لندن- “القدس العربي”:
نشرت صحيفة “أوبزيرفر” تقريرا لمراسلتها في كابول إيما غراهام- هاريسون، تحدثت فيه عن القاعدة السرية للمخابرات الأمريكية “سي آي إيه” في كابول والتي أحرقها وتركها الأمريكيون على عجل.
وكانت غراهام- هاريسون ضمن وفد صحافي وجه له قائد من طالبان الدعوة للدخول ومعاينة القاعدة المدمرة. وقالت: “صفوف من السيارات والحافلات الصغيرة والعربات المصفحة المحروقة والتي لا يمكن التعرف عليها، وتحتها بقايا من الرماد الأسود، وبرك من المعدن المنصهر الذي تجمد وتحول إلى برك لامعة بعدما خفتت الحرارة”. وأضافت أن “القرية الأفغانية المزيفة حيث تم تدريب الميليشيات المسلحة مرتبطة بأسوأ انتهاكات حقوق إنسان في الحرب وجلبت الدمار على نفسها بنفسها، ولم يتبق منها سوى جدار اسمنتي لا يزال يلوح فوق ركام من العوارض والطين التي استخدمت للتدريب على المداهمات الليلية الكريهة ضد المدنيين”.
وتقول الكاتبة إن مخزن الذخيرة الضخم تم تفجيره، والأسلحة التي استخدمت لقتل وتشويه البشر من الأسلحة إلى القنابل اليدوية ومدافع الهاون والمدافع الثقلية كانت مرمية في ثلاثة صفوف من حاويات الشحن البحري وتحولت إلى شظايا من المعدن المتلوي. وهزّ التفجير الضخم للقاعدة الذي جاء بعد الهجوم الدموي على كابول وأرعب العاصمة.
وتضيف بعد هذا الوصف، إن هذه القرية والأسلحة والعربات التي تُركت حطاما، كانت تشكل جزءا من مجمع سري مظلم، ظل لعشرين عاما جزءا مهما في “الحرب على الإرهاب” التي شنتها الولايات المتحدة، وهو المكان الذي ارتكبت فيه أسوأ الانتهاكات التي ستشوه المهمة الأمريكية في أفغانستان.
وغطى المجمع الذي أقيم على تلة، مساحةَ ميلين مربعين في شمال- غرب مطار كابول الدولي، وأصبح ذا سمعة سيئة في النزاع؛ بسبب التعذيب والقتل في السجن المعروف بـ”حفرة الملح” وأطلقت “سي آي إيه” عليه تسمية “كوبالت”. أما الرجال الذين سُجنوا فيه، فقد أطلقوا عليه اسم “السجن المظلم” لأن النور لم يكن يتسرب إلى زنازينهم، والضوء الوحيد والمتفرق كان يأتي من الأضواء التي يحملها الحرس في أيديهم.
وفي هذا المكان، توفي غول رحمن متجمدا عام 2002، بعدما قُيّد وترك نصف عار في ليلة باردة جدا. وأدت وفاته إلى إصدار أول إرشادات من “سي آي إيه” تتعلق بالتحقيق في ظل النظام الجديد للتعذيب، والذي ثبت في تقرير عام 2014 أنه لم يفض إلى معلومات استخباراتية. وظلت القاعدة سرا لا يعرفه إلا القليل، وتكتمت عليه المخابرات. ويظهر في الصور التي التقطها الأقمار الاصطناعية، وقدّم الناجون صورة عنه.
واليوم، انتقلت القوات الخاصة التابعة لطالبان إلى الموقع وفتحته أمام الصحافيين. وقال مولا حسانين، القائد في وحدة النخبة “بدري 313” والذي قاد رحلة التجول التي نظمت في القاعدة المدمرة والمحروقة: “نريد إظهار كيف دمروا كل هذه الأشياء التي كانت ستفيدنا في بناء بلدنا”. وتركوا “الحفر المحروقة” من السيارات المدمرة والحلافات والعربات العسكرية.
وتقول الصحافية، إن القوات الخاصة لطالبان تضم فرقة الانتحاريين التي استعرضت قوتها في كابول بعد السيطرة على العاصمة. وتزين العربات اليوم باسمها “سرب الانتحاريين” ورافقوا الصحافيين إلى قاعدة “سي آي إيه” السابقة. وكان هذا تذكيرا قاتما يدعو للمفارقة أن تتسلم القاعدة السابقة فرقة مرتبطة بمعاناة المدنيين مثل الميليشيات التي تدربت في المجمع المحروق، كل هذا من أجل تحقيق أهداف عليا.
وقال مسؤول في حركة طالبان عن سرب الانتحاريين: “كانوا من طالبي الشهادة الذين نفذوا عمليات على مناطق مهمة للغزاة والنظام، وهم يسيطرون الآن على موقع مهم”. وسئل المسؤول عن سبب مرافقة السرب للصحافيين، وإن كان عملهم قد انتهى الآن بعد سيطرة طالبان على البلاد؟ فأجاب “إنها كتيبة كبيرة، وهي مسؤولة عن الأمن في مواقع مهمة. وسيتم توسيعها وتنظيمها أكثر، وكلما استدعت الحاجة إليهم فهم جاهزون للتضحية من أجل بلدنا والدفاع عن شعبنا”.
وقال ملا حسانين، إن طالبان تخطط لاستخدام القاعدة للتدريب العسكري، وقد تكون هذه الزيارة المرتبة الأولى والأخيرة للصحافيين. وغيّر الحرس الذين كلفوا بحراسة المكان زيّهم إلى الزي المموه بخط النمر، وهو الزي السابق لعناصر المخابرات الأفغانية السابقة والتي كانت مكلفة بملاحقتهم.
واتُهمت الميليشيات التي عملت من المجمع وكانت تسكن في ثكنات لا تبعد كثيرا عن سجن حفرة الملح، بارتكاب جرائم قتل خارج القانون للأطفال والمدنيين. وهرب من كانوا فيها على عجل، لدرجة أن بعضهم لم يكمل طعامه، وتناثرت أرضيتها بالأشياء الخاصة بسبب إفراغ الخزائن في حالة من الفزع الظاهر. ودمروا كل شيء يحمل أسماءهم أو رتبهم العسكرية، ولكنهم تركوا شارات تحمل رقم 01 ودفاتر عليها ملاحظات مكتوبة عن أسابيع من التدريب. وتم تدمير سجن حفرة الملح قبل شهر من الانسحاب الأمريكي.
ووجد تحقيق لصحيفة “نيويورك تايمز” قام على صور التقطتها الأقمار الإصطناعية، أن عددا من المباني في داخل المجمع دمرت في الربيع. وقال مسؤولون في طالبان إنهم لم يعثروا على تفاصيل عن سجن حفرة الملح ولا ما حدث للسجناء السابقين فيه. وتقول عائلة رحمن إنها لا تزال تبحث عن جثته التي لم تستلمها أبدا.
ومن الأساليب التي استخدمها المحققون ضد المعتقلين، أسلوب “الحقن من الفتحة الشرجية”، وتقييد السجناء في أعمدة فوق رؤوسهم ومنعهم من الذهاب للحمامات، وتركهم عراة أو بحفاضات للكبار. وتركت معدات البناء في مكانها وألواح اسمنتية نصف مسكوبة. وفي الباب المجاور، هناك مبنى محصن بأبواب مزودة بتكنولوجيا عالية تم تدميره بقنابل حرارية وتحول الديكور الداخلي فيه إلى رماد وكذا السيارات خارجه.
وكانت عملية تدمير المعدات الحساسة معقدة، وهناك أدلة على وجود حفر للحرق متفرقة في المجمع، حيث تم رمي كل شيء فيها من المعدات الطبية وكتب الإرشادات ومعدات كبيرة. ولم يكن المسؤولون في طالبان راغبين بالسماح للصحافيين بمشاهدة المناطق التي لم يتم التأكد منها بعد. ووجدوا عددا من المفخخات بين الأنقاض ويخشون وجود المزيد منها.
وقامت المروحيات العسكرية وعلى مدى عدة أيام بنقل عناصر فرقة 01 إلى المطار لحمايته وتأمينه في الأيام الأخيرة من الوجود الأمريكي في أفغانستان وبوعد إجلائهم في الساعات الأخيرة، وذلك بناء على اتفاقية وُقّعت مع الأمريكيين. وترك الأمريكيون لطالبان قاعة ترفيه فيها طاولة تنس وسنوكر وطاولة كرة ولعب ألغاز علاها الغبار. ولا يعرف ماذا ستفعل طالبان بهذه الأدوات التي كانت وسائل لتمضية الوقت.