“رَزِيّة الخميس”… عندما رفض الصحابة كتاب الرسول الأخير

رصيف 22 :

محمد يسري

 لم يختلف المسلمون في أمر كاختلافهم في مسألة الخلافة والإمامة، حتى ذكر الشهرستاني (ت. 548هـ)، في كتابه “الملل والنحل”: “ما سُل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة”.

المسلمون اختلفوا حول الطريق الأمثل للوصول إلى السلطة، فقالت الأغلبية الغالبة منهم أن الرسول لم يوصِ لأحد من بعده بالخلافة، بل تركها شورى بين أصحابه، في حين قالت بعض الفرق إن الرسول أوصى قُبيل وفاته بتنصيب أشخاص محددين من أصحابه.

ومن هنا، عرف العقل السياسي الإسلامي ظهور نظريتين متقابلتين: الأولى، تؤكد على حرية المسلمين في اختيار خليفتهم؛ والثانية، تقول بالنص الإلهي والوصية التي لا تجوز مخالفتها.

في هذا السياق، تقفز إلى الواجهة إحدى الحوادث المهمة التي تزامن وقوعها مع الأيام الأخيرة من حياة الرسول، وهي تلك التي عُرفت واشتهرت تحت مسمى “رَزِيّة الخميس”، والتي تناقلتها المدونات الحديثية السنّية والشيعية، واستحوذت على قدر وافر من اهتمام العلماء القدامى والباحثين المحدثين.

ما هي رزية الخميس؟

يُطلَق اسم رزية الخميس، والرزية هي المصيبة الكبيرة، على حادثة وقعت يوم الخميس السابق لوفاة الرسول بأربعة أيام فحسب، وذلك عندما اجتمع مجموعة من أصحاب الرسول عنده أثناء مرضه، وثار بينهم نقاش محتدم، انتهى بغضب الرسول، وأمره لهم بالخروج من المنزل.

وردت تلك القصة من خلال روايات مجموعة من الصحابة الذين حضروا الواقعة، ومنهم على سبيل المثال كل من عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس، والأخير هو الذي أطلق على هذا الموقف اسم رزية الخميس، وهو الاسم الذي سيصير الاسم الأشهر لتلك الواقعة.

المصادر الحديثية السنّية اهتمت كثيراً بذكر تلك الحادثة، إذ وردت في كل من صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وطبقات ابن سعد، ومسند أحمد بن حنبل، وسنن البيهقي.

وبالمثل، أوردت المصادر الحديثية الشيعية أخبار تلك الواقعة، فأشارت إليها في الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني، والإرشاد إلى معرفة حجج الله على العباد للشيخ المفيد، ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب المازندراني، وبحار الأنوار لمحمد باقر المجلسي.

ذكر البخاري الواقعة في مواضع مختلفة من صحيحه، ومنها ما أورده في كتاب العلم: “لَمَّا اشْتَدَّ بالنبيِّ وجَعُهُ قَالَ: ائْتُونِي بكِتَابٍ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ قَالَ عُمَرُ إنَّ النبيَّ غَلَبَهُ الوَجَعُ، وعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا. فَاخْتَلَفُوا وكَثُرَ اللَّغَطُ، قَالَ: قُومُوا عَنِّي، ولَا يَنْبَغِي عِندِي التَّنَازُعُ فَخَرَجَ ابنُ عَبَّاسٍ يقولُ: إنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ، ما حَالَ بيْنَ رَسولِ اللَّهِ وبيْنَ كِتَابِهِ”.

التأويل المذهبي للحادثة

اهتم علماء السنّة والشيعة بحادثة رزية الخميس منذ فترة مبكرة، وذلك لما ارتبط بها من دلالات متعلقة بشكل السلطة من جهة، وبطريقة تعامل الصحابة مع الرسول من جهة أخرى.

بالنسبة إلى أهل السنّة والجماعة، عملوا على تأويل الرواية بالشكل الذي يستقيم مع مبانيهم الأصولية والاعتقادية، وبما يحفظ حرمة ومقام عمر بن الخطاب، والذي يُعَدّ واحداً من الشخصيات المركزية والمعتبرة في النسق السنّي.

“رزية الخميس” هي حادثة وقعت يوم الخميس السابق لوفاة الرسول بأربعة أيام فحسب، وذلك عندما اجتمع مجموعة من أصحاب الرسول عنده أثناء مرضه، وثار بينهم نقاش محتدم، انتهى بغضب الرسول، وأمره لهم بالخروج من المنزل

في كتابه “كشف المشكل من حديث الصحيحين”، تناول الفقيه الحنبلي أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (ت. 597هـ) حادثة رزية الخميس بشكل عابر، وكان مما قاله في توضيح الكتاب الذي أراد الرسول أن يكتبه قُبيل وفاته: “اخْتلف الْعلمَاء فِي الَّذِي أَرَادَ أَن يكْتب لَهُم على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ أَن ينص على الْخَلِيفَة بعده. وَالثَّانِي: أَن يكْتب كتابا فِي الْأَحْكَام يرْتَفع مَعَه الْخلاف، وَالْأول أظهر”.

في سياق آخر، عمل العديد من الفقهاء على تأويل الرواية بما يتفق مع الرؤية السنّية التي تؤكد على أحقية استخلاف أبي بكر الصديق، فربطوا بين رواية ابن عباس، ورواية أخرى وردت في صحيحي البخاري ومسلم عن عائشة بنت أبي بكر، جاء فيها أن الرسول قال لعائشة في مرضه الأخير “ادْعِي أبا بكْرٍ أباكِ، وأخاكِ، حتى أكْتُبَ كِتابًا، فإنِّي أخافُ أنْ يتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، ويقولُ قائِلٌ: أنا أوْلَى، ويأبَى اللهُ والمؤمِنونَ إلَّا أبا بكْرٍ”.

بموجب هذا الربط، يصبح الكتاب الذي أراد الرسول أن يكتبه هو كتاب وصية ونص على خلافة أبي بكر، وقد وضحت تلك الرؤية في كتابات كل من ابن حزم الظاهري (ت. 456هـ)، وابن تيمية الحراني (ت. 728هـ)، على وجه الخصوص.

في كتابه “الإحكام في أصول الأحكام”، يشرح ابن حزم وجهة نظره تأسيساً على الحديث السابق، فيقول: “علمنا أن الكتاب المراد يوم الخميس قبل موته بأربعة أيام، كما روينا عن ابن عباس يوم قال عمر ما ذكرنا، إنما كان في معنى الكتاب الذي أراد أن يكتبه في أول مرضه قبل يوم الخميس المذكور بسبع ليال. لأنه ابتدأ وجعه يوم الخميس في بيت ميمونة أم المؤمنين، وأراد يوم الاثنين، وكانت مدة علته اثني عشر يوماً، فصح أن ذلك الكتاب كان في استخلاف أبي بكر لئلا يقع ضلال في الأمة بعده”.

أما شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد تعرض للمسألة في كتابه “منهاج السنّة النبوية في الرد على الشيعة القدرية”، فقال مثبتاً النص على استخلاف أبي بكر: “خلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها ورضا الله ورسوله له بها وانعقدت بمبايعة المسلمين له واختيارهم إياه اختياراً استندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله وأنه أحقهم بهذا الأمر عند الله ورسوله فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعاً لكن النص دل على رضا الله ورسوله بها وأنها حق وأن الله أمر بها وقدرها”.

النقطة الأخرى التي اهتم بها العقل السنّي، وعمل على إيجاد تخريج مناسب ومقبول لها، تمثلت في ما ذكره ابن عباس من رفض عمر بن الخطاب لأمر الرسول بكتابة الكتاب، وما جاء في بعض الروايات من أنه وصف الرسول بأنه “يهجر” أي يهذي، إذ كيف يمكن فهم عصيان عمر للنبي؟ خصوصاً أن تلك المسألة بالذات كانت من أهم الأدلة التي احتج بها الشيعة الاثني عشرية على خطأ عمر وعصيانه، وخروجه عن صحيح الدين.

في هذا السياق التبريري الدفاعي، استدلّ العديد من علماء السنّة بما رُوي عن الرسول في صحيحي البخاري ومسلم: “وقد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في الأمة أحد فعمر منهم”، بما قد يشير إلى أن مخالفة عمر للرسول كانت من جنس مخالفاته السابقة التي اشتهرت عنه في كتب السيرة، كموقفه من أسرى بدر وفي حجاب زوجات الرسول، وهي المواقف التي تم تأييد عمر فيها من السماء، ونزل القرآن لمتابعته وإقرار رأيه.

اعتبرها البعض إحدى الحوادث المركزية التي وقعت في الفترة الأخيرة من عمر الرسول، وقالوا إنها أظهرت فقدان الرسول للسلطة والسيطرة في نهاية عمره، وبيّنت سعي البعض من كبار الصحابة، ومنهم عمر، للسطو على إرث النبوة والملك

من جهة أخرى، عمل بعض الفقهاء على التماس الأعذار لعمر، ومن ذلك ما قال به أبو بكر البيهقي (ت. 458هـ)، في كتابه “دلائل النبوة”: “وإنّما قصد عمر بن الخطاب بما قال التخفيف على رسول الله حين رآه قد غلب عليه الوجع”، وما قال به يحيى بن شرف النووي (ت. 676هـ)، في كتابه “المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج”: “وأما كلام عمر فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره لأنه خشي أن يكتب أموراً ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، فقال عمر حسبنا كتاب الله لقوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء وقوله اليوم أكملت لكم دينكم فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأمن الضلال على الأمة وأراد الترفيه على رسول الله فكان عمر أفقه من ابن عباس”.

على الجهة المقابلة، أجمع الشيعة الإمامية على أن الكتاب الذي أراد الرسول أن يكتبه يوم الخميس كان كتاب الوصية والنص على استخلاف علي بن أبي طالب، والأئمة من بعده، ولذلك فإن الروايات التي تتحدث عن رزية الخميس تُعَدّ أحد أهم الأدلة التي يستعين بها الشيعة في سياق الاحتجاج على حق أئمتهم بالخلافة.

أيضاً، ذهب العديد من علماء الشيعة إلى أن الرسول كتب هذا الكتاب بالفعل قُبيل وفاته مباشرة. فبحسب ما جاء في كتاب بحار الأنوار لمحمد باقر المجلسي (ت. 1111هـ)، عن أبي عبد الله الصادق، عن آبائه، عن أمير المؤمنين قال: قال رسول الله في الليلة التي كانت فيها وفاته لعلي “يا أبا الحسن أحضر صحيفة ودواة فأملى رسول الله وصيته حتى انتهى إلى هذا الموضع فقال: يا علي إنه سيكون بعدي اثنا عشر إماماً ومن بعدهم اثني عشر مهدياً فأنت يا علي أول الاثني عشر إماماً”. وذكرت بعض الروايات أن هذا الكتاب شهد عليه كل من أبي ذر الغفاري والمقداد بن عمرو وسلمان الفارسي.

التناول الحداثي: بين الإنكار والتصحيح

إذا كانت روايات رزية الخميس قد شغلت موقعاً مهماً في خضم المجادلات المذهبية، السنّية والشيعية، فإنها شغلت أهمية أقل في سياق الكتابات والأبحاث التاريخية الحداثية والمعاصرة، تلك التي عملت على إعادة قراءة التاريخ الإسلامي بعيداً عن المسلمات العقائدية والمذهبية.

على سبيل المثال، لم يعر عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، اهتماماً يذكر بحديث رزية الخميس، وبحسب ما ورد في كتاب “مناظرات في الإمامة” لعبد الله بن الحسن، فإن حسين كذّب هذه الواقعة، وقال إنها من الروايات المُختلقة التي شاعت ولاقت رواجاً كبيراً رغم زيفها، ولذلك لم يتعرض لها على الإطلاق في أي من مؤلفاته التاريخية التي تناولت حياة الرسول أو فترة الخلافة الراشدة والحرب الأهلية.

أما المفكر المصري الكبير عباس محمود العقاد، فقد تعرض لتلك الحادثة بشكل عابر في كتابه “عبقرية عمر”، وقلل كثيراً من أهميتها وتأثيراتها، وذكر أن رفض عمر لقيام الرسول بكتابة الكتاب لم يكن أكثر من عادته في مراجعة النبي، وهي عادة معروفة “من خلائق عمر التي لا يحيد عنها ولا يأباها النبي وكثيراً ما جاراه واستحب ما أشار به وعارض فيه، فلا جرم يراجع النبي في كل عمل أو رأي لم يفهم مأتاه ومرماه ما أمكنته المراجعة، وما قلقت خواطره حتى تثوب إلى قرار… وقد أشفق عمر من مراجعته فيما سيكتب وهو جد خطير… ومال النبي إلى رأيه فلم يعد إلى طلب الطرس –الصحيفة- وإملاء الكتاب، ولو علم النبي أنَّ الكتاب ضرورة لا محيص عنها لكان عمر يومئذ أول المجيبين”.

أيضاً، تحدثت الباحثة التونسية الدكتورة هالة الوردي، في كتابها الصادر باللغة الفرنسية سنة 2016، والمعنون بـ”أيام محمد الأخيرة”، عن حادثة رزية الخميس، على كونها إحدى الحوادث المركزية التي وقعت في الفترة الأخيرة من عمر الرسول، ومالت للقول إن تلك الحادثة أظهرت فقدان الرسول للسلطة والسيطرة في نهاية عمره، وبيّنت سعي البعض من كبار الصحابة، الذين تزعمهم عمر بن الخطاب، للسطو على إرث النبوة والملك.

ما ذهبت إليه الوردي في كتابها، تعرّض لعاصفة من النقد العلمي في الأوساط البحثية والأكاديمية. فعلى سبيل المثال، انتقدته الباحثة التونسية الدكتورة ناجية الوريمي بو عجيلة، وقالت إن أخبار تلك الحادثة رويت بالأساس من جانب الصحابي عبد الله بن عباس، ولا يمكن أن نعول على رواياته بشكل مطلق، خصوصاً وأنه كان في سن صغير عند وفاة الرسول، كما أنه من المرجح أن تلك الروايات وضعت ونُشرت في عصر الدولة العباسية، في محاولة لصبغ الخلافة العباسية بالصبغة الشرعية الإلهية، بحيث يظهر الكتاب الذي كان الرسول يعتزم كتابته، على كونه كتاب وصية لاستخلاف العباس بن عبد المطلب، وهو جد الخلفاء العباسيين.

عن leroydeshotel

شاهد أيضاً

في ذكرى مولده :نبذة عن حياة الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام)

شبكة الإمامين الحسنين(ع) : الأسرة الكريمة للامام الصادق (ع) إنّ اُسرة الإمام الصادق (عليه السلام) …