فضائل أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) إجمالا

موقع الدرر السنية  :

الشيخ علوي بن عبدالقادر السقاف

 الفضيلة الأولى : الحديث عنهن بوصف الزوجية

ذكر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الزوجية في غير ما موضع من القرآن الكريم، ومن ذلك أول آية من آيات التخيير: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ [الأحزاب: 28]، إن ذكر أمهات المؤمنين بلفظ الزوجية هنا لم يكن عبثاً من القول –وحاشا القرآن أن يكون كذلك- بل له دلالة على الفضل، ووجه ذلك: أن لفظ الأزواج مشعر بالمشاكلة والمجانسة والاقتران كما هو المفهوم من لفظه؛ فإن الزوجين هما الشيئان المتشابهان المتشاكلان والمتساويان، ومنه قوله تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات: 22]، قال أهل التفسير: أشباههم وأمثالهم  (1) .

ففي الآية دليل ظاهر على التزكية العلية لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث جعلن في مقام المشابه المناسب له صلى الله عليه وسلم مما يدل على صفات الصلاح والتقوى والطهر.

وتأمل كيف كان القرآن يتحدث عن الزوجات الكافرات للأنبياء بلفظ المرأة، قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ [التحريم: 10] أما أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكان الخطاب لهن بلفظ الزوجة غالباً حتى في مقام العتاب كما في سورة التحريم، ولم يخاطبهن بلفظ المرأة.

وغير خافٍ لطافة بداية الخطاب القرآني لهن بلفظ الزوجية في آية التخيير، وكأن الله يذكرهن بمقام المشابهة والمناسبة للنبي صلى الله عليه وسلم والذي لا ينبغي أن يغفلن عنه، بل يلحظنه دائما، وقد فعلن رضي الله عنهن.

الفضيلة الثانية: اختيارهن جميعاً الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والدار الآخرة:

وهذا أمر مقطوع به دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنه المتقدم وحديث عائشة رضي الله عنها، وفيه: (فجعل يخيرهن ويقرأ عليهن القرآن، ويخبرهن بما صنعت عائشة رضي الله عنها فتتابعن على ذلك)  (2) .

وعلى هذا قول جمهور المفسرين  (3) أنهن جميعاً تتابعن على ما قالت عائشة رضي الله عنها إلا ما روي عن ابن زيد  (4) أن بدوية اختارت نفسها، لكنه رأي مرجوح.

قال ابن حجر: (واستدل به بعضهم على ضعف ما جاء أن من الأزواج حينئذ من اختارت الدنيا لعموم قولها: (ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثلما فعلت)  (5) .

قال ابن تيمية: (وقد ثبت بالنقل الصحيح أن هذه الآيات لما نزلت قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أزواجه، وخيرهن كما أمره الله، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ولذلك أقرهن ولم يطلقهن، حتى مات عنهن)  (6) .

قال ابن كثير: (فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة؛ فجمع الله لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة)  (7) .

وإذا كان هذا الاختيار دالاً على المرتبة العالية في التقوى وصدق الإيمان لأمهات المؤمنين عموماً فإن فيه فضائل خاصة لعائشة رضي الله عنها من عدة جهات:

الأولى: البدء بها في التخيير المشعر بتقدمها على باقي الأمهات رضي الله عنهن.

الثانية: بيان كمال عقلها، وصحة رأيها مع صغر سنها  (8) ، حيث أسرعت بالاستجابة ولم تشاور أبويها، ورأت أن هذا لا استشارة فيه البتة.
الثالثة: أنها بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم قد سنت سنة حسنة، فيكون لها أجر باقي الأمهات لا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرهن جميعاً بما قالت عائشة رضي الله عنها.
عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سن في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً))  (9) .
الرابعة: استبشار النبي صلى الله عليه وسلم باستجابتها حتى رئي الفرح في وجهه صلى الله عليه وسلم.
وكان من تبعات اختيار أمهات المؤمنين رضي الله عنهن الله ورسوله والدار الآخرة – وهو من الفضائل- إنزال بقية الآيات تكريماً لهن.
قال الشوكاني: (لما اختار نساء رسول الله رسول الله؛ أنزل فيهن هذه الآيات تكريماً لهن وتعظيماً لحقهن)  (10) .
الفضيلة الثالثة: العناية بنصحهن وخطابهن بأحسن الألقاب:
وهذا أمر تميزن به عن بقية الصحابة، بل عن بقية آل البيت رضي الله عنهم أجمعين، يقول الألوسي: (قال تعالى: يَا نِسَاء النَّبِيِّ [الأحزاب: 30] تلوين للخطاب، وتوجيه له إليهن لإظهار الاعتناء بنصحهن.
ونداؤهن هاهنا وفيما بعد بالإضافة إليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنها التي يدور عليها ما يرد عليهن من الأحكام، واعتبار كونهن نساء في الموضعين أبلغ من اعتبار كونهن أزواجاً كما لا يخفى على المتأمل)  (11) .

الفضيلة الرابعة: استحقاقهن الأجر العظيم:

قال تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 29]، هذه الآية الكريمة تدل على أنهن سينلن أجراً عظيماً، وهذا الأجر العظيم مجمل بينته الآيات الأخر، وإذا تأملنا وجدنا أن هذا الأجر العظيم في الدنيا والآخرة؛ أما في الآخرة فكونهن مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وهذا أمر لا غاية فوقه ولا مزية بعده، وفي ذلك من زيادة النعيم والثواب على غيرهن ما هو معلوم؛ فإن الثواب والنعيم على قدر المنزلة.
أما في الدنيا فمن ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: جعلن أمهات المؤمنين تعظيماً لحقهن، وتأكيداً لحرمتهن، وتشريفاً لمنزلتهن.
الوجه الثاني: حظر طلاقهن، وتحريم التزوج عليهن على أحد القولين عند المفسرين في قوله تعالى: لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ [الأحزاب: 52]؛ لأنهن لم يخترن غير النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بإمساكهن  (12) .
الوجه الثالث: قتل قاذفهن، أما غيرهن فالجلد فقط.
ويلاحظ في الآية الكريمة إيقاع الظاهر موقع المضمر؛ فإنه تعالى قال: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 29]، ولم يقل فإن الله أعد لكن أجراً عظيماً.
والحكمة من ذلك كما قال بعض المفسرين: (تنبيهاً على الوصف الذي ترتب لهن به الأجر العظيم وهو الإحسان؛ كأنه قال: أعد لكن؛ لأن من أراد الله ورسوله والدار الآخرة كان محسناً)  (13) ، وهذا التعليل يتماشى مع الفائدة العامة للإظهار في موضع الإضمار عند المفسرين  (14) ، وهو بيان علة الحكم.
وقال بعض المفسرين: الفائدة من ذكر الإحسان؛ ليعلم أن هذا الأجر حاصل لهن على مقدار إحسانهن؛ لأن الإحسان متفاوت، فعلى مقدار إحسان كل واحدة يكون أجرها العظيم  (15) .
ولا مانع من صواب هذا الرأي أيضاً؛ إذ أنه لا يخلو مثال للإظهار في موضوع الإضمار من فائدة خاصة به  (16) .
وكما تحدث المفسرون عن الإظهار في موضع الإضمار تحدثوا عن حرف (من) في الآية، وهل هو لبيان الجنس أو للتبعيض.
فقال بعض المفسرين: إنها لبيان الجنس؛ لأن الجميع اخترن الله ورسوله والجميع محسنات  (17) ، وقال بعضهم بجواز: أن تكون للتبعيض؛ لأن اختيار الجميع لله ولرسوله لم يعلم وقت النزول.
والظاهر أن (من) هنا للتبيين لا للتبعيض؛ لأن علامة (من) التبعيضية صحة مجيء  (18) (بعض) مكانها، وهنا لا يستقيم وضع (بعض) مكانها، بينما التي لبيان الجنس تقدر بتخصيص الشيء دون غيره  (19) ، وهو ما يناسب هنا، فكأن الآية: فإن الله أعد للمحسنات أخص أمهات المؤمنين أجراً عظيماً، كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [الحج: 30]، والمعنى: فاجتنبوا الرجس أخص الأوثان.
وغير خاف أنه على القولين لا إشكال في كون كل أمهات المؤمنين محسنات، وفي ذكر الإعداد إفادة العناية بهذا الأجر والتنويه به زيادة على وصفه بالتعظيم  (20) .

الفضيلة الخامسة: إبراز شرفهن وعلو منزلتهن:

وهذا الأمر وإن كانت الآيات تدل عليه صراحة أو ضمناً إلا أننا هنا سنبرزه في قوله تعالى: يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30].
وقد يكون مستغرباً لأول وهلة كيف تدل هذه الآيات على شرف أمهات المؤمنين – رضي الله عنهن -؟
والجواب هو بالنظر إلى الحكمة من وراء مضاعفة العذاب.
فقد ذكر أهل التفسير حكماً من وراء ذلك تدل على ما نحن بصدده، فمن هذه الحكم قولهم: (إن مضاعفة العذاب لشرف المنزلة وفضل الدرجة وتقدمهن على سائر النساء، فهن وإن كن كالنساء جبلة؛ فإنهن لسن كغيرهن شرفاً، وشرف المنزلة لا يحتمل العثرات  (21) ، وزيادة قباحة المعصية تتبع زيادة الفضل)  (22) ، وهذا التعليل لأكثر المفسرين  (23) .
بل إن الرازي تأكيداً لهذا الأمر جعل نسبة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرائر المسلمات، كنسبة الحرة إلى الأمة، فالحرة يضاعف عذابها على الأمة، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يضاعف عذابها على الحرة  (24) .
وقيل الحكمة من مضاعفة العقوبة لكون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مهبط الوحي قوي الأمر عليهن بسبب مكانتهن  (25) ، وغير خاف أن هذا يعود للأول.
وقيل: لما فيه من كفران نعمة القرب، وهذا يعود للأول  (26) .
وقيل: لعظم الضرر في جرائمهن بإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم  (27) .
وقيل: لأنه قد يقتدى بهن  (28) .
ولا مانع من صحة كل هذه الحكم.
وقد يستشكل مضاعفة العقوبة لما قد علم أن من كثرة حسناته يحتمل منه ما لا يحتمل من غيره.
أجاب ابن القيم فقال: (من كملت عليه نعمة الله واختصه منها بما لم يختص به غيره في إعطائه منها ما حرمه غيره، فحبي بالإنعام، وخص بالإكرام، وخص بمزيد التقريب، وجعل في منزلة الولي الحبيب، اقتضت حاله من حفظ مرتبة الولاية والقرب والاختصاص بأن يراعي مرتبته من أدنى مشوش وقاطع؛ فلشدة الاعتناء به، ومزيد تقريبه، واتخاذه لنفسه، واصطفائه على غيره؛ تكون حقوق وليه وسيده عليه أتم، ونعمه عليه أكمل، والمطلوب منه فوق المطلوب من غيره؛ فهو إذا غفل وأخل بمقتضى مرتبته نبه بما لم ينبه عليه البعيد البراني مع كونه يسامح بما لم يسامح به ذلك أيضاً، فيجتمع في حقه الأمران)  (29) .
الفضيلة السادسة: مضاعفة الأجر:
وهذا منطوق قوله تعالى: نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ [الأحزاب: 31].
قال الطبري: (يعطي الله الواحدة منهن مثلي ما يعطي غيرهن من سائر النساء)  (30) .
قال الألوسي: (ويستدعي هذا أنه إذا أثيب نساء المسلمين على الحسنة بعشر أمثالها؛ أثبن على الحسنة بعشرين مثلاً لها، وإذا زيد للنساء على العشر شيء؛ زيد لهن ضعفه)  (31) .
وقد ورد في ذلك حديث: ((أربعة يؤتون أجرهن مرتين: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أسلم من أهل الكتاب، ورجل كانت عنده أمة فأعجبته، فأعتقها، ثم تزوجها، وعبد مملوك أدى حق الله، وحق سادته))  (32) . ولكنه لا يصح، والآية تغني عنه.
قال أهل التفسير: مضاعفة الأجر لعظيم قدرهن  (33) ، وقيل: أجر على الطاعة والتقوى وأجر على طلبهن رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم  (34) .
وليس الفضل هنا بمجرد الوعد بمضاعفة الأجر – وهو فضل ولا شك – ولكن بتنفيذ الأمر.
يقول ابن تيمية: (وهن ولله الحمد قنتن لله ورسوله وعملن صالحاً؛ فاستحققن الأجر مرتين، فصرن أفضل لطاعة الأمر، لا لمجرد الأمر)  (35) .
ولم أقف على خلاف هذا لأي مفسر من أهل السنة بكافة طوائفهم.

الفضيلة السابعة: البشارة بالجنة:

الله تعالى وعد نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهذا فضل لهن من جهتين:
الجهة الأولى: اختصاصهن عن بقية النساء بل والرجال بهذا الوعد.
الجهة الثانية: أنهن من أهل الجنة لكونهن بالاتفاق قنتن لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعملن صالحاً، ويزيد الأمر قطعية قول عمار رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها: (إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة)  (36) .
وقد أخذت هذه البشارة من قوله تعالى: وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب: 31]، فقد ذهب أهل التفسير إلى أن الرزق الكريم: الجنة  (37) .
قال ابن كثير: (فإنهن في منازل رسول الله في أعلى عليين فوق منازل جميع الخلائق في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش)  (38) .
واستشف بعض المفسرين تحقق الوقوع من التعبير بالماضي في (أعتدنا) دون المضارعة، يقول الطاهر بن عاشور: (والعدول عن المضارع إلى فعل الماضي في قوله: وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب: 31] لإفادة تحقيق وقوعه)  (39) .
وقد لحظ الرازي معنى لطيفاً في وصف الرزق بالكرم، يقول: (فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه، وإنما هو مسخر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار، أما في الآخرة فلا يكون له ممسك ومرسل في الظاهر؛ فهو الذي يأتي بنفسه؛ فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرزق، وفي الآخرة يوصف بالكريم نفس الرزق)  (40) .
وابن عطية مع أنه يرى – كبقية المفسرين – أن الرزق الكريم هو الجنة؛ إلا أنه يجوز أن يكون في ذلك وعد دنيوي، وهو أن أرزاقهن في الدنيا على الله، وهو كريم من حيث هو حلال وقصد وبرضا من الله من نيله  (41) .
ولكن يضعف قوله أن لفظة الرزق الكريم وردت في القرآن الكريم خمس مرات لم يرد بها سوى الجنة، بل إن ابن عطية نفسه فسر الرزق الكريم في سورة النور  (42) بالجنة، وهذه الآية في (سورة النور) وثيقة الصلاة بآية الأحزاب من حيث إرادة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
ومن لطائف هذه الوعود في الآية الكريمة أننا نلحظ إسناد فعل إيتاء أجرهن إلى ضمير الجلالة بوجه صريح تشريفاً لإيتائهن الأجر؛ لأنه المأمول بهن، وكذلك فعل أعتدنا.
كما أن في إضافة الأجر إلى ضمير (ها) إشارة إلى تعظيم ذلك الأجر بأنه يناسب مقامها وإلى تشريفها بأنها مستحقة ذلك الأجر  (43) .
وهذه الأمور تميزت بها هذه الآية عن التي قبلها مما يظهر للقارئ تغليب جانب الرحمة على جانب الغضب  (44) .
الفضيلة الثامنة: تفضيلهن على عموم النساء:
وهو منطوق قوله تعالى: يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء [الأحزاب: 32].
قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: (ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات؛ أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم)  (45) .
ولا إشكال عند المفسرين من حيث الجملة على دلالة هذه الآية، وإنما حصل الخلاف هل هذا التفضيل باعتبار الجملة أم باعتبار كل واحدة منهن على قولين:
القول الأول: أن هذا التفضيل باعتبار الجملة، فلو تقصينا النساء جماعة جماعة لم نجد جماعة تساوي جماعة أمهات المؤمنين  (46) .
ونوقش هذا بأنه خلاف الأصل؛ فالأصل أن (أحداً) لشخص واحد فنبقيه على موضوعه ولا نتأوله بجماعة واحدة  (47) .
وكأن الزمخشري – الذي رأى هذا القول – أراد المطابقة بين المتفاضلين، لكنه كان مستغنياً عن ذلك بحمل الكلام على واحدة ويكون المعنى أبلغ، والتقدير: ليست واحدة منكن كأحد من النساء؛ أي كواحدة من النساء  (48) .
القول الثاني: أن هذا التفضيل باعتبار كل واحدة منهن وهذا قول أكثر المفسرين  (49) .
وأورد على هذا القول أنه يلزم عليه أن يكون كل واحدة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من فاطمة الزهراء ولا قائل به.
وأجيب: بأن أمهات المؤمنين أفضل من حيثية الزوجية لا من سائر الحيثيات  (50) .
وهذا الجواب ضعيف؛ إذ أنه يحصر أفضلية الأمهات في حيثية الزوجية، والأحسن أن يقال: إن الآية عامة في فضل أمهات المؤمنين على سائر النساء، لكن تخرج فاطمة من ذلك العموم بالأدلة التي تدل على فضلها وسيادتها لنساء هذه الأمة.
قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: ((أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة))  (51) .
وبناء على هذا يكون أولى القولين بالصواب القول الثاني، على أن الألوسي حاول التوفيق بين القولين فأجاد حيث قال: (لأن فضل الجماعة على الجماعة يكون غالباً لفضل كل منها)  (52) .
وقد اجتهد المفسرون في استنباط العلة التي من أجلها فضلت نساء النبي صلى الله عليه وسلم على بقية النساء، فمن ذلك ما قاله الرازي: (كما أن محمداً ليس كأحد من الرجال… كذلك قرابته اللاتي يشرفن به، وبين الزوجين نوع من الكفاءة)  (53) .
ويشهد لكلام الرازي تصدير آيات التخيير بلفظ الزوجية.
أما الطاهر ابن عاشور فله رأي آخر: (وسبب ذلك أنهن اتصلن بالنبي صلى الله عليه وسلم اتصالاً أقرب من كل اتصال، وصرن أنيساته، ملازمات شؤونه فيختصصن باطلاع ما لم يطلع عليه غيرهن من أحواله وخلقه… ويتخلقن بخلقه أكثر مما يقتبس منه غيرهن؛ ولأن إقباله عليهن إقبال خاص، ألا ترى إلى قوله: ((حبب إلي من دنياكم…)) (54) .
ولا مانع من صحة التعليلين، بل ويمكن أن يضاف إليها ما اتصفن به من صفات التقوى والإيمان وما تميزن به من تلقي تربية النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من بقية النساء.

الفضيلة التاسعة: الوعد بقبول العمل:

قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33].
يقول الألوسي: (والآية متضمنة الوعد منه تعالى لأهل بيت نبيه بأنهم إن ينتهوا عما ينهى عنه، ويأتمروا بما يأمرهم به؛ يذهب عنهم لا محالة مبادئ ما يستهجن، ويحليهم أجل تحلية بما يستحسن، وفيه إيماء إلى قبول أعمالهم وترتب الآثار الجميلة عليها قطعاً، ويكون هذا خصوصية لهم ومزية على من عداهم، من حيث إن أولئك الأغيار إذا انتهوا وائتمروا لا يقطع لهم بحصول ذلك)  (55) .
ويشهد لقوله رحمه الله التعبير القرآني حيث أكد التطهير بالمصدر؛ ليعلم أنه في أعلى مراتب التطهير، بل وذكره في سياق الامتنان؛ لإفادة العموم ليشمل جل مراتب التطهير  (56) .
الفضيلة العاشرة: الاصطفاء الإلهي:
قال تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا [الأحزاب: 34].
لقد فطن المفسرون للحكمة من ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين، إذ أن من المعلوم عند أهل العلم بالتفسير وثاقة الصلة بين الآية وما تختم به من أسماء كريمة  (57) .
إن ختم الآية بذكر الخبير لها دلالتها الواضحة على أن الله تعالى اختار لنبيه أزواجاً هن خير الأزواج، حيث اصطفى له سبحانه خير نساء العالمين.

وكفى بذلك شرفاً وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [القصص: 68]، وقد لحظ هذا المعنى أهل التفسير.
قال الزمخشري تعليقاً على قوله تعالى: خَبِيرًا: (أي علم من يصلح لنبوته ومن يصلح لأن يكونوا أهل بيته)  (58) .
وقال ابن كثير: (بخبرته بكن وأنكن أهل لذلك أعطاكن ذلك وخصكن به… واختاركن لرسوله أزواجاً)  (59) .
فليس الأمر إعطاء، بل تخصيص واختيار ولا ريب أن هذه تزكية إلهية ما بعدها تزكية، تدل على كمال صلاح وإيمان أمهات المؤمنين وتؤكد حقيقة اصطفاء أمهات المؤمنين على سائر النساء.

وفي ختام هذا المطلب نقول: إن هذه الآيات الكريمات أظهرت لكل مسلم رفعة درجة أمهات المؤمنين، وعلو همتهن، وصحة مقصدهن باختيار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما أظهرت اصطفاءهن على نساء العالمين، وأن الله عز وجل اختارهن لكمالهن زوجات لنبيه فلا يناسبه وهو الأكمل صلى الله عليه وسلم إلا أكمل النساء.
وهذا يستوجب على كل مسلم ومسلمة: تولي زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة فضلهن وإحسان القول فيهن وسلامة اللسان تجاههن، والذب عنهن، والرد على منتقصهن، أو من يقلل من مكانتهن، بل وإظهار فضائلهن، ودراسة سيرتهن، ومعرفة أخبارهن وآدابهن وعبادتهن؛ فإنهن أعظم النساء تعلماً في مدرسة النبوة بل إن هناك أموراً عديدة من هديه صلى الله عليه وسلم لا يمكن العلم بها إلا من طريقهن رضي الله عنهن. 

عن leroydeshotel

شاهد أيضاً

في ذكرى مولده :نبذة عن حياة الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام)

شبكة الإمامين الحسنين(ع) : الأسرة الكريمة للامام الصادق (ع) إنّ اُسرة الإمام الصادق (عليه السلام) …