صالح عوض
بعد الاصطدام بالمشروع الاستعماري هبت في الأمة مشرقا ومغربا عربا وغير عرب رياح المقاومة والتصدي ليس فقط على الصعيد العسكري بل والثقافي والسياسي..وفي المعركة برزت مدارس الفعل الاسلامي من بيئات مختلفة وقدمت عطاءات متنوعة وكان للشروط الذاتية والموضوعية لانبعاثها دور اساسي في وجهتها وتوجهها.. وهي بوعي منها او بلا وعي وبتخطيط او بعفوية قد تأثرت ببعضها سلبا وايجابا.. ولقد تميزت مدارس التيار الاسلامي مع انهيارات الخلافة العثمانية.. ومن اهم الملاحظات ان التيار الاسلامي في مراكز الفعل الاسلامي الاساسية القاهرة واسطمبول وطهران واسلام اباد والجزيرة العربية كان هو عنوان الفعل الثقافي والاجتماعي الاكثر بروزا وهذا يفسر بشكل او اخر عميق ما استقر في وجدان الامة من عشقها لاسلامها وانحيازها لهويتها وتاريخها.. فكان التيار الاسلامي اصيلا في حضوره وفعاليته بعكس التيارات الوافدة مع الاستعمار او في توابعه من المدارس العلمانية التي حاولت
اسقاط التجارب الفكرية والاجتماعية في الغرب على بلادنا.
مدارس التيار الاسلامي:
في المنطقة العربية كانت مدرسة الاخوان المسلمين ومشتقاتها والتي انطلقت من مصر في نهاية عشرينات القرن المنصرم بقيادة الامام حسن البنا وانتشرت فيما بعد لتشمل البلاد العربية جميعا ولتصبح التيار السياسي الثقافي الاكثر توسعا وتمكنت من التوغل في الجامعات والنقابات واصبح الحضور الاسلامي طافحا وبلا منافس.. وفي تركيا بعد ان اجهز كمال اتاتورك على نظام الخلافة والسلطنة وتمكن مع حزب الاتحاد والترقي من فرض جملة قوانين تنزع الصبغة الاسلامية عن نظام الحكم وقوانين البلاد الا ان المقاومة الشعبية لهذا التوجه العلماني المتوحش جاء من عالم دين مشهور بديع الزمان النورسي الذي تصدى لعلمانية الاتحاد والترقي من خلال عمل دءوب في اوساط الناس وبمواقف جريئة ضد العلمنة الامر الضي عرضه للنفي والاعتقال ومن 1925 الى 1962 كان النورسي يتحرك بدأب هو وجماعته النورسيين من خلال بث الثقافة والمواقف التي استطاعت في النهاية ايجاد تيار واسع بين النخب الثقافية وعموم الشعب وتولد عن هذا حركة نجم الدين اربكان الذي افاد من تواصله بالحركة الاسلامية العربية لتبدأ رحلة جديدة للاسلاميين الاتراك..
وفي باكستان كانت مدرسة ابوالاعلى المودودي المفكر والعالم المشهود له حيث انطلق بالجماعة الاسلامية في اربعينات القرن الماضي باسلام شمولي متأثرا بالفكرة الاخوانية يضم اليها الكوادر العلمية بحيث اصبحت الجمعية ذات وزن حقيقي في الخريطة السياسية في البلاد وحارب المودودي الارث الاستعماري في الثقافة كما في الاقتصاد وتعرض للاعتقال وللحكم بالاعدام الا انه لم ينفذ به بعد ان كانت الحراكات الشعبية قد اوصلت رسالة واضحة بعدم السماح للاعدام ان يمر.. وفي ايران انطلق مجموعة من العلماء الكبار في اربعينات القرن الماضي لاعادة الاعتبار لدور الاسلام في توحيد الامة وطرد اعدائها والتصدي لقضاياها..
فبرزت اسماء كبيرة كاية الله الكاشاني واية الله القمي واية الله البروجردي ثم الامام الخميني الذي افاد من هؤلاء جميعا ومن الافكار الحركية الاسلامية التي انتشرت بفعل حيوية الاخوات المسلمين حيث اصبحت طهران والحوازت العلمية متعطشة لكتابات الاخوان المسلمين لاسيما كتب سيد قطب.. اما في الهند فكان العلامة ابو الحسن الندوي وجمعية العلماء والنهضة هناك في لكنهوء انطلاقة كبيرة لاستئناف جهود سابقة لعلماء كبار اسسوا لمدارس وجامعات تقيم العلم بمنهجية تزداد قوة يوما بعد يوم.. اما السلفية فهي ليست مدرسة بالمعنى المحكم انما هو توجه مشتت وهي بحد ذاتها فرق عديدة وان كان على رأس تجديدها الشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا في مصر والشيخ الثعالبي في تونس والشيخ ابن باديس وجمعية العلماء بالجزائر.. ومنها الوهابية التي انشغلت بمحاربة البدع والتصدي لمظاهر الشرك كالقبور والمزارات وقد استطاعت في المملكة السعودية ان يكون الامر الديني لها مع التسليم بالدور الاداري لسواها..
وتناثرت الجماعات السلفية وكانت عرضة دوما للاختراق من قبل النظام او الخارج وتورطت فروع منها في حروب دامية كما حصل في اكثر من مكان بعناوين عديدة مثل داعش والقاعدة والنصرة..وعند ذكر طالبان فهي حركة تمتد لمدارس شرعية انبعثت فكرتها من الهند حسب الطريقة الديوبندية نسبة للعالم ولي الله الديوبندي الهندي الذي اسس منهجا لتعليم علوم الشريعة يقوم على ضبط الاسناد في التلقي الشفهي من شيخ عن شيخ عن شيخ وصولا للرسول صلى الله عليه وسلم وذلك في العلوم والتربية.. وانتشرت في الهند وباكستان وبمدارسها وجامعتها ومنها انطلقت طالبان بقيادة الملا عمر لتنشر السلام والامن في ربوع افغانستان سنة 1986.. وتعود الان للحكم بعد معركة التحرير التي استمرت 20 عاما.
يمكن التذكير في هذا الباب بجيل من الرواد المفكرين للتيار الاسلامي من جمال الدين الافغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وسيد قطب ومالك بن نبي وعلي شريعتي ومرتضي مطهري ومحمد فضل الله والشيخ الغزالي وباقر الصدر وعماد الدين خليل وابوالمودودي وابوالحسن الندوي وسواهم من كتاب ومفكرين وسياسيين.
مهمات التيار الاسلامي:
اشتركت مدارس التيار الاسلامي جميعا في انها تدعو لاستئناف الحياة الاسلامية و ترفض النموذج التغريبي في العقيدة والسياسة والسلوك وانها تصدت له على اعتبار دوره في تخريب هوية الامة وتفسيخ وحدتها..فكانت عقيدتها الفكرية ترتكز جميعها على صلوحية الاسلام في الحكم والقيادة للمجتمع والدولة.. وان امة الاسلام امة واحدة ولهذا تتجه المدارس كلها الى رفض التجزئة الجغرافية او العرقية وهي ترى ان عليها نشر الاسلام الصحيح والصحة هنا يدعيها كل اصحاب مدرسة وفي ذلك يكون تصديها القوي للافكار والسلوك القادمين من الغرب.. فكانت المهمات التي انشغل بها التيار الاسلامي بدءا من الاهتمام بالشعائر والاقلاع عن التشبه بالاخرين والى المقاومة والجهاد والعمل التربوي والتعليمي.. فتحركت المدارس كلا من موقعها البيئي والبنيوي والثقافي الى واجبات ترى فيها الفرض القائم .. ويمكن حوصلة نتائج الجهود الجبارة التي قام بها التيار الاسلامي في مواجهة التحديات الثقافية والسياسية والعسكرية ففي مصر والوطن العربي تمكنت مدرسة الاخوان من صد تيار التغريب والتبعية وتحجيم دوره وتحويله الى قوة محدودة جامدة ليس لها قوة الا اذا تحالفت مع العسكر.. وتمكت كذلك من تحقيق انتشار واسع في الطبقات الوسطى والنخب المتعلمة وانشاء تيار اجتماعي سياسي متماسك واصبحت هي القوة السياسية الاكبر في كل دولة عربية، اما الحركة النورسية في تركيا برغم توحش علمانية اتاتورك الا انها بقيت محافظة على السمة العامة للبلد انها بلد اسلامي وقدمت تضحيات كبيرة قبل ان تتبعثر الحركة النورسية بمدارس عديدة ولكنها بقيت من خلال تعاليم شيخها المؤسس مرجعا لكل نشاط ثقافي اسلامي في البلاد.. وانطلقت من ثناياها وبالتفتح على الحركة الاسلامية العربية جماعة نجم الدين اربكان الذي حاول ان ينقل البلد نقلات بعيدة على صعيد استعادتها لدورها الاقليمي والاسلامي.. وحققت الجماعة الاسلامية بالباكستان بقيادة العلامة المودودي وهو مفكر وقائد كبير حضورا سياسيا كبيرا في البلاد.. اما الطريقة الديوبندية التي خرجت الطالبان فهي اخرجت اجيالا في الهند وباكستان وافغانستان وعندما سعى ساع القتال كانت فرسانهم في الميدان.. وفي الجزائر تمكنت من تثبيت وعي الناس وهويتهم المستقلة ومطالبتهم بالحرية والحقوق المشروعة.. كما ان الاحداث المتلاحقة اكدت جهوزية مدارس التيار الاسلامي لتفعيل العقيدة والثقافة في حشد كبير لايقوى الاخرون على مواجهته..
معطلات التيار الاسلامي:
هناك معطلات موضوعية واخرى ذاتية وتتمثل المعطلات الموضوعية في استنفار جبهة الاعداء التاريخيين الذين جهزوا كل ما يكفي لاسقاط التيار الاسلامي في مستنقع الفشل والاحباط فنشطت مراكز الاستشراق والبحث وصناعة الموقف كما الاجهزة الامنية والادوات المتنوعة في محاولات دءوبة لاختراقه او التحريض عليه وتفعيل القوانين لقمعه والقاء الالهيات عليه.. ووصل الامر بان الاعداء من خلال مراكز ومختبرات صناعة الافكار القوا بقنابلهم الموقوتة في صفوف التيار الاسلامي لتنفجر كلما أريد لها ذلك..على سبيل المثال المجموعات المسحلة العنفية التي تصبح محاربتها حجة سائغة للتدخل الاجنبي.
اما المعطلات الذاتية فلعلها تكون السبب الاخطر في افشال التيار الاسلامي في اكثر من مكان ولكل مدرسة من مدارس التيار الاسلامي معطلاتها الذاتية والتي تبرز بحدة لدى هذه المدرسة او تلك وهي لا تتشابه بين المدارس المختلفة فلكل معطلاته الذاتية الخاصة..
فمثلا في حركة الاخوان تستفحل الحزبية والانعزالية عن المجتمع وهمومه و يصبح النظر بعين عدم المبالاة بما بعانيه الاخرون في ظل وضع تنظيمي يفرض شبه مجتمع مغلق على نفسه مع غياب الوعي السياسي وغياب الرؤية الاستراتيجية للكفاح وغياب فهم فلسفة الحكم ومنطقه ولهذا فنجد المدرسة الاخوانية تقدم تنازلات في غير وقتها لان الهدف الاكبر لديها المحافظة على كيانها.
وفي التجربة الشيعية الايرانية حيث جعلت من العداء مع الاستعمار ذروة ملهماتها الثورية وان الصراع مع الاجنبي المحتل هو الصراع الجوهري لكنها لم تصمد كثيرا عند هذه المباديء مثال العراق وافغانستان وكيف تفاعلت معهما الحكومة الايرانية يعبر على ان تنازلات حقيقية تمت في مجال المباديء الثورية.. وخلال عشرين سنة الاخيرة لاسيما بعد الربيع العربي اتضحت حركة الحكومة الايرانية الى احياء مشروع التكتل الشيعي في الامة وان طهران تكون عاصمته وهذا على اعتبار ان يكون خطوة نحو الوحدة الاسلامية ولكنها اتجهت الى عكس ما يقال حيث اصبح تشجيع الشيعة في اي مكان انما هو وصفة صراع داخلي كما هو ظاهر في العراق ولبنان واليمن والبحرين الامر الذي قاد ايران الى الغرق في التشتت في معارك الداخل الاسلامي واستنفار المحيط والجوار، ثم ان الخطاب والشعار اضرا بالمصالح الايرانية كثيرا..
وفي المدرسة السلفية وهنا لايوجد وحدة حال للسلفية وان كان يجمع الجميع عقيدة واحدة وسلوك واحد في التركيز على السنن والشركيات حسبت تفسيرهم وهي حالات منغلقة على نفسها مع تجميد الفهم وتعطيل الاجتهاد وحصر الاسلام في مجموعة شعائر واحكام.. وهي حالة لاتحسن الا الجدال لابراز التناقضات في المجتمعات وهي مناخات مثالية لميلاد المجموعات الارهابية المسلحة.. ولا تكاد توجد مجموعة سلفية الا ويكون لها ارتباط امني بجهة داخلية او خارحية، ولقد كشفت احداث مصر وسورية حقيقة المدرسة السلفية.
اما في النموذج التركي ينبغي ان لايغتر احد بعجلة الاقتصاد التركي لانه بمثابة ظل للرضا الامريكي فكان الارتباط بالناتو واشتراطاته ومشاركته في مهماته القتالية في الاقليم او العالم كما حصل في افغانستان والدخول مع الكيان الصهيوني في علاقات استراتيجية امنية وعدم التركيز على بعث الهوية الحضارية للمجتمع والمراوحة بين الامة والغرب جعل من تركيا غير قادرة على بناء حقيقي واصبح كل ما شهدته رهين بالرضا الامريكي والغربي.. فالحركة الاسلامية التي تحاول ان تموه هويتها وتقدم كل التنازلات من اجل الحكم لاتعرف انها بفقدانها هويتها وشخصيتها تصبح في حالة ذوبان مستمر.
اما في تجربة ابوالاعلى المودودي فلقد دخلت الحركة العمل الحزبي والسياسي الديمقراطي ولم تحاول استنباط اعمق خصوصيات الفكرة الاسلامية في العمل السياسي.. وفقدت الجماعة دورها وتوازنها مع فقدانها للمؤسس ابوالاعلى المودودي الوهج الذي كان كافيا لجعلها ذات حضور سياسي.. لم تنتقل الى اي مكان وكانت في لحظات كثيرة صدى لحركة الاخوان المسلمين بثقافتهم ومقولاتهم ولهذا كتب عليها التضاؤل والتيبس.
اما تجربة طالبان فهي رغم تأسيسها لمنهاج علمي عقلي منشرح الصدر على تفهم الرسالة كما نزلت بقيمها وهويتها الصافية الا ان عدم الاكتراث بالوسائل الاساليب الحديثة في الجانب الاعلامي بالاضافة الى غياب حاسية التواصل مع المسلمين وربط علاقات متينة بهم ثم تمسكهم في الشكل في جوانب لاتسمن ولاتغني من جوع.
نتائج رحلة التيار الاسلامي:
سقوط محاولات المدرسة الاخوانية في مصر وتونس والمغرب ومعاناتها في اليمن وليبيا وفلسطين حيث اصبحت عناوين لارهاق الناس بعد ان قدمت تنازلات كبيرة من اجل البقاء كما فعل الاخوان في مصر بعد فوزهم التزموا بكل المواثيق السابقة بما فيها كامبديفد اما في تونس فتنازلت عن حكم الشريعة في الميراث وتنازلت عن وهج فلسطين فلم تسمح بتمرير قانون يجرم التطبيع وفي المغرب كانت حكومة الاخوان تقود عملية التطبيع مع العدو الا انه تم التطويح بها جميعا بعد التفاهمات والاتفاقيات..
وفي تركيا هزات اقتصادية متتالية وغياب الاستراتيجي في التعامل مع الناتو وهذا يعبر عن خلل في العقل الوطني والسيادة الوطنية كما حققت تركيا فشلا ساحقا في الملف السوري والعراقي وتسببت في ترحيل خمس ملايين سوري من اماكنهم لكي تكون فرصة لمليشات الفاطميين للاستيطان وتغيير ديمغرفيا البلاد.
وفي ايران اضمحلال المشروع الايراني في الدولة الوطنية وفي تكتلات شيعية الامر الذي جعله سبيلا لتفجير المعارك الداخلية كما ان عدم الاندماج في مقاومات التصدي في المنطقة كافغناستان والعراق للتدخل الاجنبي جعلها في دائرة النفور لدى المنطقة العربية..
فقط هو النموذج الطالباني من انتصر وحقق ظاهرة متميزة في الانتصار على الاجنبي كله 38 دولة وعلى جيش تعداده300 الف.. انتصار لم يحصل له مثيل من في التاريخ البشري والنموذج الطالباني ملتزم بالاسلام كله شريعة وشعائر وقيم ورغم محدودية اعلامها وضعف تواصلها مع الشعوب الاسلامية الا ان سلوكها المنضبط بروح المسئولية يؤكد انها ستصل من خلال اعمالها..
التيار الاسلامي الذي حقق اخفاقات في معظم مواقعه سيجد نفسه مضطرا الى خلع جلد الهزيمة والفشل و تجاوز محنته من خلال تقدم اجيال من الشباب الذين يستوعبون التحدي وهم يرون حجم الاخفاقات التي منيت بها المدارس الاسلامية الاخرى.