ارنا :
ناصر کنعانی – رئیس مکتب رعایة مصالح الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة فی مصر
یحتفل الإیرانیون هذه الأیام بعید “النوروز” وبدایة العام 1400 هـ.ش. إن عید النوروز هو مصداق من مصادیق الحب والألفة ومن مصادیق الترابط وإزالة الضغائن وتنحیة التکدر وإعادة رتق الفواتق، فبث الکره بین البشر هو ذنب لا یغفره المولى عز وجل والله تعالى قد أمر فی کتابه الکریم بالتآخی والاتحاد. (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَیْنَ أَخَوَیْکُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّکُمْ تُرْحَمُونَ)
إن الروابط الإنسانیة والروحیة والفکریة والثقافیة بین الإیرانیین والمصریین متجذرة فی تاریخ البشریة، فلدینا أکثر من 2500 عام من العلاقات السیاسیة المکتوبة والمسجلة وجزء کبیر منها إنسانی وفکری وثقافی وأدبی وعلمی، حیث ووفقاً للمصادر التاریخیة، تعود العلاقات الخارجیة بین إیران ومصر إلى زمن کورش الأخمینی (558-529 قبل المیلاد). فی فترات تاریخیة مختلفة وحتى أثناء المواجهات بین الإیرانیین والمصریین، کان هناک تبادل المعرفة والخبرة بین البلدین وتعلم کل منهما الکثیر من الآخر.
وبحسب الوثائق المتوفرة فإن المصریین تعلموا نظام الری بطریقة القنوات من الإیرانیین، وبالمقابل تعلم الإیرانیون الطب والتقویم من المصریین، وبعد انتهاء العدوان الیونانی على مصر وإیران وإنشاء المرکزین العلمیین فی الإسکندریة و جامعة جُنْدَیْسَابُور، استوعبت هاتان المؤسستان العلمیتان العدید من العلماء وتبادلتا الأساتذة والطلاب کما فی العصر الحالی، ووفقًا للمصادر نفسها وخلال الحُقبة الساسانیة تمت دعوة بعض العلماء المصریین إلى جامعة جُنْدَیْسَابُور بدعوة من انوشیروان (کسرى الأول) للتدریس هناک.
بعد ظهور الإسلام فی شبه الجزیرة العربیة وانتشاره شرقًا وغربًا، اعتنق شعبا إیران ومصر الإسلام بوعی وطواعیة، أثناء حکم الخلفاء على بغداد والشام، أصبحت إیران ومصر الجناحین الشرقی والغربی للإسلام.
خلال تلک الفترة تزاید تردد الأدباء والشعراء والفقهاء بین إیران ومصر وخاصة فی تاریخ أسفار ناصر خسرو وسعدی الشیرازی وهما من الشعراء الإیرانیین وأیضاً فخرالدین العراقی وهو من الشعراء والمتصوفة الإیرانیین المشهورین، ومنهم أیضًا حمید الدین کرمانی وهو من أکبر المتکلمین والمبلغین للمذهب الإسماعیلی، ولا ننسى مؤیدالدین الشیرازی وحسن الصباح وغیرهم الذین تحدثوا عن أسفارهم إلى مصر فی مکتوباتهم، کما یقول بعض المصادر التاریخیة أن الشیخ البهائی قد سافر إلى مصر أیضًا وخلال هذا السفر تتلمذ لدى الأستاذ الأزهری الکبیر محمد بن أبی الحسن البکری.
تزامن تأسیس الدولة الفاطمیة فی مصر مع تأسیس دولة آل بویه فی إیران وهو ما أدى إلى تدعیم وزیادة زیارات الإیرانیین إلى مصر والعکس بسبب حبهم واعتقادهم المشترک بآل بیت النبی صلى الله علیه وآله وسلم.
منذ بدایة القرن التاسع عشر ونحن نشهد تدریس اللغة الفارسیة فی الجامعات المصریة، هذا بالإضافة إلى طباعة عدد من الکتب الفارسیة من کلستان وبوستان سعدی ومثنوی لمولانا جلال الدین الرومی وکتب العطار أیضًا فی أول مطبعة مصریة والتی کانت تُسمى “بولاق”، کما یوجد عشرات الکلمات فارسیة الأصل فی اللغة العربیة المصریة، ووجود بعض الأسماء والعناوین فی الأماکن العامة المصریة أو الأسواق المصریة یُنبئ عن أنها کانت تُدار من قِبل الإیرانیین القادمین من خراسان ویزد، وقد ساهم سفر السید جمال الدین الهمدانی أو الأسد آبادی أو الأفغانی إلى مصر فی زمن الخدیوی إسماعیل فی أواخر القرن التاسع عشر المیلادی -وکانت رحلته من أهم الرحلات بین البلدین فی العصر الحدیث-، فی زیادة التبادل الفکری بین علماء إیران ومصر، هذا بالإضافة إلى تدریسه فی الأزهر الشریف وعلاقاته الواسعة مع قادة الحرکة الوطنیة فی مصر، وتسببت علاقة الشیخ محمد عبده بالسید جمال الدین بزیادة میول الأول نحو الثقافة واللغة الفارسیة.
یُذکر أیضاً أن العلاقات الثقافیة بین إیران ومصر خلال النظام الملکی کانت واسعة جدًا وتستحق الدراسة، حیث ففی عهد الملک فاروق وبأمر منه فی عام 1938م بدأ تدریس اللغة الفارسیة وآدابها فی جامعة فؤاد الأول، ومن الأمور المهمة الأخرى نشر مجلات وإصدارات باللغة الفارسیة تسمى “المصور” الشهری (1305 هـ) ومجلة “ثریا” الأسبوعیة (1316 هـ) ومجلة “بروین” الأسبوعیة (1318 هـ) ومجلة “جهره نما” (1322 هـ) ومجلة “کمالنامه” التی کانت تصدر کل أسبوعین (1323 هـ) فی مصر، وهی من التحولات الثقافیة الکبیرة فی العلاقات بین إیران ومصر.
لا شک أن تأسیس دار التقریب بین المذاهب من أهم رموز تنمیة العلاقات الدینیة بین إیران ومصر، حیث أدى تبادل وجهات النظر والآراء الفقهیة والفکریة بین عالمین إیرانی ومصری أی آیة الله سیدحسین بروجردی وشیخ الأزهر ومفتی مصر السابق الشیخ محمود شلتوت إلى إصدار أشهر فتاوی الشیخ شلتوت فی 9 أکتوبر عام 1958م، حیث أعلن الشیخ شلتوت فی فتواه المشهورة والتی طُبعت فی العدد رقم 227 من مجلة رسالة الإسلام بجواز التعبد بمذهب الشیعة الإمامیة الإثنى عشریة مثله مثل المذاهب الأربعة لأهل السنة، وحتى فی فترة التوترات السیاسیة بین البلدین وخاصة فی عهد الرئیس جمال عبدالناصر کان هناک اهتمام کبیر من قِبل العلماء البارزین فی قم والأزهر بالحفاظ على العلاقات بین البلدین. وفی سبتمبر من عام 1971میلادی تم تأسیس جمعیة الصداقة الإیرانیة المصریة وکانت وظیفتها الأساسیة التعاون على المستوى الأکادیمی.
مع وصول الثورة الإسلامیة فی إیران إلى أوجها، تم ترجمة عدد کبیر من کتب الشخصیات الدینیة والفکریة المصریة فی إیران ونشرها باللغة الفارسیة، ومع انتصار الثورة الإسلامیة وعلى الرغم من قطع العلاقات بین إیران ومصر بأمر من الإمام الخمینی احتجاجًا منه على العلاقات الرسمیة المصریة مع إسرائیل، إلا أنه وبعد عدة سنوات أدت العلاقات الفکریة والثقافیة العمیقة بین الإیرانیین والمصریین والمصالح المشترکة أیضًا إلى إعادة العلاقات المباشرة الثنائیة على مستوى رعایة مصالح البلدین فی طهران والقاهرة والتی لا زالت مستمرة على هذا الشکل إلى الآن.
کما یحظى قراء القرآن الکریم المصریین بمحبة عارمة من قِبل الشعب الإیرانی المُسلم، ویُمثل هؤلاء القراء سفراء مصر الثقافیین لدى الشعب الإیرانی وهم یشارکون باستمرار فی محافل مجالس القرآن الکریم فی مختلف المدن الإیرانیة، ویعتبر أکثر القراء الإیرانیون أن أسلوب القراءة المصری هو النموذج الأمثل الذی یجب أن یحتذى به، ودائما ما رحب زعیم الثورة بالقراء المصریین بحب خاص.
الفکر والثقافة لا یُحاصران أبدًا وراء الجدران والأبواب، لذلک یفکر الإیرانیون والمصریون فی بعضهم بعضًا یومیًا ویستعرضون وجهات نظرهم وأفکارهم والتحولات الثقافیة والسیاسیة والاجتماعیة والإنتاجات الفکریة على بعضهم البعض، وسنویًا تتزاید عدد الکتب الفارسیة التی یتم ترجمتها ونشرها فی مصر، وفی المقابل یتم هناک نشر عدد کبیر من کتب المؤلفین المصریین فی إیران بعد أن یتم ترجمتها إلى الفارسیة.
وتهتم الصحافة فی کلا البلدین بنشر الکثیر من الأخبار والمقالات حول بعضهما البعض، والإشکال الکبیر فی هذه الفترة من تاریخ العلاقات بین الشعبین هو قلة اللقاءات والحوارات المباشرة، وقد تسبب هذا البعد والتباعد والحوار من خلف المیکروفونات والمنابر الإعلامیة فی تحور المشکلة واختلاق تصورات غیر واقعیة عن الحقائق الموجودة بین البلدین.
لطالما کان الإیرانیون والعرب جیرانًا متعاونین ومتحاورین على مدار التاریخ، ونحن فی الوقت الحالی أحوج ما نکون إلى الحوار أکثر من أی وقت مضى، فالهدف من الحوار لیس زیادة النفوذ بل التوصل إلى التفاهم المشترک، وفی هذا الصدد وعلى الرغم التقارب بین الإیرانیین والمصریین من جهة الثقافة والدین والعادات والتقالید الاجتماعیة والتاریخیة، إلا أنه وللأسف الشدید قد تسببت السیاسة فی إبعاد کلا الشعبین عن بعضهما، لذا نحن فی حاجة للحوار من أجل تقریب المسافات المصطنعة وتدعیم المحبة والود والروابط الإنسانیة بین هذین الشعبین العظیمین، وهذا لن یحدث على المدى القریب سوى بتعرف الشعبین على بعضهما وبالاطلاع على المشترکات الثنائیة.
بمقارنة الظروف التاریخیة لکلا البلدین نجد أن الظروف الحالیة الحاکمة على العلاقات السیاسیة بین إیران ومصر هی أمر جدید علیهما وقائم على الاختلاف فی الاجتهاد والتوجه السیاسی، ولکن هذا الوضع لن یستمر على هذا النحو وهو وضع مؤقت بکل تأکید، لأن الأجواء السیاسیة یجب ألا تتسبب فی ابعاد الشعبین عن بعضهما، بل یجب تدعیم العلاقات الإنسانیة بین البلدین والحفاظ علیها وحمایة المشترکات التاریخیة والثقافیة والحضاریة والمیراث البشری المشترک بین البلدین والذی یُمثل جزءاً کبیراً من المیراث البشری العالمیبشکل عام، نرى أنه من واجبنا تدعیم المحبة والود بین کلا الشعبین.
لم یکن الخلاف بین إیران ومصر فی أی وقت من الأوقات مثل الخلاف بین أمریکا وأوروبا، بل أنها لیست بحجم الخلافات بین بعض الدول الأوروبیة وبعضها، وعلى الرغم من وجود اختلاف فی وجهات النظر فإن قطع الحوار والاتصالات بین إیران ومصر لا یُمکن أن یکون هو الحل للوضع الراهن فی العلاقات بین البلدین، بل العامل الأهم هو الترابط بین الشعوب والترکیز على الاقتصاد والتجارة بجانب العلم والثقافة والمقدرات الإنسانیة المشترکة ومصر وإیران تحظیان بقدرات متعاظمة من هذه العناصر قل نظیرها فی العالم، ولکن هناک حاجة لبناء الجسور بدلًا من بناء الجدران حتى یضع الشعبان صناع الحضارة الإیرانی والمصری یدهما بید بعض ویقوما بدورهما المشترک فی المجال الفکری والعلمی والفنی والثقافی والحضاری العالمی. /