"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

الفصل الثامن والستون من كتاب ” سيرة أمير المؤمنين عليهم السلام” لسماحة الشيخ علي الكوراني العاملي”

الفصل الثامن والستون : الكوفة مدينة عريقة جددها المسلمون

سيرة أمير المؤمنين عليهم السلام
علي الكوراني العاملي
المجلد الرابع

زعمت السلطة أنها مَصَّرَت الكوفة

فقد ادعت مصادر الحديث والتاريخ الرسمي ، أن سعد بن أبي وقاص مصَّرالكوفة وأسكنها المسلمين ، وأن ذلك كان بتوجيه عمر بن الخطاب .
ففي فتوح البلاذري ( 2 / 338 ) : ( أن عمر كتب إلى سعد بن أبي وقاص يأمره أن يتخذ للمسلمين دار هجرة ، وأن لا يجعل بينه وبينهم بحراً . فأتى الأنبار وأراد أن يتخذها منزلاً ، فكثر على الناس الذباب ، فتحول إلى موضع آخر فلم يصلح ، فتحول إلى الكوفة فاختطها وأقطع الناس المنازل ، وأنزل القبائل منازلهم وبنى مسجدها . وذلك في سنة سبع عشرة ) .
والصحيح أن الذي اختار مكان الكوفة حذيفة وسلمان ، بتوجيه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . قال الكلاعي ( 2 / 534 ) : ( فكتب إليه عمر : إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان ، فابعث سلمان رائداً وحذيفة ، وكانا رائدي الجيش ، فليرتادا ) .
وقال الطبري ( 3 / 145 ) : فخرج سلمان حتى أتى الأنبار فسار في غربي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة . وخرج حذيفة في شرقي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة ، والكوفة على حصباء . وكل رملة حمراء يقال لها سهلة ، وكل حصباء ورمل هكذا مختلطين فهو كوفة ، فأتيا عليها وفيها ديرات ثلاثة : دير حرقة ، ودير أم عمرو ، ودير سلسلة ، وخصاص خلال ذلك ، فأعجبتهما البقعة فنزلا فصليا وقال كل واحد منهما : اللهم رب السماء وما أظلت ورب الأرض وما أقلت ، والريح وما ذرَت والنجوم وما هوَت ، والبحار وما جرت ، والشياطين وما أضلت ، والخصاص وما أجنت ، بارك لنا في هذه الكوفة واجعلها منزل ثبات . وكتبا إلى سعد بالخبر » .
————————— 6 —————————
أقول : هذه النصوص تدل على أن الكوفة تمصرت في زمن عمر باختيار سلمان ( رضي الله عنه ) ، وأنه كان يعرف تاريخها ومستقبلها ، وكانت معمورة نسبياً ! وكان تمصيرها بتوجيه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلي ( عليه السلام ) ، لكنهم ينسبون كل فضيلة إلى حكامهم ، ويبعدونها عن أهل البيت ( عليهم السلام ) !
وقد ذكروا في صلح خالد مع أهل بانقيا مع القسيس صلوبا في عهد أبي بكر ، ومن ضمنها الكوفة ، فقالوا إنها كانت معمورة ، وأكثر أهلها نصارى .
قال الطبري ( 2 / 551 ) : « فمضى خالد يريد العراق حتى نزل بقريات من السواد يقال لها بانقيا وباروسما وألِّيس فصالحه أهلها . وكان الذي صالحه عليها ابن صلوبا ، وذلك في سنة اثنتي عشرة ) .
فكانت الكوفة قرى وأديرة ، وفيها قصر للأكاسرة ، وآثار مسجد نوح ( عليه السلام ) .
وروى البلاذري ( 2 / 354 ) عن سلمان قوله : « الكوفة قبة الإسلام ، يأتي على الناس زمان لا يبقى مؤمن إلا وهو بها ، أو يهوي قلبه إليها » .
فتحدث عن مستقبلها ، بما سمعه من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلي ( عليه السلام ) .
وروى ابن عساكر ( 37 / 15 ) : « عن عبد الملك بن أبي ذر الغفاري ، قال : أمرني أبي بصحبة سلمان الفارسي ، فصحبته إلى الشام فرابطنا بها ، حتى إذا انقضى رباطنا أقبلنا نريد الكوفة ، فلما أتينا إلى النجف قال لي سلمان : أهي هي ؟ قال : قلت لا ، وكانت أبيات الحيرة . قال : فسرنا حتى بدت لنا أبيات الكوفة فقال لي : أهي هي ؟ قال : قلت نعم . قال : واهاً لك أرض البلية وأرض التقية ! والذي نفس سلمان بيده إني لأعلم أن لك زماناً لا يبقى تحت أديم السماء مؤمن إلا وهو فيك أو يحن إليك .
والذي نفس سلمان بيده كأني أنظر إلى البلاء يصب عليك صباً ، ثم يكشفه عنك قاصم الجبارين . والذي نفس سلمان بيده ما أعلم أنه تحت أديم السماء أبيات يدفع الله عنها من البلاء والحزن إلا دون ما يدفع عنك ، إلا أبياتاً أحاطت ببيت الله الحرام أو بقبر نبيه ( عليه السلام ) . والذي نفس سلمان بيده كأني أنظر إلى المهدي قد خرج منك في اثني عشر ألف عنان ، لا يرفع له راية إلا أكبها الله لوجهها ، حتى يفتح مدينة القسطنطينية » .
————————— 7 —————————
وقصده بالقسطنطينية عاصمة الروم . وفي بعض الروايات أنه يفتح بلاد الروم ، فطبق الراوي كلام سلمان على القسطنطينية .

قال أهل البيت ( عليهم السلام ) إن الكوفة من زمن آدم ونوح ( ( صلى الله عليه وآله ) )

فقد روينا بسند صحيح أن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : « عُرِجَ بي إلى السماء ، وإني هبطت إلى الأرض فأهبطت إلى مسجد أبي نوح ( عليه السلام ) وأبي إبراهيم وهو مسجد الكوفة ، فصليت فيه ركعتين » . ( كامل الزيارات / 78 ) .
وفي الكافي ( 8 / 279 ) : « عن المفضل بن عمر ، قال : كنت عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) بالكوفة أيام قدم على أبي العباس ( السفاح ) فلما انتهينا إلى الكناسة قال : هاهنا صلب عمي زيد ( رحمه الله ) ثم مضى حتى انتهى إلى طاق الزياتين وهو آخر السراجين ، فنزل وقال : إنزل فإن هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأول ، الذي خطه آدم ( عليه السلام ) وأنا أكره أن أدخله راكباً . قال قلت : فمن غيَّره عن خطته ؟ قال : أما أول ذلك الطوفان في زمن نوح ( عليه السلام ) ، ثم غيره أصحاب كسرى ونعمان ، ثم غيَّره بعد زياد بن أبي سفيان . فقلت : وكانت الكوفة ومسجدها في زمن نوح ( عليه السلام ) ؟ فقال لي : نعم يا مفضل ، وكان منزل نوح وقومه في قرية على منزل من الفرات ، مما يلي غربي الكوفة . قال : وكان نوح رجلاً نجاراً فجعله الله عز وجل نبياً وانتجبه ، ونوح أول من عمل سفينة تجري على ظهر الماء . قال : ولبث نوح ( عليه السلام ) في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل فيهزؤون به ويسخرون منه ، فلما رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال : رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا . إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّاراً . فأوحى الله عز وجل إلى نوح أن اصنع سفينة وأوسعها ، وعجل عملها فعمل نوح سفينة في مسجد الكوفة بيده ، فأتى بالخشب من بُعد حتى فرغ منها .
قال المفضل : ثم انقطع حديث أبي عبد الله ( عليه السلام ) عند زوال الشمس فقام فصلى الظهر والعصر ، ثم انصرف من المسجد ، فالتفت عن يساره وأشار بيده إلى موضع دار الداريين ، وهو موضع دار ابن حكيم ، وذاك فرات اليوم ، فقال لي :
————————— 8 —————————
يا مفضل ، هاهنا نصبت أصنام قوم نوح ( عليه السلام ) : يغوث ويعوق ونسراً . ثم مضى حتى ركب دابته فقلت : جعلت فداك في كم عمل نوح سفينته حتى فرغ منها ؟ قال : في دورين ، قلت : وكم الدورين ؟ قال : ثمانين سنة . قلت : وإن العامة يقولون : عملها في خمس مائة عام ، فقال : كلا كيف والله يقول : وَوَحْيِنَا ! قال قلت : فأخبرني عن قول الله عز وجل : حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ، فأين كان موضعه وكيف كان ؟ فقال : التنور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة المسجد . فقلت له : فإن ذلك موضع زاوية باب الفيل اليوم . ثم قلت له : وكان بدء خروج الماء من ذلك التنور ؟ فقال : نعم إن الله عز وجل أحب أن يرى قوم نوح آية ، ثم إن الله تبارك وتعالى أرسل عليهم المطر يفيض فيضاً ، وفاض الفرات فيضاً ، والعيون كلهن فيضاً ، فغرقهم الله عز ذكره ، وأنجى نوحاً ومن معه في السفينة . فقلت له : كم لبث نوح في السفينة حتى نضب الماء وخرجوا منها ؟ فقال : لبثوا فيها سبعة أيام ولياليها ، وطافت بالبيت أسبوعاً ، ثم استوت على الجودي ، وهو فرات الكوفة .
فقلت له : إن مسجد الكوفة قديم ؟ فقال : نعم ، وهو مصلى الأنبياء ( عليهم السلام ) ولقد صلى فيه رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين أسري به إلى السماء ، فقال له جبرئيل : يا محمد هذا مسجد أبيك آدم ومصلى الأنبياء ( عليهم السلام ) ، فانزل فصل فيه ، فنزل فصلى فيه . ثم إن جبرئيل عرج به إلى السماء » . يعني بعد إكمال الإسراء به .
وفي رواية تفسير القمي ( 2 / 3 ) أن جبرئيل ( عليه السلام ) أنزل النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) في المدينة ، فصلى فيها وأخبره أنها مهاجره ، وصلى في طور سيناء ، وبيت لحم أيضاً .

واستفاضت أحاديثنا في فضل الكوفة

فقد عقد الشيخ الطوسي في التهذيب ( 6 / 31 ) : باب فضل الكوفة والمواضع التي يستحب فيها الصلاة . وأورد فيه ستاً وعشرين حديثاً .
منها : عن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) : ( قلت له : أي البقاع أفضل بعد حرم الله وحرم رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ؟ فقال : الكوفة يا أبا بكر ، هي الزكية الطاهرة ، فيها قبور النبيين المرسلين وغير المرسلين ، والأوصياء الصادقين ، وفيها مسجد سهيل الذي لم
————————— 9 —————————
يبعث الله نبياً إلا وقد صلى فيه ، وفيها يظهرعدل الله ، وفيها يكون قائمه والقُوَّامُ من بعده ، وهي منازل النبيين والأوصياء والصالحين ) .
فهي ثالث الحرمين ، وسماها الإمام الصادق ( عليه السلام ) حرماً ، قال : ( مكة حرم الله وحرم رسوله ( ( عليهما السلام ) ) وحرم علي بن أبي طالب ، الصلاة فيها بمائة ألف صلاة ، والدرهم فيها بمائة ألف درهم . والمدينة حرم الله وحرم رسوله ( ( عليهما السلام ) ) وحرم علي بن أبي طالب ، الصلاة فيها بعشرة آلاف صلاة ، والدرهم فيها بعشرة آلاف درهم ، والكوفة حرم الله تعالى وحرم رسوله ( ( عليهما السلام ) ) وحرم علي بن أبي طالب ، الصلاة فيها بألف صلاة ، والدرهم فيها بألف درهم ) .
ومعنى : الدرهم فيها بألف : ثواب ما تنفقه فيها ، أو بركة ما تربحه فيها .
وروى الطوسي أن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) جاء من المدينة ليصلي في مسجد الكوفة ، وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه قال : ( صلى فيه ألف نبي وألف وصي ) .
وعن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( لو يعلم الناس ما في مسجد الكوفة لأعدوا له الزاد والرواحل من مكان بعيد ، إن صلاة فريضة فيه تعدل حجة ، وصلاة نافلة
تعدل عمرة ) .
وروينا عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قوله : ( وإن ميمنته لروضة من رياض الجنة ، وإن مؤخره لروضة من رياض الجنة ، وإن الصلاة المكتوبة فيه لتعدل بألف صلاة ، وإن النافلة لتعدل بخمس مائة صلاة ، وإن الجلوس فيه بغير تلاوة ولا ذكر لَعبادة ، ولو علم الناس ما فيه لأتوْه ولو حبواً ) .
وعن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : ( إن الله عز وجل يهبط ملكاً في كل ليلة معه ثلاثة مثاقيل من مسك الجنة فيطرحه في فراتكم هذا ، وما من نهر في شرق الأرض وغربها أعظم بركة منه ) .
وروي أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( جاء على دابته في ثياب سفره حتى وقف على جسر الكوفة ، ثم قال لغلامه : إسقني ، فأخذ كوز ملاح فغرف فيه وسقاه وشرب الماء ، وهو يسيل على لحيته وثيابه ، ثم استزاده فزاده ، ثم استزاده فزاده ، فحمد الله
————————— 10 —————————
ثم قال : نهر ما أعظم بركته ، أما إنه يسقط فيه كل يوم سبع قطرات من الجنة ، أما لو علم الناس ما فيه من البركة لضربوا الأخبية على حافتيه ، ولولا ما يدخله من الخطائين ما اغتمس فيه ذو عاهة الا برئ . . ما أظن أحداً يحنك بماء الفرات إلا أحبنا أهل البيت ) .
وفي بصائر الدرجات / 97 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، قال : ( إن ولايتنا عرضت على السماوات والأرض والجبال والأمصار ، ما قبلتها قبول أهل الكوفة ) .
أي كانوا أحسن الناس تقبلاً لولايتنا ، وفي رواية : ما قبلها إلا أهل الكوفة .
وفي أمالي الصدوق / 298 : « عن الأصبغ بن نباتة قال : بينا نحن ذات يوم حول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في مسجد الكوفة إذ قال : يا أهل الكوفة ، لقد حَبَاكم الله عز وجل بما لم يَحْبُ به أحداً ، ففضل مصلاكم ، وهو بيت آدم ، وبيت نوح ، وبيت إدريس ، ومصلى إبراهيم الخليل ، ومصلى أخي الخضر ، ومصلاي . وإن مسجدكم هذا أحد الأربعة مساجد التي اختارها الله عز وجل لأهلها ، وكأني به يوم القيامة في ثوبين أبيضين شبيه بالمحرم يشفع لأهله ولمن صلى فيه فلا ترد شفاعته . ولا تذهب الأيام حتى ينصب الحجر الأسود فيه ! وليأتين عليه زمان يكون مصلى المهدي من ولدي ، ومصلى كل مؤمن ، ولا يبقى على الأرض مؤمن إلا كان به أو حنَّ قلبه إليه ، فلا تهجروه وتقربوا إلى الله عز وجل بالصلاة فيه ، وارغبوا إليه في قضاء حوائجكم ، فلو يعلم الناس ما فيه من البركة ، لأتوه من أقطار الأرض ، ولو حبواً على الثلج » .
وفي كامل الزيارات / 78 : « عن عائشة قالت : سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : عرج بي إلى السماء ، وإني هبطت إلى الأرض فأهبطت إلى مسجد أبي نوح وأبي إبراهيم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهو مسجد الكوفة فصليت فيه ركعتين ، قال ثم قالت : قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : إن الصلاة المفروضة فيه تعدل حجة مبرورة ، والنافلة تعدل عمرة مبرورة » .
وقد عبرت عائشة عن مسجد الكوفة بأنه مصلى نوح لكن رواية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عبَّرت عنه ببيت آدم ونوح وإدريس ، ثم مصلى إبراهيم ( عليهم السلام ) ، ومعناها أن إبراهيم ( عليه السلام ) هو الذي اتخذه مسجداً .
وقال في السرائر : 1 / 422 : « مسجد إبراهيم ( عليه السلام ) هو مسجد الكوفة ، ذكر ذلك في كتاب الكوفة » .
————————— 11 —————————
وكان المسجد أكبر ، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إن القائم إذا قام رد البيت الحرام إلى أساسه ، ومسجد الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى أساسه ، ومسجد الكوفة إلى أساسه .
قال أبو بصير : إلى موضع التمارين من المسجد » . ( الكافي : 4 / 543 )
فلمسجد الكوفة مكانة خاصة في مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، بعكس السلطة ! فهو أحد المساجد الأربعة التي يتخير المصلي فيها بين القصر والتمام .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) ( الكافي : 4 / 586 ) : « تتمُّ الصلاة في أربعة مواطن : في المسجد الحرام ، ومسجد الرسول ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، ومسجد الكوفة ، وحرم الحسين صلوات الله عليه » .
فهذه الأماكن كالوطن للمسلم ، ولذا يتخير فيها بين الصلاة قصراً أو تماماً .
وفي الكافي ( 8 / 281 ) قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( إن نوحاً ( عليه السلام ) لما فرغ من السفينة وكان ميعاده فيما بينه وبين ربه في إهلاك قومه أن يفور التنور ففار ، فقالت امرأته : إن التنور قد فار ، فقام إليه فختمه فقام الماء ، وأدخل من أراد أن يدخل وأخرج من أراد أن يخرج ، ثم جاء إلى خاتمه فنزعه ، يقول الله عز وجل : فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ . وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ . وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ . قال : وكان نجَّرها في وسط مسجدكم ، ولقد نقص عن ذرعه سبعمائة ذراع ) .
وروى الكشي ( 1 / 73 ) عن المسيب بن نجبة الفزاري قال : « لما أتانا سلمان الفارسي قادماً تلقيته فيمن تلقاه ، فسار حتى انتهى إلى كربلاء فقال : ما تسمُّون هذه ؟ قالوا : كربلاء ، فقال : هذه مصارع إخواني ، هذا موضع رحالهم ، وهذا مناخ ركابهم ، وهذا مهراق دمائهم ، قُتل بها خير الأولين ، ويقتل بها خير الآخرين ! ثم سار حتى انتهى إلى حروراء فقال : ما تسمون هذه الأرض ؟ قالوا : حروراء فقال : حروراء خرج بها شر الأولين ويخرج بها شرالآخرين . ثم سار حتى انتهى إلى بانقيا وبها جسرالكوفة الأول فقال : ما تسمون هذه ؟ قالوا : بانقيا . ثم سار حتى انتهى إلى الكوفة قال : هذه الكوفة ؟ قالوا : نعم . قال : قبة الإسلام » !
————————— 12 —————————

الكوفة مهاجر علي ( عليه السلام ) ومغرس شيعته

روى في جامع أحاديث الشيعة ( 12 / 437 ) وبحار الأنوار ( 45 / 179 ) ومستدرك سفينة البحار ( 9 / 197 ) حديث الحسين بن أحمد بن المغيرة ، تلميذ ابن قولويه صاحب كامل الزيارة ، وهو شيخ المفيد أيضاً ، وهو ثقة ورع ، قال عن حديثه هذا : وقد كنت استفدت هذا الحديث بمصرعن شيخي أبي القاسم علي بن محمد بن عبدوس الكوفي ( رحمه الله ) ، مما نقله عن مزاحم بن عبد الوارث البصري ، بإسناده عن قدامة بن زائدة ، عن أبيه زائدة ، عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) . وقد ذاكرت شيخنا ابن قولويه بهذا الحديث بعد فراغه من تصنيف هذا الكتاب ليدخله فيه فما قُضِيَ ذلك ، وعاجلته منيته ( رضي الله عنه ) وألحقه بمواليه ( عليهم السلام ) ، وهذا الحديث داخل فيما أجاز لي شيخي ( رحمه الله ) ، وقد جمعت بين الروايتين بالألفاظ الزائدة والنقصان والتقديم والتأخير فيهما ، حتى صح بجميعه عمن حدثني به أولاً ثم الآن ، وذلك أني ما قرأته على شيخي ( رحمه الله ) ولا قرأه عليَّ ، غير أني أرويه عمن حدثني : عن عبد الله بن الفضل بن محمد بن هلال ، عن سعيد بن محمد ، عن محمد بن سلام الكوفي ، عن أحمد بن محمد الواسطي ، عن عيسى بن أبي شيبة القاضي ، عن نوح بن دراج ، عن قدامة بن زائدة عن أبيه زائدة : قال [ لي ] علي بن الحسين ( عليه السلام ) : بلغني يا زائدة أنك تزور قبر أبي عبد الله أحياناً ؟ فقلت : إن ذلك لكما بلغك فقال لي : فلماذا تفعل ذلك ، ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحداً على محبتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا ، والواجب على هذه الأمة من حقنا ؟ فقلت : والله ما أريد بذلك إلا الله ورسوله ، ولا أحفل بسخط من سخط ، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه !
فقال : والله إن ذلك لكذلك ؟ فقلت : والله إن ذلك لكذلك ، يقولها : ثلاثاً وأقولها ثلاثاً ، فقال : أبشر ثم أبشر ثم أبشر ، فلأخبرنك بخبركان عندي في النَّخْب المخزون ، فإنه لما أصابنا بالطف ما أصابنا وقتل أبي ( عليه السلام ) وقتل من كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله ، وحملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يراد بنا الكوفة ، فجعلت أنظر إليهم صرعى ولم يواروا ! فعظم ذلك في صدري ، واشتد لما أرى منهم قلقي ، فكادت نفسي تخرج ، وتبينت ذلك مني عمتي زينب الكبرى بنت علي ( عليه السلام ) فقالت : مالي أراك تجود
————————— 13 —————————
بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي ؟ فقلت : وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتي ، وولد عمي وأهلي ، مصرعين بدمائهم مرملين بالعرا ، مسلبين لا يكفنون ولا يوارون ، ولا يعرج عليهم أحد ولا يقربهم بشر ، كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر !
فقالت : لا يجزعنك ما ترى ، فوالله إن ذلك لعهد من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) إلى جدك وأبيك وعمك ، ولقد أخذ الله الميثاق من أناس من هذه الأمة ، لا تعرفهم فراعنة هذه الأمة ، وهم معروفون في أهل السماوات ، أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها ، وهذه الجسوم المضرجة ، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره ، ولا يعفو رسمه ، على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه [ وطمسه ] فلا يزداد أثره إلا ظهوراً ، وأمره إلا علواً .
فقلت : وما هذا العهد وما هذا الخبر ؟ فقالت : نعم ، حدثتني أم أيمن أن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) زار منزل فاطمة ( عليها السلام ) في يوم من الأيام ، فعملت له حريرة وأتاه علي ( عليه السلام ) بطبق فيه تمر ، ثم قالت أم أيمن : فأتيتهم بعس فيه لبن وزبد فأكل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وعلي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) ، من تلك الحريرة وشرب رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وشربوا من ذلك اللبن ، ثم أكل وأكلوا من ذلك التمر والزبد ، ثم غسل رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يده وعلي يصب عليه الماء ، فلما فرغ من غسل يده مسح وجهه ، ثم نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا به السرور في وجهه ، ثم رمق بطرفه نحو السماء ملياً ، ثم إنه وجه وجهه نحو القبلة وبسط يديه ودعا ثم خر ساجداً وهو ينشج فأطال النشوج وعلا نحيبه وجرت دموعه ، ثم رفع رأسه وأطرق إلى الأرض ودموعه تقطر ، كأنها صوب المطر ، فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين ( عليهم السلام ) وحزنت معهم ، لما رأينا من رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وهبناه أن نسأله حتى إذا طال ذلك ، قال له علي وقالت له فاطمة : ما يبكيك يا رسول الله لا أبكى الله عينيك ، فقد أقرح قلوبنا ما نرى من حالك !
————————— 14 —————————
فقال : يا أخي سررت بكم ( وقال مزاحم بن عبد الوارث في حديثه ها هنا فقال يا حبيبي إني سررت بكم ) سروراً ما سررت مثله قط ، وإني لأنظر إليكم وأحمد الله على نعمته علي فيكم ، إذ هبط عليَّ جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا محمد إن الله تبارك وتعالى اطلع على ما في نفسك ، وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك ، فأكمل لك النعمة وهنأك العطية ، بأن جعلهم وذرياتهم ومحبيهم وشيعتهم معك في الجنة ، لا يفرق بينك وبينهم ، يَحْيَوْنَ كما تحيا ، ويُعطون كما تعطى حتى ترضى وفوق الرضا ، على بلوى كثيرة تنالهم في الدنيا ومكاره تصيبهم ، بأيدي أناس ينتحلون ملتك ، ويزعمون أنهم من أمتك ، براء من الله ومنك ، خبطاً خبطاً ، وقتلاً قتلاً ، شتى مصارعهم ، نائية قبورهم ، خيرةً من الله لهم ولك فيهم ، فاحمد الله عز وجل على خيرته وارض بقضائه ، فحمدت الله ، ورضيت بقضائه بما اختاره لكم .
ثم قال لي جبرئيل : يا محمد إن أخاك مضطهد بعدك ، مغلوب على أمتك ، متعوب من أعدائك ، ثم مقتول بعدك ، يقتله أشرالخلق والخليقة وأشقى البرية ، يكون نظير عاقر الناقة ، ببلد تكون اليه هجرته وهو مغرس شيعته وشيعة ولده فيه ، على حال يكثر بلواهم ويعظم مصابهم .
وإن سبطك هذا وأومى بيده إلى الحسين ، مقتول في عصابة من ذريتك وأهل بيتك ، وأخيار من أمتك بضفة الفرات ، بأرض يقال لها كربلاء ، من اجلها يكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذريتك في اليوم الذي لا ينقضي كربه ولا تفنى حسرته ، وهي أطيب بقاع الأرض وأعظمها حرمة ، يقتل فيها سبطك وأهله ، وإنها من بطحاء الجنة .
فإذا كان ذلك اليوم الذي يقتل فيه سبطك وأهله وأحاطت به كتايب أهل الكفر واللعنة ، تزعزعت الأرض من أقطارها ، ومادت الجبال وكثر اضطرابها ، واصطفقت البحار بأمواجها ، وماجت السماوات بأهلها ، غضباً لك يا محمد ولذريتك ، واستعظاماً لما ينتهك من حرمتك ، ولشر ما تكافى به في ذريتك وعترتك ، ولا يبقى شئ من ذلك إلا استأذن الله عز وجل في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين ، الذين هم حجة الله على خلقه بعدك ، فيوحي الله إلى السماوات والأرض والجبال والبحار ومن فيهن :
————————— 15 —————————
إني أنا الله الملك القادر الذي لا يفوته هارب ولا يعجزه ممتنع ، وأنا أقدر فيه على الإنتصار والانتقام . وعزتي وجلالي لأعذبن من وتر رسولي وصفيي ، وانتهك حرمته ، وقتل عترته ، ونبذ عهده ، وظلم أهل بيته ، عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين . فعند ذلك يضج كل شئ في السماوات والأرضين بلعن من ظلم عترتك ، واستحل حرمتك ، فإذا برزت تلك العصابة إلى مضاجعها ، تولى الله عز وجل قبض أرواحها بيده ، وهبط إلى الأرض ملائكة من السماء السابعة معهم آنية من الياقوت والزمرد مملوة من ماء الحياة وحلل من حلل الجنة وطيب من طيب الجنة ، فغسلوا جثثهم بذلك الماء وألبسوها الحلل وحنطوها بذلك الطيب ، وصلت الملائكة صفاً صفاً عليهم ، ثم يبعث الله قوماً من أمتك لا يعرفهم الكفار ، لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نية ، فيوارون أجسامهم ويقيمون رسماً لقبر سيد الشهداء بتلك البطحاء يكون علماً لأهل الحق وسبباً للمؤمنين إلى الفوز ، وتحفه ملائكة من كل سماء مئة ألف ملك ، في كل يوم وليلة ويصلون عليه ويطوفون عليه ، ويسبحون الله عنده ويستغفرون الله لمن زاره ، ويكتبون أسماء من يأتيه زائراً من أمتك ، متقرباً إلى الله تعالى واليك بذلك ، وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم ، ويوسمون في وجوههم بميسم نورعرش الله : هذا زائر قبر خير الشهداء ، وابن خير الأنبياء ، فإذا كان يوم القيمة سطع في وجوههم من أثر ذلك الميسم ، نور تغشى منه الأبصار ، يدل عليهم ويعرفون به . وكأني بك يا محمد بيني وبين ميكائيل وعلي أمامنا ، ومعنا من ملائكة الله ما لا يحصى عددهم ، ونحن نلتقط من ذلك الميسم ، في وجهه من بين الخلايق ، حتى ينجيهم الله من هول ذلك اليوم وشدائده ، وذلك حكم الله وعطاؤه لمن زار قبرك يا محمد أو قبر أخيك أو قبر سبطيك ، لا يريد به غير الله عز وجل . وسيجتهد أناس ممن حقت عليهم اللعنة من الله والسخط أن يعفوا رسم ذلك القبر ويمحوا أثره ، فلا يجعل الله تبارك وتعالى لهم إلى ذلك سبيلاً . ثم قال رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) : فهذا أبكاني وأحزنني !
————————— 16 —————————
قالت زينب : فلما ضرب ابن ملجم لعنه الله أبي ( عليه السلام ) ورأيت عليه أثرالموت منه ، قلت له : يا أبه حدثتني أم أيمن بكذا وكذا ، وقد أحببت أن أسمعه منك . فقال : يا بنية الحديث كما حدثتك أم أيمن ، وكأني بك وبنساء أهلك سبايا بهذا البلد ، أذلاء خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس ! فصبراً صبراً فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما لله على ظهر الأرض يومئذ ولي غيركم وغير محبيكم وشيعتكم ، ولقد قال لنا رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) حين أخبرنا بهذا الخبر إن إبليس لعنه الله في ذلك اليوم يطير فرحاً ، فيجول الأرض كلها بشياطينه وعفاريته فيقول : يا معاشر الشياطين قد أدركنا من ذرية آدم الطلبة ، وبلغنا في هلاكهم الغاية ، وأورثناهم النار إلا من اعتصم بهذه العصابة ، فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم وحملهم على عداوتهم واغرائهم بهم وأوليائهم ، حتى تستحكموا ضلالة الخلق وكفرهم ، ولا ينجو منهم ناج . ولقد صدق عليهم إبليس وهو كذوب .
إنه لا ينفع مع عداوتكم عمل صالح ، ولا يضر مع محبتكم وموالاتكم ذنب غير الكبائر . قال زائدة : ثم قال علي بن الحسين ( عليه السلام ) بعد أن حدثني بهذا الحديث : خذه إليك فلوضربت في طلبه اباط الإبل حولاً لكان قليلاً ) .
وشاهدنا قول جبرئيل ( عليه السلام ) : ثم مقتول بعدك يقتله أشرالخلق والخليقة ، وأشقى البرية ، نظير عاقر الناقة ، ببلد تكون إليه هجرته ، وهي مغرس شيعته وشيعة ولده ، وفيها على حال تكثر بلواهم ويعظم مصابهم .
فهذا الحديث جامع لشروط كامل الزيارة بشهادة راويه الثقة ، وفيه ميزتان للكوفة : أولاهما أنها مهاجر علي ( عليه السلام ) . والثانية أنها مغرس شيعته وشيعة أولاده ، فهي منبت التشيع ومعدنه . وكفى بذلك فخراً .
ويبدو أن ابن قولويه ( رحمه الله ) توقف في إدخاله في كتابه ، لأنه يريد تفكيكه ، فهو أكثر من حديث وعنوان ، وكان دقيقاً في ملأ عناوين كتابه بما يطابقها حرفياً .
وقد يكون السبب أنه ينسب للإمام زين العابدين ( عليه السلام ) أنه لم يكن يعرف الحديث مع أنه طان يعرف أنه سيرجع من الكوفة لدفن الأجساد الطاهرة .
————————— 17 —————————
ويمكن الجواب عنه بأنه ( عليه السلام ) كان يعرف ذلك ، لكنه أراد أن تحدثه به عمته زينب ( عليها السلام ) ليكون تسلية لها في ذلك اليوم .

وروت مصادر السنة فضل الكوفة

فقد روى ابن أبي شيبة ( 3 / 268 و : 7 / 564 ) : ( عن وكيع ، عن سفيان ، عن أبي المقدام عن حبة قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال : إني اشتريت بعيراً وتجهزت وأريد المقدس فقال : بع بعيرك وصل في هذا المسجد – قال أبو بكر يعني مسجد الكوفة – فما من مسجد بعد المسجد الحرام أحب إليَّ منه ، لقد نقص مما أسس خمس مائة ذراع .
وروى عن الأسود قال : لقيني كعب ببيت المقدس فقال : من أين جئت ؟ فقلت : من مسجد الكوفة ، فقال : لأن أكون جئت من حيث جئت أحب إلي من أن أتصدق بألفي دينار ، أضع كل دينار منها في يد كل مسكين ، ثم حلف : إنه لوسط الأرض كقعر الطست ) . يقصد كعب فضل مسجد الكوفة .
وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان ( 4 / 490 ) : ( سميت الكوفة لاستدارتها أخذاً من قول العرب : رأيت كوفاناً وكوفاناً ، بضم الكاف وفتحها ، للرميلة المستديرة فكانت ستة عشر ميلاً وثلثي ميل ، وذكر أن فيها خمسين ألف دار للعرب من ربيعة ومضر ، وأربعة وعشرين ألف دار لسائر العرب ، وستة آلاف دار لليمن . وكان علي ( عليه السلام ) يقول : الكوفة كنز الإيمان وحجة الإسلام وسيف الله ورمحه يضعه حيث شاء ، والذي نفسي بيده لينتصرن الله بأهلها في شرق الأرض وغربها كما انتصر بالحجاز . وكان سلمان الفارسي يقول : أهل الكوفة أهل الله ، وهي قبة الإسلام ، يحن إليها كل مؤمن .
وقال الشعبي : مسجد الكوفة ستة أجربة وأقفزة ، وقال زادا نفروخ : هو تسعة أجربة . ( الجريب نحو ألف متر مربع ) .
وقال السيد إسماعيل بن محمد الحميري ، يذكر مسجد الكوفة :
————————— 18 —————————
لعمرك ما من مسجد بعد مسجد * بمكة طهراً أو مصلَّىً بيثرب
بشرق ولا غرب علمنا مكانه * من الأرض معموراً ولا متجنب
بأبين فضلاً من مصلى مبارك * بكوفان رحب ذي أواسٍ ومخصب
مصلَّىً به نوح تأثل وابتنى * به ذات حيزوم وصدر محنب
وفار به التنور ماءً وعنده * له قيل آيانوح في الفلك فاركب
وباب أمير المؤمنين الذي به * ممر أمير المؤمنين المهذب
عن مالك بن دينار قال : كان علي بن أبي طالب إذا أشرف على الكوفة قال :
يا حبذا مقالنا بالكوفة * أرض سواءٌ سهلة معروفه
تعرفها جمالنا العلوفه
وأما ظاهر الكوفة فإنها منازل النعمان بن المنذر : الحيرة ، والنجف ، والخورنق والسدير ، والغريَّان ، وما هناك من المتنزهات والديرة الكبيرة ) .

وانفردت مصادرنا بتقديس مسجد سهيل

وهو معروف بمسجد السهلة ، وعند الأئمة ( عليه السلام ) بمسجد سهيل . ويفهم من بعض الروايات أنه كمسجد الكوفة بل أفضل منه من بعض الجهات كالإستجارة ، ففي كامل الزيارات / 30 ، عن أبي بكر الحضرمي ، عن الباقر ( عليه السلام ) :
( قلت له : أيُّ بقاع الأرض أفضل بعد حرم الله عز وجل وحرم رسوله ( ( عليهما السلام ) ) ؟ فقال : الكوفة يا أبا بكر ، هي الزكية الطاهرة ، فيها قبورالنبيين المرسلين وقبور غير المرسلين والأوصياء الصادقين ، وفيها مسجد سهيل الذي لم يبعث الله نبياً إلا وقد صلى فيه ، ومنها يظهر عدل الله ، وفيها يكون قائمه والقوام من بعده ، وهي منازل النبيين والأوصياء والصالحين ) .
وفي كامل الزيارات / 75 : ( يا أباحمزة هل شهدت عمي ليلة خرج ؟ قال : نعم . قال : فهل صلى في مسجد سهيل ، قال : وأين مسجد سهيل لعلك تعني مسجد السهلة . قال : نعم ، قال : أما إنه لو صلى فيه ركعتين ثم استجار الله لأجاره سنة . فقال له أبو حمزة : بأبي أنت وأمي هذا مسجد السهلة . قال : نعم فيه بيت إبراهيم الذي كان يخرج منه إلى
————————— 19 —————————
العمالقة ، وفيه بيت إدريس الذي كان يخيط فيه ، وفيه مناخ الراكب ، وفيه صخرة خضراء فيها صورة جميع النبيين ، وتحت الصخرة الطينة التي خلق الله عز وجل منها النبيين . وفيه المعراج ، وهو الفاروق الأعظم موضع منه ، وهو ممر الناس وهو من كوفان ، وفيه ينفخ في الصور ، واليه المحشر . يحشر من جانبه سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب . أولئك الذين أفلج الله حججهم وضاعف نعمهم ، فإنهم المستبقون الفائزون القانتون ، يحبون أن يدرؤوا عن أنفسهم المفخر ، ويجلون بعدل الله عن لقائه ، أسرعوا في الطاعة فعملوا وعلموا أن الله بما يعملون بصير ، ليس عليهم حساب ولا عذاب . ومن وسطه سار جبل الأهواز . وقد أتى عليه زمان وهومعمور ) .
فهذان حديثان صحيحان ، فيهما حقائق مهمة ، وفيهما مبهمات ، مثل سير جبل الأهواز من الكوفة ، وأن النفخ في الصور والمحشر يبدأ منها .
ملاحظات على هذه النصوص
1 . تدل على مكانة الكوفة العظيمة ، وأن سلمان ( رضي الله عنه ) اختارها عن علم نبوي ، وتوجيه من علي ( عليه السلام ) ، فنسبوا ذلك إلى عمر وسعد .
2 . تضمنت الأحاديث حقائق عديدة ، منها أن نبي الله إبراهيم ( عليه السلام ) عاد إلى العراق بعد نمرود ، وروي أنه عاد مع إسماعيل ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . وقد ذكرنا في سلسلة القبائل العربية أنه أسس القدس ، ثم جدد الكعبة وسماها قادس ، ثم أسس القادسية وهي النجف والكوفة والسهلة والنخيلة ، لولده المهدي ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) واشترى أرضها بمئة شاة فسميت با نقيا ، كما اشترى أرض كربلاء لولده الحسين ( عليه السلام ) . ولا نعرف أي العمالقة كان يخرج إلى حربهم من الكوفة ، أما خير الأولين الذي قتل في كربلاء فقد يكون المقصود به هابيل ( عليه السلام ) .
ولا نعرف المقصود بشرالأولين الذين خرجوا في حروراء ، لكن شرالآخرين الخوارج ، تجمعوا أول أمرهم فيها ، وسموا الحروريين .
————————— 20 —————————
3 . حث الأئمة ( عليهم السلام ) على زيارة مسجد الكوفة ومسجد سهيل والصلاة فيهما وفضلوهما على المسجد الأقصى ! فقد روى الثقفي في الغارات ( 2 / 416 ) : ( عن حبة العرني وميثم التمار قالا : جاء رجل إلى علي ( عليه السلام ) فقال : يا أمير المؤمنين إني قد تزودت زاداً وابتعت راحلةً وقضيت شأني يعني حوائجي ، فأرتحل إلى بيت المقدس ؟ فقال له : كل زادك وبع راحلتك ، عليك بهذا المسجد يعني مسجد الكوفة ، فإنه أحد المساجد الأربعة ، ركعتان فيه تعدل عشراً فيما سواه من المساجد ، والبركة منه على اثني عشرميلاً من حيث ما أتيت ، وقد ترك من أسه ألف ذراع ، وفي زاويته فار التنور ، وعند الأسطوانة الخامسة صلى إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) ، وقد صلى فيه ألف نبي وألف وصي ، وفيه عصا موسى ( عليه السلام ) وشجرة يقطين ، وفيه هلك يغوث ويعوق ، وهو الفاروق . ومنه سُيَّرَ جبل الأهواز . وفيه مصلى نوح ( عليه السلام ) . ويحشر منه يوم القيامة سبعون ألفاً ما عليهم حساب ولا عذاب ، ووسطه على روضة من رياض الجنة . وفيه ثلاث أعين يزهرن أنبتت بالضغث ، تذهب الرجس وتطهر المؤمنين : عين من لبن ، وعين من دهن ، وعين من ماء ، جانبه الأيمن ذكر ، وجانبه الأيسرمكر ، ولو علم الناس ما فيه لأتوه ولو حبواً ) .
وتقدمت رواية ابن أبي شيبة في تفضيل التعبد في مسجد الكوفة على التعبد في المسجد الأقصى ، وكأن مكانة المسجد الأقصى عقائدية استراتيجية ، أما تكليف هذه الأمة بالتعبد والزيارة ، فهو للمشاهد المرتبطة بنبينا ( ( عليهما السلام ) ) وعترته ( عليهم السلام ) . والعيون الثلاث : قد تكون تحت الأرض تصب في الفرات ، ومعنى أنبتت بالضغث أن أحد الأنبياء ( عليهم السلام ) ضرب بضغث فنبعت ، ولعل أصلها : أنبعت .
4 . تواترت الرواية عند الجميع بأن جبرئيل ( عليه السلام ) أخبر النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) عن كربلاء بأنها مكان قتل سبطه الحسين ( عليه السلام ) ، وأتاه بقبضة من تربتها ، فلا عجب أن يكون سلمان ( رضي الله عنه ) يعرف مكان كربلاء ، ويخبر عنها .
5 . كما تواترت الرواية عند الجميع بأن الكوفة عاصمة المهدي ( عليه السلام ) الموعود ( عليه السلام ) . وهذا الأمر ثقيل على النواصب ، والوهابية خاصة !
6 . قلنا إن في حديث الغارات نقاطاً غامضة مثل تسيير جبل الأهواز من الكوفة وأن
————————— 21 —————————
فيه عصا موسى ، وهي من مواريث الأنبياء التي جمعها الله لنبينا ( ( عليهما السلام ) ) .
وشجرة اليقطين قد تكون لشبهها بشجرة يقطين يونس ( عليه السلام ) التي نبتت عليه في ساحل البحر المتوسط في جهة أنطاكية .
أما الذين يحشرون بغير حساب فورد أنهم من وادي السلام بظهرالكوفة .
وأما قوله : جانبه الأيمن ذكر وجانبه الأيسر مكر ، فقد يكون محل الذكر والإيمان محل الأنبياء ( عليهم السلام ) ، ومحل الكفر للجبابرة ومكرهم بالمؤمنين .

أقوال المؤرخين تؤيد عراقة الكوفة

قال المؤرخ العبودي في صفحته : ( ورد اسم مدينة عاقولا كثيراً في المصادر السريانية ، لكن لا يعرف بالضبط متى شيدت بلدة عاقولا ؟ ويذكر الباحث أديب نوار أنه كان في الكوفة أسقفان ، أحدهما نسطوري والآخر يعقوبي ، وكانا يسكنان في دار الروم ، لأن نصارى الكوفة كانوا يسمونها عاقولا بالسريانية . ويحتمل الباحث إبراهيم السامرائي : أن الكوفة الحاضرة هي في الآرامية القديمة كوثا ، أو في جوارها ؟ وليس غريباً أن تكون الثاء تبدلت فاء ، وهذا يحدث كثيراً في الأصوات السامية .
وقد ضمت الكوفة أكثر من عشرة أديرة معظمها حول المدينة بالإضافة إلى كنيسة كبيرة هي كنيسة أم خالد .
وكان الناس يقصدون تلك الأديرة أيام الأعياد المسيحية ، فتكون موضع احتفالات ولقاءات ، وكانوا يسعون فيها للتقرب إلى الله والصلاة له ، أو ينقطع الرهبان والنساك منهم فيها طوال حياتهم . وكان للأديرة كذلك دورصحي إذ اشتهر بعض الرهبان القادمين من الحيرة وجنديشابور في مزاولة الطب والتداوي بالأعشاب ومعالجة المرضى .
كما كان للأديرة دور ثقافي في تعلم القراءة والكتابة ، أو في تبادل وجهات النظر في الأديان والفلسفة وعلوم الأقدمين ، وخاصة اليونان .
كان أسقف الكوفة في مطلع القرن الثامن جرجيس ، وكان يصلي بالمسيحيين
————————— 22 —————————
الذين كانوا من قبائل طي وعقيل وتنوخ ، وعرف أيضاً بأسقف العرب . وكان من المتضلعين في الفلسفة ووضع شروحاً لبعض الأسفار . .
إلا أن ما يميز الإبداع الكوفي هو ظهور الخط الكوفي الذي يدل على دقة في الرسم ، وكانت الخطوط المستقيمة متأثرة بالخط السرياني الأسطرنجيلي من حيث هيئته العامة المربعة . والمعروف أن العرب في بداية الإسلام يدينون للحيرة بمشاركتها الفعالة في الكتابة العربية .
كما تأثر أهل الكوفة بحياة الرهبان ، حتى أن بعض الزهاد الكوفيين قد لبسوا المنسوجات الصوفية الخشنة ، المشابهة لمسوح الرهبان .
كما بنى أول والٍ للكوفة خالد بن عبد الله القسري كنيسة قرب جامع المدينة ، سميت بكنيسة خالد أو كنيسة أم خالد ، وهو أول شخصية إسلامية يبني بيعة للنصارى في تاريخ الإسلام ، والمعتقد أن ذلك يعود إلى أن أمه كانت مسيحية . وقد ضمت الكوفة جماعات مختلفة من العراقيين ، لعلهم بقايا سكنة بابل وسلوقية وينبور وسبار ) .

وادي السلام أعرق مقابرالعالم

كتبنا في الجزء الثاني من سلسلة القبائل العربية في العراق أن إبراهيم ( عليه السلام ) أسس في فلسطين والعراق والحجاز ، فقد هاجربعائلته وأمواله إلى بلاد الشام ، واستقر في الخليل ، واشترى جبلاً فيها وجعله مقبرة له ولأسرته ، وذهب إلى حرَّان ، وبئر سبع في النقب ، ويروى أنها سبعة آبار احتفرها .
وزار مكة وأسكن فيها ابنه إسماعيل وأمه هاجر ( عليهم السلام ) ، ثم زارها للعمرة والحج ، وجدد بناء البيت . وكان يزور العراق بعد هلاك نمرود ، وأسس فيه مسجد الكوفة والسهلة والنخيلة ، واشترى أرض القادسية والنجف وكربلاء .
« قال محمد بن إدريس في السرائر ( 1 / 479 ) : ( بأنقياء : هي القادسية وما والاها وأعمالها ، وإنما سميت القادسية بدعوة إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) لأنه قال : كوني مقدسة للقادسية أي مطهرة من التقديس . وإنما سميت القادسية بانقيا لأن إبراهيم اشتراها بمائة نعجة من غنمه لأن با : مائة ، ونقيا : شاة ، بلغة النبط . وقد ذكر بانقيا أعشى قيس
————————— 23 —————————
في شعره ، وفسره علماء اللغة وواضعوا كتب الكوفة من أهل السيرة ، بما ذكرناه » .
وفي علل الشرائع ( 2 / 585 ) عن علي ( عليه السلام ) قال : « إن إبراهيم صلى الله عليه مر ببانقيا فكان يزلزل بها فبات بها ، فأصبح القوم ولم يزلزل بهم فقالوا : ما هذا وليس حدث ، قالوا : نزل هاهنا شيخ ومعه غلام له قال : فأتوه فقالوا له : يا هذا إنه كان يزلزل بنا كل ليلة ولم يزلزل بنا هذه الليلة فبت عندنا ، فبات فلم يزلزل بهم فقالوا : أقم عندنا ونحن نجري عليك ما أحببت قال : لا ، ولكن تبيعوني هذا الظهر ولا يزلزل بكم ! فقالوا : فهو لك ، قال : لا آخذه إلا بالشراء فقالوا : فخذه ما شئت فاشتراه بسبع نعاج وأربعة أحمرة ، فلذلك سمي بانقيا ، لأن النعاج بالنبطية نقيا قال : فقال له غلامه : يا خليل الرحمن ما تصنع بهذا الظهر ليس فيه زرع ولا ضرع ؟ فقال له أسكت فإن الله تعالى يحشر من هذا الظهر سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ، يشفع الرجل منهم لكذا وكذا » !
قد يكون اشترى المنطقة كلها بمائة شاة ، ثم اشترى ظهر الكوفة بسبع نعاج . وفي معجم البكري ( 1 / 222 ) : « قال أحمد بن يحيى ثعلب : فقال ( إبراهيم ( عليه السلام ) ) : لمن تلك الأرض يعني النجف ؟ قالوا : لنا . قال : فتبيعونيها ؟ قالوا : هي لك فوالله ما تنبت شيئاً . فقال : لا أحب إلا أن تكون شراء ، فدفع إليهم غنيمات كن معه ، والغنم بالنبطية يقال لها نقيا . وذكر إبراهيم ( عليه السلام ) أنه يحشر من ولده من ذلك الظهر سبعون ألف شهيد . فاليهود تنقل موتاها إلى بانقيا لمكان هذا الحديث . ثم نزل إبراهيم ( عليه السلام ) القادسية فغسل بها رأسه ، ثم دعا لها أن يقدسها الله فسميت القادسية ، ثم أخذ فضل الماء فصبه يمنة ويسرة ، فحيث انتهى ذلك الماء منتهى العمران . ثم ارتحل إلى البيت الحرام ) .
وفي رواية معجم البلدان ( 1 / 331 ) : « وخرج حتى أتى النجف فلما رآه رجع أدراجه أي من حيث مضى ، فتباشروا وظنوا أنه رغب فيما بذلوا له . . فصنعوا ما صنع أهل بيت المقدس بصاحبهم ، وهبوا له أرضهم ، فلما نزلت بها البركة رجعوا عليه ! ولما رأى غدرهم به تركهم ومضى نحو مكة . . القصة ) !
————————— 24 —————————
فقد أسس إبراهيم ( عليه السلام ) لذريته القدس في فلسطين ، وجدد الكعبة في الحجاز ، والقادسية في العراق ، ومنها مسجد الكوفة ومسجد السهلة ومسجد النخيلة . فتأسيسها عمل رسولي بالوحي ، وليس صدفة برأي عمر أو سعد ، كمازعموا .
ومما يلفتك أن علياً ( عليه السلام ) جدد شراء ظهر الكوفة والغريين ، تأكيداً لشراء جده إبراهيم ( عليه السلام ) لئلا يدعيها أحد !
ففي الغارات للثقفي ( 2 / 845 ) : « اشترى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ما بين الخورنق إلى الحيرة إلى الكوفة . وفي رواية : ما بين النجف إلى الحيرة إلى الكوفة من الدهاقين بأربعين ألف درهم ، وأشهد على شرائه ، فقيل له في ذلك ؟ فقال : سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يقول : كوفان يُرَدُّ أولها على آخرها ، يحشرمن ظهرها سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ! فاشتهيت أن يحشروا من ملكي » .
وفي أخبار إصبهان ( 2 / 174 ) : « اشترى علي بن أبي طالب ما بين الخورنق إلى الحيرة بأربعين ألفاً من دهاقين الخورنق ، فقيل له يا أمير المؤمنين اشتريت حجراً أصم لا ينبت شيئاً ! قال : صدقتم إني سمعت رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) . الخ . والجواهر ( 4 / 346 ) .
وقوله ( ( عليهما السلام ) ) : يُرَدُّ أولها على آخرها : أي تعود عاصمة كما كانت في زمن نوح ( عليه السلام ) .
وقول البكري : فاليهود تنقل موتاها إلى بانقيا لمكان هذا الحديث . يدل على أن الدفن في وادي السلام بدأ من عهد إبراهيم ( عليه السلام ) . فالقادسية ليست مدينة الديوانية ، ولا قرية تسمى القادسية التي تبعد عن الكوفة 18 كلم ، ولا المكان الذي يسمى قَادِس ، وآخر يسمى قَدِيس . ( الحيرة للدكتورحسن الحكيم / 53 ) .
بل تشمل ذلك وتشمل النجف والكوفة ، وتشمل مسجد النخيلة وقبر النبي ذي الكفل ( عليه السلام ) ، وكان اليهود يدفنون موتاهم عنده أيضاً .
راجع في إنشاء القادسية والربط بينها وبين مكة والقدس : الكافي : 1 / 390 ، وأمالي الصدوق / 694 ، وحقائق التأويل / 175 ، والسرائر : 1 / 479 ، ومفتاح الكرامة : 10 / 348 ، وكامل الزيارات / 84 ، و 452 ، والفقيه : 2 / 229 ، و 586 ، ومختصر بصائر الدرجات / 199 ، وعلل الشرائع : 1 / 214 ، والحدائق الناضرة : 11 / 318 ، ورياض المسائل : 2 / 12 ، والغارات : 2 / 856 ، والأنساب : 4 / 422 ،
————————— 25 —————————
ومعجم البكري : 1 / 270 ، ومعجم البلدان : 1 / 331 ، و : 2 / 511 ، و 514 ، و : 3 / 33 ، و : 4 / 210 و 291 ، و 314 ، والأنساب : 4 / 422 ، وقاموس الكتاب المقدس / 129 .
أما اليوم فصارت وادي السلام أوسع مقبرة في العالم ، تهوي قلوب المؤمنين من أنحاء العالم ، إلى الدفن فيها ، بجوار قبر أمير المؤمنين وأنبياء الله ( عليهم السلام ) .

أوصى خبَّاب بن الأرتِّ أن يدفن في وادي السلام

1 . كان الصحابي الجليل خَبَّاب بن الأرت أول من دُفن فيها من المسلمين ، وذلك بتوجيه النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) . فقد روى عامة المؤرخين كابن سعد ( 3 / 167 ) أن خَبَّاباً أوصى أن يدفن في ظهر الكوفة لما سمعه من النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) .
ووصف الطبري ( 4 / 45 ) دخول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الكوفة راجعاً من صفين قال : ( ثم مضى حتى إذا جزنا بني عوف ، إذا نحن عن أيماننا بقبور سبعة أو ثمانية فقال علي : ما هذه القبور ؟ فقال قدامة بن العجلان الأزدي : يا أمير المؤمنين إن خباب بن الأرت توفي بعد مخرجك فأوصى بأن يدفن في الظهر . وكان الناس إنما يدفنون في دورهم وأفنيتهم فدفن بالظهر ( رحمه الله ) ودَفَنَ الناس إلى جنبه . فقال علي : رحم الله خبَّاباً ، فقد أسلم راغباً وهاجر طائعاً ، وعاش مجاهداً ، وابتلى في جسمه أحوالاً ، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً .
ثم جاء حتى وقف عليهم فقال : السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة ، والمحال المقفرة ، من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ، أنتم لنا سلف فارط ونحن لكم تبع ، بكم عما قليل لاحقون . اللهم اغفر لنا ولهم ، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم . وقال : الحمد لله الذي جعل منها خلقكم وفيها معادكم ، منها يبعثكم وعليها يحشركم ، طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب ، وقنع بالكفاف ، ورضي عن الله عز وجل . . .
ثم مضى حتى مر بالناعطيين وكان جلهم عثمانية ، فسمع رجلاً منهم يقال له عبد الرحمن بن يزيد من بني عبيد يقول : والله ما صنع علي شيئاً ، ذهب ثم
————————— 26 —————————
انصرف في غير شئ ! فلما نظروا إلى علي أبلسوا فقال : وجوه قوم ما رأوا الشام العام ، ثم قال لأصحابه : قوم فارقناهم آنفاً ، خير من هؤلاء ) .
لاحظ أن الناس دفنوا بجنب الصحابي خباب ، وأن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لم يعاقب من تخلف عنه واكتفى بالقول إن غيرهم أفضل منهم .
وفي رواية ابن الصباغ في الفصول المهمة ( 1 / 490 ) : ( ثم مر بالشباميين . . فخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي . . وأقبل حرب يمشي وعلي راكب فقال له : إرجع ، وأمسك دابته عن السيرفقال : بل أمشي بين يديك يا أمير المؤمنين ، فقال : بل إرجع فإنّ مَشْيَ مثلك مع مثلي فتنةٌ للوالي ومَذلة للمؤمنين . ثم مضى فلم يزل يذكر الله تعالى حتى دخل الكوفة ) .
2 . خبَّاب بن الأرتَّ ، صحابي جليل من السابقين ، وروي أنه سادس المسلمين ، وهو من كسكر بلد بين واسط والبصرة ، من بني سعد بن زيد مناة بن تميم ، سَبَوْهُ وهو صغير ، فصار إلى أم أنمار بنت سباع الخزاعية ، زوجة الأخنس بن شريق الثقفي ، ولما أعتقته حالف بني زهرة .
وفي إكمال كمال التهذيب ( 4 / 169 ) : ( سمعت الهيثم بن عدي قال : خباب بن الأرت من أهل استينيا قرية عند قنطرة الكوفة . قال الهيثم : وخباب سابق النبط ، وهو أول من دفن بظهر الكوفة فدفن الناس موتاهم بها ، وإنما كانوا يدفنونهم في جبانتهم . وفي كتاب الإستيعاب : لم يصبه سبي ، ولكنه انتمى إلى حلفاء أمه من بني زهرة ، وكان فاضلاً يكنى أبا يحيى ) .
وهذا يعني أنه نبطي عراقي غير عربي ، ويؤيده أنه قين والعربي لا يكون قيناً ، ولعله من السابقين الذين قال الله فيهم : وَالسَّابِقُونَ الأَوَلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ . الذين أسلموا في السنوات الثلاث الأولى ، وهم بضعة نفر فقط من بني هاشم ، ومعهم أبو ذر ، وربما خباب ، وقد يكون معهم عمار وأبواه .
والسابقون الثانيون هم الذين أسلموا في السنة الرابعة ، بعد أن قتل الله المستهزئين الستة في يوم واحد ، وأمر رسوله ( ( عليهما السلام ) ) أن يصدع بالدعوة فأنزل عليه : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ
————————— 27 —————————
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ .
3 . كان خباب قَيناً يطبع السيوف ، وكان رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) يألفه ويأتيه ، فأخبرت مولاته بذلك فكانت تأخذ الحديدة المحماة فتضعها على رأسه ، فشكى ذلك إلى النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) فقال : اللهم انصر خباباً ، فشكت مولاته من رأسها فكانت تعوي مثل الكلاب ! فقيل لها : إكتوي ، فكان خباب يأخذ الحديدة المحماة فيكوي بها رأسها ! ويبدو أنها أعتقته لما أصابها ذلك .
وقال خباب : كنت رجلًا غنيّاً ، وكان لي على العاص بن وائل دَيْنٌ ، فأتيته أتقاضاه فقال لي : لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : لن أكفر به حتى نموت ونبعث . فقال : فإني لمبعوث بعد الموت ، ولأوتين مالاً وولداً فأقضيك ! فنزلت : أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا . أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً . ونزلت فيه آيات أخرى ، رواها المفسرون .
4 . هاجر إلى المدينة ، وشهد بدراً ومشاهد النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ، وكان شيعياً مجاهراً فشهد مع علي ( عليه السلام ) حرب الجمل وسكن الكوفة ، ولم يحضر صفين لمرضه .
5 . قال الطبري في المنتخب / 57 : ( روى خباب عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حديثاً كثيراً ) . لكن القوم ضيعوا حديثه ، لأن أكثره في فضائل علي والزهراء والعترة ( عليهم السلام ) ، وبعضه في الطعن برجالاتهم ، فيجب عندهم إخفاؤه !
6 . اشتهر ابنه عبد الله ( رضي الله عنهما ) الذي كان والياً لعلي ( عليه السلام ) فقتله الخوارج .
قال البلاذري ( 2 / 367 ) : ( وكان الخوارج الذين قدموا من البصرة مع مسعر بن فدكي استعرضوا الناس في طريقهم ، فإذا هم برجل يسوق بامرأته على حمار له ، فدعوه وانتهروه ورعبوه وقالوا له : من أنت ؟ فقال : رجل مؤمن . قالوا : فما اسمك ؟ قال : أنا عبد الله بن خباب بن الأرت صاحب رسول ( ( عليهما السلام ) ) فكفوا عنه ثم قالوا له : ما تقول في علي ؟ قال : أقول إنه أمير المؤمنين ، وإمام المسلمين ، وقد حدثني أبي عن رسول الله ( ( صلى الله عليه وآله ) ) قال : ستكون فتنة يموت فيها قلب الرجل
————————— 28 —————————
فيصبح مؤمناً ويمسي كافراً ، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً . فقالوا : والله لنقتلنك قتلة ما قتلها أحد ، وأخذوه فكتفوه ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى متم حتى نزلوا تحت نخل مواقير فسقطت رطبة منها فقذفها بعضهم في فيه ، فقال له رجل منهم : أبغير حلها ولا ثمن لها ! فألقاها من فيه واخترط سيفه وجعل يهزه فمرّ به خنزير لذمي فقتله بسيفه ، فقال له بعض أصحابه : إن هذا لمن الفساد في الأرض . فطلب صاحب الخنزير حتى أرضاه ! فقال ابن خباب : لئن كنتم صادقين فيما أرى وأسمع إني لآمن من شركم . قال : فجاؤوا به فأضجعوه على شفير نهر والقوه على الخنزير المقتول فذبحوه عليه ، فصار دمه مثل الشراك فما اذْمَقَرَّ ( اختلط ) في الماء ، وأخذوا امرأته فبقروا بطنها وهي تقول : أما تتقون الله ! وقتلوا ثلاث نسوة كن معها ! فبلغ علياً خبر ابن خباب وامرأته والنسوة ، وخبر سوادي لقوه بنُفَّر فقتلوه ، فبعث عليّ إليهم الحرث بن مرة العبدي ليتعرف حقيقة ما بلغه عنهم ، فلما أتى النهروان وقرب منهم خرجوا إليه فقتلوه ، وبلغ ذلك علياً ومن معه فقالوا له : ما تركنا هؤلاء وراءنا يخلفونا في أموالنا وعيالاتنا بما نكره ، سر بنا إليهم فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدونا من أهل المغرب ، فإن هؤلاء أحضر عداوة وأنكى حداً . والثبت : أنه بعث ابن الحرث رجلاً من أصحابه ، لأن الحرث بن مرّة قتل بالقيقان من أرض السند ، في سنة اثنتين وأربعين ) .
راجع ترجمة خباب في : الحاكم : 3 / 382 , ومجمع الزوائد : 9 / 299 ، وكنز العمال : 3 / 396 ، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم : 2 / 908 ، وإكمال الكمال : 4 / 169 ، وخاتمة المستدرك : 7 / 343 ، والفصول المختارة / 274 ، ومناقب آل أبي طالب : 1 / 49 و 71 و 104 و 288 وتفسيرالإمام العسكري / 600 ، وتفسير القمي : 2 / 54 ، وتفسير مقاتل : 1 / 110 ، وتفسير الطبري : 16 / 152 ، وتفسير ابن أبي حاتم : 11 / 127 ، وأسباب النزول للواحدي / 146 ، و 204 و 251 ، وتفسير البغوي : 4 / 127 ، ومعجم السيد الخوئي : 8 / 47 ، , والطبقات : 8 / 290 ، و : 3 / 167 ، وتهذيب التهذيب : 3 / 115 ، والبلاذري : 1 / 175 ، و : 2 / 362 ، وشرح النهج : 2 / 281 ، والطبراني الكبير : 4 / 56 ، والفصول المهمة : 1 / 490 . . وغيرها .
————————— 29 —————————

خطط الكوفة وسكانها

أكثرَ المؤرخون والمحدثون من أخبارتمصيرالكوفة وخططها ، وألفوا فيه كتباً ، وكلامهم يشبه بعضه بعضاً ، ومنهم غربيون ، واشتهركتاب : خطط الكوفة وشرح خريطتها ، للمسيو لويس ماسينيون ، ترجمة تقي بن محمد المصعبي ، وليس فيه جديد عما كتبه المسلمون .
قال في تاريخ الكوفة / 154 : ( بنيت دورها باللبن ، وجعل النهج الشارع الأعظم 40 ذراعاً وما بين ذلك 30 ذراعاً ، والأزقة سبعة أذرع ، وصارت قاعدة أعمال العراق تتبع لها من أعمال الفرس : الباب وأذربيجان وهمدان والري وأصبهان وماه والموصل وقرقيسياء ، وكلها في الجهة الشمالية .
كانت الكوفة واسعة كبيرة ، تتصل قراها وجباناتها إلى الفرات الأصلي وقرى العذار ، فهي تبلغ ستة عشر ميلاً وثلثي ميل .
قال ياقوت : ذكر أن فيها من الدور خمسين ألف دار للعرب من ربيعة ومضر ، وأربعة وعشرين ألف دار لسائر العرب ، وستة آلاف دار لليمن . وعد الطبري : من اليمن الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار وخزاعة وقضاعة وحضرموت . وعدّ من مضر تميماً وهوازن وأبناء أعصر وأسداً وغطفان ومذحج وهمدان .
قال البراقي : أحد حدودها خندق الكوفة المعروف بكري سعد ، والحد الآخر القاضي الذي هو بقرب القائم إلى أن يصل قريباً من القرية المعروفة اليوم بالشنافية ، والحد الآخر الفرات الذي هو ممتد من الديوانية إلى الحسكة إلى القرية المعروفة اليوم بأبوقوارير ، وهي منزل الرماحية ، والحد الرابع قرى العذار التي هي من نواحي الحلة السيفية ) .
وقال في شوارعها : ( نَهَجَ في الودعة من الصحن خمسة مناهج ، وفي قبلته أربعة مناهج ، وفي شرقيه ثلاثة مناهج ، وفي غربيه ثلاثة مناهج وعلمها ، فأنزل في ودعة الصحن سليماً وثقيفاً مما يلي الصحن على طريقين ، وهمدان على طريق ، وبجيلة على طريق آخر ، وتيم اللات على آخرهم وتغلب ، وأنزل في
————————— 30 —————————
قبلة الصحن بني أسد على طريق ، وبين بني أسد والنخع طريق ، وبين النخع وكندة طريق ، وبين كندة وأزد طريق ، وأنزل في شرقي الصحن الأنصار ومزينة على طريق ، وتميم ومحارب على طريق ، وأسد وعامر على طريق ، وأنزل في غربي الصحن بجالة وبجلة على طريق ، وجديلة وأخلاط على طريق ، وجهينة وأخلاط على طريق ، فكان هؤلاء الذين يلون الصحن ، وسائر الناس بين ذلك ومن وراء ذلك ، واقتسمت على السهمان ، فهذه مناهجها العظمى ) .
وقال في قصر الكوفة : ( فقال له دهقان من أهل همذان يقال له : روزبه بن بزرجمهر : أنا أبنيه لك وأبني لك قصراً فأصلهما ويكون بنياناً واحداً . فخط قصرالكوفة على ما خط عليه ، ثم أنشأه من نقض آخرقصر كان للأكاسرة في ضواحي الحيرة على مساحته اليوم . . ثم مدّ به عن يمين ذلك إلى منقطع رحبة عليّ ( عليه السلام ) والرحبة قبلته ثم مد به ، فكانت قبلة المسجد إلى الرحبة وميمنة القصر ، وكان بنيانه على أساطين من رخام كانت لكسرى بكنائس بغيرمجنبات ، فلم يزل على ذلك حتى بني زمان معاوية بن أبي سفيان بنيانه اليوم على يدي زياد .
ولما تم تمصير الكوفة شقت فيها شوارع سكك ، وكان عرض السكة خمسين ذراعاً ، وكانت السكك تنوّر أثناء الليل بالمشاعل ، وقد وصل إلينا من السكك : سكة البريد ، وسكة العلاء ، وسكة بني محرز ، وسكة شبث ، وسكة عميرة ، وسكة دار الروميين قريبة من قصر الإمارة ، وكثيرغيرها كانت تعرف بأسماء الأعلام والتجّار من قبيل سكة عنترة الحجام ، وأهم سكك الكوفة سكة البريد ، وموقعها بين الجسرالذي كان في الجانب الشرقي وبين القصر وبين الكناسة ، وموقع القصراليوم إلى جانب الجامع من الجنوب الشرقي . أما موقع الكناسة فستعرفه في الشمال الشرقي بين مسجد السهلة ومسجد الكوفة .
وكانت أرباع الكوفة تنقسم إلى خمسة عشر منهجاً : فمنهاج الربع الأول وهو الواقع شمال الجامع : محلات سليم وثقيف وهمذان وبجيلة وتيم اللات وتغلب .
————————— 31 —————————
ومنهاج الربع الثاني ، وموقعه في جهة القبلة جنوباً : محلات بني أسد ونخع وكندة والأزد . ومنهاج الربع الثالث وموقعه شرقي الجامع : محلات الأنصار ومزينة وتميم ومحارب وأسد وعامر . ومنهاج الربع الرابع وموقعه غربي الجامع : محلات بجيلة غطفان وبجيلة قيس وجديلة وجهينة ، وغيرها من عدة عشائر .

علي ( عليه السلام ) أول من حفر الآبار العذبة في الكوفة

وفي خلال القرن الأول لم تكن في الكوفة بئر للإستقاء ، وإنما كانت بعض أقنية والناس يعتمدون على السقائين الذين يحملون الماء من الشريعة ، وبعد ذلك عرفت بئر عليّ ( عليه السلام ) ، واستقى الناس منها ) .
ملاحظات
1 . كان طول الكوفة وعرضها عند تمصيرها نحو أربع كيلو مترات تقريباً ، فتكون أقل من عشرين كيلو متراً مربعاً . ولو جعلنا سكانها مئة ألف بيت ، لما بلغوا مليون نسمة ، ويؤيد ذلك عليه أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان يتجول في سوقها صباحاً ثم يرجع إلى عمله . وربما بلغ سكانها مليوناً ونصفاً في زمن عمر وعثمان .
وينبغي الالتفات إلى أن الدور كانت كبيرة لتسع الجمال والحيوانات الأخرى .
2 . كان اليمانيون أغلب أهل الكوفة ، فقد جاؤوا للجهاد بعوائلهم ، ثم سكنوا . قال الطبري ( 3 / 82 ) : ( لم يكن من قبائل العرب أحد أكثر امرأة يوم القادسية من بجيلة والنخع ، وكان في النخع سبع مائة امرأة فارغة ، وفي بجيلة ألف ، فصاهر هؤلاء ألفٌ من أحياء العرب ، وهؤلاء سبع مائة ) .
وكان في الكوفة زعماء منافقون يثيرون العصبة اليمانية ويستغلونها لزعامتهم ، وأبرز أمثلتهم الأشعث بن قيس الكندي ، وأبو موسى الأشعري . وبهذه العصبة فرضوا على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولاية أبي موسى على الكوفة ، فولاه حتى ظهرت خيانته ، ثم فرضوا عليه الرضا بالحكمين ، وانسحاب الأشتر في صفين وقد شارف على النصر ، وفرضوا أبا موسى حكماً مقابل الداهية عمرو العاص !
————————— 32 —————————

ظهر الكوفة يشمل النجف وكربلاء

روت مصادرنا بأسانيد صحيحة أن اسم ظهر الكوفة يشمل النجف وكربلاء :
1 . ففي تهذيب الأحكام ( 6 / 34 ) : ( عن أبي بصير ، قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : أين دفن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ؟ قال : دفن في قبر أبيه نوح ( عليه السلام ) قلت : وأين قبر نوح ؟ الناس يقولون إنه في المسجد ؟ قال : لا ، ذاك في ظهر الكوفة ) .
قال الصادق ( عليه السلام ) : ( احتمله الحسن فأتي به ظهرالكوفة قريباً من النجف يسرة عن الغري يمنة عن الحيرة فدفنه بين ذكوات بيض ) . ( الكافي : 1 / 456 ) .
وفي الغارات ( 2 / 845 ) : ( اشترى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ما بين الخورنق إلى الحيرة إلى الكوفة . وفي رواية : ما بين النجف إلى الحيرة إلى الكوفة من الدهاقين بأربعين ألف درهم وأشهد على شرائه . . وقد تقدم ) .
وهذا هو الشراء الثاني بعد شراء جده إبراهيم ( ( صلى الله عليه وآله ) ) لهذه البقعة .
2 . وفي كامل الزيارات / 165 : ( قال علي ( عليه السلام ) : بأبي وأمي الحسين المقتول بظهر الكوفة ، والله كأني أنظر إلى الوحوش مادة أعناقها على قبره من أنواع الوحش يبكونه ويرثونه ليلاً حتى الصباح ، فإذا كان ذلك فإياكم والجفاء ) .
وفي كامل الزيارات / 314 : ( عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، قال : إن بظهر الكوفة لقبراً ما أتاه مكروب قط إلا فرج الله كربته ، يعني قبر الحسين ( عليه السلام ) ) .

ظهر الكوفة مجمع أرواح المؤمنين

في الكافي ( 3 / 243 ) : ( عن حبة العرني قال : خرجت مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى الظهر فوقف بوادي السلام كأنه مخاطب لأقوام ، فقمت بقيامه حتى أعييت ثم جلست حتى مللت ، ثم قمت حتى نالني مثل ما نالني أولاً ، ثم جلست حتى مللت ، ثم قمت وجمعت ردائي فقلت : يا أمير المؤمنين إني قد أشفقت عليك من طول القيام ، فراحة ساعة ثم طرحت الرداء ليجلس عليه ، فقال لي : يا حبة إن هو إلا محادثة مؤمن أو مؤانسته ، قال قلت : يا أمير المؤمنين وإنهم لكذلك ، قال : نعم ولو كشف لك لرأيتهم
————————— 33 —————————
حلقاً حلقاً محتبين يتحادثون ! فقلت : أجسام أم أرواح فقال : أرواح . وما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض إلا قيل لروحه إلحقي بوادي السلام ، وإنها لبقعة من جنة عدن ) .
وفي تهذيب الأحكام ( 1 / 466 ) : ( عن مروان بن مسلم ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال قلت له : إن أخي ببغداد وأخاف أن يموت فيها . قال : ما تبالِ حيثما مات ، أما إنه لا يبقى أحد في شرق الأرض ولا في غربها إلا حشر الله روحه إلى وادي السلام . قال قلت : جعلت فداك ، وأين وادي السلام ؟ قال : ظهر الكوفة . أما إني كأني بهم حلق حلق قعود يتحدثون ) .

وأرواح المؤمنين يخلق لها أبدان كأبدانهم

في الكافي ( 3 / 244 ) : ( عن أبي ولاد الحناط عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال قلت له : جعلت فداك يروون أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش ؟ فقال : لا ، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ولكن في أبدان كأبدانهم . .
وقال له أبو بصير : قلت : فأين هي ؟ قال : في روضة كهيئة الأجساد في الجنة .
وعنه ( عليه السلام ) قال : إن أرواح المؤمنين لفي حجرات في الجنة يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها ويقولون : ربنا أقم الساعة لنا وأنجز لنا ما وعدتنا وألحق آخرنا بأولنا . . إن الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنة تعارف وتساءل فإذا قدمت الروح على الأرواح يقول : دعوها فإنها قد أفلتت من هول عظيم ثم يسألونها : ما فعل فلان وما فعل فلان ؟ فإن قالت لهم : تركته حياً ارتجوه ،
وإن قالت لهم : قد هلك قالوا : قد هوى هوى ) .

وأرواح الأشرار في برهوت باليمن

في الكافي ( 3 / 245 ) : ( عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : سألته عن أرواح المشركين فقال : إن أرواح الكفار في نار جهنم يعرضون ؟ يقولون : ربنا لا تقم لنا الساعة ،
ولا تنجز لنا ما وعدتنا ، ولاتلحق آخرنا بأولنا . .
————————— 34 —————————
وروى عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : شربئر في النار برهوت الذي فيه أرواح الكفار . وروى : شر ماء على وجه الأرض ماء برهوت ، وهو الذي بحضرموت ترده هام الكفار ) . ورويَ : يرد عليه هام الكفار وصداهم .
أقول : أخطأ كثيرون في تفسير الهام والصدى مع وضوحهما ، فالهامة والهامة البدن والصدى ظل الهام ، لأنه رجع الصوت ، فالعذاب يشمل ظل الهام أيضاً .

أخذ جبرئيل حجراً من ظهر الكوفة لقواعد البيت

في الكافي في الصحيح ( 4 / 195 ) : ( أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى جبرئيل ( عليه السلام ) : أنا الله الرحمن الرحيم ، وإني قد رحمت آدم وحواء لما شكيا إلي ما شكيا ، فأهبط عليهما بخيمة من خيم الجنة . . ثم قال : إن الله عز وجل أوحى إلى جبرئيل بعد ذلك أن اهبط إلى آدم وحواء ، فنحهما عن مواضع قواعد بيتي وارفع قواعد بيتي لملائكتي . . فرفع قواعد البيت الحرام بحجر من الصفا وحجر من المروة ، وحجر من طور سيناء ، وحجر من جبل السلام ، وهو ظهر الكوفة . وأوحى الله عز وجل إلى جبرئيل أن ابنه وأتمه ، فاقتلع جبرئيل الأحجار الأربعة بأمر الله عز وجل من مواضعهن بجناحه ، فوضعها حيث أمر الله عز وجل في أركان البيت على قواعده التي قدرها الجبار ونَصَّفَ أعلامها ، ثم أوحى الله عز وجل إلى جبرئيل ( عليه السلام ) أن ابنه وأتمه بحجارة من أبي قبيس ، واجعل له بابين باباً شرقياً وباباً غربياً ، قال : فأتمه جبرئيل ( عليه السلام ) فما أن فرغ طافت حوله الملائكة ، فلما نظر آدم وحواء إلى الملائكة يطوفون حول البيت ، انطلقا فطافا سبعة أشواط ) .
وفي تفسير العياشي ( 1 / 35 ) رواية مفصلة في نزول آدم ( عليه السلام ) عن النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) ( قال : ثم إن جبريل أتاهما فأنزلهما من المروة ، وأخبرهما أن الجبار تبارك وتعالى قد هبط إلى الأرض ( أهبط جبرئيل ) فرفع قواعد البيت الحرام . . قال : فأتمه جبرئيل . فلما أن فرغ منه طافت الملائكة حوله فلما نظرآدم وحوا إلى الملائكة يطوفون حول البيت انطلقا فطافا بالبيت سبعة أشواط ، ثم خرجا يطلبان ما يأكلان ، وذلك من يومهما الذي هبط بهما فيه ) .
أقول : ورد أن الأحجار الأربعة أحجار خضراء ، وأن أساس البيت تختلف أحجاره عن البناء الفوقي .

  • *
    ————————— 35 —————————