من كتاب التذكرة للقرطبي
باب ما جاء في بيان مقتل الحسين رضي الله عنه و لا رضي عن قاتله
ذكر أبو علي سعيد بن عثمان بن السكن الحافظ قال : [ حدثنا أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل قال : حدثنا محمد بن إبراهيم الحلواني قال ابن السكن و أخبرني أبو بكر محمد بن محمد بن إسماعيل حدثنا أحمد بن عبد الله بن زياد الحداد قالا : حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد قال : حدثنا عطاء بن مسلم عن أشعث بن سحيم عن أبيه عن أنس بن الحارث قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن ابني هذا يقتل بأرض من أرض العراق فمن أدركه منكم فلينصره ] فقتل أنس يعني مع الحسين بن علي عليهما السلام
أنبأناه إجازة الشيخ الفقيه القاضي أبو عامر عن أبي القاسم بن بشكوال عن أبي محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عتاب و أبي عمران موسى بن عبد الرحمن بن أبي تليد عن أبي عمر بن عبد البر قال : حدثنا الحافظ أبو القاسم خلف بن القاسم قال : حدثنا الإمام الحافظ أبو علي بن السكن فذكره
و خرج الإمام أحمد في مسنده قال : [ حدثنا مؤمل قال : حدثنا عمارة بن زاذان حدثنا ثابت عن أنس أن ملك المطر استأذن أن يأتي النبي صلى الله عليه و سلم فأذن له فقال لأم سلمة : أملكي علينا الباب لا يدخل علينا أحد قال : و جاء الحسين ليدخل فمنعه فوثب فدخل فجعل يقعد على ظهر النبي صلى الله عليه و سلم و على منكبيه و على عاتقه قال : فقال الملك للنبي صلى الله عليه و سلم أتحبه ؟ قال : نعم قال : أما إن أمتك ستقتله و إن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه فضرب بيده فجاء بطينة حمراء فأخذتها أم سلمة فصرتها في خمارها ] قال ثابت : بلغنا أنها كربلاء
و قال مصعب بن الزبير : حج الحسين خمسة و عشرين حجة ماشيا و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم فيه و في الحسن : [ إنهما سيدا شباب أهل الجنة و قال : هما ريحانتاي من الدنيا و كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا رآهما هش لهما و ربما أخذهما ] كما روى أبو داود أنهما دخلا المسجد و هو يخطب فقطع خطبته و نزل فأخذهما و صعد بهما قال : [ رأيت هذين فلم أصبر ] و كان يقول فيهما [ اللهم إني أحبهما و أحب من يحبهما ] و قتل رحمه الله و لا رحم قاتله يوم الجمعة لعشر خلون من المحرم سنة إحدى و ستين بكربلاء بقرب موقع يقال له الطف بقرب من الكوفة
قال أهل التواريخ : لما مات معاوية و أفضت الخلافة إلى يزيد و ذلك سنة ستين ـ و وردت البيعة على الوليد بن عتبة بالمدينة ليأخذ بالبيعة إلى أهلها أرسل إلى الحسين بن علي و إلى عبد الله بن الزبير ليلا فأتي بهما فقال : بايعا فقالا : مثلنا لا يبايع سرا و لكن نبايع على رؤوس الناس إذ أصبحنا فرجعا إلى بيوتهما و خرجا من ليلتهما إلى مكة و ذلك ليلة الأحد بقيتا من رجب فأقام الحسين بمكة شعبان و رمضان و شوالا و ذا القعدة و خرج يوم التروية يريد الكوفة فبعث عبد الله بن زياد خيلا لمقتل الحسين و أمر عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص فأدركه بكر بلاء و قيل : إن عبيد الله بن زياد كتب إلى الحر بن يزيد الرياحي أن جعجع بالحسين قال أهل اللغة أراد أحبسه و ضيق عليه و الجعجع : الجعجاع الموضع الضيق من الأرض ثم أمده بعمرو بن سعد في أربعة آلاف ثم ما زال عبيد الله يزيد العساكر و يستفز الجماهير إلى أن بلغوا اثنين و عشرين ألفا و أميرهم عمرو بن سعد و وعده أن يملكه مدينة الري فباع الفاسق الرشد بالغي و في ذلك يقول :
( أأترك ملك الري و الري منيتي … و أرجع مأثوما بقتل حسين )
فضيق عليه اللعين أشد تضييق و سد بين يديه وضح الطريق إلى أن قتله يوم الجمعة و قيل يوم السبت العاشر من المحرم و قال ابن عبد البر في الاستيعاب : قتل يوم الأحد لعشر مضين من المحرم بموضع من أرض الكوفة يقال له كربلاء و يعرف بالطف أيضا و عليه جبة خزد كفاء و هو ابن ست و خمسين سنة قاله نسابة قريش الزبير بن بكار و مولده الخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة و فيها كانت غزوة ذات الرقاع و فيه قصرت الصلاة و تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم أم سلمة و اتفقوا على أنه قتل يوم عاشوراء العاشر من المحرم سنة إحدى و ستين و يسمى عام الحزن و قتل معه اثنان و ثمانون رجلا من الصحابة مبارزة منهم الحر بن يزيد لأنه تاب و رجع مع الحسين ثم قتل جميع بنيه إلا عليا المسمى بعد ذلك بزين العابدين كان مريضا أخذ أسيرا بعد قتل أبيه و قتل أكثر إخوة الحسين و بني أعمامه رضي الله عنهم ثم أنشأ يقول :
( يا عين إبكي بعبرة و عويل … و اندبي ـ إن ندبت آل الرسول )
( سبعة كلهم لصلب علي … قد أصيبوا و تسعة لعقيل )
قال جعفر الصادق : وجد بالحسين ثلاث و ثلاثون طعنة بالسيف و أربع و ثلاثون ضربة و اختلفوا فيمن قتله فقال يحيى بن معين : أهل الكوفة يقولون : إن الذي قتل الحسين عمرو بن سعد قال ابن عبد البر : إنما نسب قتل الحسين إلى عمرو بن سعد لأنه كان الأمير على الخيل التي أخرجها عبيد الله بن زياد إلى قتال الحسين و أمر عليهم عمرو بن سعد و وعده أن يوليه الري إن ظفر بالحسين و قتله و كان في تلك الخيل و الله أعلم قوم من مصر و من اليمين و في شعر سليمان بن فتنة الخزاعي و قيل : إنها لأبي الرميح الخزاعي ما يدل على الاشتراك في دم الحسين و قيل : قتله سنان بن أبي سنان النخعي و قال مصعب النسابة الثقة : قتل الحسين بن علي سنان بن أبي سنان النخعي و هو جد شريك القاضي و يصدق ذلك قول الشاعر :
( و أي رزية عدلت حسينا … غداة تبيده كفا سنان )
و قال خليفة بن خياط : الذي ولي قتل الحسين شمر بن ذي الجوشن و أمير الجيش عمرو بن سعد و كان شمر أبرص و أجهز عليه خولي بن يزيد الأصبحي من حمير حز رأسه و أتى به عبيد الله بن زياد و قال :
( أوقر ركابي فضة ذهبا … أني قتلت الملك المحجبا )
( قتلت خير الناس أما و أبا … و خيرهم ـ إذ ينسبون ـ نسبا )
هذه رواية أبي عمر بن عبد البر في الاستيعاب و قال غيره : تولى حمل الرأس بشر بن مالك الكندي و دخل به على ابن زياد و هو يقول :
( أوقر ركابي فضة ذهبا … إن قتلت الملك المحجبا )
( و خيرهم إذ يذكرون النسبا … قتلت خير الناس أما و أبا )
في أرض نجد و حرا و يثربا
فغضب ابن زياد من قوله و قال : إذا عملت أنه كذلك فلم قتلته ؟ و الله لا نلت مني خيرا أبدا و لألحقنك به ثم قدمه فضرب عنقه
و في هذه الرواية اختلاف و قد قيل إن يزيد بن معاوية هو الذي قتل القاتل
و قال الإمام أحمد بن حنبل : قال عبد الرحمن بن مهدي : [ حدثنا حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم نصف النهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دم يلتقطه و يتتبعه فيها قال قلت يا رسول الله ما هذا ؟ قال : دم الحسين و أصحابه لم أزل أتبعه منذ اليوم ] قال عمار : فحفظنا ذلك اليوم فوجدناه قتل ذلك اليوم و هذا سند صحيح لا مطعن في و ساق القوم حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم كما تساق الأسرى حتى إذا بلغوا بهم الكوفة خرج الناس فجعلوا ينظرون إليهم و في الأسارى علي بن حسين و كان شديد المرض قد جمعت يداه إلى عنقه و زينب بنت علي و بنت فاطمة الزهراء و أختها أم كلثوم و فاطمة و سكينة بنت الحسين و ساق الظلمة و الفسقة معهم رؤوس القتلة
روى قطر عن منذر الثوري عن محمد بن الحنفية قال : قتل مع الحسين سبعة عشر رجلا كلهم من ولد فاطمة عليها الصلاة و السلام
و ذكر أبو عمر بن عبد البر عن الحسن البصري قال : أصيب مع الحسين بن علي ستة عشر رجلا من أهل بيته ما على وجه الأرض لهم يومئذ شبيه و قيل : إنه قتل مع الحسين من ولده و أخوته و أهل بيته ثلاثة و عشرون رجلا
و في صحيح البخاري في المناقب عن أنس بن مالك : أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعل في طست فجعل ينكت و قال في حسنة شيئا فقال أنس : كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه و سلم و كان مخضوبا بالوسمة يقال : نكت في الأرض إذا أثر فيها و نكت بالحصباء إذا ضرب بها و كان الفاسق يؤثر في رأسه المكرم بالقضيب و أمد عبيد الله بن زياد من قور الرأس حتى ينصب في الرمح فتحاماه أكثر الناس فقام رجل يقال له طارق بن المبارك بل هو ابن المشؤوم الملعون المذموم فقوره و نصبه بباب دار عبيد الله و نادى في الناس و جمعهم في المسجد الجامع و خطب الناس خطبة لا يحل ذكرها ثم دعا بزياد ابن حر بن قيس الجعفي فسلم إليه رأس الحسين و رؤوس أخوته و بنيه و أهل بيته و أصحابه و دعي بعلى بن الحسين فحمله و حمل عماته و أخواته إلى يزيد على محامل بغير وطاء و الناس يخرجون إلى لقائهم في كل بلد و منزل حتى قدموا دمشق و دخلوا من باب توما و أقيموا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي ثم وضع الرأس المكرم بين يدي يزيد فأمر أن يجعل في طست من ذهب و جعل ينظر إليه و يقول هذه الأبيات :
( صبرنا و كان الصبر منا عزيمة … و أسيافنا يقطعن كفا و معصما )
( نعلق هاما من رجال أعزة … علينا و هم كانوا أعق و أظلما )
ثم تكلم بكلام قبيح و أمر بالرأس أن تصلب بالشام و لما صلبت أخفى خالد بن عفران شخصه من أصحابه و هو من أفاضل التابعين فطلبوه شهرا حتى وجدوه فسألوه عن عزلته فقال : ألا ترون ما نزل بنا :
( جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد … متزملا بدمائه تزميلا )
( و كأنما بك يا ابن بنت محمد … قتلوا جهارا عامدين رسولا )
( قتلوك عطشانا و لم يترقبوا … في قلتك التنزيل و التأويلا )
( و يكبرون بأن قتلت و إنما … قتلوا بك التكبير و التهليلا )
و اختلف الناس في موضع الرأس المكرم ؟ و أين حمل من البلاد ؟ فذكر الحافظ أبو العلاء الهمداني أن يزيد حين قدم عليه رأس الحسين بعث به إلى المدينة فأقدم إليه عدة من موالي بني هاشم و ضم إليهم عدة من موالي أبي سفيان ثم بعث بث الحسين و بقي من أهله معهم و جهزهم بكل شيء و لم يدع لهم حاجة المدينة إلا أمر بها و بعث برأس الحسين عليه السلام إلى عمرو بن سعيد العاص و هو إذ ذلك علمله على المدينة فقال عمرو وددت أنه لم يبعث به إلي ثم أمر عمرو بن سعيد بن العاص برأس الحسين عليه السلام فكفن و دفن بالبقيع عند قبر أمه فاطمة عليها الصلاة و السلام و هذا أصح ما قيل في ذلك و لذلك قال الزبير بن بكار الرأس حمل إلى المدينة و الزبير أعلم أهل النسب و أفضل العلماء لهذا السبب قال : حدثني بذلك محمد بن حسن المخزومي النسابة
و الإمامية تقول إن الرأس أعيد إلى الجثة بكربلاء بعد أربعين يوما من المقتل و هو يوم معروف عندهم يسمون الزيارة فيه زيارة الأربعين و ما ذكر أنه في عسقلان في مشهد هناك أو بالقاهرة فشيء باطل لا يصح و لا يثبت و قد قتل الله قاتله صبرا و لقي حزنا و ذعرا و جعل رأسه الذي اجتمع فيه العيب و الذم في الموضع الذي جعل فيه رأس الحسين و ذلك بعد قتل الحسين بستة أعوام و بعث المختار به إلى المدينة فوضع بين يدي بني الحسين الكرام و كذلك عمرو بن سعد و أصحابه اللئام ضربت أعناقهم بالسيف و سقوا كأس الحمام و بقي الوقوف بين يدي الملك العلام في يوم { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام }
و في الترمذي : حدثنا واصل بن عبد الأعلى حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير قال : لما أتي برأس عبيد الله بن زياد و أصحابه نصبت في المسجد في الرحبة فانتهيت إليهم و هم يقولون قد جاءت فإذا هي حية قد جاءت تخلل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله فمكثت هنيهة ثم خرجت فذهبت حتى تغيبت ثم قالوا : جاءت قد جاءت ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثا
قال العلماء : و ذلك مكافأة لفعله برأس الحسين و هي من آيات العذاب الظاهرة عليه ثم سلط الله عليهم المختار فقتلهم حتى أوردهم النار و ذلك أن الأمير مذحج بن إبراهيم بن مالك لقي عبيد الله بن زياد على خمسة فراسخ من الموصل و عبيد الله في ثلاثة و ثلاثين ألفا و إبراهيم في أقل من عشرين ألفا فتطاعنوا بالرماح و تراموا بالسهام و اصطفقوا بالسيوف إلى أن اختلط الظلام فنظر إبراهيم إلى رجل عليه بزة حسنة و درع سابغة و عمامة خز دكناء و ديباجة خضراء من فوق الدرع و قد أخرج يده من الديباجة و رائحة المسك تشم عليه و في يده صحيفة له مذهبة فقصده الأمير إبراهيم لا لشيء إلا لتلك الصحيفة و الفرس الذي تحته حتى إذا لحقه لم يلبث أن ضربه ضربة كانت فيها نفسه فتناول الصحيفة و غار الفرس فلم يقدر عليه و لم يبصر الناس بعضهم بعضا من شدة الظلمة فتراجع أهل العراق إلى عسكرهم و الخيل لا تطأ إلا على القتلى فأصبح الناس و قد فقد من أهل العراق ثلاثة و سبعون رجلا و قتل من أهل الشام سبعون ألفا
( فيتعشوا منهم بسبعين ألفا … أو يزيدون قبل وقت العشاء )
فلما أصبح وجد الأمير الفرس رده عليه رجل كان أخذه و لما علم أن الذي قتل هو عبيد الله بن زياد كبر و خر ساجدا و قال : الحمد لله الذي أجرى قتله على يدي فبعث به إلى المختار زيادة على سبعين ألف رأس في أولها أشد رؤوس أهل الفساد عبيد الله المنسوب إلى زياد
قال المؤلف رحمه الله : فقلت هذا من كتاب مرج البحرين في مزايد المشرقين و المغربين للحافظ أبي الخطاب بن دحية رضي الله عنه
فصل
و مثل صنيع عبيد الله بن زياد صنع قبله بشر بن أرطأة العامري الذي هتك الإسلام و سفك الدم الحرام و أذاق الناس الموت الزؤام لم يدع لرسول الله صلى الله عليه و سلم الذمام فقتل أهل بيته الكرام و حكم في مفارقهم الحسام و عجل لهم الحمام ذبح ابني عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب و هما صغيران بين يدي أمهما يمرحان و هما قثم و عبد الرحمن فوسوست أمهما و أصابها ضرب من الجان لم أشعله الثكل في قلبها من لهب النيران
روى أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه في حديث فيه طول : كان أبو ذر الغفاري صاحب رسول الله يتعوذ من شر يوم البلاء و يوم العورة في صلاة صلاها أطال قيامها و ركوعها و سجودها قال : فسألناه مم تعوذت و فيم دعوت ؟ فقال : تعوذت من يوم البلاء و يوم العورة فإن نساء من المسلمات ليسبين ليكشف عن سوقهن فأيتهن كانت أعظم ساقا اشتريت على عظم ساقها فدعوت الله عز و جل أن لا يدركني هذا الزمان و لعلكما تدركانه
و ذكر أبو عمر بن عبد البر قال : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن أنبأنا أبو محمد إسماعيل بن محمد الحبطلي ببغداد في تاريخه الكبير حدثنا محمد بن مؤمن بن حماد قال : حدثنا سلمان بن شيخ قال : حدثنا محمد بن عبد الحكم عن عوانة قال : أرسل معاوية بعد تحكيم الحكمين بشر بن أرطأة في جيش فساروا من الشام حتى قدموا المدينة و عامل المدينة يومئذ لعلي عليه السلام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم ففر أبو أيوب و لحق بعلي رضي الله عنهما و دخل بشر المدينة فصعد منبرها فقال : أين شيخي الذي عهدته هنا بالأمس يعني عثمان بن عفان ثم قال يا أهل المدينة : و الله لولا ما عهدته إلى معاوية ما تركت فيها محتلما إلا قتلته ثم أمر أهل المدينة بالبيعة لمعاوية و أرسل إلى بني سلمة فقال ما لكم عند أمان و لا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله فأخبر جابر فانطلق حتى جاء الشام فأتى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم فقال لها : ماذا ترين فإني خشيت أن أقتل و هذه بيعة ضلالة فقالت : أرى أن تبايع و قد أمرت ابني عمر بن أبي سلمة أن يبايع فأتى جابر بشرا فبايعه لمعاوية و هدم بشر دورا بالمدينة ثم انطلق حتى أتى مكة و بها أبو موسى الأشعري فخاف أبو موسى على نفسه أن يقتله فهرب فقيل ذلك لبشر فقال : ما كنت لأقتله و قد خلع عليا و لم يطلبه و كتب أبو موسى إلى اليمن أن خيلا مبعوثة من عند معاوية تقتل من الناس من أبى أن يقر بالحكومة ثم مضى بشر إلى اليمن و عامل اليمن لعلي رضي الله عنه عبيد الله بن العباس فلما بلغه أمر بشر فر إلى الكوفة و استخلف على المدينة عبيد الله بن عبد مدان الحارثي فأتى بشر فقتله و قتل ابنه و لقي ثقل عبيد الله بن العباس و فيه ابنان صغيران لعبيد الله بن عباس فقتلهما و رجع إلى الشام
و ذكر أبو عمرو الشيباني قال : لما وجه معاوية بشر بن أرطاة لقتل شيعة علي رضي الله عنه سار إلى أن أتى المدينة فقتل ابني عبيد الله بن العباس و فر أهل المدينة حتى دخلوا الحرة حرة بني سليم و هذه الخرجة التي ذكر أبو عمرو الشيباني أغار بشر على همدان فقتل و سبى نساءهم فكن أول نساء سبين في الإسلام و قتل أحياء من بني سعد و قد اختلفوا كما ترى في أي موضع قتل الصغيرين من أهل البيت هل في المدينة أو في مكة أو في اليمن لأنه دخل هذه البلاد و أكثر فيها الفساد و أظهر لعلي رضي الله عنه العناد و أفرط في بعضه و زاد و سلط على أهل البيت الكريم الأجناد فقتل و سبى و أباد و لم يبق إلا أن يخد الأخاديد و يعد الأوتاد و كان معاوية قد بعثه في سنة أربعين إلى اليمن و عليها عبيد الله ابن العباس أخو عبد الله بن العباس ففر عبيد الله و أقام بشر باليمن و باع دينه ببخس من الثمن فأخاف السبيل و رعى المرعى الوبيل و باع المسلمات و هتك المحرمات فبعث علي رضي الله عنه في طلبة حارثة بن قدامة السعدي فهرب بشر إلى الشام و قد ألبس بذميم أفعاله ثياب العار و الذمام و بقي الوقوف بين يدي الملك العلام { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام } و رجع الشريف أبو عبد الله محمد إلى بلاد اليمن فلم يزل واليا عليهم حتى قتل علي رضي الله عنه و يقال : إن بشر بن أطأرة لم يسمع من النبي صلى الله عليه و سلم حرفا لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قبض و هو صغير فلا تصح له صحبة قاله الإمام أحمد بن حنبل و يحيى بن معين و غيرهما و قال آخرون : خوف في آخر عمره قال يحيى بن معين : و كان الرجل سوء قال المؤلف رحمه الله : كذا ذكره الحافظ أبو الخطاب بن دحية رحمه الله
و قد ذكر أبو داود [ عن جنادة عن ابن أبي أمية قال : كنا مع بشر بن أطأرة في البحر فأتى بشارق يقال له منصور و قد سرق بختية فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا تقطع الأيدي في الغزو و لولا ذلك لقطعته ]
قال أبو محمد عبد الحق : بشر هذا يقال ولد في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم و كانت له أخبار سوء في جانب علي و أصحابه و هو الذي ذبح طفلين لعبيد الله بن العباس ففقدت أمهما عقلها و هامت على وجهها فدعا عليه علي رضي الله عنه أن يطيل الله عمره و يذهب عقله كان كذلك قال ابن دحية : و لما ذبح الصغيرين و فقدت أمهما عقلهما كانت تقف في الموسم تشعر شعرا يبكي العيون و يهيج بلابل الأحزان و العيون و هو هذا :
( هامن أحس بإبني اللذين هما … كالدرتين تسطا عنهما الصدف )
يقال تسطعت العصاة إذا صارت فلقا قاله في المجمل و غيره
( هامس أحس بإنبي اللذين هما … سمعي و عقلي فقلبي اليوم مختطف )
( حدثت بشرا و ما صدقت ما زعموا من قولهم و من الإفك الذي اقترف )
( أحنى على و دجي إبني مرهف … مشحوذة وكذاك الإثم يقترف )