DW :
تشكل الثقوب السوداء أحد أكبر ألغاز الكون التي تُحير العلماء كلما حاولوا فك طلاسمها. فقد تم مؤخرا رصد ظاهرة فريدة تتتعلق باصطدام ثقبين أسودين عملاقين بقوة جبارة اعتبرها البعض ثاني أكبر حدث كوني منذ الانفجار العظيم!
وتمكن العلماء من رصد هذا الحدث الكوني الجبار من على كوكب الأرض إذ اهتز وتوسع النسيج الزمكاني ما أدى إلى ظهور موجات جاذبية وصلت حتى كوكبنا. وبالتالي لا توجد هناك صورة فوتوغرافية لحادث الانفجار في حد ذاته، لكن الباحثين تمكنوا من رصد الضوضاء التي نتجت عن الانفجار في إشارة تم تصنيفها تحت رقم “GW190521″، ولم تدم سوى عشر ثانية لم يكن للباحثين توقعها.
مخاض كوني ـ انصهار عملاقين أسودين
الثقوب السوداء أجسام كونية تتشكل في مخاض أفول النجوم الضخمة وانهيار نواتها. ويميز العلماء بين ثلاثة أنواع من الثقوب السوداء: أصغرها وتتشكل نتيجة انهيار جاذبية كتلة نجم واحد. ثم فئة الثقوب السوداء العملاقة، كما هو حال الثقب الأسود الذي يتوسط مجرتنا (درب التبانة) على بعد 26 ألف سنة ضوئية من كوكبنا، وهو ثقب توازي كتلته أربعة ملايين ضعف كتلة الشمس. وهناك فئة ثالثة من الثقوب السوداء المتوسطة الكتلة، سبق وأن رصدها علماء الفلك. تتميز الثقوب السوداء بكثافتها بالغة وبقوة جاذبية جبارة لدرجة تمنع كل شيء من الانفلات بما في ذلك الموجات الكهرومغناطيسية كالضوء، ولذلك فهي تبدو مظلمة.
وذكرت الصفحة العلمية لموقع “فرانكفورته نويه بريسه” (27 أبريل / نيسان 2021) أن “ما كان جديدًا بالنسبة للعلماء هذه المرة هو أن أثقل الثقبين الأسودين المتصادمين كان في وضعية تسمى علميا بـ”عدم الاستقرار الزوجي” ورغم ذلك فإن كتلته كانت توازي ما يعادل 85 ضعف كتلة الشمس”. وذكر ألان وينشتاين أن النجمالذي ينهار لا ينبغي أن يكون قادرًا على تكوين ثقب أسود في نطاق يتراوح بين 65 إلى 120 كتلة شمسية. والسبب أن النجوم الضخمة تنهار بعد ما يسمى بـ”سوبرنوفا”. وعادة ما يكون الثقب الأسود نجمًا سابقًا ينهار بعد استهلاكه كل وقوده وينتهي بانفجار هائل (سوبرنوفا). ثم تتجمع الكتلة حول النواة السابقة وتجذب كل ما هو قريب. ويرى وينشتاين أن التفسير المحتمل ربما يرتبط بنظرية تسمى “الاندماجات الهرمية”، حيث تندمج الثقوب السوداء الخفيفة أولا مع كتلة النجوم وتتماسك بالتالي مع بعضها البعض تدريجيا حتى تصبح ثقبا أسودا عملاقا.
زمكان مُنحني في محيط انصهار الثقوب السوداء
كيف يبدو الزمكان في محيط دوران ثقبين أسودين على وشك الانصهار؟ وكيف تشوه جاذبيتهما الهائلة الضوء عبر المادة التي تدور من حولهما؟ وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” نشرت بهذا الشأن فيديو يحاكي هذه العملية المعقدة. فبسبب تشوه الزمكان، يبدو كل ثقب أسود من الأعلى والأسفل الوقت نفسه. كما أن الضوء الصادر من الشريك الأصغر يصدر موجات أقصر وأكثر سخونة يعكسها اللون الأزرق.
في علم الفلك، تشكل مراقبة الأجرام السماوية البعيدة طريقة للسفر إلى الماضي السحيق. قياس قوة جاذبية الثقب الأسود تعكسها موجات الضوء المنحرفة حول النواة السوداء للثقب، فيما تظهر المناطق المحيطة بطريقة فريدة جدًا. وتبدو الصورة أكثر إثارة عندما يقترب ثقبان أسودان من بعضهما البعض في دوران مشترك يقودهما في النهاية إلى الانصهار التام. ويفترض الباحثون أن تكون الثقوب السوداء في مثل هذه الأنظمة المزدوجة محاطة بسحب من المادة لم تصطدم بمركز الجاذبية لفترة قد تدوم بضع ملايين من السنين.
لأول مرة ـ نجاح العلماء في تصوير ثقب أسود
كيف تنشأ الثقوب السوداء في الكون وماذا تخفيه بالضبط وما سر الجاذبية الهائلة التي تعجز المادة عن مقاومتها بما في ذلك الضوء؟ في عام 2019 انبهر المجتمع العلمي أمام “أول صورة” في التاريخ نجح الإنسان في أخذها لثقب أسود على الإطلاق. حلقة ذات أطياف برتقالية حمراء تعكس ظلال الكتلة المركزية لمجرة M87 التي تبعد عن الأرض بـ 55 مليون سنة ضوئية. انجاز تحقق بواسطة شبكة من التلسكوبات منتشرة في عدد من مناطق الأرض في ستة مواقع مختلفة تم تجميع بياناتها بعد سنوات من التحليل قبل بلورة الصورة. بمعنى آخر فالصورة هي نتيجة حسابات دقيقة ومعقدة ولم تأخذ بشكل مباشر كما تأخذ الصور الفوتوغرافية العادية.
وبهذا الصدد كتبت “فرانكفورته ألغماينه تسايتونغ” (24 مارس / آذار 2021) أن “معرفة المجال المغناطيسي له أهمية أساسية لفهم كيف تتصرف المادة عند حافة الثقب الأسود، حيث تتشكل بلازما مشحونة كهربائيًا، تتبع المجال المغناطيسي في حركته وفقًا لقوانين الديناميكا الكهربائية. ولا يزال هناك العديد من الأسئلة المفتوحة التي يجب الإجابة عليها، لأن الثقوب السوداء ترسل تدفقات هائلة من المادة، ما يسمى بالنفاثات العمودية”.
في قلب المجرات ـ ثقوب سوداء كمحركات مغناطسية نفاثة
عندما يتأمل المرء نجوم مجرتنا (درب التبانة) ليلا، تنتابه أحيانا مشاعر الانبهار أمام كون شاسع تسوده سكينة في بحر من ضوء هادئ يبعث مشاعر سلام أبدي. غير أن في قلب مجرتنا كما باقي المجراتيختبأ غول عملاق يبتلع كل نجم وكل سحابة غاز، ليلتهمها ويدخلها في أفق زمكاني تحكمه قواميس فيزيائية لم يسبر العلم بعد كل أغوارها. فالثقوب السوداء التي تتوسط المجرات توازي كتلها ملايير من كتل الشمس. غير أن الجهود العلمية لدراستها تعاني من حقيقة غياب معطيات من داخل الثقوب السوداء ذاتها التي تبتلع كل شيء.
وتتنبأ النظرية النسبية العامة لألبرت آينشتاين بأن الكتلة المضغوطة إلى حد معين لها قدرة “تشويه” أو “تكسير” الزمكان، وبالتالي تشكيل ثقب أسود. ويُطلق على حدود المنطقة التي لا يُمكن الهروب فيها من جاذبية الثقب الأسود اسم “أفق الحدث”. ولعبور حدود هذا أفق الحدث تداعيات هائلة على الأجسام كيفما كان نوعها. وبالإضافة إلى ذلك تتنبأ نظرية “المجال الكمي” في الزمكان المنحني بانبعاث ما يسمى بإشعاع هوكينغ بشكل متوازي مع درجة حرارة تتناسب مع كتلة الثقب الأسود.