الخليج الجديد :
مع انحسار أزمة الخليج التي بدأت عام 2017، بدا أن هناك ديناميكيات جديدة تؤثر في العلاقات بين أعضاء مجلس التعاون الخليجي.
وتدرك قطر أكثر من أي وقت مضى حساسية موقف جيرانها (السعودية والإمارات والبحرين) من زيادة نشاطها الإقليمي والدولي. وفي نفس الوقت، يغير اثنان من جيرانها الثلاثة، وشقيقتها البعيدة مصر، تدريجيا نهجهم تجاه الدولة الخليجية الصغيرة، بعد أن فرضوا حصارا جويا وبريا وبحريا استمر لمدة 4 أعوام.
وتعد التغيرات في العلاقات الخليجية نتيجة للتحولات المهمة في البيئات الإقليمية والدولية. وفي الفترة الماضية، برزت قطر كمحاور بين الولايات المتحدة وإيران وكميسر للعلاقات بين واشنطن مع حركة طالبان الأفغانية.
في غضون ذلك، تحاول السعودية استغلال فرصة الانفتاح في العراق للدخول في حوار مع إيران حول الاهتمامات المشتركة، فيما تراهن الإمارات على خطوتين استراتيجيتين متزامنتين لزيادة نفوذها وتأثيرها في المنطقة الأوسع، وهما وقف التصعيد مع الجيران وتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
ومع الانتخابات الإيرانية الأخيرة، سيطر المتشددون على كل فروع السلطة في طهران؛ فيما تواصل شبكة وكلائها لعب أدوار محورية في جميع أنحاء المنطقة.
وإجمالا، يبدو أن منطقة الخليج تتحرك باتجاه إعادة هيكلة البنية الاستراتيجية اعتمادا على قدرة الجهات الفاعلة الإقليمية على إعادة صياغة قدراتها ومصالحها بنجاح؛ دون دور نشط ومباشر للولايات المتحدة.
- قطر.. العودة إلى النشاط
ويمكن القول إن أزمة الخليج في عام 2017 كانت أخطر تهديد لأمن قطر واستقرارها منذ استقلالها في عام 1971. وكان رفع الحصار في قمة العلا، في يناير/كانون الثاني 2021، تطورا مرحبا به في العلاقات الثنائية بين قطر ودول الحصار، بالرغم أن البحرين لا تزال مترددة في نسيان ما مضى.
وتسعى قطر حاليا إلى إعادة ترتيب العلاقات مع السعودية والإمارات، بالتزامن مع تزايد أهمية المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران حول الملف النووي، وكذلك تزايد أهمية وضع خطة عمل جديدة لمحددات العلاقة بين الولايات المتحدة وطالبان.
وأعادت السعودية علاقاتها مع قطر كما كانت قبل الأزمة، حيث عينت الأمير “منصور بن خالد بن فرحان” سفيرا جديدا لها في الدوحة في يونيو/حزيران. وردت الدوحة على ذلك بتعيين “بندر محمد العطية”، الذي كان مبعوثا سابقا إلى الكويت، سفيرا لها في الرياض. واستقبل أمير قطر الشيخ “تميم بن حمد آل ثاني” مؤخرا وزير الداخلية السعودي الأمير “عبدالعزيز بن سعود بن نايف”.
لكن ربما كانت أهم خطوة في اتجاه مصالحة حقيقية وإعادة هيكلة للعلاقات هي إنشاء مجلس التنسيق السعودي القطري برئاسة الشيخ “تميم” وولي العهد السعودي “محمد بن سلمان”. وسيكون المجلس تجسيدا لعلاقة مؤسسية بين البلدين يمكن أن تضع العلاقات الثنائية على أساس أقوى.
وفي حين كانت الإمارات بطيئة في المصالحة مع قطر بعد قمة العلا، تتجه أبوظبي الآن نحو تطبيع علاقاتها مع الدوحة. وقد يكون ذلك بسبب الخلافات بين الإمارات والسعودية حول القضايا الثنائية المهمة، لكن ذلك يدل في حد ذاته على أن القادة الإماراتيين قرروا الالتزام بتوجيهات قمة مجلس التعاون الخليجي.
ومن المحتمل أن تستفيد أبوظبي من الدور النشط الذي تلعبه الدوحة في المنطقة وخارجها. وهكذا جاءت زيارة مستشار الأمن القومي الإماراتي الشيخ “طحنون بن زايد آل نهيان” إلى الدوحة، حيث التقى الشيخ “تميم”، لتمثل نهجا جديدا بدلا من الإحجام عن تطبيع العلاقات مع قطر. ومن الجدير بالذكر أن هذه الزيارة قد سبقتها زيارة أخرى قام بها “طحنون” إلى تركيا، صديقة قطر المقربة وشريكها في المنطقة.
ويرافق استعادة قطر لمكانتها داخل مجلس التعاون الخليجي أجندة مزدحمة فيما يتعلق بإيران والولايات المتحدة، فضلا عن إدارة الانفتاح الحالي لأفغانستان على المجتمع الدولي في ظل حكم طالبان. ويذكر أن وزير الخارجية القطري “محمد بن عبدالرحمن آل ثاني” زار طهران بعد يومين فقط من مغادرة كل من وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكين” ووزير الدفاع “لويد أوستن” الدوحة في 7 سبتمبر/أيلول.
وفي حين كان “بلينكين” و”أوستن” أكثر قلقا بشأن القضايا المتعلقة بأفغانستان في أعقاب الانسحاب الفوضوي للولايات المتحدة، قد يُنظر بالتأكيد إلى رحلة “آل ثاني” القصيرة إلى طهران في سياق إيصال رسالة إلى قادة إيران فيما يتعلق بمفاوضات فيينا (المتوقفة الآن) بشأن خطة العمل الشاملة المشتركة.
لكن دور قطر منذ منتصف أغسطس/آب ركز على أفغانستان خلال الأيام الأخيرة للوجود الأمريكي هناك وبعد الانسحاب الأمريكي. وفي هذا الصدد، حصلت الإمارة الصغيرة على الإشادة باعتبارها “بلدا يفوق وزنه على المسرح العالمي”.
ومن المؤكد أن سلوك طالبان وسياساتها فيما يتعلق بالمرأة وتعليمها والديمقراطية والأعراف الاجتماعية العامة، يمكن أن تكون ضارة جدا بدور قطر كميسر للعلاقات المستقبلية للحركة مع العالم. ومع ذلك، فإن مجرد قدرة الدوحة على تنظيم خروج مواطني الولايات المتحدة وأصدقائها من أفغانستان ستكون كافية لتبديد أي شكوك عالقة حول قدرة قطر على أن تكون رصيدا جيدا للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
- الحسابات السعودية والإماراتية
ويتجاوز احتضان السعودية الواضح لقطر مجرد تنفيذ قرارات العلا بشأن وحدة مجلس التعاون الخليجي، حيث تأتي كجزء من سياسة الرياض الجديدة لخفض التصعيد الإقليمي. لكن من الصعب استبعاد الحالة الراهنة للعلاقات الفاترة بين العاصمتين السعودية والإماراتية، والتي تشكل جزءا من حسابات الرياض فيما يتعلق بالدوحة.
ولا تزال السعودية تتألم من قرار الإمارات سحب قواتها من اليمن في عام 2019، حيث ساعدت قبل هذا الانسحاب في دعم المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يتحدى سلطة الرئيس المعترف به دوليا “عبد ربه منصور هادي”، الذي يمارس حكمه عن بعد من الرياض.
وقامت المملكة بتغيير لوائحها الخاصة بالواردات من دول مجلس التعاون الخليجي؛ ما أثر سلبا على الشركات العاملة في الإمارات. وظهرت الخلافات بين الجانبين خلال اجتماعات “أوبك +” في يوليو/تموز 2021 حول حصص الإنتاج.
وفي الآونة الأخيرة، صدرت أوامر للقنوات التلفزيونية السعودية العاملة في دبي بنقل عملياتها إلى الرياض في غضون 6 أشهر، كجزء من حملة يتبناها “بن سلمان” لتحويل العاصمة السعودية إلى مركز تجاري رئيسي ينافس الإمارات.
وخارج مجلس التعاون الخليجي، يبدو أن السعودية تريد اختبار مزيد من الانفتاح تجاه العراق وإيران. وكانت القمة الإقليمية الأخيرة التي نظمها رئيس الوزراء العراقي “مصطفى الكاظمي” فرصة للرياض لإبداء استعدادها لتغيير الأوضاع الماضية.
وبالرغم من صعوبة التقارب السعودي الإيراني، فإن الاجتماعات المباشرة في بغداد، في وقت سابق من هذا العام، مع دور “الكاظمي” كوسيط، قد تؤدي على الأقل إلى تخفيف التوترات عبر مياه الخليج.
وفي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 سبتمبر/أيلول، رحب الملك “سلمان بن عبدالعزيز” بالمحادثات مع إيران، ولكن بشرط “الاحترام المتبادل للسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية”. ومن أبرز القضايا المطروحة على الطاولة وضع حل للحرب في اليمن. كما تشمل المخاوف الأخرى دور الميليشيات التابعة لإيران في العراق وسوريا ولبنان.
وتزايدت أهمية المحادثات السعودية الإيرانية مؤخرا مع انسحاب إدارة “بايدن” من أفغانستان ورغبتها الظاهرة في تقليل مشاركتها في منطقة الخليج. وسحبت الإدارة الأمريكية مؤخرا بطاريات صواريخ باتريوت الدفاعية من المملكة، في إشارة إلى أنها لم تعد تريد أن يُنظر إليها على أنها ضامن للأمن في الخليج.
أما الإمارات فلا شك أنها قررت السير في طريقها. ويظل مجلس التعاون الخليجي إطارا مؤسسيا للعمل والتوافق الإقليمي، لكنه لا يفرض أي قيود على قرارات السياسة الخارجية لأبوظبي التي تركز حاليا على الاقتصاد بدلا من القضايا السياسية، مما يستلزم مزيدا من البراجماتية.
وقد جاءت زيارة “طحنون” المذكورة أعلاه إلى الدوحة في إطار تعزيز العلاقات الاقتصادية مع قطر، بالرغم أن لها تداعيات سياسية كبيرة. وقد يشير مجيء “طحنون” وليس ولي عهد أبوظبي “محمد بن زايد” إلى أنه قد لا يكون وراء التغيير في السياسة الخارجية لبلاده.
علاوة على ذلك، فإن قرار الإمارات باحتضان وتعزيز التطبيع مع إسرائيل يشير إلى أنها لم تعد تريد الالتزام بالسياسات التقليدية لمجلس التعاون الخليجي أو الجامعة العربية فيما يتعلق بقضية فلسطين. ويؤثر هذا بلا شك أيضا على علاقات الإمارات مع السعودية، التي لا ترى حتى الآن أنه من المناسب الانضمام إلى أبوظبي في قبول العلاقات مع إسرائيل.
- إيران والبراجماتية المتشددة
وإذا كان الجانب العربي من الخليج منفتحا على تعزيز العلاقات مع إيران، فإن طهران أيضا لديها نفس الرغبة، ويرجع ذلك إلى سببين. أولا، لا يستطيع الرئيس الإيراني الجديد “إبراهيم رئيسي” الوفاء بوعوده بمعالجة الظروف الاقتصادية الصعبة في البلاد دون وجود قنوات تساعده على تجنب التأثير الضار للعقوبات الأمريكية.
وكما قال “دانيال برومبرج” مؤخرا، فإن “رئيسي” وفريقه من المتشددين حريصون في الواقع على جعل علاقات إيران مع جيرانها العرب أولوية من أجل التخفيف من تأثير العقوبات. وكما هو الحال اليوم، تستفيد إيران بالفعل من العلاقات المثمرة مع العراق وقطر وعمان والكويت والإمارات.
ثانيا، بينما بدأت إيران بالفعل عملية حوار مع حركة طالبان، فإن طهران تسعى للاحتفاظ بـ”بوليصة تأمين” ضد المخالفات المحتملة للحركة في المستقبل، لذلك تتمسك إيران بعلاقة خاصة مع قطر بسبب الدور المحوري لها في التطورات الحالية المتعلقة بأفغانستان. وترى طهران أن دول الخليج الأخرى قد تستعيد علاقاتها القديمة مع الحركة خلال التسعينيات.
- هل تتشكل هيكلة استراتيجية خليجية جديدة؟
بالرغم من المخاوف والاتهامات المتبادلة والحصار والمؤامرات على جانبي الخليج العربي، تشير الظروف الجديدة إلى ملامح بنية استراتيجية جديدة تتشكل في المنطقة. فقد وجدت دول المنطقة نفسها في ظروف مختلفة تماما لكنها تدرك أنه مازال لديها القدرة على رسم مسار جديد لأنفسها يمكن أن يؤدي إلى بيئة أقل توترا.
ومع ذلك، يجب على كل دولة في المنطقة أن تبدأ بمجموعة من إجراءات حسن النية لمعالجة مخاوف الآخرين. والأهم من ذلك، يجب أن تكون إيران مستعدة لتهدئة المخاوف بشأن نفوذها الإقليمي من خلال الميليشيات المسلحة في العراق وسوريا ولبنان.
ومن الأفضل لدول الخليج العربية أن تذكر نفسها بأن إملاءات الجغرافيا لا يمكن تجنبها وأن عليها أن تخاطب إيران بشكل عملي كجار يمكن أن تلتقي به وتجد معه بعض المصالح المشتركة.
وفي النهاية، لا تستطيع الجهات الخارجية (الولايات المتحدة والدول الأوروبية وروسيا والصين وغيرها) معرفة بالضبط ما هي المصلحة المشتركة لدول المنطقة. ويجب أن يمتلك القادة المحليون فقط الشجاعة لتحديد هذه المصالح والسعي لتعزيزها.