عواصم ـ إکنا :
أهم ركيزة حضارية في البناء والتنمية وأعظم أساس تقام عليه الدول والنظم هي العدالة التي جاء الإسلام حاملاً لواءها ومقيماً لمعالمها إقامة لافتة بين التشريعات التي نظم بها شؤون الحياة.
وأهم ركيزة حضارية في البناء والتنمية وأعظم أساس تقام عليه الدول والنظم هي العدالة التي جاء الإسلام حاملاً لواءها ومقيماً لمعالمها إقامة لافتة بين التشريعات التي نظم بها شؤون الحياة، وقد ارتبطت العدالة في منظور الإسلام بمفاهيم عدة، ويمكن تناول كل مفهوم من مفاهيم العدالة التي جاء بها الإسلام بشكل مستقل ومنفصل عن الإسلام، مثل الحقوق والحرية والنظام والأحكام التشريعية الفقهية التي نظّر لها علماء الإسلام في مجالاتهم المختلفة، لكن الخيط الرابط بين تلك المفاهيم هو العدل الذي تجلّى في نظام تشريعي محكم يراعي التدرّج والواقعية بين متطلبات التنفيذ ومقتضيات الحكم، ومن هذا المنطلق نتناول في هذه السطور قضية العدل مستدلّين عليها بما جاء به القرآن الكريم من مفاهيم العدالة الناجزة في نظرنا من خلال الفقرات التالية:
عدالة الله السماوية
وجاءت في سورة النحل دعوة لافتة إلى العدل المطلق حيث يأمر الله تعالى بتحقيق العدل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90]. من هذه الانطلاقة القرآنية يتجسد العدل بمفهومه الواسع وينطلق المسلم المؤمن بهذا النداء الآمر ليحققه في ربوع الحياة ويقيمه بين الناس على نفسه، وهو ما يتأكد من خلال سياقات قرآنية أخرى تشير إليها الآيات اللاحقة.
عدالة مع النفس والآخر
في معرض الحكم ينصب القرآن الإنسان حكما على نفسه في هذا النص في معرض العدالة التي ينبغي تحقيقها بمقتضى القرآن الكريم، وهذا ما يتعسر على الإنسان القيام به: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8]، وكأن هذه الشهادة القضائية أمام محاكم الضمير الفردي حيث يرافع فيها الإنسان نفسه، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: 135]، مبالغة في تحقيق العدالة التي يجب أن تتحقق فتشهد ضد نفسك ووالديك؛ تلك هي العدالة التي تعجز قوانين الأرض عن تحقيقها مهما بلغت مرونتها ونزاهتها الاقتضائية بين الخصوم لبشريتها الناقصة عن مقام الكمال.
وهنا العدالة في تبليغ ما يسند من مهام إلى صاحبها ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء: 58]. بنظرنا إلى دلالة هذه الآية يتسع نطاق دلالتها لتشمل كل المهن المسندة إلى الإنسان، فينبغي تأديتها بما يناسب نظام التعاقد عليها، وفي هذا الجانب من البعد الحضاري كثير حيث يقوم الإنسان بتأدية مهامه اليومية بناء على توجيهات سماوية إلهية توقظ ضمير الإنجاز بعيدا عن الرقابة المديرية التي يمكن التحايل عليها، والتعلل لها بوسائل معينة في أغلب الحالات التي تقع فيها مخالفات للأمانة وتساق لها التبريرات المعهودة.
العدالة مع الآخر
توجيه للرسول صلى الله عليه وآله وسلم للحكم بها جاء هذا في معرض العلاقات مع المخالف: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [المائدة: 41، 42]، وفي العلاقات مع المخالف: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]. تؤكد هذه المضامين الأخلاقية عدالة الإسلام في التصور ونظرته إلى بناء العلاقة مع الآخر المخالف بحيث يجب بمنطق العدالة أن يعامل كل الناس بعدالة مهما اختلفوا في الدين والمعتقدات، وهذا ما يجعل مشروع الإسلام حضاريا في بنيته وتقبله للوفاء والعدالة بين بني البشر على حد سواء.
إن العدالة من منظور الإسلام مشروع حضاري ذو أبعاد أخلاقية وإنسانية، ولا يتحقق أو يقوم المشروع الحضاري لأي أمة إلا من منطلق العدالة التي خلقت الإنسانية لتحقيقها بين جميع أفراد مكوناتها البشرية، وهذا ما يصوّره القرآن الكريم في أسلوب أمميّ حضاري: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف: 181]. تقصد الآية الكريمة قيام العدالة وأنها من أهم ركائز التحضر والحضارة لأي مجتمع أو أمة تريد أن يكون لها مشروع ينافس في ميادين الحياة والعطاء، فالعدالة نماء وعطاء زاهر.
عدالة الكلمة
العدالة في الكلمة أو كلمة عادلة هي ما تشير إليه الدلالة النصية لهذا المقطع الذي يجعل كلمة عادلة ذات بعد تشريعي راق تحمل في طياتها جنينا من العدل: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: 152]. قول الحقيقة والبحث عنها وتحرّيها ليس فقط سمة للمصداقية والثقة بل أكثر من ذلك في نظر هذه الآية، ليكون وصية سماوية يجب القيام بها واتباعها، وهو ما تؤكده هذه المعاني القرآنية بوضوح لافت: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾ [الأعراف: 29]. ويضرب الله مثلا لمن يقيم صفة العدل مقارنا له بغيره ممن لا يقيم العدل: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل: 76]. العدل من القيم التي تشترك في قبولها أغلب النفوس البشرية لما تحققه العدالة من الحرية والكرامة التي ينعم بها الجميع في ظل وجود العدالة الحقيقة، ولهذا كانت رسالة الإسلام رسالة عادلة في نظامها وتشريعها الذي جاءت به.
نص قانون العدالة
يوجّه القرآن رسالة للناس أجمعين، ويقدم نصوص العدالة بطريقة تجمع بين عالمية النص ومثاليته في وقت واحد؛ فيوجه الخطاب للحاكم والفرد في السياق نفسه، وهذا داود عليه السلام تخاطبه العدالة السماوية بحكم منصبه السلطاني: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [الزمر:26]. ومن ذلك: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ﴾ [الزمر:21].
يتوجه خطاب العدالة وتحقيقها للنبي صلى الله عليه وسلم باعتبارها مصدر سلطة وتشريع لأمته: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [الشورى: 15].
في هذا المعرض تتجلى قيمة العدالة بين الناس باعتبارها قيمة مادية ومعنوية يمكن التوافق عليها والتصالح عليها وحولها، وهو ما توضحه الآية التالية في معارض الخصام والاقتتال بين الناس: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9]، وهنا يحس الإنسان القارئ لهذه الآية بأن العدالة قادرة على إخراج الناس من معاناتها وهي المنهج الذي يمكن أن يحقق من خلاله رجال العدالة إذا أقاموها أمنا واستقرارا للدول وشعوبها المنكوبة والمشردة، فالعدالة رافد تنمية واستقرار وغيابها بارقة للضياع والهزيمة وغير ذلك من المكاره الخرابية التي تحلّ بالأمم لحظة ضياعها، وهذه شواهد قد تحمل بعضا من المعاني نفسها: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن: 7-9].
وفي ختام هذا المقال نترك القارئ مع نص العدالة هذا ليضعه في سياق اللحظة التاريخية التي يراه يتنزل فيها، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحديد: 25].
العدالة بين الناس معلم حضاري ضروري لا غنى عنه حسب ما توصلت إليه الدراسة بشكل واضح وجلي.
بقلم الكاتب والباحث القرآني يحي عبدالله بن الجف