لندن – “القدس العربي” :
تشير معطيات قوية إلى احتمال التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا رغم استمرار الحرب والهجمات حاليا وإن كانت بإيقاع أقل من السابق. ويعود هذا إلى تحقيق موسكو جزء من أجندتها العسكرية وأهدافها السياسية بينما وعت كييف بضرورة القبول ببعض المطالب مثل الاستعداد بعدم الانضمام إلى منظمة شمال الحلف الأطلسي مستقبلا بعدما تخلى عنها هذا الأخير.
ومع اقتراب الحرب من يومها الأربعين، بدأت حدة المواجهات تتراجع وأصبحت انتقائية للغاية باستثناء في إقليم دونباس. وتختلف التحليلات العسكرية للعملية بين خبراء يتحدثون عن نجاح حقيقي للزحف الروسي، وخبراء من الغرب يتحدثون عن فشل حقيقي.
وفي تصريحات لإذاعة أوروبا 1 وقناة سي نيوز بداية الأسبوع الجاري، أوضح الجنرال الفرنسي ديديي كاسترس المدير السابق للتخطيط العسكري والعمليات العسكرية الذي أشرف على التدخل في مالي وسوريا وأفغانستان ضمن مناطق نزاع أخرى، أنه لا يمكن الحديث عن تحقيق روسيا من عدمه لأهدافها العسكرية لأن لا أحد يعلم نوعية القرارات التي اتخذها مجلس الأمن القومي الروسي ليتم إصدار حكم على ضوئها.
ورغم المواجهات الحربية الجارية، تستمر المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا لاسيما بعد دخول أطراف ثالثة يمكن اعتبارها محايدة لاحتضان هذه المفاوضات مثل حالة تركيا لأن بيلاروسيا منحازة إلى موسكو. واستمرار جولات المفاوضات يؤكد رغبة الطرفين في التوصل إلى حل ولو مؤقت يكون مدخلا لهدنة مؤقتة تتطور إلى اتفاق سلام شامل.
أسباب روسيا
وبعد اندلاع هذه الحرب يوم 24 فبراير الماضي، حققت روسيا بعض أهدافها وفي المقابل أدركت القيادة في كييف أن استمرار الحرب يهدد استمرار أوكرانيا ككيان. والمعطيات التي تشير إلى الاحتمال الكبير للتوصل إلى السلام هي:
في المقام الأول، حققت روسيا جزءا هاما من أجندتها العسكرية، وتتجلى في تدمير الجيش الروسي لنسبة عالية من العتاد سواء الدبابات أو سلاح الجو ومنها المقاتلات والطائرات المسيرة للجيش الأوكراني، ثم القضاء على جزء هام من مخازن الأسلحة وكذلك ضرب مصانع الأسلحة ثم سيطرة القوات الروسية على مختلف الطرق من العاصمة نحو الشرق لمنع حرية التحرك للجيش الأوكراني.
في المقام الثاني، الاقتراب من السيطرة على إقليم دونباس وطرد أو محاصرة القوات الأوكرانية فيه، لاسيما وأن نسبة تقارب 40% من الجيش الأوكراني تواجدت قبل الحرب في إقليم دونباس. ويبقى الهدف العسكري والسياسي الواضح الذي أعلنه الكرملين يوم 22 فبراير الماضي هو الدعم العسكري لاستقلال جمهوريتي دونتيسك ولوغانسك وفصلهما عن أوكرانيا كما حدث مع شبه جزيرة القرم خلال مارس 2014. وهذا أصبح واقعا.
في المقام الثالث، استعراض موسكو لقوتها العسكرية بعدما جعلت الحلف الأطلسي غير قادر على التدخل وخاصة بعد استحالة فرض منطقة حظر الطيران. وتدرك موسكو الآن أن الحلف الأطلسي سيكون حذرا للغاية في أي عملية توسع مستقبلا بل وبدأت دول شرق أوروبا تفكر جيدا في استضافة قواعد عسكرية.
وارتباطا بأوكرانيا توجد الأسباب التالية:
في المقام الأول، وعي القيادة الأوكرانية بالواقع المر، ومنها استحالة تدخل الحلف الأطلسي عسكريا بل وصعوبة تزويد الجيش الأوكراني بعتاد نوعي، حيث وقف الحلف عاجزا عن نقل مقاتلات سوفياتية سابقة من بولندا إلى أوكرانيا. كما وعت القيادة العسكرية-السياسية في كييف أنه لا يمكن نهائيا الانتصار على القوات الروسية ببضع أسلحة مثل ستينغر وجافلين أمام قوة عسكرية تستعمل صواريخ فرط صوتية مثل كينجال أو بالبستية مثل إسكندر.
وفي المقام الثاني، وقفت أوكرانيا على تماطل الغرب في تطبيق العقوبات الاقتصادية باستثناء سياسة صارمة من لندن ونسبيا من واشنطن في هذا الشأن. ففي الوقت الذي غادر أكثر من أربعة ملايين أوكراني البلاد كلاجئين وتوجد معظم المدن وخاصة الاستراتيجية تحت الحصار العسكري الروسي، تستمر الدول الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا في الدفاع عن ضرورة استمرار التعامل في مجال الطاقة والمعادن الثمينة مع روسيا بل وترضخ نسبيا لطلب استعمال الروبل الروسي بدل الدولار.
في المقام الثالث، تتخوف كييف من فرضية تقسيم روسيا لأوكرانيا إلى قسمين كما جاء في تقرير للمخابرات الأوكرانية الثلاثاء من الأسبوع الجاري. وكانت صحيفة “القدس العربي” قد تناولت هذه الفرضية في مقال يوم 2 مارس/ آذار الجاري بالتأكيد على أن تلك القافلة العسكرية الحرب (60 كلم) تهدف إلى الإعداد لتقسيم أوكرانيا إلى قسمين وليس محاصرة كييف فقط ولهذا لم يزج بقواتها في الحرب مباشرة.
وجاء في المقال “طول القافلة يعد مؤشرا على معطيات حول مخطط استراتيجي لموسكو وهو تقسيم أوكرانيا إلى قسم شرقي تابع لنفوذها وقسم غربي مرتبط بالغرب”.
وكان الرئيس فلاديمير بوتين قد حذّر في مداخلته بعد قرابة أسبوعين من الحرب أن استمرار الحرب وعدم تلبية كييف لمطالب موسكو يضع “الكيان الأوكراني” في خطر، وهي إشارة واضحة إلى فرضية تقسيم البلاد واستعادة الروس ذلك الجانب الذي يعتبرونه ضمن الوحدة الترابية الروسية التاريخية.
في المقام الرابع، بعدما كانت مخطئة في تقديراتها الاستراتيجية، أدركت القيادة السياسية والعسكرية في كييف عزم روسيا الدفاع عن أمنها القومي بمنع انضمام أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي ولو أدى ذلك إلى حرب عالمية ثالثة، ذلك أن أوكرانيا مرتبطة بموسكو من عناصر قوة هذا البلد (روسيا) وبقائه ضمن الكبار. ذلك أن انضمام أوكرانيا إلى الغرب سيجعل روسيا دولة إقليمية. ولهذا قبلت كييف بمبدأ حيادية أوكرانيا مقابل ضمان الدول الكبرى الأمن القومي في مواجهة التحديات المستقبلية.
في غضون ذلك، يبقى هاجس القيادة السياسية والعسكرية في كييف هو ضرورة إنقاذ أوكرانيا ككيان من التمزق، وهذا لن يتم سوى باتفاق تاريخي مع الكرملين بعدما تبين الدور المحدود جدا للغرب في صنع مستقبل أوكرانيا. وهذا الهاجس عاملا هاما من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار.