
لندن-“القدس العربي” :
قال باحثان أمريكيان إن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يواصل سياسته القاسية ضد المسلمين، بحجة مكافحة الإرهاب، بما في ذلك مراقبة المساجد وإغلاق المدارس غير المسجلة ودفع الأئمة للتوقيع على قسم الولاء.
وتعتمد هذه التدابير على تقاليد العلمانية الفرنسية، المعروفة باسم” اللائكية”، والتي كانت تستهدف في الأصل الكنيسة الكاثوليكية القوية في محاولة عام 1905 للفصل بين الكنيسة والدولة.
وفي مقال بمجلة “لوس أنجليس ريفيو أوف بوكس”، أكد جوزيف بيترسون أستاذ التاريخ بجامعة ميسيسيبي وراشيل جونستون ـ وايت الأستاذة بجامعة غرونيغن، أن العلمانية الفرنسية تستهدف على ما يبدو الآن أقلية من أصول مهاجرة، يعيش أفرادها في مساكن عامة، وهم يواجهون التنميط العنصري والتمييز في التوظيف، وهي أقلية تعرض أسلافها للضرب حتى الموت في نهر السين في عام 1961
واستنتجت الكاتبان أنه من الصعب تجنب الانطباع بأن العلمانية الفرنسية تقوم بعملية ضرب مماثلة لما حدث في السابق، وأن ماكرون يستغل حسن نوايا القانون والنظام من أجل اصطياد الناخبين من الحزب اليميني المتطرف، المعروف سابقاً باسم الجبهة الوطنية.
ماكرون يختلق صراعات مع المسلمين من أجل اصطياد الناخبين من الأحزاب اليمينية المتطرفة
ويبدو أن الإجراءات المقترحة تشير إلى تحول جذري في الغرض من العلمانية، كما يرى الباحثان، لكن على الرغم من السياقات المختلفة هناك تواصل بين حملة الجمهورية الثالثة ضد الكاثوليكية في أوائل القرن التاسع عشر عن الكاثوليكية في أوائل القرن العشرين والحملة الحالية ضد ما يسمى بـ “الانفصالية الإسلامية”، وفي الواقع، تحدث العلمانيون في القرن التاسع عشر عن الكاثوليكية والإسلام بطرق مشابه لدرجة أن بعض الكاثوليك الفرنسيين بدأوا بقبول هذه المقارنة، ورأوا المسلمين كحلفاء ضد العلمانية والدولة،ومما يجعل الأمر أكثر سخرية، أن المحافظين يعتنقون العلمانية على أنها “هراوة” ضد المسلمين في فرنسا، على الرغم من أن العلمانية لم تكن أبداً معنية بإزالة الدين كلياً من المجال العام الفرنسي بل بالأحرى تعريفه وتحييده واستخدامه لأغراض الدولة الخاصة.
وأشار الكاتبان إلى أن الجمهورية الثالثة في فرنسا قد تسامحت عن الصلبان والزي الكهنوتي في المدارس العامة، لتجنب المواجهات غير الضرورية مع المؤمنين الكاثوليك العاديين، إضافة إلى التسامح في قضايا ممتلكات الكنيسة، بل ودفع أجور بعض رجال الدين في مقاطعتي الألزاس واللورين.
ولاحظ الباحثان أن العديد من الشكاوى ضد الكهنة اليسوعيين كانت مشابه للاستعارات المعادية للمسلمين اليوم، حيث تم اتهامهم بأنهم “دولة داخل دولة” و”اقلية غير مندمجة في المجتمع”، كما تم اتهامهم جميعاً بالولاء للخارج، وفي الماضي، تم اتهام اليسوعيين بأنهم “هيئة سياسية مختبئة تحت ستار مؤسسة دينية”.
ولم يكن معروفاً عن التنظيم الداخلي لليسوعيين سوى القليل، فقد كانوا هدفاً لنظريات المؤامرة المشوشة، التي تبالغ في تقدير قوتهم الحقيقية وتأثيرهم، كما أصبحت بؤرة الحروب الثقافية المعادية للاكليروس والحملات السياسية التي كانت تهدف إلى حشد الانتصارات الانتخابية بدلاً من حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية الحقيقية التي تواجه الجمهورية الثالثة.
العلمانية الفرنسية لم تكن يوماً معنية بإزالة الدين من المجال العام
وقال الكاتبان إنه في استمرار غريب مع الديناميكيات لهجمات اليوم على الإسلام، فقد كانت هناك مشاعر من الكراهية بشكل خاص على اليسوعيين وغيرهم من القساوسة، بسبب التأثير الذي مارسوه في الطائفة على النساء المتدينات، وهو ما أثار سخط الكثير من الأزواج الجمهوريين، الذين اعتقدوا بأنهم في حاجة لحماية وتثقيف النساء من الخرافات.
وأشار الباحثان إلى أن هذا الارتباط الخطابي بين الطوائف الكاثوليكية والإسلام قد أثر على ضباط الاستعمار الفرنسي في الجزائر، الذين افترضوا أن “الأخويات الإسلامية” كانت مسيسة وتآمرية مثل اليسوعيين، و للمفارقة، أعرب مبشرون يسوعيون عن اعجابهم بالالتزام الديني لمسلمي الجزائر، ولكن كان لديهم طموحات في نفس الوقت بتحويلهم إلى المسيحية، ولكن هذه الجهود أثارت شكوكاً عميقة من جانب الدولة الاستعمارية نفسها، التي قالت على لسان أحد الحكام الاستعماريين إنه لا حاجة إلى “إثارة التعصب الإسلامي” لدى الجزائريين أو تحويلهم إلى متعصبيين مسيحيين.
وأدى طرد اليسوعيين وقانون الانفصال لعام 1905 إلى تقليص دور الكاثوليكية في المجال العام، ولكنه بالكاد كان بمثابة نهاية للصراعات بين الكنيسة والدولة، وبحسب المؤرخ رينيه ريمون، لم تتوقف الكنيسة الكاثوليكية عن الطعن في وجود الجمهورية إلا في الثلاثينيات من القرن الماضي، ومع ظهور شبح ألمانيا النازية وروسيا البلشفية، تعهد الاستبداديون باستعادة مكان الكنيسة في المجتمع، وبحلول عام 1945، كانت التجربة الكاثوليكية مع الحكومات اليمينية المتطرفة في أوروبا قد انتهت في كل مكان باستثناء إسبانيا والبرتغال، واستمر حضور الكنيسة في الانخفاض، على الرغم من عودة التدين لفترة وجيزة.
ونظر بعض الكاثوليك، مثل الباحث الشهير حول الإسلام لويس ماسينيون، إلى الممارسات الدينية للمسلمين في الجزائر كمصدر للروحانية المتجددة لفرنسا العلمانية بشكل متزايد، وكان أكثر ما أثار أعجاب هؤلاء الكاثوليك بالإسلام هو الطبيعة الشاملة للدين في الحياة، والتي تعزز الروحانية بطريقة واقعية.
فرنسا الاستعمارية صورت حربها الدموية في الجزائر وكأنها دفاع عن “الحضارة الغربية”
وهنا يبرز السؤال عن السبب الذي اصبحت فيه العلمانية، الآن، قضية يمينية مع الكثير من الأنصار الكاثوليك، والأجابة كما يوضح الكاتبان ليست بعيدة عن الماضي الاستعماري الفرنسي المشحون وحرب التحرير في الجزائر (1954- 1962)، حيث زعم الجيش الفرنسي بأن الحرب الجزائرية كانت صراعاً بالوكالة في حرب باردة بين “الحضارة الغربية” والبلشفية، كما تم وضع المسيحية والإسلام على طرفي نقيض من الصراع.
وتعرض الجزائريون للتعذيب المنهجي والتجويع والاعتقال في المعسكرات، بينما وجدت الكاثوليكية الفرنسية الرجعية نفسها متحالفة مع أهداف وأيديولوجيات الدولة الجمهورية.
وفي عام 2003، تم تشكيل لجنة خاصة للاستماع إلى شهادات حول الحظر المقترح للحجاب في المدارس من قبل المجلس الوطني الفرنسي، وقد حاول أحد قادة الجالية المسلمة التوضيح بأن الحجاب شعيرة دينية وليس محاولة للتبشير العلني إلا أن أحد النواب قال بكل عنصرية متجذرة في التاريخ إن هذا “تمييز يسوعي” في نظر الجمهورية العلمانية.
واختتمت الكاتبان مقالهما بالقول إن ماكرون وغيره من قادة فرنسا يجب أن يفهموا أن الدولة العلمانية هي لاعب مركزي في النقاشات ولكنها لم تكن حكماً محايداً، وأنه من الأفضل التفاوض والتسوية مع أتباع الديانات الأخرى.