الخليج الجديد :
في منتصف عام 1982، سعت إسرائيل للحصول على موافقة الولايات المتحدة لشن هجوم كبير ضد منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تعمل من جنوب لبنان خلال الحرب الأهلية اللبنانية. ورفض وزير الخارجية “ألكسندر هيج” في البداية إعطاء الضوء الأخضر، قائلا إن إسرائيل لا تستطيع ضرب لبنان دون ذريعة مناسبة.
وفي 3 يونيو/حزيران 1982 حصلت إسرائيل على الذريعة التي أرادت حين حاول الفلسطينيون اغتيال سفير إسرائيل في لندن “شلومو أرجوف”. لكن لم تكن منظمة التحرير الفلسطينية، بقيادة “ياسر عرفات” في ذلك الوقت، هي التي أطلقت النار على “أرجوف”، بل فصيل عسكري برئاسة خصم “عرفات”، “صبري البنا”، الملقب بـ”أبونضال”. وأصيب “أرجوف” بجروح خطيرة وظل في غيبوبة لمدة 3 أشهر.
ودعا رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك “مناحيم بيجن” إلى اجتماع وزاري عاجل لمناقشة الوضع في لبنان والسماح باجتياح عسكري. وعندما حاول مستشاروه توضيح أن رجال “أبونضال” هم من ضغطوا على الزناد وليس “عرفات”، صرخ “بيجن” بمقولته الشهيرة: “أبونضال أبوشميدل لا يهمني. علينا ضرب منظمة التحرير الفلسطينية”.
ذريعة 2021
وبعد 39 عاما، وبالرغم أن اللاعبين قد تغيروا فإن نفس المنطق لا يزال ينطبق على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، لكن هدف إسرائيل هذه المرة هو “حزب الله” وليس منظمة التحرير الفلسطينية. كما أن مقعد رئيس الوزراد الإسرائيلي يشغله هذه المرة “نفتالي بينيت” الذي جاء بعد معركة شرسة مع “نتنياهو” في يونيو/حزيران، وخرج بتصريحات قوية ضد كل من إيران و”حزب الله”، ووعد بترويضهما.
ومثل “بيجن”، يحتاج “بينيت” أيضا إلى ذريعة لخوض الحرب ضد إيران ليثبت لجمهوره أنه ليس أقل تشددا من “نتنياهو”. وقد أعطاه الأمين العام لحزب الله “حسن نصرالله” الذريعة الجديدة لعام 2021 بإطلاق 16 صاروخا على شمال إسرائيل، وهو أكبر تصعيد بين البلدين منذ عام 2006.
ولم يعلن “حزب الله” على الفور مسؤوليته عن الهجوم، وذكرت تقارير إعلامية أولية أن ميليشيات فلسطينية مجهولة في الجنوب اللبناني هي المسؤولة عن إطلاق الصواريخ. وفي الواقع، كان هذا ما حدث في وقت سابق من العام، خلال الجولة الأخيرة من الحرب بين إسرائيل و”حماس” في مايو/أيار، حين تم إطلاق صواريخ مماثلة من لبنان، تبنتها جماعات فلسطينية غامضة وليس “حزب الله”.
ومع ذلك، من المستبعد أن يعمل أي فصيل فلسطيني في جنوب لبنان، ناهيك عن ضرب إسرائيل، دون مباركة “حزب الله”. لكن الجيش الإسرائيلي في ذلك الوقت كان مشغولا بالحرب في غزة لدرجة أنه لم يتمكن من فتح جبهة أخرى مع لبنان، وقد تم التغاضي عن هذا الهجوم في مايو/أيار.
لكن هذه المرة، لم ينسب “حزب الله” الفضل في الضربة في أغسطس/آب لنفسه فحسب، بل نشر أيضا لقطات لقاذفة صواريخ متحركة تطلق صواريخ على الجليل. وردت إسرائيل بقصف انتقامي على جنوب لبنان، الأمر الذي جعل المنطقة نقطة اشتعال قد تتحول إلى حرب شاملة.
وجاء ذلك بعد أيام فقط من هجوم إيران على ناقلة تجارية تديرها شركة إسرائيلية قبالة سواحل عُمان في 30 يوليو/تموز ما أسفر عن مقتل شخصين.
من يقف وراء التصعيد؟
وحصل هذان الهجومان المتعاقبان على تغطية واسعة خلال الأسبوع الأول من أغسطس/آب، قبل أن تتراجع هذه التغطية نتيجة التطورات الأخيرة في أفغانستان. والآن، عادت الحدود اللبنانية الإسرائيلية إلى عناوين الأخبار بعد أن زار “بينيت” البيت الأبيض في 26 أغسطس/آب لمناقشة قضية إيران و”حزب الله” مع الرئيس الأمريكي “جو بايدن”.
وفي هذه الأثناء، يتساءل الكثيرون عن المنطق وراء التصعيد الأخير لـ”حزب الله”، الذي يأتي في وقت يعاني فيه البلد من شلل سياسي وانهيار اقتصادي وأمني، حيث أصبحت بيروت في حالة انقطاع شبه كامل للكهرباء، وليس لدى الحكومة اللبنانية أموال لشراء الوقود أو توفير الكهرباء.
وقد أدان رئيس الوزراء الأسبق “سعد الحريري” الهجوم، وكذلك فعل البطريرك الماروني “بشارة بطرس الراعي”. ولم يكن حتى المواطنون العاديون سعداء بما حدث، حيث تم تسجيل مقطع فيديو في قرى درزية على الشريط الحدودي وهم يستولون على راجمة الصواريخ وطاقمها بعد الهجوم، قائلين إنهم لا يريدون الحرب.
ووسط الأزمات المعقدة التي تضرب لبنان، فإن آخر ما يحتاجه هو حرب جديدة مع إسرائيل، ويعرف “نصرالله” ذلك جيدا. فلماذا إذن قام بمثل هذه الخطوة، إذا كانت تحمل حتى احتمالا ضئيلا لجر بلاده المنهارة إلى الحرب؟ وأحد الاحتمالات هو أنه لم يكن اختياره، وأن الهجوم أملاه الرئيس الإيراني الجديد “إبراهيم رئيسي”.
ومثل “بينيت”، فإن “رئيسي” أيضا متشدد استخدم خطابا تهديديا بعد تنصيبه في أوائل أغسطس/آب. ويستعد “رئيسي” للجولة التالية من المحادثات النووية في فيينا، التي لم يتم تحديدها بعد، ويريد زيادة أوراق التفاوض الخاصة به من خلال ما يحب وصفه بأنه “المفاوضات تحت النار”.
ومن هنا، أوضح المتحدث باسم الخارجية الإيرانية أن موقف إيران من محادثات فيينا لم يتغير، وأنها لا تزال تضع الرفع الكامل لجميع العقوبات شرطا تمهيديا لأي اتفاق، خاصة تلك المفروضة على المرشد الأعلى الإيراني “علي خامنئي” من قبل إدارة “ترامب” في يونيو/حزيران 2019.
الحاجة إلى ميداليات حرب
ويشعر الإيرانيون أنه بمجرد الانتهاء من التفاصيل النووية، سيتم إضافة ملحق شفهي للاتفاق يدعو إيران إلى تقليص وجودها العسكري في دول مثل سوريا ووقف دعم المليشيات في العراق وسوريا. وهي مسألة وقت فقط قبل أن يتم طرح مثل هذه الموضوعات على الطاولة، إذا لم تكن قد تم مناقشتها بالفعل.
ويريد “رئيسي” الحصول على أقصى قدر من التنازلات من الولايات المتحدة، ومساحة أكبر لسياساته في العالم العربي. ولكي يفعل ذلك عليه أن يبدو قاسيا ومشاكسا سواء في لبنان أو في أي مكان آخر. ولا شيء يبعث هذه الرسالة بوضوح أكثر من تصعيد من “حزب الله”.
لكن في الشرق الأوسط، يمكن أن تسوء الأمور، وقد ساءت بشكل فظيع في الماضي. وأشعلت المناوشات على الحدود السورية الإسرائيلية حرب الأيام الستة عام 1967، وأدى اختطاف جنديين إسرائيليين إلى اندلاع حرب لبنان عام 2006. ولا يمكن أبدا التخطيط بعناية للتصعيد حيث يمكن أن يخرج عن السيطرة في أي وقت، خاصة إذا كان المسؤول عن ذلك اثنين من المتشددين، مثل “رئيسي” و”بينيت”.
وبالرغم أن “بينيت” يتفاخر بخلفيته العسكرية حيث خدم خلال الانتفاضة الأولى وفي المنطقة الأمنية الإسرائيلية في لبنان خلال التسعينات، فإنه لم يخض أبدا معركة ضد أعداء إسرائيل كان فيها القائد العام. وكذلك لم يشارك “رئيسي” في عمليات أو قرارات عسكرية رفيعة المستوى حيث كانت مسيرته المهنية في القضاء.
ويبدو أن “رئيسي” و”بينيت” بحاجة إلى صراع يعزز سيرتهما الذاتية ويضع ميداليات الحرب على زيهما، وقد تكون لبنان ساحة مناسبة لتحقيق طموحاتهما.