أحمد زكي يماني :
نسبها ونشأتها في الجاهلية:
خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية. أمها فاطمة بنت زائدة، قرشية من بني عامر بن لؤي. يلتقي نسبها مع الرسول ﷺ في جده قصي، فهي من أقرب نسائه إليه في النسب. بيتها بيت مجد، ورياسة، ومال، فقد ذكر ابن إسحاق أنها كانت امرأة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه، بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قوما تجارا.
ولدت خديجة، رضي اللـه عنها، بمكة، ونشأت في بيت شرف ووجاهة. وقد مات والدها يوم حرب الفُجَّار. تزوجت مرتين، قبل رسول الله ﷺ، باثنين من سادات العرب، هما: أبو هالة بن زرارة بن النباش التميمي، وجاءت منه بهند وهالة. وأما الآخر فهو عتيق بن عائذ بن عمر بن مخزوم، وجاءت منه بهند بنت عتيق.
يقول ابن سعد عن نسل السيدة خديجة، رضي الـله عنها، من زوجيها قبل زواجها من رسول الله ﷺ:
«ولدت خديجة، رضي الله عـنها، لأبي هالة رجلا يقال له هند وهالة رجل أيضا. ثم خلف عليها بعد أبي هالة عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فولدت له جارية يقال لها هند؛ فتزوجها صيفيّ بن أمية بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمها، فولدت له محمدًا. ويقال لبني محمد هذا بنو الطاهرة لمكان خديجة، رضي الله عـنها. وكان له بقية بالمدينة وعقب فانقرضوا. وكانت خديجة، رضي الله عـنها، تدعى أم هند».
كان للسيدة خديجة، رضي الله عـنها، حظٌ وافر من التجارة، فكانت قوافلها لا تنقطع بين مكّة وحواضر التجارة آنذاك. لتضيف، إلى شرف مكانتها وعلوّ منزلتها، الثروة والجاه؛ حتى غدت من تجّار مكّة المعدودين. وبلغت منزلة عظيمة في الكرم والأخلاق الرفيعة، إذ كانت، نساء مكة، والمقربات إليها يعرفن عنها ذلك؛ فكن يذهبن بأنفسهن إليها في بيتها، فينلن من كرمها وفضلها الشيء الكثير. وكانت إذا ما خرجت إلى البيت العتيق، لتطوف به، خرجن معها، وقد أحطن بها، فلا تلغو واحدة منهن، ولا تتكلم إلا بالجد من الكلام، ولا يحببن أن يسمعن من أحد لفظة نابية، قد تجرح سمع السيدة خديجة، رضي الله عنـها. وفي إحدى المرات، وهُنَّ عند البيت العتيق مع خديجة، طلع عليهن يهودي، وناداهن قائلاً: «يا نساء تيماء (وفي رواية يا نساء قريش)، سيظهر نبي في هذا الزمن، فمن أرادت أن تكون له زوجا فلتفعل». فثارت النسوة اللاتي كنّ يحطن بالسيدة خديجة، رضي الله عنهـا، وقذفنه بالحجارة. وقد فعلن ذلك من أجل السيدة خديجة، رضي الله عنهـا.
زواجها بالرسول ﷺ:
ذكرت مصادرها (السيرة)، وغيرها، أن السيدة خديجة، رضي الله عـنها، كان لها حظٌ وافر من التجارة، فقد كانت تستأجر الرجال وتدفع إليهم أموالها، ليتاجروا بها، وكان رسول الله ﷺ واحدًا من الذين تعاملوا معها. تقول الروايات: إنها أرسلته مرة إلى الشام، بصحبة غلامها ميسرة. ولما عاد، أخبرها الغلام بما رآه من أخلاق الرسول ﷺ، وما لمسه من أمانته وطهره، وما أجراه الله على يديه من البركة، حتى تضاعف ربح تجارتها؛ فرغبت به زوجًا. وسرعان ما خطبها حمزة بن عبد المطلب، لابن أخيه، من عمها عمرو بن أسد بن عبد العزى. وقد أصدقها عشرين بكْرة. وتمّ الزواج قبل البعثة بخمس عشرة سنة، وللنبي ﷺ، آنذاك، خمس وعشرون سنة، بينما كان عمرها أربعين سنة. وعاش الزوجان حياة كريمة هانئة، وقد رزقهما الله ستة من الأولاد: القاسم، وعبد الله، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، رضي الله عنهـم أجمعين.
كانت السيدة خديجة، رضي الله عنـها، تحب النبي ﷺ، حبًّا شديدًا، وتعمل على نيل رضاه، والتقرّب إليه، حتى إنها أهدته غلامها زيد بن حارثة، لما رأت من ميله إليه ﷺ.
السيدة خديجة، رضي الله عنها ودورها في نصرة الرسول ﷺ
تمكنت، رضي اللـه عنها، من أن تهيئ للنبي ﷺ بيتا هانئا قبيل البعثة، إذا أعانته على خلوته في غار حراء، وواسته بنفسها ومالها. وعند البعثة ثبتته وصَدَّقته، عندما جاءها خائفا يرتجف قائلا: «زملوني زملوني». فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فكان لها دورٌ مهم في تثبيت النبي ﷺ، والوقوف معه، بما آتاها الله من رجحان عقل، وقوّة شخصيّة، وحكمة واعية. [رسم رقم 1؛ صورة رقم 1]
أخرج البخاري في باب (كيف كان بدء الوحي؟) ومسلم في (كتاب الإيمان، باب بدء الوحي) عن عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، أنها قالت: أول ما بُدئ به رسول الله ﷺ من الوحي، الرؤيا الصالحة (وعند مسلم الصادقة) في النوم. وكان لا يرى رؤيا، إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء؛ فكان يخلو بغار حراء، يتحنث فيه: وهو تعبد الليالي ذوات العدد (أي الليالي الكثيرة). قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى السيدة خديجة، رضي الله عـنها، فيتزود لمثلها؛ حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه المَلَك، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ، (أي لا أحسن القراءة). قال: فأخذني، فغطني (ضمني)، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني، فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني، فغطني الثالثة، ثم أرسلني، فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾… إلى آخر السورة. فرجع بها النبي ﷺ، يرجف فؤاده، فدخل على السيدة خديجة بنت خويلد، رضي الله عنـها، فقال: «زملوني زملوني»، فزملوه، حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة، وأخبرها الخبر: «لقد خشيت على نفسي»، فقالت السيدة خديجة: كلا، والله، ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل (الضعيف)، وتُكسب المعدوم (الفقير)، وتقري الضيف (تكرمه)، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به السيدة خديجة، رضي الله عـنها، حتى أتت به ورقة بن نوفل، ابن عمها، وكان امرأً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب. وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا بن عمي، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما رأى. فقال له ورقة: «هذا هو الناموس، جبريل – عليه السلام – الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا (أي شابا قويا)، ليتني أكون حيا، إذ يخرجك قومك. فقال النبي ﷺ: «أو مخرجيّ هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي. وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي (أي انقطع).
عندما جاءت البعثة النبوية، منذ نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّر﴾، أي يا أيها المتدثر بثيابك، قم فأنذر الناس، وحذرهم من عقاب الله تعالى؛ فكانت له أمرا بأن يدعو الناس إلى الإسلام؛ امتثل ﷺ لأمر ربه، وأخذ يدعو الناس إلى الإسلام سرًا، لكي لا يثير عداوة قريش. فبدأ ﷺ بأهله وأصدقائه، وكانت زوجه خديجة، رضي الله عـنها، أول من آمن بدعوته إلى الإسلام، كما أسلم زيد بن حارثة، رضـي الله عنه، وكان مولى لخديجة، رضي الله عنهـا.
وكانت السيدة خديجة، رضي الله عـنها، قد وهبت نفسها وبيتها لخدمة المسلمين، واستغلت مكانتها في دفع الأذى عن رسول الله ﷺ، لذلك حزن النبي أشذ الحزن على وفاتها، إذ كانت له نعم العون والنصير.
تلك هي السيدة العظيمة خديجة، رضي الله عنـها، التي بعث الله إليها تحيته تقديرا لما قدمته للدعوة الإسلامية، فبشرها الله ببيت في الجنة من اللؤلؤ المجوف (القصب)، لا تعب فيه ولا منازعة. فكانت بذلك الأسبق إلى الجنة، كما كانت الأسبق إلى الإسلام؛ إذ لما علمت، رضي الله عنـها، بذلك لم تتردّد لحظةً في قبول دعوته لتكون أول من آمن برسول الله، وصدّقه. ليس هذا فحسب، بل قامت معه تسانده في دعوته، وتؤانسه في وحشته، وتذلّل له المصاعب، فكان الجزاء من جنس العمل، بشارة الله لها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب. والحديث ورد بعدة روايات في (البخاري)، وغيره. يقول ابن حجر في شرح هذا الحديث: «لما دعا الرسول ﷺ، إلى الإسلام أجابت خديجة طوعا، فلم تحوجه إلى رفع صوت، ولا منازعة، ولا تعب في ذلك؛ بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير؛ فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها».
حفظ النبي ﷺ، لها ذلك الفضل، فلم يتزوج عليها في حياتها إلى أن قضت نحبها؛ فحزن لفقدها حزنًا شديدًا، ولم يزل يذكرها، ويُبالغ في تعظيمها والثناء عليها، ويعترف بحبّها وفضلها على سائر أمهات المؤمنين، فيقول: «إني قد رزقت حبّها»، ويقول ﷺ: «آمنت بي، إذ كفر بي الناس. وصدّقتني، إذ كذبني الناس. وواستني بمالها، إذ حرمني الناس. ورزقني الله عز وجل ولدها، إذ حرمني أولاد النساء». حتى إن السيدة عائشة، رضي الله عنهـا، كانت تغار منها، غيرة شديدةً. وقد أورد البخاري وغيره عدة روايات تبين غيرة السيدة عائشة، رضي الله عنـها.
ومن مظاهر وفائه ﷺ، لها أنه كان يصل صديقاتها، بعد وفاتها، ويحسن إليهنّ؛ وفاء لها، رضي الله عـنها. وكان ﷺ، كما ورد في (البخاري) و(مسلم)، إذا ذبح الشاة يقول: «أرسلوا بها إلى صدائق (أو خلائل) خديجة»، رضي الله عنـها.
وكان النبي ﷺ، إذا سمع صوت هالة، أخت السيدة خديجة، تذكّر صوت زوجته، فيرتاح. وفي رواية: يرتاع، كما ثبت في (الصحيحين).
فضل السيدة خديجة، رضي الله عـنها، من شواهد السُنة النبوية:
بيَّن النبيُّ ﷺ، فضلها حين قال: «أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محـمد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران. رضي اللـه عنهن»، وبيّن أنها خير نساء الأرض في زمنها في قوله ﷺ: «خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد».
هنا يظهر ما كانت تتميز به السيدة خديجة، رضي الله عـنها، من رجاحة العقل، وحسن العشرة لزوجها؛ فما كان جزاؤها إلا أن بشرها الله عز وجل، على لسان جبريل، عليه السلام، ببيت في الجنة. فعن أبي هريرة رضي الله عنـه، قال: «أتى جبريل عليه السلام النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله، هذه خديجة أتت معها إناء فيه إدام (أو طعام أو شراب)، فإذا هي أتتك، فأقرأ عليها السلام من ربها، ومني. وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب».
كانت، رضي الله عـنها، امرأة صالحة، وصلت بفضل إيمانها إلى أن تتبوأ مكانة بارزة في قلب رسول الله ﷺ، إذ لم تستطع أي واحدة من أمهات المؤمنين أن تزحزحها عن مكانتها هذه، حتى إن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عـنها، كانت شديدة الغيرة منها، من كثرة ما كان يذكرها رسول الله ﷺ، ويحن إليها، ويشيد بمواقفها. تقول عائشة، رضي الله عـنها: «ما غرت على أحد من نساء النبي ﷺ، ما غرت على خديجة، وما رأيتها. ولكن كان النبي ﷺ، يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنها كانت … وكانت …، وكان لي منها ولد».
وموضع الشاهد في هذا الحديث أن النبي ﷺ لم ينس السيدة خديجة، رضي الـله عنها، بعد وفاتها، لأن كثرة الذكر والمدح والثناء يدلان على كثرة المحبة. كما أن إطعام صواحبها، رضي الله عـنها، وإكرامهن مشعر باستمرار هذا الحب. ومن يتأمل كلام أهل التفسير في قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ﴾، أي أن الله أغناك بخديجة، رضي اللـه عنها؛ أدرك فضلها.
توفيت، رضي الله عـنها، قبل الهجرة بثلاث سنين، وقبل معراج النبي ﷺ، ولها من العمر خمس وستون سنة، ودفنت بالمعلاة [صورة رقم 2]، لترحل من الدنيا، بعدما تركت سيرةً عطرة، وحياة حافلةً، لا يُنسيها مرور الأيام والشهور، والأعوام والدهور، فرضي الله عنها وأرضاها.
أهم الأحداث والوقائع التي حدثت بدار السيدة خديجة، رضي الله عـنها:
تعد دار السيدة خديجة، رضي الله عنها، من الأماكن المأثورة التي تواترت في أهميتها وفضلها، روايات العديد من المحدثين والمؤرخين والفقهاء. فقد ذكر أبو سليمان في كتابه (الأماكن المأثورة في مكة المكرمة)، أن دار السيدة خديجة، رضي الله عنها، تحدث عن فضلها، وأهميتها بعض العلماء والمؤرخين، من هؤلاء: الأرزقي، والفاكهي، وابن الجوزي، ومحب الدين الطبري، وعز الدين ابن جماعة، وتقي الدين الفاسي، وجمال الدين ابن ظهيرة، ومحمد بن علان الصديقي، والصباغ، وغيرهم[xxv].
جاء عن القاضي عياض (ت 544هـ/1149هـ) في كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى ﷺ) فصل بعنوان (ومن إعظامه وإكباره)، قال فيه: «من إعظامه وإكباره، إعظام جميع أسبابه، وإكرام جميع مشاهده، وأمكنته من مكة والمدينة، ومعاهده، وما لمسه ﷺ أو عُرف به». والمقصود بأسبابه، فراشه ولباسه. أما مشاهده، فهي الأماكن التي حضر بها. وأمكنته، هي المواطن التي حل بها. أما معاهده فهي الأماكن التي عهد إلفه بها ﷺ. قال القاضي عياض عن عظمة هذه الأماكن: «وجدير لمواطن عمرت بالوحي والتنزيل، وتردد بها جبريل وميكائيل، وخرجت منها الملائكة والروح واشتملت تربتها على جسد سيد البشر، وانتشر عنها من دين الله وسنة رسوله ما انتشر، وأول أرض مس جلد المصطفى ترابها؛ أن تُعظّم عرصاتها، وتُتنسم نفحاتها، وتُقبل ربوعها، وجدرانها».
في هذه الدار أنجبت السيدة خديجة، رضي الله عنها، جميع أولا النبي ﷺ، وفيها توفيت، ومكث النبي ﷺ فيها حتى هاجر إلى يثرب. وقيل: إن عقيل بن أبي طالب، باعها بعد هجرة النبي ﷺ، لمعاوية رضي الله عنه وهو خليفة، فبنى فيها مسجدًا. وفي رواية: إن الذي باعها هو معتب بن أبي لهب.
كانت هذه الدار قد شهدت انطلاق الرسالة التي حملها النبي ﷺ؛ إذ فيها نزل جبريل عليه السلام، على طه الأمين موحيا بالقرآن العظيم. فنزلت فيها آيات الدعوة والتبليغ. وفيها وجد النبي ﷺ، أول نصرة وعون. أخرج البخاري ومسلم، (.. أن النبي ﷺ رجع يرجف فؤاده بعد نزل الوحي، فدخل على خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، فقال: «زملوني زملوني» فزملوه، حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد خشيت على نفسي»، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف).
وفي هذه الدار نزل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّر﴾
وللوحي في هذه الدار عدة نزولات؛ وقد سُمي المكان الذي كان ينزل فيه جبريل عليه السلام، فيما بعد، بقبة (الوحي) كما يقول الفاسي.
وفيها أسلمت خديجة، رضي الله عنها، فهي أول من آمن بدعوته ﷺ إلى الإسلام. كما أسلم فيها زيد بن حارثة رضي الله عنه، مولى لخديجة، رضي الله عنها. وفيها أسلم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه الذي تربى في هذه الدار.
وفي هذه الدار غُسل قلب النبي ﷺ بماء زمزم. ومنها انطلقت رحلة الإسراء والمعراج. فقد ورد في (الصحيحين) عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «فُرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل عليه السلام، ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب، ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء…».
هناك روايات تفيد بأن رحلة الإسراء انطلقت من المسجد الحرام. وأن حادثة الشق حدثت في الحطيم أو في الحجر. ويمكن الجمع بين الروايات كما يقول ابن حجر بأن الشق كان في بيته، ثم جاء به جبريل إلى المسجد الحرام.
مكث النبي ﷺ في هذه الدار نحو ثمان وعشرين سنة: ثلاث عشرة سنة مدة الدعوة بمكة المكرمة، وقبلها مكث خمس عشرة سنة، باعتبار أن النبي ﷺ تزوج وعمره خمس وعشرون سنة، كما بينا سابقا. ونزل عليه الوحي وهو في الأربعين من عمره ﷺ.
هذه الدار شهدت عدة أحداث؛ فقد درج بعض كفار قريش الذين يسكنون بجوار الدار على إلقاء الأوساخ والدماء أمامها أو على بابها. واشتهر بذلك عم النبي ﷺ، أبو لهب وزوجه أم جميل التي وصفها القرآن بأنها (حمالة الخطب)، وعقبة بن أبي مُعيط.
ذكر الأزرقي، والفاكهي والفاسي أن النبي ﷺ، كان يختبئ في مكان معين من الدار؛ لينجو من حجارة الكفار. وقد نعت هذا المكان، فيما بعد بقبة (المختبأ)، وتقع بجوار قبة الوحي.
وكان بعض كفار مكة، يأتون إلى الدار ليسمعوا القرآن ويلغَوْا فيه. من هؤلاء أبو جهل، الذي كان يستمع، ثم يأتي اليوم التالي ويستهزئ بالنبي ﷺ، ويؤذيه.
شهدت هذه الدار، استقبال المسلمين الجدد، وإكرامهم وإطعامهم من السيدة خديجة، رضي الله عنها. وأقيمت فيها الدروس خاصة دروس النساء، كما هي دار الأرقم بن أبي الأرقم التي كان القرآن الكريم يدوّي بها.
وشهدت هذه الدار محاصرة الكفار للنبي ﷺ، عندما أراد الهجرة ليثرب، وعزمهم على قتله. وفيها بات علي بن أبي طالب رضي الله عنه مكان النبي ﷺ الذي خرج منها نهائيا، ولم يعد. وكان ذلك في السنة الثالثة عشرة من البعثة، 622م.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: دار السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها في مكة المكرمة: دراسة تاريخية للدار وموقعها وعمارتها – النسخة العربية،2013 ، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص13- 28. |