الخليج الجديد :
عادت للأذهان ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية، هذا الأسبوع، عندما ظهرت صور للأطفال الذين يختبؤون في الممرات وخلف السيارات مع اندلاع الاشتباكات الطائفية القاتلة خارج مدارسهم في حي الطيونة في بيروت.
وانزلق الوضع إلى العنف، بعد أن تعرضت الاحتجاجات التي نظمها “حزب الله” وحركة “أمل” للمطالبة بعزل قاضي التحقيق في انفجار مرفأ بيروت لنيران قناصة مجهولي الهوية، مما أدى في نهاية المطاف إلى مقتل 7 وجرح العشرات، وانتقم المحتجون “السلميون” بإطلاق النار وقذائف “الآر بي جي”.
وحول الجانبان الطيونة والمناطق المحيطة بها إلى منطقة حرب وإرهاب للمواطنين وتدمير للممتلكات في وقت يشهد فيه لبنان صعوبات اجتماعية واقتصادية غير مسبوقة.
أهمية التحقيق
كما هو الحال في لبنان، تختلف السرديات ولا تتطابق أبدا عندما يتعلق الأمر بما حدث حقا، ولكن يبدو أن هناك رواية متسقة حتى الآن مفادها بأن “الاستفزازات” و “تجاوز الخطوط الطائفية الحمراء” غذى الاشتباكات مباشرة.
غير أن الكثيرين يعتقدون أن العدوان كان متعمدًا من “القوات اللبنانية”، وهي ميليشيا مسيحية يمينية بالأساس تحولت إلى حزب، مدعومة من السعودية، وما تزال المعارض الأكثر صخبا لـ”حزب الله” في السياسة اللبنانية اليوم.
قد تبدو اشتباكات بيروت مفاجئة، لكن التوترات كانت تختمر منذ أشهر عندما بدأت أحزاب (وأهمهم حزب الله) في المطالبة علنًا بشكل متزايد بإزالة القاضي “طارق بيطار” بتهمة “تسييس” التحقيق في انفجار مرفأ بيروت.
وساهمت التهديدات وتكتيكات التخويف (التي جاء أحدثها من الأمين العام لحزب الله نفسه في وقت سابق من هذا الأسبوع) في التراكم الذي أدى لأحداث الطيونة.
وإذا استخلصنا درسًا مستفادًا واحدًا من تطورات هذا الأسبوع، فهو أن المراقبين المحليين والأجانب، يجب أن يركزوا على نقطة معينة تتمثل في حماية التحقيق في انفجار الميناء وضمان استمراره.
أتقنت المؤسسة السياسية في لبنان فن التشتيت والتلاعب، وأصبحت الأحزاب السياسية اللبنانية تستغل مجددًا الانتماءات الدينية وسياسات الهوية، والتهديدات المتعلقة بالحرب الأهلية لتحويل الانتباه عن التحقيق المدعوم من الشعب والذي قد يورطهم جميعًا تقريبا.
وعزز السياسيون لسنوات مقايضة جبرية مريحة لهم، تتمثل في السلام المدني والاستقرار مقابل العدالة والمساءلة، ولقد نجح هذا النهج بشكل عام – خاصة منذ إقرار قانون العفو العام في عام 1991 – وغالبا ما أسفر عن تحقيقات غير حاسمة أو فاشلة وكذلك التسويات السياسية التي تفضل الحفاظ على الوضع الراهن على حساب كشف الحقيقة والتصرف بناء عليها.
حدث كاشف
وبغض النظر عن التحقيق، فقد كشفت أحداث الطيونة عن الاعتبارات الهامة والتناقضات في السياسة والمجتمع اللبناني.
وسواء كان أنصار “القوات اللبنانية” قد شاركوا فعليا في الاشتباكات أم لا، فإن “القوات اللبنانية” ستظهر للعديد من المسيحيين اللبنانيين المحبطين بشكل خاص كآخر “خط دفاع” ضد نفوذ “حزب الله” المتنامي بشكل غير مسبوق.
وستؤدي هذه الحقائق إلى تجرؤ “القوات اللبنانية” أكثر، مما يزيد من احتمال سوء التقدير السياسي والحماقات العسكرية.
هذا يتناقض مع “التيار الوطني الحر”، وهو الحزب الذي أسسه الرئيس الحالي “ميشيل عون” برئاسة صهره “جبران باسيل” الذي فُرضت عليه العقوبات، ولا يزال “التيار الوطني” حائرًا بين الانحياز القوي لتحقيق “بيطار” أو حفظ علاقته المتدهورة مع حليفه “حزب الله”.
لكن هذا النهج الحذر كلف الحزب أرضيته الجماهيرية ونفوذه في كل من المعركة من أجل الرأي العام المسيحي ومذكرة التفاهم الهشة لعام 2006 مع “حزب الله”.
كما تشكل أحداث هذا الأسبوع أيضا أول اختبار حقيقي لحكومة “ميقاتي” بالكاد بعد شهر من تشكيلها، وقد أدى خلاف كلامي ساخن بين الرئيس “عون” ووزير الثقافة المدعوم من “حزب الله” في وقت سابق من هذا الأسبوع إلى تأجيل الدورة الوزارية دون تحديد مصير تحقيق “بيطار”، ويبدو أن انهيار مجلس الوزراء قد تم تجنبه في الوقت الحالي، لكن “حزب الله” وحركة “أمل” يحتفظان بورقة ضغط الاستقالة.
وعلى صعيد آخر، مع ربط الأحداث الأخيرة مع الحوادث السابقة في مدينة خلدة وشويا هذا العام، فإن أحداث الطيونة تبرز أكثر مدى السخط بين المجتمعات غير الشيعية إزاء تكتيكات التخويف الفجة التي يظهرها “حزب الله” مع إظهاره أنه سيفعل ما يريده، وبدأ السخط في إظهار نفسه بعنف في الشوارع في 2021، فيما يمثل علامة شؤم منذرة بشأن المستقبل.
استبعاد الحرب الأهلية
ومع ذلك، فإن الحرب الأهلية الشاملة ما تزال غير مرجحة، وذلك لأن الحروب الأهلية تتطلب أطرافًا مستعدة وقادرة على رفع الأسلحة والحفاظ على القتال، وهو ما لا يرجح أن يفعله “حزب الله” ما لم يحاصر ويُنبذ من حلفائه المسيحيين في الوقت نفسه، في ظل مواجهته لتحديات إقليمية خطيرة، وهو ما يفسر جزئيًا سبب سلبيته إزاء اشتباكات هذا العام.
لكن هذا لا يعني عدم استمرار الاستفزازات واندلاعات العنف، وبغض النظر عما قد يفكر فيه حزب “القوات اللبنانية” ورعاته بعد أحداث هذا الأسبوع، فإن الاشتباكات العسكرية الخطيرة التي لا تأتي في سياق الدفاع عن النفس مع حزب ظل يقاتل دون توقف في جميع أنحاء المنطقة العقد الماضي، لن تنتهي بشكل جيد.
تسببت مثل هذه الاشتباكات في تجديد الانتقادات لقوات الأمن اللبنانية، والقيادة المدنية المسيطرة عليها، حيث قامت بالاعتداء على المحتجين غير المسلحين وضربتهم وأصابتهم بشكل فادح خلال موجة مظاهرات الشوارع السلمية التي انخرط فيها المجتمع المدني اللبناني وجماعات المعارضة على مدار العامين الماضيين.
وفي الوقت ذاته، بمجرد أن تخرج ميليشيات المؤسسة المسلحة في الشوارع، فإن جهاز الأمن يفكك فجأة أو يدّعي إنه يقوم بـ”إدارة” أو “احتواء” الوضع.
وصحيح أن الاعتبارات الأمنية في لبنان معقدة، حيث يتعامل الجيش مع الانقسامات الطائفية التي تفرضها القيادة السياسية على أرض الواقع، إلا إن عدم التناسب بين سحق الاحتجاجات السلمية و”احتواء” البلطجية، يدمر مصداقية قوات الأمن اللبنانية ويتطلب اهتمامًا عاجلًا.
عدو العدو ليس صديقًا
ينبغي لصانعي السياسات في واشنطن أن يفهموا أن عدو عدوك ليس صديقك عندما يتعلق الأمر بلبنان، وعلى الرغم من طغيان وهيمنة “حزب الله”، فإن الانزلاق إلى عقلية عام 2005 المتعلقة بالانحياز لجانب من اثنين، سيؤدي لنتائج عكسية ويزيد من ترسيخ الوضع الراهن، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالانحياز للميليشيات الأخرى ضمنيا.
ولكن في الوقت نفسه، فإن اتباع نهج اعتذاري تجاه “حزب الله” لن يوفر نتائج مواتية أيضا، والنقطة المهمة هنا هي أن النقاشات بشأن لبنان غالبا ما تكون عالقة بين كونها استيعابية بشكل ساذج أو متشددة بشكل غير معقول تجاه “حزب الله”.
وغالبا ما يتم فهم المواقف المناهضة لـ”حزب الله” على أنها دعم لبقايا حراك قوى 14 مارس/آذار، أما المقاربات التي لا تواجه “حزب الله” فهي تُتّهم بالتعاطف.
وعلى الرغم من بعض خيبات الأمل، فإن عصر ما بعد أكتوبر/تشرين الأول 2019 يواصل إعطاء الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين فرصًا لتقديم أنفسهم كشركاء مباشرين وموثوقين للشعب اللبناني نفسه.
لكن استغلال هذه الفرص يتطلب نهجًا منطلقًا من المشاكل والقضايا، وليس نهجًا نظاميًا وحزبيًا عند التعامل مع ما يخص السياسة اللبنانية، خاصة في ظل النفاق والمحاباة والتواطؤ داخل المؤسسة السياسية في لبنان.
وبناء على هذا، ينبغي للولايات المتحدة أن تواصل دعم وتمكين تحقيق محايد ومستقل في انفجار ميناء بيروت بدعم من المجتمع الدولي، وفي غضون ذلك، لابد من خطة طوارئ في حال تحقق عزل “بيطار” ليُعيّن بدلًا منه قاضٍ يتم التحكم به، لتهدئة التحقيق.
ويمكن أن تشمل الإجراءات تنسيقا وثيقا مع الأوروبيين لفرض عقوبات مستهدفة ومتزامنة على أي طرف يحاول إعاقة العدالة؛ ودعم مهمة استقصائية دولية في الانفجار (وهو ما طالبت به المنظمات اللبنانية والدولية باستمرار) بالإضافة إلى الإفراج عن أي معلومات أو تقارير مخابرات جمعتها البلدان بشكل فردي بشأن الانفجار.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، وبينما كان التحقيق في انفجار الميناء يتأرجح صعودًا وهبوطًا، تصاعد عبر الإنترنت في الدوائر اللبنانية تداول عبارة تقول: إذا كان من الممكن [لشئ ما] أن تدمره الحقيقة، فإنه يستحق أن تدمره الحقيقة.
وجاءت اشتباكات بيروت هذا الأسبوع (جزئيا على الأقل) في سياق النضال الأوسع من أجل الكشف عن الحقيقة أو دفنها بالكامل.