القاهرة (الاتحاد) الإماراتية :
القرآن مصدر الهداية للعالمين، يجمع الأحكام العقدية والفقهية والأخلاقية، فاهتم المسلمون به اهتماماً بالغاً من حيث الجمع والحفظ والتلاوة والتفسير، لفهم مقصد الله تعالى من كلامه، وكان التفسير موجوداً في زمن النبـي صلى الله عليه وسلم، واهتم الصحابة بهذا العلم، لأنهم لم يحفظوا آية إلا عالمين معناها، قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه، وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله.
ولم يدون في هذا الوقت التفسير واستمر شفهياً، وظل تفسير آيات الأحكام محتفظاً بطابع التلقي والرواية، فكان أهل كل مصر يعنون بالتلقي والرواية عن إمام مصرهم، المكيون عن ابن عباس، والعراقيون عن ابن مسعود، وهذا أدى إلى ظهور مدارس متنوعة في التفسير الفقهي ونواة الخلاف الفقهي المذهبي، حتى ظهرت المذاهب الفقهية، وكان لكل إمام منهجه في كيفية استنباط الأحكام الشرعية من القرآن، مما أدى إلى ظهور اختلاف بينهم، فبدأ التدوين، وكان تفسير آيات الأحكام ضمن التفسير العام، ولم يستقل بذاته.
واستقل هذا التفسير عندما صنف «الشافعي» كتاباً بأحكام القرآن، ولكن ضاع، وهذا الأمر جعل الإمام البيهقي يجمع أقوال الشافعي في كتاب سماه «أحكام القرآن للشافعي»، ويعتبر الإمام محمد بن إدريس الشافعي «150 – 204هـ / 767 – 820م»، مجدّد القرن الثاني للهجرة، فقد صنّف نسخة أولى من كتاب «الرسالة»، وتجمع المصادر على أن الشافعي أول من صنف في أصول الفقه، فلم يسبقه أحد في تصانيف الأصول ومعرفتها، ويرى فخر الدين الرازي، أن الناس كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل الفقه ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي يرجعون إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضتها وترجيحها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للناس قانوناً كلياً يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع.
واعتبر الزركشي أن أول من صنف في أصول الفقه هو الشافعي، بكتب «الرسالة»، و«أحكام القرآن»، و«اختلاف الحديث»، و«إبطال الاستحسان»، و«جماع العلم»، و«القياس» الذي ذكر فيه تضليل المعتزلة ورجوعه عن قبول شهادتهم، ثمّ تبعه المصنّفون في الأصول، واعتبر ابن عقيل الحنبلي، الشافعي أبا علم أصول الفقه، وكذلك ابن خلدون المالكي، يعتبره أول من كتب في هذا العلم.
والشافعي ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب المعروف في الفقه الإسلامي، وإمام علم التفسير والحديث، عمل قاضياً فعرف بالعدل والذكاء، كان فصيحاً شاعراً، ورحّالاً مسافراً، أكثرَ العلماءُ من الثناء عليه، قال فيه الإمام أحمد: كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس.
ولد الشافعي بغزة، نشأ من أسرة فقيرة في فلسطين، مات أبوه وهو صغير، فانتقلت أمُّه به إلى مكة وعمره سنتان خشية أن يضيع نسبه الشريف، فحفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين، وحفظ الموطأ وهو ابن عشر، وأخذ يطلب العلم في مكة حتى أُذن له بالفتيا وهو دون عشرين سنة، واتجه إلى التفصُّح في اللغة العربية، فخرج إلى البادية، ولازم قبيلة هذيل، وكانت أفصح العرب.
هاجر الشافعي إلى المدينة المنورة طلباً للعلم عند الإمام مالك بن أنس، ثم ارتحل إلى اليمن وعمل فيها، ثم إلى بغداد، فطلب العلم فيها، ودرس المذهب الحنفي، وبذلك اجتمع له فقه الحجاز «المذهب المالكي» وفقه العراق «المذهب الحنفي»، وعاد إلى مكة وأقام فيها تسع سنوات، وأخذ يُلقي دروسه في الحرم.