"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

التقابل التأويلي منهجا لكشف انسجام خطاب القرآن

القدس العربي :

رشيد أمديون : كاتب مغربي :

 تعد المقاربة التأويليلة التقابلية، اجتهادا نظريا يقدم طرحا معرفيا ومنهاجيا، يسعى إلى بناء نماذج تصورية وإجرائية لفهم النصوص وتحليل خطابها انطلاقا مما يزخر به تراثنا العربي الإسلامي، من بلاغة ولغة ونحو وفلسفات وتفاسير وتأويلية.. مع الاستئناس بما قدمته نظريات التلقي والتأويل الغربية.

ويقدم في هذا الصدد كتاب «التقابلية منهجا لانسجام خطاب التأويل، تلقي سورة الكهف تمثيلا» للباحث عرنيبة ميلود، الصادر عام 2019 عن مطبعة قرطبة في أكادير، أنموذجا لتأويلية جديدة للخطاب القرآني، تقوم على إجلاء التوافق بين التأويل بالتقابل وانسجام التأويل، مع تبيين تماسك النص وانتظامه تقابليا، بما اعتمده الباحث من استراتيجية منهجية (التقابل التأويلي) لبناء فهم خطاب القرآن وانسجام التأويل، وهذا العمل هو إسهام في بناء أنموذج «القارئ البليغ» بصفته بانيا للمعاني والخطابات، ودارسا لها ومقدما ما يتطلبه البحث من تمكن في العلوم التي تُستحضر لإدراك المعنى، وعلى هذا المنوال سار الباحث ميلود عرنيبة في هذا الكتاب، الذي اشتغل فيه على سورة الكهف. وقد انصب العمل على سورة واحدة من سور القرآن الكريم، نظرا للطابع الإشكالي الذي تطرحه بنية هذه السورة، فهي سورة متعددة الموضوعات، تضمنت قصصا مختلفة، إلى جانب موضوعات أخرى، ما جعل أمر البحث في انسجامها مطلبا له من الأسباب ما يبرره (كما يقول الباحث).
وقد قام الكاتب برصد مجموعة من المستويات التقابلية البنائية، ومستأنسا بالتراث التفسيري للقرآني، ومنطلقا من مسلمة أن الخطاب القرآني خطاب منسجم، لأنه خطاب رباني يتفوق على جميع الخطابات البشرية، وأن بنيته الخطابية هدفها الإقناع (لهذا وظفت أساليب المقابلة بين ثنائيات منها: الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، والتبشير والإنذار، وحال المؤمنين وحال الكفار، والجنة والنار…) وأمام هذه الحقيقة المقررة لم يبق للدارسين للقرآن إلا أن يجتهدوا في الوقوف على آليات هذا الانسجام ومظاهره، باعتباره أحد وجوه إعجازه. ثم تبنى الباحث افتراضه المبني على ضرورة الاستدلال، على انسجام الخطاب القرآني بما استجد من آليات في اللسانيات الحديثة، «باعتباره شريعة حياة صالحة لكل زمان ومكان، يترتب عنه إيماننا بقدرته على الاستجابة لآليات الفهم والاستيعاب الخاصة بكل زمان ومكان» ولهذا عمل على تجريب آلية التأويل التقابلي باعتبارها وسيلة يمكن أن تسهم في اكتشاف انسجام الخطاب القرآني، وهو ما يعد قراءة جديدة تستثمر ما استجد في حقل اللسانيات، وتحاول أن تجد لها سبيلا للانتظام في سلك الاتجاه الداعي إلى قراءة القرآن قراءة تنطلق من واقعنا الفكري والثقافي الراهن، وتشتغل بالقرآن، باعتباره نصوصا ذات خطابات تأسيسية كبرى في الثقافة العربية الإسلامية.
وعلى هذا فقد جعل الباحث عنوان الفصل الأول «التأويل بالتقابل والانسجام: الدلالة والتطور» وقسمه إلى ثلاثة مباحث. الأول؛ «رحلة التقابل من ضيق البديع إلى رحابة التاويلية» تناول ضمنه الدلالة اللغوية للتقابل، وتطور المفهوم عند البلاغيين العرب وجهودهم.. وبذلك رصد الباحث اتجاهين لهذا التطور: أحدهما ظل حبيس النظرة الشكلية للتقابل، والتي عنى أصحابها بالجانب الشكلي الجمالي، والاتجاه الآخر حاول البحث في الوظيفة الدلالية للتقابل، ودورها المعنوي والدلالي، لكن بأقل من الاهتمام بالجانب الأول. كما أن المحدثين من الدارسين تنبهوا لأهمية التقابل في صناعة المعاني، «وعلى رأسهم محمد بازي، الذي وسع من مفهوم التقابل، وتجاوز به حدود الدائرة الضيقة التي حصره فيها القدامى، وربطه بالتأويل، فأصبح استراتيجية فاعلة في الكشف عن معاني النصوص وتأويلها، عبر البحث عن كل أشكال التقابل الممكنة المساعدة في الفهم. وهي آلية تتجاوز مستويي الكلمة والجملة، وتوسع من أفق الإدراك والتأويل ليطال مستويات أخرى مثل، الفقرات، والمقاطع، والنصوص الموازية، والسياقات الداخلية والخارجية، والنصوص والخطابات بمختلف أنواعها».

يكون التأويل بالتقابل، مبرزا لانسجام الخطاب القرآني في سورة الكهف، ومبينا النظام الخفي الذي بني وفقه الخطاب القرآني، والذي يكشف عبر عدة تقابلات ما يؤكد انسجام النص وانتظامه تقابليا، وهو محور لبناء الفهم وإنتاج بنى دلالية جديدة.

ثم في المبحث الثاني المعنون بـ»الانسجام في اللسانيات الحديثة، الدلالة والآليات»؛ عالج دلالة الانسجام وآليات تحققه في النصوص في البيئة الغربية باعتبارها بيئة النشأة.. وفي المبحث الثالث «الانسجام، إسهامات أولية للعلماء المسلمين»؛ رصد هذا المبحث بعض أدوات انسجام الخطاب القرآني عند علماء القرآن والمفسرين قديما، إذ توقفوا عند مجموعة من الآليات التي يتحقق فيها انسجام الخطاب القرآني، وقد ساهموا بوعيهم من خلال إمعانهم التفكير والتدبر، في تشكيل ما يعرف اليوم بعلم اللسانيات النصية الحديث، إذ تتقاطع آلياتهم مع كثير من الآليات التي توصل إليها علماء اللسانيات النصية الحديث في الغرب، ويبقى مبحث «المناسبة بين الآيات والسور» من أهم المباحث التي تعتبر محاولات أولى (جادة) في الكشف عن نصية النص القرآني وانسجام خطابه.
ثم عنون الباحث الفصل الثاني بـ»كيف يحقق التأويل التقابلي انسجام الخطاب عند المتلقي؟» وهو سؤال أجاب عنه في مبحثين: الأول «التقابل وانسجام مقاطع السورة»؛ خصصه لعملية تقطيع سورة الكهف إلى مقاطع دلالية، ثم تتبع البنيات التقابلية في كل مقطع، ليبين كيف تشتغل لتحقق انسجام كل مقطع على حدة: (تقابلات مقدمة السورة. تقابلات قصة أصحاب الكهف. تقابلات قصة تكبر مشركي قريش. تقابلات قصة الرجلين صاحب الجنة والفقير. تقابلات المقطع الخاص بالمثل القرآني: «واضرب لهم مثل الحياة الدنيا…». تقابلات قصة آدم وإبليس والتعقيب عليها. تقابلات المقطع الخامس: «وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين..». تقابلات قصة موسى والخضر. تقابلات قصة ذي القرنين. ثم تقابلات المقطع الختامي للسورة: «تركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض..» إلى قوله تعإلى: «قل إنما أنا بشر مثلكم..»). وبين الباحث أن كل مقطع منسجم في ذاته، وأن هذه التقابلات، التي توقف عندها الباحث، تبرهن بوضوح على انسجام المقاطع التي وردت فيها. كما أنها، تكشف عن جماليات البناء التقابلي في الخطاب القرآني، وفاعلية التأويلية التقابلية في فهم هذا الخطاب وتأويله. وفي المبحث الثاني قام برصد التقابلات الكبرى في السورة عموديا؛ إذ بين انسجام مطلع السورة مع بقية المقاطع، عن طريق إجراء تقابلات دلالية باعتبارها خيطا ناظما للمقاطع (1ـ التقابل بين المطلع وقصة أصحاب الكهف. 2 ـ التقابل بين المطلع وقصة تكبر مشركي قريش. 3 ـ التقابل بين المطلع وقصة الرجلين. 4 ـ التقابل بين المطلع ومقطع ذكر قِصر الدنيا وأحوال القيامة. 5 ـ التقابل بين المطلع وقصة إبليس وآدم، وذكر حال المشركين والغافلين. 6 ـ التقابل بين المطلع وقصة موسى والخضر. 7 ـ التقابل بين المطلع وقصة ذي القرنين. 8 ـ التقابل بين المطلع ومقطع ذكر ثواب المؤمنين وعقاب الكافرين. 9 ـ التقابل بين المطلع والخاتمة). ثم قام برصد أفقي؛ حيث بحث في كيف تحقق الانسجام بين كل مقطع والمقطع الذي يليه (1 ـ تقابل قصة مشركي قريش. 2 ـ تقابل قصة تكبر مشركي قريش على الفقراء المسلمين/قصة الرجلين. 3 ـ تقابل قصة الرجلين/ذكر قصر الدنيا وأحوال الآخرة. 4 ـ تقابل الحديث عن قصر الدنيا وعن أحوال الآخرة/قصة إبليس وآدم. 5 ـ تقابل قصة إبليس وآدم/قصة موسى والخضر. 6 ـ تقابل قصة موسى والخضر/قصة ذي القرنين. 7 ـ تقابل قصة ذي القرنين/ذكر جزاء الكافرين والمؤمنين يوم القيامة. 8 ـ تقابل ذكر جزاء الكافرين والمؤمنين يوم القيامة/خاتمة السورة). فاتضح من خلال هذا الإجراء أن كل مقطع من المقاطع المشكلة لهندسة السورة، يرتبط بالمطلع عن طريق صيغة ما من صيغ التقابل، فخلص الباحث إلى تأكيد انسجام السورة من خلال تضافر كل المقاطع في تأكيد قيم العقيدة الصحيحة والتحذير من قيم العقيدة الفاسدة.
ثم ختم الباحث بحثه بخاتمة تناولت مجمل ما سبق، مع مجموعة من الملاحظات التي خلص إليها.. بحيث أن الباحث توصل إلى الكشف عن البنية التي تميز الخطاب القرآني في هذه السورة، فهي تنطلق من تقابل بنيوي سماه التقابل النووي/أساس، ورد في مطلع السورة، وهو تقابل العقيدة الصحيحة /العقيدة الفاسدة، وعليها تأتي باقي المقاطع والآيات مرتبطة بهذا التقابل عبر مجموعة من العلاقات، وبنيات تقابيلة، إما مؤكدة لهذا التقابل الأساس أو متممة له، أو مستدلة عليه أو موضحة وشارحة له.
وبهذا يكون التأويل بالتقابل، مبرزا لانسجام الخطاب القرآني في سورة الكهف، ومبينا النظام الخفي الذي بني وفقه الخطاب القرآني، والذي يكشف عبر عدة تقابلات ما يؤكد انسجام النص وانتظامه تقابليا، وهو محور لبناء الفهم وإنتاج بنى دلالية جديدة.
إن الباحث من خلال هذا البحث، الذي يندرج في مجال الدراسات القرآنية أكد على أن معالجة الخطاب القرآني، بواسطة ما توصلت إليه العلوم الإنسانية الحديثة من كشوفات، صار ممكنا ومتاحا، بل هو تحد يستدعي بذل مزيد من الجهد والبحث من أجل ترهين الخطاب القرآني في واقعنا، وتنزيله في حياتنا منازل تليق به ككتاب رباني بدل الاكتفاء بصيانته وحفظه في المصاحف أو تزيين الرفوف، والتبرك به والاقتصار على تلاوته فقط. وعبر تجريب آلية التقابل والتأويل على سورة واحد يمكن الطموح إلى الكشف عن انسجام الخطاب القرآني في سور أخرى أو في كل السور، كما «يمكن إعادة النظر في الكثير مما قيل في النقد العربي بخصوص تفكك القصيدة العربية» فمن خلال آلية التقابل يمكن أن تكشف انسجام هذه القصيدة التي اتهمت بالتفكك والتجزيء بين عناصرها.

كاتب مغربي