صالح عوض
منذ ما يقارب قرن من الزمن انطلقت الحركة الاسلامية العربية في محاولة لانقاذ الشرعية التي سقطت بسقوط الخلافة العثمانية، حينها كانت ايران بعيدا عن الاحساس باثار السقوط بل لعل بقية من صفوية تناوشت موقفها فأحالتها الى خارج الهمّ العام قبل ان يظهر جيل من العلماء الثوريين الذين أدخلوا إيران في هموم المنطقة وجسّروا الهوّة مع أهل السنة، أما افغانستان فلا يذكر منها المسلمون إلا هزمها للحملة البريطانية و أنها أرسلت لهم جمال الدين باعث النهضة الفكرية والسياسية في العالم الاسلامي الموزع على القوى الاستعمارية يوم ذاك.
اختلافات بنيوية:
في تركيا تم تدمير المؤسسة الدينية بل واستبعاد اللغة العربية واستبدال لغة الآذان الى التركية.. لقد كانت علمانية متوحشة تريد تصفية معالم الخلافة العثمانية وكان هذا السلوك المؤهل الطبيعي لعلاقات آمنة لتركيا العدو التقليدي للغرب هكذا اعتقد اتاتورك وجماعته ولقد تصدوا لكل محاولة لبعث الاصالة وعلق عدنان مندرايس على المشنقة لأنه حاول اعادة بعض من هوية البلاد الى الشعب.. ولكن المؤسسة الدينية في ايران ظلت بعيدا عن سطوة الحكام الذين وظل علماء الدين يمثلون قوة اجتماعية ومادية معتبرة ولايمكن تجاوزها رغم ان الحكومة ذهبت عميقا في ربط العلاقات بالاستراتيجية الامريكو صهيونية ودخولها في ناتو كما هي حالته.. فاصبح مجرد الاهتمام البسيط بالخيار الاسلامي والوعي الاسلامي هوانجاز كبير لانه في حقيقة الواقع اختراق لما تم التأكيد عليه في الاتفاقيات بين كمال اتاتورك وبقية اصدقائه من جهة والحلفاء من جهة أخرى.. وفي ظل التوحش العلماني كان الانتماء لفكرة الاسلام حتى لو اقتصر على جانب الانحياز العاطفي عباره عن تميز كبير في مواجهة مؤسسات دينية تقليدية تقوم بدور التخدير الثقافي والترهيب من اي عودة جادة للوعي والثقافة والانتماء للاسلام وقضاياه.. لهذا ظل الاسلام في تركيا عبارة عن شعوربالاعتزاز به دونما تفاصيل ومناشدة التاريخ دون ازعاج الحراس ان ياتي من يعترف للاتراك بانهم حموا ديار الاسلام اكثر رغم ان دعوة النورسي ملهمة وهينة وبلغت امادا بعيدة الا ان الحركة الاسلامية التركية تأثرت بثقافة الحركة الاسلامية العربية”الاخوان المسلمون” فكريا لكنها لم تستطع ان تترجم افكارها في الممارسة لاسيما الشكل هذا وقد تأخرت الحركة الاسلامية التركية كثيرا عن مثيلاتها في الساحة الاسلامية السنية باكستان والهند ومصر.. هذه هي البيئة التي انبعث فيها العمل الا سلامي في تركيا وهي تختلف بالحتم عن سواها ولهذا اعتمدت النمط الغربي في العمل السياسي ملتزمة بشروط اللعبة السياسية وبشروط الواقع السياسي التركي بما عليه من التزامات نحو الناتو.
وفي المنطقة العربية حيث بادرت الحركة الاسلامية منذ نهاية عشرينات القرن الفائت لملء فراغ سياسي كبير كانت تتولد بعيدا عن المؤسسة الدينية الكبيرة الفاغلة الازهر الشريف والذي لم يخب وهجه الديني لحظة.. جمعت الحركة الاخوانية بين البعد الصوفي والعمل السياسي الحزبي ولم تحدد لها مدرسة فقهية معينة انما المحاولة في الاجتهاد.. ورغم ان العلمانية في الدول العربية اقل حدة من مثيلتها في تركيا الا ان قسوة النظام العربي المشبع احيانا بالشعارات جعل الصدام هو الحاضر المستمر بين الانظمة والحركة الاسلامية لاسيما في مصر.. وشيئا فشيئا اصبحت الحركة الاسلامية عبارة عن احزاب سياسية وحسب رؤيتها انخرطت في العمل النقابي والتوسع الافقي حيث يتوسع الرفض ضد الانظمة.. ولخصوصية المنطقة العربية حيث تغرس الغدة السرطانية في قلبها يصبح التعامل مع هذا الموضوع اقترابا او ابتعادا مسألة في غاية الحساسية ومن هنا تحركت الفصائل الاسلامية في المنطقة العربية بعيدا عن الاشتباك المباشر العملي ضد الكيان الصهيوني كما هو حاصل من اخوان مصر- بعد قيام الكيان الصهيوني- والشام والعراق .. والجزيرة وشمال افريقيا وشيئا فشيئا اصبح الحزب ولوائحه الداخلية وشروط الالتزام والانضباط هي مادة العمل والتنافس لبناء حركات منتشرة محكمة القيادة لخوض العملية السياسية.. وهكذا يكتشف الاخوان بعد عشرات السنين تنازلهم عن مواقف ثابتة او مباديء أساسية للسماح لهم بولوج العملية السياسية بعد أن اغلقت في اوجههم حرية العمل الاسلامي وهكذا وجدنا ان لافارق جوهري بين مواقف الحركة الاخوانية والانظمة التي كانت تصطدم معها يوم كانت في خندق المعارضة.. وكانت المراجعات الفكرية لدى حركة الاخوان تعني دوما التراجع عن افكار جوهرية في الفكر الاسلامي وعن تنازل عن مواقف سياسية صلبة .. واصبح البناء الحزبي واشتراطاته اشبه ما يكون ببناء فرقة طائفية في المجتمع لها طقوس وطرق عمل بل واهتمامات لاتعدو ان تكون اهتمامات الحزب وقياداته ومن اجلها يتم التنازل عن المصالح الكبرى في المجتمع وكان موضوع فلسطين كاشف للحركة الاخوانية في مرحلتها الراهنة ففي مصر كانوا ضد كامبديفد والارتهان له واذا بهم بعد وصولهم الى السيطرة على البرلمان والشورى والرئاسة يعلنون تأييدهم لكامبديفد ويتم العدوان على غزة في ظل حكمهم لمصر وفي تونس عندما سيطروا على البرلمان والحكومة يرفضون ان يمرر قانون بتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني وتجريم الاستعمار وفي المغرب يصبحون عراب التحالف الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني وفي سورية يتورطون في حرب لمصلحة غيرهم فيتسببون بجر المجتمع السوري الى المصيدة الاستعمارية حيث يتم تهجير ملايين السوريين وقتل الملايين وتدمير المدن وتخريب النسيج الاجتماعي السوري.. من هنا يمكن الاشارة الى ما انتهت اليه حركة الاخوان المسلمين في المنطقة العربية انها ليست اكثر من فرقة صوفية بشكل ما فاقدة الرؤية السياسية أو حزب برغماتي ليس له علاقة بالمباديء والمصالح العامة للامة.
الحركة الاسلامية في ايران تختلف في المنشأ فهنا تستبد الطقوس بالمجتمع الشيعي وتجره بعيدا عن تدافع الحياة بعد ان تم تعميم مستلزمات الطائفة لتغطي على مستلزمات الدين واصبح جهد المراجع ووكلائهم ينصب على تجميع الموالين وجمع الاموال.. وعمل المراجع تلقائيا على توزيع المجتمعات الشيعية لاسيما في ايران حتى برز نفر من العلماء المتميزون القمي والكاشاني والبروجردي والخميني الذين رأوا ضرورة الخروج من قوقعة الطائفة والتحرك نحو السباحة في الامة الواسعة وكان هذا موجبا لتكسير طابوهات والغاء بعض من شعائر الطائفة.. وكان الخميني هو الاكثر وضوحا وقد جمع حولة جيلا من العلماء والمثقفين والمفكرين الذين تحرروا من قيود الطائفة وشارك الامة في قضاياها الاساسية وضد اعدائها الاساسيين.. كان التحرك بعيدا عن الحزبية والنمطية السياسية الغربية وكان التوجه الى بناء نظام اسلامي سياسي مختلف ولعله اشبه ما يكون بنظام الخلافة الراشدة وهنا يسجل للخميني انه كسر الروتين الشيعي في مسألة الانتظار وافكار سلبية عديدة كالموقف من العثمانيين والموقف من التقية.. انهمك الخميني في نشر المواقف السياسية الصلبة ونشر تعاليم الاسلام الثوري ورفض الحزبية ورفض الطائفية فنشات حركته بعيدا عن بيئة المشروع العلماني تماما بل على النقيض منها.. وقد واجه في ذلك خصوما شرسين داخليا فضلا عن عداوة مستفحلة لدى الغربيين الذين رأوا في ذلك محاولة لاغلاق الباب على اطماعهم في المنطقة .. ومن هنا كان موقف الخميني وجماعته من فلسطين انها قضيتهم وبوصلتهم وكان موقفهم من الطائفية الرفض التام وكان موقفهم من العربية مبدئيا وثابتا وموقفهم من الثقافة العلمانية وانماط العمل السياسي بموجبها الاستنكار.. هكذا بنيت الحركة الاسلامية في ايران ورغم ان هناك بعض الهنات في سلوك من جاءوا بعده لاسيما في ملفات صعبة كالعراق واليمن وسواهما الا ان العمود الاساسي للحركة الاسلامية الايرانية فلسطين والوحدة الاسلامية.. ومن هنا تستجلب كل هذا الحصار عليها ولعلها ان استطاعت ان تتجنب الهنات السياسية وتعيد لوهج ثورتها القه السابق تتمكن ان تنجو من كمائن تنصب لها في العراق واليمن وسوى ذلك.
طالبان الحركة النموذج.. هي حركة ترعرت في بيئة سنية تحفظ الرواية السنية في الحكم حيث لا يمتلك اي فريق من المسملين سواهم رواية لبناء نظرية سياسية اسلامية يمكن تطبيقها فالخلافة شورى وبيعة والقضاء والعلماء في مكانة متقدمة فوق الجميع والحاكم ببيعة واهل الحل والعقد هم الطليعة التي تبت في الامور كلها .. هذه الحركة ترعرعت في المدارس الدينية التي انبعثت منذ قرنين في الهند وباكستان تاخذ بايد المتعلمين للعلوم الشرعية والقضائية والصوفية والاخلاقية في منهج متماسك ومنضبط تماما.. وتجلت كل تلك المعاني في دفاعهم عن الشعب الافغاني حيث قاموا بتوحيجه وطرد اللصوص وامراء الحروب فوجدوا ترحيبا فائقا من الشعب .. هنا لابد ان نؤكد على انهم يرفضون النمك الحزبي واللوائح الداخلية والاستبداد في المناصب والتهاون في معاقبة المفسدين..وكان هذا التميز لهم عن الحركة الاسلامية العربية والتركية يعيد الى الاذهان صور نموذجية للمسلمين الاوائل..
طالبان حالة متميزة في بنائها العضوي وتجربة كبيرة في مقاومة الاستعمار وهي لا تضع اهدافا خاصة لحركتها انما هي الاهداف المطلوبة من المجتمع المسلم في اقامة الشريعة واحكامها في حياته وضبط سلوكه بقيمه الثابتة وقيامه بتمثل روح الدين في المعاملات والسياسة.. وهنا من الواضح ان طالبان يسيرون لتحقيق انتصاراتهم غير ابهين بالناتو وتهديداته
ملاحظات ملخصة:
تلتقي طالبان مع الحركات الاسلامية العالمية في خطوط عامة حول صحة الاسلام وصلاحية دوره في نهضة الشعوب الاسلامية ولكنها تختلف عنها في طبيعة المنشأ الذي اثر بشكل مباشر في المواقف السياسية.. ولئن كان المنشأ الى حد ما يشبه منشأ حركة الخميني الا ان فقدان الشيعة لنماذج سياسية تاريخية جعلهم يغلبون الشعار على الحكمة ويقدمون الخطاب على الفعل وكانهم يرثون قصيدة الشهداء اما طالبان فهي قليلة الكلام كثيرة الفعل وتبتعد عن الشعار كثيرا وتقدم رؤية نضج تجاه العدو.. ولعل الملاحظ في حركة الاخوان العالمية عدم اهتمام بطالبان وافغانستان كما كانوا مهتمين بها عندما كانت فريسة للاتحاد السوفيتي.. كما ان موقف ايران الباهت من الشان الافغاني يكشف انها في مأزق ومتاهة فهي تدرك ان التعامل مع افغانستان ليس كالتفاعل مع امريكا.. فالتدافع مع امريكا يوحد الشعب الايراني لكن الخشية ان يحدث صدام مع افغانستان حينها حتما لن تكون جبهة ايران واحدة
لم تدرس حالة طلبان بعد، وهي تمارس نمطا جديدا في الفعل الاسلامي واضح المعالم قدم نجاحات وصمودا أسطوريا وخرج يرفض أي تدخل أجنبي في الشخصية الافغانية وهو يجدد التأكيد على أن لا علاقة لما يقوم به من بنيان اجتماعي وسياسي بالرؤية الغربية فلا الداميقراطية هي الديمقراطية ولا اشكال العلاقات الاجتماعية وقوانين ومؤسسات قكل ذلك خاضع لتقاليد الاسلام وقوانينه وشخصية المحتمع الافغاني..
هذه هي الاسباب التي دفعت بكل من الحركات الى نهاياتها المنطقية وهي التي ترسل رسالة الى الاجيال العربية بتجاوز النمط القديم تجاوزا عميقا لانه فقد قوة دفعه واصبح عالة على الفكر الاسلامي وتقدم المجتمعات الاسلامية