البلاغ :
د. محمد جميل الحبّال
القرآن الكريم كتاب عقيدة وهداية وإرشاد ومنهاج حياة، وهو المعجزة الكبرى والدائمة والمتجددة لرسولنا الكريم محمد (ص)، والذي قال بحقه عزّ وجلّ: (إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (ص/ 87-88)، وقال (ص) في حقه أيضاً: “وهو الذي لا تنقضي عجائبه” من حديث طويل عن فضائل القرآن الكريم للترمذي؛ ومعنى ذلك: (أنّه الذي لا تنقطع معجزاته وبراهينه، وتتدفق غيوبه وعلومه على سائر الأجيال حتى قيام الساعة)، وقال ابن عباس (رض): “القرآن يفسره الزمان”.
وفي هذا المعنى ورد وصف القرآن الكريم على لسان أبي حامد الغزالي: أنّه الكتاب الذي يحوي علوم الأوّلين والآخرين حيث قال في كتابه “إحياء العلوم الدين” [1/289] فيما يرويه عن عبدالله بن مسعود قوله: “من أراد علم الأوّلين والآخرين.. فليتدبر القرآن”.
ويقول السيوطي في كتابه “الإتقان في علوم القرآن” [2/129]: “لقد اشتمل كتاب الله العزيز على كلِّ شيء؛ أما أنواع العلوم.. فليس منها باب ولا مسألة هي أصل.. إلا وفي القرآن ما يدل عليها”.
أما الفخر الرازي فقد قال في كتابه: “نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز”: “ثبت أنّ القرآن مشتمل على تفاصيل جميع العلوم الشريفة – عقلها ونقلها – اشتمالاً يمتنع حصوله في سائر الكتب، فكان ذلك معجزاً، وإليه الإشارة.. بقوله تعالى: (وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (يونس/ 37).
ويحتوي القرآن الكريم من الآيات الكونية ما تناهز (1200) آية بنسبة (20%) من مجموع آياته.. علمنا أهمية هذا الجانب، غير أنّ الناظر في تفاسير العلماء – رحمهم الله – لا يشك أن آيات العلوم الكونية إنما نالت نصيباً يسيراً من عناية المفسرين بالقياس إلى آيات الأحكام الفقهية، وهم معذورون في ذلك؛ لعدم توافر الوسائل العلمية الحديثة الموجودة في الوقت الحاضر للوصول إلى هذا الهدف؛ إذ إنّ القرآن والسنة يهديان إلى بحوث طبية وكونية كثيرة إذا أُحسن دراستها وفهمها بدقة، والإفادة من الوسائل والأدوات العملية والتقنية الحديثة والتي لم تكن متوفرة سابقاً.
كذلك نجد أنّ العلماء قديماً قد أَوْلَوُا اهتماماً كبيراً بالإعجاز النظمي البلاغي والبياني؛ فصنفوا المجلدات والمؤلفات العديدة، وسبروا أغواره.. فلم يبقوا باباً إلا طرقوه، وهذا يعتبر بحقّ من أهم أوجه الإعجاز في هذا السفر المبارك وحتى قيام الساعة: لأنّ نزل بلغتهم، وهم من هم في الفصاحة والبيان، فتحداهم كما هو معروف، وانقادوا له.
وفي عصرنا هذا – عصر العلم الحديث – أخذ الإعجاز ينحى باتجاه آخر عرف بـ: (الإعجاز العلمي القرآني) بعد اكتشاف الكثير من الحقائق العلمية، وتحديداً في العقدين الأخيرين من القرن العشرين وما لا يعد ويحصى في القرن الحالي، فألفت الكثير من الكتب، وعقدت لذلك الندوات والمؤتمرات والمعارض في كلِّ البلاد العربية والإسلامية والعالمية، وقد انتبه الكثير من علماء التفسير المحدثين إلى هذه الظاهرة العلمية القرآنية.. فأخذوا يضمنون تفاسيرهم شيئاً منها، وما وصلهم من حقائق علمية.
وجاء في تفسير الشيخ محمد الطاهر بن عاشور من المغرب العربي ما يؤكد هذا التوجه، وهذا الاهتمام؛ فقد ذكر في تفسيره لقوله تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل/ 88).
يقول ابن عاشور: “وليس في كلام المفسرين شفاء لبيان اختصاص هذه الآية بأنّ الرائي يحسب الجبال جامدة، ولا بيان وجه تشبيه سيرها بالسحاب، ولا توجيه التذييل لقوله تعالى: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)، ولذلك كان لهذه الآية وضع دقيق، ومعنىً بالتأمل خليق، ولكن هذا استدعاء لأهل العلم والحكمة لتتوجه أنظارهم إلى ما في هذا الكون من دقائق الحكمة، وبديع الصنعة، وهذا من العلم الذي أودع في القرآن الكريم ليكون معجزة من الجانب العلمي يدركها أهل العلم، كما كان معجزة للبلغاء في جانبه النظمي، والخطاب للنبيّ (ص)، تعليماً له لمعنىً يدرك كنهه، وادخاراً لعلماء أمته الذين يأتون في وقت ظهور هذه الحقيقة الدقيقة؛ فالنبيّ (ص) أطلعه الله تعالى على هذا السر العجيب في نظام الأرض، كما أطلع سيدنا إبراهيم (ع) على كيفية إحياء الموتى، “حتى إذا كشف العلم عنه من نقابه.. وجد أهل القرآن الكريم ذلك حقاً في كتابه، فاستلوا سيف الحجة به، وكان في قرابه”.
وإذاً فإنّ هذا هو عصر العلوم الكونية والطبية، وذهاب الإنسان إلى نقاط بعيدة في هذا الكون بحثاً عن الجديد فيه، وفي خلق الإنسان وتكوينه، إذاً فإنّ الأمر كذلك؛ فإنّ عصر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم هو هذا العصر، وعلى أهل العلم أن يشمروا عن ساعد الجد والعمل، وكما عبر ابن عاشور في تفسيره، أنّ أهل العلم سيستلون سيف الحجج الذي كان في قرابه، وحان أن يخرج ويصدق قول الحقِّ جلّ وعلا: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (النمل/ 93)، وقوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصِّلت/ 53).
إنّ إظهار المعجزة القرآنية العلمية في هذا العصر هو نوع من أنواع الجهاد؛ لقوله عزّ وجلّ: (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (الفرقان/ 52)، وهذه السورة مكية – قبل الأمر بالجهاد، الذي فرض في المدينة المنورة –، فالمفهوم منها والله أعلم: إظهار الإعجاز القرآني وتحدي الكافرين به، ومنه (الإعجاز العلمي) الذي هو من أوجه إعجاز القرآن المتعددة، ومما يعضد هذا الاستنباط: أنّ الآيات التي سبقت هذه الآية: (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)، والآيات التي بعدها.. كلها من الآيات الكونية والعلمية؛ ابتداء من قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) (الفرقان/ 45)… وانتهاء بقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) (الفرقان/ 54).
وكما يقول المفسرون: إنّ معنى وتفسير الآية متعلق بسياق الآيات التي جاءت معها.
إذاً: فإنّ الخطاب العلمي القرآني هو نوع من أنواع الجهاد العلمي، وإقامة الحجة على الكافرين، وتثبيتاً للمسلمين، قال تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل/ 102).
المصدر: كتاب العلوم المعاصرة في خدمة الداعية الإسلامية