شبكة الألوكة :
الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ :
فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، وإمام من أئمة الهدى، نصر الله به الدين، وحفظ به السنة، ولد سنة (164هـ)، ونشأ يتيمًا، فقد مات والده وهو طفل صغير، وطلب العلم وهو ابن خمس عشرة سنة، وكان طوالًا أسمر شديد السمرة، تزوج وهو ابن أربعين سنة، قال أبو زرعة الرازي: كان يحفظ ألف ألف حديث “يعني مليون حديث”، ولما سُئل أبو زرعة عن ذلك قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب.
قال الذهبي: وهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبدالله، وكانوا يعدون في ذلك المكرر، والأثر، وفتوى التابعي، وما فسر، ونحو ذلك، وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ ذلك[1].
إنه إمام أهل السنة والجماعة، شيخ الإسلام أحمد ابن محمد بن حنبل الذهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي، ويُكنى بأبي عبدالله.
قال الشافعي: خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلًا أفضل، ولا أعلم ولا أتقى، من أحمد بن حنبل، وقال إسحاق بن راهوية: أحمد حجة بين الله وخلقه.
قال الذهبي: كان أحمد عظيم الشأن، رأسًا في الحديث، وفي الفقه، وفي التأله، أثنى عليه خلق من خصومه، فما الظن بإخوانه وأقرانه؟ وكان مهيبًا في ذات الله، حتى قال أبو عبيد: ما هبت أحدًا في مسألة ما هبت أحمد بن حنبل.
وكان يجتمع في مجلس أحمد خمسة آلاف، أو يزيدون؛ نحو خمسمائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت، وسأله أحد أصحابه ذات يوم: إلى متى تستمر في طلب العلم وقد أصبحت إمامًا للمسلمين؟ فقال له: من المحبرة إلى المقبرة.
وكان رحمه الله متفقهًا زاهدًا في الدنيا، قال النسائي: جمع أحمد بن حنبل المعرفة بالحديث، والفقه، والورع، والزهد، والصبر، وقال أبو داود: كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيته ذكر الدنيا قط.
قال أحمد بن سنان: بلغني أن أحمد بن حنبل رهن نعله عند خباز باليمن، وأكرى نفسه من جمالين عند خروجه، وعرض عليه عبدالرزاق دراهم فلم يقبلها.
قال المروذي: كان أبو عبدالله إذا ذكر الموت خنقته العبرة، وكان يقول: الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب، وإذا ذكرت الموت هان عَلَيَّ كل أمر الدنيا، إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل ما أعدل بالفقر شيئًا، ولو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذكر، وقال: أريد أن أكون في شعب بمكة حتى لا أُعرف، قد بُليت بالشهرة.
وكان تقيًّا، ورعًا متواضعًا، قال يحيى بن معين: ما رأيت مثل أحمد، صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير.
قال المروذي: قلت لأبي عبدالله: ما أكثر الداعي لك، قال أخاف أن يكون هذا استدراجًا بأي شيء هذا؟ وقلت له: قدم رجل من طرسوس فقال: كنا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء، ادعوا لأبي عبدالله، وكنا نمد المنجنيق، ونرمي عن أبي عبدالله ولقد رمي عنه بحجر، والعلج على الحصن متترس بدرقة فذهب برأسه وبالدرقه، قال: فتغير وجه أبي عبدالله وقال: ليته لا يكون استدراجًا، قلت: كلا، ودخل عليه رجل وأثنى عليه وقال: جزاك الله عن الإسلام خيرًا؛ فاغتم وقال: بل جزى الله الإسلام عني خيرًا، من أنا وما أنا؟
قال صالح بن أحمد: كان أبي إذا دعا له رجل يقول: الأَعمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا.
وقال المروذي: قلت لأحمد: كيف أصبحت؟ قال: كيف أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض، ونبيه يطالبه بأداء السنة، والملكان يطلبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة.
قال المروذي: لما ذكر الإمام أحمد أخلاق الورعين فقال: أسأل الله أن لا يمقتنا، أين نحن من هؤلاء؟ وهذا من تواضعه وإلا فهو إمام في ذلك.
وكان رحمه الله من الصادعين بالحق والصابرين عليه، وقد ابتُلِيَ في ذلك، قال الذهبي: “الصدع بالحق عظيم يحتاج إلى قوة وإخلاص، قال: فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به، والقوي بلا إخلاص يُخْذَلُ، فمن قام بهما كاملًا فهو صدِّيق، ومن ضعف فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب، ليس وراء ذلك إيمان، فلا قوة إلا بالله”[2].
قال علي بن المديني: أعز الله الدين برجلين: أبو بكر الصديق في حروب الردة، وأحمد بن حنبل في فتنة خلق القرآن.
قَالَ تَعَالَى: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين ﴾ [العنكبوت: 1-3].
روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ سَعدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: “قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ”[3].
لما حصلت فتنة خلق القرآن في عهد المأمون قال صالح: ثم امتحن القوم ووجه بمن امتنع إلى السجن، فأجاب القوم جميعًا إلا أربعة: أبي ومحمد بن نوح، والقواريري، والحسن بن حماد، ثم أجاب هذان وبقي أبي ومحمد في الحبس أيامًا، ثم جاء كتاب من طرسوس بحملهما مقيدين زميلين، وتوفي محمد بن نوح في الطريق، وصلى عليه الإمام أحمد.
قال عباس الدوري: سمعت أبا جعفر يقول: لما أُخذ أحمد إلى المأمون أُخبرت فعبرت الفرات، فإذا هو جالس في الخان فسلمت عليه، قال: يا أبا جعفر تعنيت، قلت: يا هذا أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق، وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، لا بد من الموت فاتق الله ولا تجب، وجعل أحمد يبكي ويقول له: ما شاء الله، ثم قال: يا أبا جعفر أعد عَلَيَّ، فأعدت عليه وهو يقول: ما شاء الله.
قال إبراهيم بن عبدالله: قال أحمد بن حنبل: ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها، قال: يا أحمد إن يقتلك الحق مت شهيدًا، وإن عشت عشت حميدًا، فَقَوِيَ قلبي.
قال محمد بن إبراهيم: جعلوا يذاكرون أبا عبدالله بالرقةِ في التقية، وما رُوي فيها، فقال: كيف تصنعون بِحَدِيثِ خَبَّابٍ؟ “كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ، أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ”[4]. فأيسنا منه، وقال: لست أبالي بالحبس؛ ما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلًا بالسيف، إنما أخاف فتنة السوط، فسمعه بعض أهل الحبس فقال: لا عليك يا أبا عبدالله، فما هو إلا سوطان ثم لا تدري أين يقع الباقي، فكأنه سُرِّيَ عنه.
قال صالح بن أحمد: قال أبي: فلما صرنا إلى أذنه[5] ورحلنا منها في جوف الليل وفتح لنا بابها إذا رجل قد دخل فقال: البشرى، قد مات الرجل – يعني المأمون -، قال أبي: وكنت أدعو الله أن لا أراه، وبقي أحمد محبوسًا بالرقة حتى بويع المعتصم إثر موت أخيه، وقد أمر بتعذيبه، وجلده بالسياط حتى أُغمي عليه عدة مرات، قال صالح: ثم خُلِّيَ عنه فصار إلى منزله، وكان مُكْثُهُ في السجن منذ أُخِذَ إلى أن ضرب: ثمانية وعشرين شهرًا.
ومن أخلاقه العظيمة: عفوه وتسامحه حتى مع أشد خصومه ممن عذبه، فمن ذلك أنه قال: كل من ذكرني ففي حِلٍّ إلا مُبْتَدِعًا، وقد جعلت أبا إسحاق – يعني المعتصم – في حِلٍّ، ورأيت الله يقول: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [النور: 22]. وأمر النبي صلى اللهُ عليه وسلم أبا بكر بالعفو في قصة مِسْطَحٍ، قال أبو عبدالله: وما ينفعك أن يُعذب أخاك المسلم بسببك؟ ولتعف، وتصفح فيغفر الله لك كما وعدك، وكان يقول لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز، قال عبدالوهاب الورَّاق: ما بلغنا أن جمعًا في الجاهلية، ولا الإسلام مثله – يعني من شهد الجنازة -، حتى بلغنا أن الموضع مسح وحرز على الصحيح، فإذا هو نحو من ألف ألف – يعني مليون – وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع، والدروب، ينادون: من أراد الوضوء[6].
وكان وفاته لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول يوم الجمعة سنة (241هـ)، رحمه الله رحمة واسعة.
وجزاه عن الإسلام، والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ