راي اليوم :
هزيمة حزب “العدالة والتنمية” النّسخة المغربيّة من حركة “الإخوان المسلمين” في الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة، وخسارته أكثر من 90 بالمِئة من مقاعده كانت صدمة قاسية للإسلام السّياسي، خاصَّةً أنّ هذه الهزيمة الكُبرى تزامنت مع خُروج حزب النهضة التونسي من الحُكم، وحُصول خصمه الرئيس قيس سعيّد على تأييدٍ شعبيٍّ واسع لخطواته بتجميد البرلمان، والعمل بالدّستور، وحلّ الحُكومة، وإعلان حالة طوارئ في البِلاد، والفشل في تغيير النّظام في سورية، وتراجع فرعه في ليبيا، وشِبه اختِفائه في العِراق، والقضاء على دولته في مِصر.
اللّافت أنّ كثيرين خارج تنظيمات الإسلام السّياسي انكبّوا على تحليل أسباب هذا التّراجع من القمّة إلى القاع (تقريبًا) في أقلّ من عشر سنوات، البعض ردّها إلى فشل الأداء الاقتِصادي، والبعض الآخر لانقِساماتٍ داخليّة، ومُؤامراتٍ خارجيّة، ولكن لم نسمع أيّ صوت لقِيادات هذه الحركة السياسيّة يعترف بالفشل، والأخطاء التي جرى ارتكابها، وحتميّة إجراء مُراجعات جذريّة، إلا فيما ندَر، ولعلّ رسالة الأستاذ يوسف ندى أحد أبرز قيادات حركة الإخوان المسلمين المُخضرمة والتاريخيّة، التي حملت عُنوان “مِصر إلى أين؟” وعرض فيها الانخِراط في حِوارٍ غير مشروط مع ما سمّاه “النظام الرئاسي المِصري” لتجنّب ذكر اسم الرئيس عبد الفتاح السيسي بالاسم، وهذا خطأ آخر، هو أحد الاستِثناءات في هذا الإطار.
***
السّبب الرّئيسي لتَراجُع “الإسلام السّياسي” الذي يتجنّب الكثيرون التطرّق إليه تَعَمُّدًا، هو نجاح قِوى إقليميّة ودوليّة في توظيفه لخدمة أجنداتها، والولايات المتحدة وحُلفاؤها في المنطقة العربيّة على وجه الخُصوص، في سورية والعِراق وليبيا ومِصر، وهُناك آلاف الوثائق التي تُؤكّد هذه الحقيقة، علاوةً على الوقائع المَنظورة على الأرض، ولعلّ تخلّي هذه القِوى عن الإسلام السّياسي ومُنظّماته، وانخِراطها في حواراتٍ مع الأعداء الرئيسيين له في مِصر والمملكة العربيّة السعوديّة والإمارات، وسورية (بشَكلٍ سرّيّ) ما يُؤكّد ما ذكرناه آنفًا، ونحن نتحدّث هُنا صراحةً عن كُل من قطر (عربيًّا)، وتركيا (إسلاميًّا)، والولايات المتحدة (دوليًّا).
لا يُمكِن أن أنسى لقائي عندما كنت في بداياتي الصحافيّة مع الشيخ عمر التلمساني، المُرشد العام لحركة “الإخوان المسلمين” في مِصر، في لندن عام 1978 وبتَرتيبٍ من المرحوم الدكتور زكي بدوي، رئيس المركز الإسلامي في حينها، وبعد توقيع اتّفاقات كامب ديفيد بأيّامٍ معدودة، حيث حاولت في هذا اللّقاء أن أنتزع كلمة إدانة واحدة من الشيخ التلمساني لهذه الاتّفاقات بكُلّ الطّرق والوسائل، ولكن دُون جدوى، وأدرك رحمه الله ما أُريد، وكان في قمّة الخُلُق والأدب، وقال لي “أغلق يا ابني آلة التّسجيل من فضلك”، وبعد أن أغلقتها، التفت إليٍ وقال “لن أُدين كامب ديفيد وأنا أتواجد خارج مِصر، مُضافًا إلى ذلك نحن حركة دعويّة إسلاميّة يجب أن نُحافظ على بقائنا في بُلداننا لنشر الدّعوة وتوعية المُجتمع، والبُعد عن أيّ نشاط سياسي يُؤدّي إلى صِدامنا مع الدّولة، لأنّها أقوى مِنّا ويُمكِن أن تُجهِز علينا، وهذا ما لا نُريده في الوقت الرّاهن”، وهُناك نُقاط أُخرى قد أتناولها بإسهابٍ لاحقًا.
الشيخ التلمساني عاد إلى القاهرة وأدان اتّفاقات كامب ديفيد كداعية إسلامي، وكان من أبرز ضحايا حملة الاعتِقالات التي شنّها الرئيس أنور السادات في حينها ضدّ جميع مُعارضي هذه الاتّفاقات وشملت قِطاعات سياسيّة وثقافيّة عديدة في مِصر من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وأتمنّى أن يطّلع قادة حزب العدالة والتنمية المغربي على هذه الفقرة من المقال.
حركتان تُمثّلان الإسلام السّياسي قدّمتا صُورةً مُختلفةً، وما زالتا تقفان على أرضيّةٍ صُلبة، وتزدادان قُوّةً، الأولى حركة طالبان الأفغانيّة الأقرب إلى الفكر الوهّابي، والثّانية حركة “حماس” التي انبثقت من رحم حركة “الإخوان المسلمين”، والقاسم المُشترك بينهما هو رفع راية الإسلام الجِهادي، والوقوف في الخندق المُقابل للمُؤامرات الأمريكيّة الإسرائيليّة، والتّرفّع (بقدر الإمكان) عن تقسيمات الفتنة الطائفيّة، والحِفاظ على الحد الأدنى من الاستقلاليّة حتّى الآن على الأقل، والانفِتاح على الآخَر، الأولى، أيّ طالبان، انتصرت وحرّرت بلادها وهزمت الاحتِلال الأمريكي وأذلّته، والثّانية في الطّريق بإذن الله.
سيحتاج “الإسلام السّياسي المُعتَدل” عُقودًا طويلةً لاستِعادة قُوّته، ولكنّ “الإسلام الجِهادي” الذي تراجع بعد الاحتِلال الأمريكي لأفغانستان، والتّوظيف الأمريكي المُعاكِس لمُنافسه الأوّل قد يستعيد قُوّته انطِلاقًا من أفغانستان، والأمر يتوقّف على كيفيّة تعاطي القِوى الكُبرى والإقليميّة مع إمارة طالبان الإسلاميّة القادمة، ونجزم بأنّ تجميد أمريكا لحواليّ 10 مِليارات دولار للأموال الأفغانيّة، واستِخدام “الاعتِراف” كورقة ضغط، والحملات الإعلاميّة، قد تُعطِي نتائج عكسيّة، وتدفع بطالبان لاحتِضان “الإسلام الجِهادي” ومُنظّماته، وخاصَّةً “القاعدة” والنّسخة الجديدة من “الدولة الإسلاميّة”، وربّما مُنظّمات وحركات جديدة أكثر تَطَرُّفًا وتَشَدُّدًا.
وجود الملا سراج الدين حقاني كوزير داخليّة، والملا محمد عبّاس نجل الملا عمر كوزير دفاع، وخمسة من مُعتقلي غوانتانامو في الحُكومة الأفغانيّة الجديدة، كُلّها مُؤشّرات قد تُؤشِّر على عدم استِبعاد عودة طالبان للإسلام الجِهادي بقُوّةٍ، وربّما بدَعمٍ وتحالفٍ من إيران والصين، وبدَرجةٍ أقل روسيا، علاوةً على باكستان، الأمْر الذي سيُشَكِّل كابوسًا لأمريكا والغرب.
***
ليس صُدفة أن يتراجع الإسلام السّياسي (المُعتَدل) مع تَراجُع الولايات المتحدة، وتَناسُخ هزائمها في منطقة الشّرق الأوسط، وتَزايُد المُؤشِّرات على بداية صُعود الإسلام الجِهادي “الحقيقي” في فِلسطين المُحتلّة، وأفغانستان، وهذا التّبادل في الصُّعود والهُبوط له جُذورٌ عميقةٌ في التّاريخ الإسلامي على أيّ حال، ولسنا من المُختَصّين للخوض فيه فِكريًّا.
العالم كُلّه يقف الآن على أبواب عمليّة تغيير شاملة، حيث تقف امبراطوريّة عُظمى على حافّة الانهِيار، (أمريكا)، وتبدأ امبراطوريّة أُخرى مرحلة الصُّعود (الصين)، أين يقف العرب والمُسلمين في ظِل هذا المشهد وفُصوله ومُتغيّراته؟
نَترُك الإجابة للسّنوات القليلة القادمة وما تحمله من تطوّراتٍ مُفاجئة.. واللُه أعلم.
“راي اليوم”