآن إلى نظرة شاملة من قبل المسؤولين بعدما أنهكتها الخصومات وكذلك يطمح الأهالي لجني ثمار مبادرة «حياة كريمة» وهو ما تم بالفعل. وشهدت القرية قبل عامين جريمة ما زالت ماثلة في الأذهان حيث أطلق فلاح النار على شقيقه وزوجته وابنيهما، ولم يمر 15 يوما على تلك المجزرة إلا وتلتها أخرى راح ضحيتها 4 من بينهم امرأة. ومن بين الكوارث التي حلت بالقرية قبل عامين السيول المنحدرة من أعلى الجبل الشرقي، التي أدت سببت خسائر كبيرة للأهالي، حيث غرقت القرية وانهار عدد من المنازل. وبتولي الرئيس السيسي تحسن الوضع الأمني في المعابدة كثيرا وهناك جهود تبذل لاحتواء كل الخصومات الموجودة. وبعد إطلاقه لمبادرة «حياة كريمة» بدأت عملية الرصد الميداني لاحتياجات القرى الأكثر فقرا، ومن بينها محافظة أسيوط، انقسمت لاحتياجات البنية الأساسية مثل الطرق والصرف الصحي والمياه والكهرباء، والخدمية مثل المدارس والوحدات الصحية والمستشفيات والمخابز والسكن. وجاءت محافظة أسيوط في صدارة المستفيدين من المبادرة الرئاسية، حيث تم الانتهاء من إعادة تأهيل 380 منزلا في 18 قرية كمرحلة أولى كما جرى تنفيذ المرحلة الثانية لـ 445 منزلا في 27 قرية.
يهود مصر
تقول الحكاية التي يحفظها الآباء ويرددها الأبناء: كان هناك يهودي قدم على أسيوط يركب على حمار والتقى طفلاً أراد ان يختبره فأعطاه 20 جنيهاً وقال له إحضر لي شيئا آكله وشيئا يأكله حماري وشيئا أتسلى به واحتفظ بالباقي لنفسك، فأحضر الطفل بطيخة حتى يأكلها الرجل ويأكل قشرها حماره ويتسلى الرجل ببذرها. انها قصة شديدة الدلالة على الاتهام الذي يلاحق المدينة كون البخل يسكن مفاصلها للحد الذي جعل لقب «يهود مصر» يلاحق أهلها. ولا أحد يعرف صحة الواقعة السابقة وإن كان البعض يرى أن نعت «الأسايطة» بيهود مصر تعني بان تفكيرهم يتسم بالدهاء والحنكة كتفكير اليهود وليست إهانة بأي حال. اسمها أسيوط مشتق من الكلمة الفرعونية «سيوت» أي الحارس. ظلت أسيوط على مدار العقود الماضية تمثل بالنسبة لطلاب العلم حارسة المعرفة في جنوب الصعيد، إذ استقطبت جامعتها منذ افتتاحها عشرات الآلاف من الطلاب في شتى التخصصات. وتضم المحافظة كنوزاً أثرية وتراثا حضاريا من مختلف العصور، الفرعوني والروماني والقبطي والإسلامي، وتعد من أبرز المقاصد السياحية. وتشير كتب التاريخ إلى أنه في عهد الفراعنة كان يسكن المدينة نائب الملك، إذ أنها كانت قاعدة للإقليم الثالث عشر، وفي عهد الإغريق قسمت مصر إلى الدلتا، ومصر الوسطى، ومصر العليا، وكانت أسيوط عاصمة مصر العليا، كما كانت عاصمة للقسم الشمالي في عهد الرومان، أما في عهد محمد علي قسمت مصر إلى سبع ولايات من بينها جرجا وأسيوط، وسميت «نصف أول وجه قبلي» وعاصمتها أسيوط.
إله للزحام
من أبرز الآلهة التي عبدت في أسيوط القديمة بواوت، ومعناه «فاتح الطريق» وأستعان به المصريون القدماء كإله مهمته فتح الطرق أمام الملك في المعارك وفي الحياة الأخرى وصوروه على هيئة ذئب. ولمحورية دوره كفاتح للطرق فقد كان يضعه الجيش المصري على الألوية التي تتقدمهم في المعارك، ويظهر ذلك في صلابة الملك مينا نارمر التي جسد فيها انتصاره في الدلتا أثناء توحيد البلاد حيث يرجع البعض ذلك الدور لكونه معبود أسيوط آخر أقاليم مصر العليا التي انطلق منها ملوك الصعيد لإخضاع الدلتا (مصر السفلى). ويشير مؤرخون إلى أن بواوت هو فاتح الطريق إلى الجبانة والعالم الآخر أمام الملك المتوفى، وفقاً للنصوص الجنائزية. كما أن الاسم فسره بعض المؤرخين على أنه يفتح الطريق أمام رب الشمس في رحلته في السماء. بدأت عبادة بواوت في مصر العليا وخاصة في أسيوط ومالبثت ان انتشرت في أماكن مختلفة. وقد أشارت إليه، العديد من الوثائق وأرجعت أصله إلى مصر السفلى، حيث ذكرت أن وب واوت ولد في مقصورة المعبودة واجيت في مصر السفلى. وفي العصور المتأخرة انتشرت عبادته في أسيوط والتي أطلق عليها البطالمة فيما بعد اسم «ليكوبوليس» أو مدينة الذئب لمكانة هذا المعبود هناك وقتها، وفي أبيدوس حيث ارتبط بالمعبود أوزير إذ كان يتقدم الموكب الجنائزي المهيب لأوزير رب العالم الآخر.
عزيز مصر
تعد قنطرة المجذوب من أشهر المنشآت الأثرية والتاريخية بأسيوط والتي ظلت شاهد عيان على الإهمال قبل ان توجه الجهود بهدف ترميمها أخيراً. ولها حكاية أزاح الستار عنها الدكتور أحمد سليمان عبد العال مدير عام مناطق مصر الوسطى للآثار الإسلامية والقبطية، والذي أشار إلى أن أسفل أرض ميدان المجذوب أنشئت القنطرة في عصر محمد علي مكان قنطرة قديمة وذلك عام 1251هـ/1835 والإشارة الوحيدة للقنطرة القديمة جاءت في كتاب «وصف مصر». وشيدت القنطرة من جسم داخلي من الطوب الأحمر مغلف من الخارج بالحجر الجيري المنحوت، وتتكون من ثلاثة عقود دائرية أكبرها أوسطها ويبلغ اتساعه 4 أمتار وارتفاعه 4 أمتار. وشملت العقود على دعائم ساندة فيما زخرفت الواجهة بنحت بارز لحيوان خرافي ربطت في رقبته سلسلة من طرفها بشجرة سرو والحيوان يشبه جسم القط والوجه يشبه وجه طائر، ثم نجد حيوانين متدابرين تتوسطهما دائرة وحيوان خرافي يليه رجل وبيده اليسرى عصا تشبه عصا البولو.
وتكشف اللوحة التأسيسية للقنطرة جزءا من تاريخها، وهي من الرخام مكتوب عليها بخط النسخ النص في صورة أبيات شعرية «عزيز مصر أدام الله رفعته حل الصعيد فحلاه وزاد سنا. أوصى أمير اللواء البيك الذي كسا قناطر العارف المجذوب ثوب بنا. قواعد وآداب أشكال مهندسيها يسهو لرافعها في البيت حين بنا. كأنها كاعب زفت لذي كرم فكان في نهرها للمجد غنى. بكت سرورًا عبوس الأرض أرخة ليلى بكا عينها بالنيل يضحكنا. 1251هـ». وانتهى المؤرخ لحقيقة مفادها أن القنطرة الحالية طبقًا للنص التأسيسي بنيت سنة 1251هـ/1835م أي عصر محمد علي باشا أثناء حكمه مصر.
من الحجري للنحاسي
حسب رأي كثير من الأثريين من بينهم الدكتور سليمان، فأن ما يطلق عليه العلماء عصور ما قبل التاريخ كانت أسيوط فيها حاضرة تعلن عن نفسها. فبينما كان الإنسان يعيش حياة تقوم على الترحال من مكان لآخر بحثاً عن مصادر غذائه، وكانت الطبيعة تمده بالطعام والشراب ويعيش على صيد الطيور والمواشي والأسماك وجني الثمار والفاكهة، كانت أسيوط تنعم بحياة مستقرة تكونت فيها المجتمعات البشرية وظهرت فيها الزراعة والصناعة والمعتقدات الدينية. وفيها استأنس الإنسان الحيوان وقام بتربيته وهو ما ضمن له الغذاء. وأتاحت الفرصة أمامه استثمار وقته في أشياء أخرى مصاحبة ومكملة للزراعة كاتجاهه إلى صناعة ما يحتاجه من أدوات تساعده في الزراعة، تلك الأدوات التي ما زال يعتمد على أغلبها الفلاحون. وفي وقت سابق أشار عبد العال إلى ان حضارة أسيوط تمثلت في العصر الحجري الحديث في منطقة دير تاسا، وفي العصر النحاسي في منطقة البداري. أما منطقة دير تاسا فترجع حضارتها لعام 4800 ق.م تقريباً وتقع شمال البداري وكشف برونتون عام 1927م، عن منطقة المقابر فيها. وعرف أهل دير تاسا الزراعة وعثر على فئوس من الحجر الجيري، وعلى العديد من الرحى لطحن الحبوب والغلال. وعرف سكانها الكتان ونسجه، وصنعوا خمسة أنواع من الفخار. كما أبدعوا في اتقان أدوات زينتهم مثل العقود من القواقع والخرز المصنوع من العظم، وصلايات لسحق مواد الزينة. ودفنوا موتاهم بوضعهم على جانبهم الأيسر ووجوههم جهة الغرب. واعترف عبد العال بأن حضارة البداري، كانت غير مكتوبة بحروف أبجدية على أوراق أو جدران بل كتبت بالأدلة الأثرية التي خلفتها من أدوات تتحدث عنهم ناطقة بمعان لا يمكن جهلها، تعبر عن مدى رقيهم وتقدمهم في المجالات المختلفة كالزراعة والصناعة والصيد.
تقع البداري على الضفة الشرقية للنيل، كانت إحدى قرى الصعيد التي اشتركت في تدشين الحضارة المصرية، وتعد أقدم مكان في مصر عثرت فيه على أدوات صنعت من معدن النحاس، كشفته لنا الحفائر الأثرية منذ سبعة وتسعين عاماً وقد أجريت هذه الحفائر في بعض القرى والنجوع التابعة لمركز البداري وأهمها المستجدة والهمامية ونزلة الشيخ عيسى والشيخ علم الدين. وتدل الآثار التي عثر عليها أن تاريخها يرجع إلى 4500 قبل الميلاد تقريباً.
ثقبوا الأبرة مبكراً
بعد دراسات مستفيضة ومتأنية خلص علماء المصريات إلى أن الآثار التي عثر عليها تؤكد بجلاء أن البداريين كانوا على درجة متقدمة من الرقي الحضاري بالمقارنة بغيرهم من المصريين الأوائل الذين عاشوا في الصعيد خلال العصور الحجرية. من صور ازدهار حضارة البداري وفقاُ لشهادات الباحثين والبرديات التي عثر عليها أنهم عرفوا الزراعة واعتمدوا عليها في توفير ما يحتاجونه من غذاء وملابس، كما زرعوا الكتان واستخدموه على نطاق واسع في صنع ملابسهم بعد غزله ونسجه بطريقة أكثر دقة وتقدماً. كما استخدموا الملابس المصنوعة من جلود الحيوانات اتقاءً لبرد الشتاء، وبرعوا في دباغة الجلود وجعلها لينة ناعمة. ويدل غزلهم الكتان ونسجهم له على أنهم استطاعوا ابتكار أنوال للنسيج ذات كفاءة عالية. أما في مجال التعدين فتدل القطع الأثرية التي عثر عليها في البداري والمصنوعة من النحاس الذي كانوا يحصلون عليه من شبه جزيرة سيناء والصحراء الشرقية مثل الحلي وحبات الخرز والمثاقب ودبابيس الشعر، على أن البداري أقدم منطقة لتعدين النحاس. ومن الأمور المحيرة كيف استطاع البداريون ثقب الإبرة المصنوعة من النحاس؟ فالثقب يستلزم صنعه وجود مثقاب ذي سن رفيعة جدا وحاد مصنوع من معدن آخر أشد صلابة من النحاس. كان سكان البداري القدماء يؤمنون بالبعث، ويدفنون موتاهم في الصحراء، بحيث تكون رأس الميت في اتجاه الجنوب وينظر إلى الغرب، وهو تقليد مشابه لذلك المتبع في عصر الفراعنة، لكن الفرق هو أن مقابرهم كانت أكثر بساطة، فكانوا يلفون موتاهم بالحصير، ويدفنونهم مع حيواناتهم المحببة.
احتوت أسيوط على عدد كبير جدا من القلائد والأساور والخواتم والأقراط والأحزمة والمآزر المزينة بالخرز الملون وكانت بعض هذه الأدوات مصنوعة من العاج وقشر بيض النعام والأصداف، ولم تقتصر أدوات الزينة هذه على النساء فقط بل كان يستخدمها الرجال والأطفال أيضاً. كما تم العثور على أمشاط للشعر صنعت من العظام وذات أسنان طويلة متقاربة وضيقة الفتحات، ورؤوسها مزينة بأياد ذات أشكال فنية آدمية وحيوانية وأشكال طيور. كما عثر على مطاحن من الإردواز لطحن المواد المستخدمة في الزينة وكذلك صلايات الكحل. ومن القطع الأثرية التي تؤكد درجة الرقي والرفاهية التي وصل إليها البداريون فقد عثر على ملاعق من العاج ذات تجاويف مربعة أو مستطيلة أو بيضاوية وصنعوا مقابضها على هيئة طيور أو حيوانات كالغزال. وتعد صناعة التماثيل حرفة موغلة في الجذور بأسيوط وتحديداً في البداري التي عرف أهلها القدامى صناعة التماثيل الآدمية وعثر على مجموعة من تماثيل النساء مصنوعة من الصلصال والفخار والعاج وهي بداية لفن النحت الذي تطور في العصور اللاحقة حتى أصبحت مصر رائدة لفن النحت في العالم القديم كله.
أدلتهم على البعث
كشفت حفائر ان القدماء دفنوا موتاهم في مقابر عبارة عن حفرة بيضاوية الشكل مبطنة جدرانها بالحصير في وضع القرفصاء كالجنين في بطن أمه، وكانوا يضعون جسد الميت على لوحة من الخشب أو الحجر وهي طريقة لم تكن مستخدمة من قبل حيث كان يوضع فوق التراب وكانوا يلفون جسد المتوفى في أكفان من الجلد أو قماش الكتان في سلال كبيرة من البوص، ويرجح بعض العلماء انها بداية لفكرة التابوت. وحرص البداريون على تزويد مقابر موتاهم بعدد من الأواني وأدوات الزينة المستعملة أثناء حياتهم. كانوا أيضاً يدفنون حيواناتهم النافقة في مقابر خاصة بعد لف أجسادها بالأكفان.
وخلص مدير إدارة الوعي الأثري بأسيوط الدكتور سمير عبدالتواب حمد في تصريحات سابقة إلى أن أصحاب حضارة البداري كانوا من الطبقات العليا، إذ كانوا يرتدون أرقى الثياب ويتزينون بالأساور والقلائد واشتهروا بالقوة وكانوا يصنعون أدواتهم التي يستعينون بها على مقاصدهم وتكشف طريقة دفنهم لموتاهم عن معتقداتهم الدينية التي تؤمن بوجود حياة أخرى قادم لها الإنسان بعد موته، وأن دفنه في وضع الجنين هو إيمان منهم بأنها عودة الولادة. أما تزويد موتاهم بأدوات للمأكل والمشرب والزينة فهو يدل كما أشار علماء المصريات على حياة في العالم الآخر وعلى تعاطفهم مع الميت وحرصهم على راحته الأبدية، ومن المشاعر السامية المعبرة عن تلك الأحاسيس الراقية حرصهم على وضع باقات من الزهور العطرية بالقرب من صدر المتوفي. لقد كان عصرهم بالفعل البداية الحقيقية للحضارة المصرية القديمة التي أبهرت العالم وما زالت. فإذا كان الإنسان قد هبط على سطح الأرض وهو لا يملك إلا جسده فإنه زرع وصنع وبنى وعمّر وأقام حضارة بما آتاه الله من عقل وفكر وبما سخره له من العالم حوله.
حمام ثابت
من آثار المدينة التي وثقها الدكتور أحمد سليمان عبد العال حمام ثابت، أحد المنشآت الأثرية المهمة في أسيوط. يقع الحمام في منطقة القيسارية غرب أسيوط، وتطل واجهته الرئيسية على شارع محمد محمود باشا وبجواره ثلاثة حوانيت.
وهو عبارة عن مساحة مربعة الشكل تقريبا أبعادها 8م × 7.50م، تتوسطها فسقية حجرية ترتفع عن سطح الأرض بحوالي1.50م، كسيت بألواح من الرخام الملون وبوسطها ثقب تخرج منه الماء. والمدخل مستطيل يتوجه عقد نصف دائري ندخل منه إلى المسلخ، وتزدان الفسقية بأربعة أعمدة من الغرانيت تحمل سقف الشخشيخة التي تشتمل على نوافذ الإضاءة والتهوية. ويحتوي المسلخ على جوانب لخلع الملابس وحفظ أمانات الأهالي ومكتب لجلوس صاحب الحمام. وتحيط بالفسقية أرضية من الرخام الملون بأشكال هندسية. عبر المسلخ ندخل إلى بيت أول وهو مساحة مستطيلة يغطيها قبو نصف دائري به فتحات مغطاة بالزجاج لتسمح بمرور الإضاءة دون الهواء وهذا المكان مخصص لجلوس المستحم حتى لا يخرج للهواء مباشرة. أما بيت الحرارة فيتكون من مساحة مربعة تغطيها قبة ضحلة مقامة على حنايا ركنية، ويفتح هذه المساحة إيوانان ومغطسان وثلاث خلوات مغطاة بقبو نصف دائري به فتحات مغشاة بالزجاج والحوض مغشى بالرخام وتعلوه حنفية للمياه الساخنة. ويحتوي الحمام على مغطسين الأول مطل على الجهة الشرقية والآخر بالجهة الغربية من بيت الحرارة ويغطى كل مغطس بقبو نصف دائري به فتحات مغشاة بالزجاج، ويشتمل الحمام على ثلاث خلاوي خاصة بالتنظيف. وقال عبد العال أن تاريخ الحمام يرجع إلى القرن الخامس عشر الميلادي اعتمادًا على تشابه فسيفساء أرضيته مع حمامي بشتاك والسروجية، ورجح أن يكون الحمام شيد خلال نفس فترة بناء مجموعة المساجد والوكالات بشارع القيسارية وهي في العصر العثماني.
باللون الأزرق
ليس بوسع المار بأسيوط ان يمنع ذاكرته من ألا تستدعي المذبحة البشعة التي وقعت عقب حادث اغتيال الرئيس الراحل السادات، في 6 أكتوبر 1981 حيث اجتمع مجلس شورى الوجه القبلي للجماعة الإسلامية بزعامة القيادي كرم زهدي، وتم الاتفاق على استهداف خمس جهات في المدينة هي مديرية الأمن بالمحافظة، وقسم ثان، والدورية اللاسلكية، ومباحث أمن الدولة، والمباحث الجنائية، ونقطة شرطة إبراهيم.
واستقر اجتماع مجلس شورى الجماعة على موعد تنفيذ السيناريو الدموي الذي اطلق عليه لاحقاً «مذبحة أحداث أسيوط أكتوبر 1981» واختيرت ساعة الصفر في الثالثة فجر يوم 8 تشرين الأول/أكتوبر، والذي تزامن مع احتفالات عيد الأضحى المبارك. في تمام الساعة 6 صباحا، وقفت سيارة بيجو 404 بيضاء اللون مطلية بالأزرق، أمام مبنى مديرية أمن أسيوط، وسيارة أخرى فيات 125 ترجل من السيارتين 8 أفراد مسلحين أطلقوا النيران عشوائيًا على طاقم حراسة مبنى المديرية، وسقط شهيدًا الملازم أول أحمد وحيد عند مدخل المديرية، واقتحموا استراحة العميد شكري رياض مساعد مدير الأمن وأطلقوا عليه النيران، وسقط شهيدًا ومعه الرائد حسن الكردي و16 سائقا و32 خدمة مسلحين بالرشاشات. في توقيت متزامن مع ما حدث في مديرية الأمن، أطلقت المجموعة المسلحة الثانية من أفراد تلك الجماعة، النيران على الخدمات الأمنية في شوارع مدينة أسيوط مستقلين سيارة ملاكي، وفي الوقت ذاته اقتحمت مجموعة أخرى مبنى مركز شرطة قسم ثان وتمكنت من السيطرة عليه. وواصلت مجموعة مجلس شورى الجماعة تنفيذ مخططها باقتحام مجموعة منهم لمركز شرطة قسم أول أسيوط.