"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

حرب أوكرانيا تدفع تركيا إلى تغيير جوهري في توجهات سياستها الخارجية

أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تحول كبير في توجهات الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” من الاتجاه الأوراسي الذي كان مقتنعًا به بشكل عميق، إلى الاتجاه الأطلسي التقليدي لتركيا.

ويبذل “أردوغان” وأعضاء حكومته الآن قصارى جهدهم للتأكيد على التزام أنقرة تجاه الغرب وحلف الناتو. كما أن الدور الذي تلعبه أنقرة في جهود الوساطة بين موسكو وكييف، استنادًا إلى موقع تركيا الفريد كعضو في الناتو يتمتع بعلاقات جيدة مع روسيا وأوكرانيا، يكسب “أردوغان” أيضًا احترامًا من الغرب.

 

 

أنظار الغرب تتجه لتركيا

يبدو أن القادة الأوروبيين وضعوا كراهيتهم لـ”أردوغان” جانبًا، مع إدراكهم لموقع تركيا الاستراتيجي فيما يتعلق بروسيا وطرق الطاقة الحيوية.

وتشهد الزيارات الأخيرة رفيعة المستوى إلى تركيا، بما في ذلك تلك التي قام بها المستشار الألماني “أولاف شولتس”، ورئيس الوزراء الهولندي “مارك روته”، ورئيس الوزراء اليوناني “كيرياكوس ميتسوتاكيس”، والأمين العام لحلف الناتو “ينس ستولتنبرغ”، على حقيقة أن أوروبا لا تستطيع تحمل خسارة تركيا في مثل هذا الوقت.

كما أجرى “أردوغان” محادثات مع عدد آخر من القادة الأوروبيين من بينهم الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” ورئيس الوزراء البريطاني “بوريس جونسون” وذلك خلال قمة الناتو الطارئة الأخيرة بشأن أوكرانيا.

وأشاد الكثيرون بقرار أنقرة تقييد وصول السفن الحربية الروسية من البحر الأبيض المتوسط ​​إلى البحر الأسود من خلال ممارسة حقوقها بموجب اتفاقية مونترو لعام 1936 بشأن المضائق التركية.

كما أن هناك أجواء جديدة في الإعلام الغربي تجاه تركيا نتيجة دور “أردوغان” الجديد كوسيط سلام. فقد كتب “باتريك وينتور” من صحيفة “الجارديان” بعد الجولة الأخيرة من المحادثات في إسطنبول بين المسؤولين الروس والأوكرانيين: “من بين مجموعة الدول التي تتنافس للعمل كوسطاء في الحرب الروسية الأوكرانية، برزت تركيا بشكل كبير، مما زاد من المكانة الدبلوماسية لتركيا”.

 

 

ما سر انقلاب الموقف؟

ويتناقض هذا الأمر بشكل صارخ مع ما كان عليه الوضع قبل وقت قريب عندما لم يضيع “أردوغان” فرصة للتعبير عن كراهيته العميقة للغرب، فيما رد الكثيرون في الغرب عليه بالمثل.

وتراجعت علاقات تركيا مع واشنطن والعواصم الأوروبية إلى الحضيض نتيجة نهج “أردوغان” الصارم في السياسة الخارجية، وأوقفت سياسات “أردوغان” أي تقدم في مسعى أنقرة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

كما لم يخفِ “أردوغان” في الماضي هدفه في تنويع علاقات بلاده مع دول العالم بشكل يقلل من اعتماد تركيا على الغرب. ولطالما احتلت العلاقات مع روسيا مكانة خاصة بالنسبة له في هذا الصدد، وأعرب عن أمله في أن تساعد صداقته الوثيقة مع الرئيس “فلاديمير بوتين” وكرههما المشترك للغرب في تسهيل ذلك.

وقد فرضت الولايات المتحدة عقوبات على تركيا بسبب شرائها منظومة الدفاع الجوي الروسية “S-400”. وبالإضافة إلى ذلك، تم إخراج تركيا من برنامج المقاتلات الأمريكية “F-35″، وهو الأمر الذي ما يزال يثير غضب تركيا.

ومن المفارقات أن “بوتين” هو الذي أجبر “أردوغان” على عدم التعويل عليه وتعجيل تحوله إلى الغرب مجددًا، حيث إن الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي وصفته أنقرة بأنه انتهاك صارخ للقانون والأعراف الدولية، لم يترك له أي خيار في هذا الشأن.

 

 

الحرب ليست الحافز الوحيد

كان “أردوغان” بالفعل في مأزق فيما يتعلق بالعلاقات مع الغرب ونهجه الصارم في السياسة الخارجية قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية. وتسببت العزلة الدولية المتزايدة لتركيا والتكاليف الاقتصادية الجسيمة المترتبة على ذلك في تفكير “أردوغان” في إعادة التحول نحو الغرب مرة أخرى.

ويدرك “أردوغان” أنه يجب عليه تحسين الأوضاع الاقتصادية من أجل تعزيز فرصه في الانتخابات الرئاسية في 2023، ويدرك أيضًا أن ذلك يتطلب تحسين العلاقات مع الغرب. وينطبق الشيء نفسه على علاقات تركيا مع دول المنطقة مثل إسرائيل ومصر والسعودية والإمارات.

وأظهر تواصل “أردوغان” الأخير مع إسرائيل والإمارات على وجه الخصوص أن أنقرة كانت بالفعل على وشك القيام بتحول كامل في توجهات سياستها الخارجية. وقد عززت الحرب في أوكرانيا من عزم “أردوغان” في هذا الصدد.

وقال المتحدث باسم الحكومة “عمر جيليك” خلال مؤتمر صحفي عُقد مؤخرًا: “إن تركيا عضو قوي في حلف الناتو (حيث تتمتع بمكانة لا جدال فيها)”، في إشارة إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه أنقرة في حرب أوكرانيا.

كما قال السفير المتقاعد “يوسف بولوك” إنه من المرجح أن يؤدي الصراع الطويل الأمد إلى خسائر اقتصادية ومالية لا حصر لها وربما يعرض أمن تركيا للخطر وهو ما دفع أنقرة إلى أخذ زمام المبادرة في محاولة إحلال السلام بين روسيا وأوكرانيا.

وقال “بولوك”: “في ظل التضخم المتفشي، رأت تركيا أنه يجب استغلال أصولها الجيواستراتيجية والجيوسياسية لمحاولة التوسط في اتفاقية بين الطرفين”. وشدد، مع ذلك، على أن الوصول إلى هذا “المنعطف الفاصل لتركيا” يرجع إلى مكانة أنقرة في الهيكل الأمني الغربي.

وسلط “عثمان سرت”، المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء التركي الأسبق “أحمد داود أوغلو”، الضوء على الموقف الحالي لـ”أردوغان” تجاه الناتو والذي يتناقض مع انتقاداته السابقة للحلف.

وقال “سرت” في عموده بصحيفة “كرار” اليومية: “تغيرَ المناخ بعد ظهور الناتو كقوة من شأنها موازنة روسيا – التي تشكل أيضًا تهديدًا أمنيًا حقيقيًا لتركيا – وبعد أن أرجأت العواصم الغربية مخاوفها بشأن حقوق الإنسان والديمقراطية بسبب مصالحها الأمنية وأنشأت جسورًا جديدة مع أردوغان”.

 

 

إدراك أهمية العلاقات مع الغرب

لم تضخ الحرب في أوكرانيا إحساسًا جديدًا بالإلحاح في حاجة تركيا إلى إصلاح علاقاتها مع الغرب والدول الإقليمية فحسب، بل سلطت الضوء أيضًا على الفرص الجديدة للتعاون الدولي الاستراتيجي، لا سيما في مجال الطاقة. وسيكون هذا مهمًا للغاية بالنسبة لتركيا والغرب في السنوات القادمة حيث تبحث أوروبا عن وسائل لتقليل اعتمادها على روسيا.

هناك فوائد أخرى محتملة لتركيا في إعادة اكتشاف مكانتها في الهيكل الأمني الغربي. وعلى سبيل المثال، يقدم الوضع الحالي فرصة لـ”أردوغان” لمطالبة أوروبا والولايات المتحدة بإنهاء العقوبات الرسمية وغير الرسمية المفروضة على أنقرة.

وشدد “أردوغان” في حديث للصحفيين بعد قمة الناتو الطارئة الأخيرة على أهمية رسالة الوحدة التي ستخرج من المحادثات في بروكسل، حيث قال: يجب رفع الحظر الذي فرضه حلفاؤنا في الناتو على صناعتنا الدفاعية. لقد شاركت آرائي حول هذا الأمر بصراحة مع القادة”.

حتى أنصار “أردوغان” المناهضين بشدة للغرب وإسرائيل يحاولون تبرير أهمية عضوية تركيا في الناتو الآن، وإن كان ذلك باستخدام بعض الحجج المخالفة للمنطق،مثل رأي “يوسف كابلان”في صحيفة “يني شفق” الموالية للحكومة. وفي إشارة إلى حلف الناتو باعتباره “اتفاق عدم اعتداء تم إنشاؤه بين المخابرات البريطانية الخبيثة والقوة اليهودية المصابة بالبارانويا والفصام”، قال “كابلان” إن عضوية الناتو أعاقت تركيا. ومع ذلك، فقد جادل بأن كونها جزءًا من الحلف منع إعلان تركيا دولة دكتاتورية مثل عراق “صدام حسين” وتعرضها للهجوم من قبل الناتو.

وكتب: “ستشرع تركيا في مسيرتها الخاصة نحو الحضارة عاجلاً أم آجلاً وستؤسس حلف الناتو الخاص بها. مع ذلك، سيكون خطأ فادحًا لتركيا أن تترك الناتو في هذه المرحلة”.

ويبقى أن يجيب الزمن عن سؤال ما إذا كان “أردوغان” مخلصًا في نهاية المطاف لتوجهه الأطلسي الذي أعاد اكتشافه، حيث يعتقد الكثيرون أنه قد يغير مساره مرة أخرى بسهولة بناءً على اتجاه الرياح. ورغم ذلك، ففي الوقت الحالي، يبدو أنه بحاجة إلى الغرب بقدر ما يحتاجه الغرب.

المصدر | سميح إيديز/ المونيتور – ترجمة وتحرير الخليج الجديد