القدس العربي :
كان لافتاً أن يلجأ وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى استعادة الذكرى الـ26 لمجزرة سربرنيتسا، التي ارتكبتها القوات الصربية وراح ضحيتها حسب آخر إحصاء رسمي 8372 من مسلمي البوسنة والهرسك، بينهم 435 طفلاً مع بقاء 1483 ضحية مجهولة المصير حتى الساعة. وقال بلينكن في بيان رسمي: «بينما نتأمل هذه الذكرى، نعيد تأكيد التزامنا بالعمل على منع الفظائع في المستقبل».
لكن ذكرى الإبادة الجماعية التي شهدتها سربرنيتسا لا يصح أن تُستعاد لمجرد قطع الوعود الكاذبة بالعمل على عدم تكرار مذابح أخرى على الشاكلة ذاتها أو أسوأ وأكثر وحشية، فالعالم اليوم لا يبدو بعيداً عن أشباح الماضي في أماكن متفرقة تشهد استمرار سياسات التواطؤ على جرائم الحرب، وليست ساحات مثل سوريا واليمن وأفغانستان وغزّة وسواها سوى أمثلة حية على عجز ما يسمى بـ«المجتمع الدولي» عن أخذ الدروس الملائمة. وقبل سنوات قليلة فقط كان الدبلوماسي الأمريكي المخضرم نيكولاس برنز قد أطلق صرخة تحذير مدوية حين تساءل: هل وصلنا في سوريا إلى برهة سربرنيتسا؟
ومن غير المرجح أن يكون بلينكن قد نسي سياسات البلقان التي اعتمدها الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون وكانت وراء تشدد الصرب وبروز صقور من أمثال سلوبودان ميلوسيفيتش ورادوفان كراجيتش وراتكو ملاديتش، ودخول هؤلاء في هذا الشكل أو ذاك من التفاهمات مع دبلوماسيين يمثلون قوى عظمى، أمثال المبعوث الأمريكي ريشارد هولبروك والوسيط السويدي كارل بيلدت والجنرال الفرنسي قائد قوات الأمم المتحدة في البوسنة والممثل الأممي الياباني ياسوشي أكاشي.
ولهذا فإن ذكرى سربرنيتسا هي على قدم المساواة فرصة، وإن كانت دامية ومأساوية، لتأمّل الأدوار التي يمكن أن تلعبها في تكرار الماضي المشؤوم دول ديمقراطية تزعم رفع راية حقوق الإنسان وضمان تطبيق القانون الدولي ومناهضة شريعة الغاب ومنطق فرض السياسات عن طريق القوة والتنمر. فلم يعد خافياً أن القوات الصربية ارتكبت مجزرة سربرنيتسا على مسمع ومرأى الوحدات العسكرية الهولندية العاملة ضمن قوات الأمم المتحدة، والتي كانت أحد الأسباب المباشرة وراء إراقة الدماء لأنها أعلنت المدينة آمنة أمام المدنيين، ثم وقفت مكتوفة الأيدي حين شرع الجنود الصرب في تنفيذ الإبادة الجماعية.
أخيراً، ورغم صدور أحكام بالسجن المؤبد على عدد من مجرمي الحرب المسؤولين عن مجازر البوسنة والهرسك، فإن ذكرى سربرنيتسا تقتضي وقفة نقدية معمقة حول حدود هيئات قانونية دولية مثل المحكمة الجنائية الدولية أو فرعها المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة، وهذه الأخيرة استغرقت أكثر من 25 سنة لكي تتوصل إلى إدانة جرائم حرب صريحة ارتُكبت في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع العالم. وليس الفشل الذريع الذي منيت به هذه المحاكم إزاء قضايا مثل اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، أو عجزها عن محاكمة بشار الأسد وأمثاله، سوى الدليل على أن القانون الدولي لم يبلغ بعد مرحلة المحاسبة عن جرائم الحرب، فكيف بردعها وضمان عدم تكرارها.