القدس العربي :
قبل صعود بوتين إلى سدة الحكم، لعب جو بايدن دوراً في تشكيل النظام الأوروبي. في منصبه كرئيس لجنة الخارجية في مجلس الشيوخ، قاد بايدن جهود التشريع في الكابيتول في 1998 لضم بولندا وهنغاريا والتشيك لحلف الناتو. “هذا إصلاح تاريخي لظلم فرض على الشعب في بولندا وهنغاريا والتشيك من قبل ستالين”، قال السناتور في حينه، وقدر بأن الناتو سيجلب “50 سنة من السلام”. هذه العملية كانت حكيمة، لكن التنبؤات أقل.
جهود الناتو للتوسع نحو شرق أوروبا أخافت في حينه رئيس جهاز الأمن الروسي، الـ “اف.اس.بي”، وهو الجهاز الذي ورث الـ “كي.جي.بي”. وبعد مرور سنتين، سيطر العميل السابق نفسه على روسيا. وهو منذ ذلك الحين يتحدى النظام العالمي في جورجيا وأوكرانيا، وأيضاً في الانتخابات في الولايات المتحدة. عندما تبين للمخابرات الأمريكية بأن بوتين ينوي غزو أوكرانيا، عرف البيت الأبيض أنه لا يمكنه “وقف طبول الحرب”، مثلما وصف بايدن ذلك.
بوتين هو المسؤول عن الحرب الأكثر خطورة التي عرفتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. إن رد الرئيس الأمريكي على هذه المواجهة أثار ردود فعل مختلفة. لا شك أنها لحظة تأسيسية بالنسبة للنظام العالمي، لكن من السابق لأوانه استخلاص النتائج. حتى لو استكمل الجيش الروسي احتلال أوكرانيا فما تزال هذه هي البداية. يراهن بايدن على رئاسته بأن أوروبا يمكنها التوحد في جبهة متماسكة.
حتى قبل أن تطأ قدم أي جندي روسي أوكرانيا، كان واضحاً أن أي دولة لا يمكنها إجبار بوتين على الانسحاب، بل معاقبته فقط هاجم. تحذر واشنطن منذ أسابيع بأنه إذا ما حدثت حرب فسيساعدون أوكرانيا بكل طريقة ممكنة، باستثناء إرسال الجنود الأمريكيين إلى أوكرانيا. واختيار مسار المساعدة العسكرية لأوكرانيا وفرض عقوبات مؤلمة على روسيا، يعكس الرأي العام الأمريكي. بعد العراق وأفغانستان، تعارض الأغلبية الساحقة في أوساط الأمريكيين حرباً برية في دولة أجنبية.
من ينتقدون بايدن، في الداخل والخارج، يعتبرون رد الإدارة الأمريكية “ضعيفاً” و”ذليلاً”. هذا موقف مريح لـ “فوكس نيوز” والشبكات الاجتماعية، لأن المنتقدين يجدون صعوبة في طرح بديل لا يقود بالضرورة إلى مواجهة مباشرة مع ديكتاتور منعزل وخطير وغير متوقع، يهدد بتحويل الأعداء إلى “غبار مشع”. بايدن، مثل جميع الرؤساء الأمريكيين، لا ينوي أن يلعب الروليت الروسية مع قنابل نووية موجودة في مخزن السلاح بدلاً من الرصاص.
السياسة الخارجية التي تروج لها الإدارة الأمريكية والتي تمجد معجزة التعاون الدولي من خلال التحالفات، بدأت حتى قبل الغزو. بدلاً من وضع حقائق على الأرض للدول الأوروبية، مثلما يميل رؤساء الولايات المتحدة إلى فعله مع حلفائهم في أوروبا، اختار بايدن المسار الطويل والمعقد للحوار بواسطة الناتو. التكتل في الساحة الدولية هو طريقة العمل المفضلة لديه.
في اجتماع الناتو نهاية الأسبوع الماضي، أعلن السكرتير يانس ستولتنبرغ عن القرار المشترك لإرسال “آلاف الجنود” إلى الدول الأعضاء في الحلف العسكري، التي وجدت نفسها في خط مواجهة أمام روسيا الآخذة في الاتساع. وأعلنت الولايات المتحدة بأنها سترسل 12 ألف جندي إلى قواعدها في أوروبا، و350 مليون دولار من أموال المساعدات العسكرية لحكومة أوكرانيا برئاسة فلودومير زيلينسكي. واستعراض الوحدة هذا لم تتم مشاهدته في الناتو منذ الحرب الباردة، لكنه لم يجتز بعد امتحاناً حقيقياً.
تستعد حكومات أوروبا والولايات المتحدة الآن لحرب استنزاف طويلة، وينطلقون من فرضية أن أوكرانيا ليست سوى البداية لحرب طويلة وغربية وربما عالمية، أمام بوتين. اعترف الرئيس الفرنسي أمس بأن هذه المواجهة قد “تستمر لفترة طويلة”، وهو لم يقصد احتلال أوكرانيا. الجهود الغربية من أجل خنق الكرملين بأدوات اقتصادية قد تستمر لأسابيع أو أشهر، وربما لسنوات. ولا يعزي هذا جميع الأوكرانيين الذين يتعرضون للنار الروسية، أما نحن فلا نعرف إلى أي درجة سيغير هذا الأمر مقاربة الكرملين.
امتحان وفرصة
مع ذلك، تحولت الأزمة إلى امتحان وإلى فرصة أيضاً بالنسبة لسياسة بايدن الخارجية. الرئيس يريد إقامة تحالف لدول ديمقراطية منذ اليوم الذي دخل فيه البيت الأبيض، في محاولة لمحاربة صعود الصين، لكن بوتين أعطى الدفعة الكبرى لذلك. في الأشهر التي سبقت غزو أوكرانيا، عمقت الإدارة الأمريكية برئاسة بايدن علاقاتها الاستخبارية وتعاونها مع أعضاء الناتو.
في الخطاب الذي ألقاه يوم الغزو الروسي الذي أعلن فيه عن العقوبات الأولى، خرج بايدن عن أطواره لينقل رسالة لجميع الأعضاء في الناتو بأن حكم أوكرانيا ليس كحكم بولندا. وتحول الناتو في لحظة إلى النادي الفاخر والمطلوب في أوروبا. “الولايات المتحدة ستدافع عن كل شبر من أراضي الناتو بكل قوتها”، أعلن بايدن. “لا تشكوا في ذلك. فالولايات المتحدة وجميع حلفاء الناتو سينفذون التزاماتنا استناداً إلى المادة 5 في ميثاق الناتو، التي تنص على أن أي هجوم على أي دولة منا هو اعتداء علينا جميعاً”.
منذ الغزو، ذكر بايدن المادة 5 في ميثاق الناتو أمام كل ميكروفون. وفي كل مرة، بالغ في وصفه لـ “المادة المقدسة”، المصنوعة من الفولاذ. رئيس الحكومة البريطانية، بوريس جونسون، أعلن أن المادة 5 “حاسمة”. وأشار سكرتير الناتو إلى أنه حصل على رسائل مشابهة من جميع الأعضاء في الحلف. هذا الشعار الذي سمع كثيراً في دول الناتو هو دليل على روح الحياة الجديدة للحلف، ومحاولة للادعاء بأن أوكرانيا لم يتم التخلي عنها.
التحدي الرئيسي الذي يواجهه الناتو والولايات المتحدة هو فرض الانضباط على جميع الدول الأعضاء لإظهار جبهة موحدة. نقاشات محمومة تجري الآن بين دول الحلف في محاولة للاستعداد لأي سيناريو محتمل والتأكد من أنه لا توجد حلقة ضعيفة. والتصميم على إعلان كل دولة عن التزامها بالمادة 5 في الميثاق هو خطوة مهمة لبناء الثقة. ولكن الامتحان الحقيقي سيأتي إذا اختار بوتين تحدي دولة أخرى. هل بولندا قادرة على الصمود أمام الضغط؟ هل سترسل جميع دول الناتو الجنود لمساعدة هنغاريا؟ بايدن مستعد لوضع على كفه رئاسته ومكانته وأن يقامر بأن يكون الجواب على ذلك “نعم”.
بايدن وجونسون وقادة الناتو الآخرون يتقدمون إلى المعركة الجديدة أمام بوتين على فرض أن هذا ماراثون وليس سباقاً قصيراً، وربما هذا هو عزاؤهم الوحيد لعرضه على أوكرانيا. هذا هو الدرس الذي تعلمته أمريكا وروسيا بطريقة قاسية؛ أن الانتصار في المعركة والسيطرة على شعب آخر هي أمور مختلفة. جورج بوش الابن نسي هذا الدرس قبل 19 سنة عندما ألقى خطاب الانتصار بعد احتلال العراق، وكانت وراءه معلقة لافتة مكتوب عليها “تم إكمال المهمة”. قبل 12 سنة من ذلك، اختار والده التنازل عن احتلال العراق عندما سأل مستشاريه “ما هي خطة الخروج؟” ولم يحصل على أي إجابة جيدة. يحاول بايدن التعلم من بوش الأب وليس من بوش الابن.
الأدميرال جيمس سفاريدس، قائد الناتو قبل عشر سنوات، قال في هذا الشهر لوكالة “بلونبرغ” إنه “إذا قام بوتين بغزو أوكرانيا، فقد تكون المقاومة المسلحة كابوسه الأكبر”. وقال سفاريدس أيضاً قبل الغزو ما ثبت أنه صحيح، وهو أن الأوكرانيين لا يتوقع أن يسلموا بالاحتلال الروسي بخضوع. وأراد أن يذكر بأن الكرملن ليس الوحيد الذي يعرف كيف يسلح وينظم ويقوي منظمات في أرجاء العالم.
بعد غد سيلقي بايدن للمرة الأولى الخطاب السنوي عن وضع الأمة أمام مجلسي والشيوخ والنواب. وسيأتي إلى هذه الجلسة في ذروة لحظة مؤسسة في رئاسته. ويصعب التصديق بأنه سيذكر عمليات سرية وعسكرية ودبلوماسية في أراضي أوكرانيا وخارجها. ولكن يمكن توقع خطاب يغدق التمجيد على الناتو. بفضل بوتين، تحول الحلف العسكري إلى قاعدة وإلى نقطة انطلاق لتحالف الدول الديمقراطية (في معظمها)، الذي يتوقع أن يتوسع ما دام الأمر متعلقاً ببايدن.
بقلم: نتنئيل شلوموفيتس
هآرتس 27/2/2022