ويبدو من دراسة مجتمع الاستخبارات في إيران أنه معرّض للاختراقات بنسب عالية جراء الصراعات الداخلية، ووجود أقليات معارضة يمكن تجنيد بعض أبنائها بسهولة، كما أن الإيرانيين الفرس أنفسهم يمكن جذب بعضهم بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية.
تُظهر التقارير الغربية عن مجتمع الاستخبارات الإيراني أنه يتكون من وكالتين: الأولى وزارة الاستخبارات والأمن؛ والثانية استخبارات الحرس الثوري الذي يضم فيلق القدس، ذراع طهران الخارجية.
مجتمع الاستخبارات الإيرانية
عام 2014، حصلت وكالة أسوشييتد برس الأمريكية على نسخة من مجلة تابعة للاستخبارات الإيرانية تضمنّت معلومات نشرتها طهران لأول مرة، ولو بشكل طفيف، عن أجهزتها الاستخبارية.
ذكرت الوكالة الأمريكية أن المجلة كشفت أن وزير الاستخبارات في الحكومة الإيرانية يرأس مجلس تنسيق يشرف على 16 وكالة استخبارية مختلفة.
وكان جهاز الاستخبارات الإيرانية قبل نجاح الثورة الإسلامية يُعرف باسم “سافاك” (SAVAK)، ويعني جهاز الأمن الوطني والاستخبارات، واستمر عمله حتى عام 1979، حين أطيح بالشاه محمد رضا بهلوي.
في ورقة بحثية نشرها مركز “The Journal of Strategic Security“، أشار الباحث أوديت بانيرجي إلى أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية ساعدت الشاه في تشكيل الاستخبارات الإيرانية التي تحالفت مع الغرب في الحرب الباردة ضد السوفيات.
وبعد سقوط الشاه، أنشأت الحكومة الإسلامية الجديدة عدداً من وكالات الاستخبارات الصغيرة، ذات تفويضات مختلفة، إلى جانب منظمة تعرف باسم “سافاما” (SAVAMA) ورثت جهاز الـ”سافاك”.
يذكر بانيرجي أن “سافاما” كان أكثر اهتماماً بالعثور على معارضي الثورة والقضاء عليهم في الداخل والخارج، مقارنة بجمع المعلومات.
بعد سنوات قليلة من الثورة، كانت أجهزة الاستخبارات موحدة تحت إشراف وزارة الاستخبارات والأمن (MOIS)، والتي تخضع لسيطرة الرئيس الذي يُنتخب من قبل الشعب ويكون المسؤول عن إدارة الحكومة.
وفي الوقت نفسه، أنشئ الحرس الثوري الإسلامي (IRGC) كقوة أمنية تقدّم تقاريرها مباشرة إلى المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، وهو كيان موازٍ للمؤسسة العسكرية النظامية، وكانت مهمته القضاء على أعداء الثورة.
وأطلق المرشد السابق روح الله الخميني على أعضاء مجتمع الاستخبارات لقب “الجنود المجهولين لإمام الزمان”.
قبل عام 2009، كان فرع “استخبارات الحرس الثوري الإيراني” هو ذراع الاستخبارات الرسمي للحرس الثوري الإيراني، وكان لديه حوالي 2000 عنصر، وكان مسؤولاً عن جمع وتحليل المعلومات الاستخباراية في العالم الإسلامي واستهداف جماعات المعارضة المحلية.
ينوّه بانيرجي إلى أن استخبارات الحرس الثوري الإيراني أنشئت كـ”قوة مسيّسة إلى حد كبير، ذات مهمة سياسية” شعارها “الامتثال للنظام والولاء التام له”.
إعادة تنظيم لأجهزة الاستخبارات
في أعقاب احتجاجات “الثورة الخضراء” التي اندلعت عام 2009، قام المرشد الأعلى علي خامنئي بأكبر عملية إعادة تنظيم لأجهزة الاستخبارات: وحّد الوكالات الرئيسية تحت قيادة استخبارات الحرس الثوري من أجل ضرب المعارضة.
بحسب الباحث الأمريكي، نجح الإطار في تفكيك المعارضة، ولكنه خلق نفوذاً واسعاً للحرس الثوري في وزارة الاستخبارات والأمن الخاضعة للحكومة.
ضم الهيكل الجديد سبعة أقسام استخبارية وأمن منفصلة، بما في ذلك مكتب الاستخبارات الشخصي لخامنئي المعروف باسم القسم 101، ومديرية الأمن الداخلي في وزارة الاستخبارات والأمن، ومديرية الأمن التابعة لقوات الباسيج شبه العسكرية، ووحدة الأمن السيبراني التي كانت قد تأسست حديثاً.
تظهر دراسة أعدّتها وحدة البحوث الفدرالية، وهي وحدة الأبحاث والتحليلات في مكتبة الكونغرس الأمريكية، أن وزير الاستخبارات يجب أن يكون حاصلاً على شهادة في الاجتهاد، أي القدرة على تفسير المصادر الإسلامية مثل القرآن وأقوال النبي والأئمة، ومتخرجاً من مدرسة دينية
وأجرى الحرس الثوري عملية تطهير سرّية داخل وزارة الاستخبارات والأمن، ففصل مئات العناصر ومديري المخابرات من مناصبهم، وعيّن بدلاً منهم أشخاصاً غير مؤهلين، ما خلق حالة من الغضب وخلافات.
وعُيّن حيدر مصلحي وزيراً لجهاز الاستخبارات والأمن في حكومة أحمدي نجاد. وفي نيسان/ أبريل 2011 قرر نجاد عزله، بسبب خلافات مع مستشاريه، لكن بعد شهر واحد فحسب، أُجبر على إعادته لمنصبه بقرار من المرشد الأعلى.
ويجب أن يوافق المرشد الأعلى على تعيين الوزير ولا يمكن عزله دون موافقته.
وقال الباحث الأمريكي إن مصلحي، بعيداً عن كونه وزيراً للاستخبارات، كان له تاريخ في اختراع المؤامرات الأجنبية. فعلى سبيل المثال، نفى علناً نجاح واشنطن في قتل زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن، بدعوى أن لديه أدلة تثبت أن بن لادن توفي منذ فترة طويلة بسبب مرض.
ثالث أكبر منظمة استخبارية في إيران، ومن المفترض أنها تقع داخل الحرس الثوري، هي “فيلق القدس” الذي تزّعمه الجنرال الراحل قاسم سليماني، قبل اغتياله وتعيين إسماعيل قآني خلفاً له.
يعتبر الباحث الأمريكي أن فيلق قدس هو الأكثر نفوذاً في مجال الاستخبارات، وهو المسؤول بشكل أساسي عن جميع أنشطة الاستخبارات الإيرانية والعمليات السرية التي تتم في الخارج.
ويرجّح أن فيلق القدس الذي يُقدَّر عدد أعضائه بـ15 ألف شخص (وعلى الأرجح زاد العدد بعد تدخلات إيران في العراق وسوريا واليمن)، عمل بشكل وثيق جداً مع المنظمات الاستخبارية الإيرانية الأخرى، بما في ذلك وزارة الاستخبارات والأمن الحكومية.
ينقسم فيلق القدس إلى وحدات تُسمّى “المديريات”، على أساس مناطقي وجغرافي. توجد على الأقل خمس مديريات: أولاً العراق، ثانياً لبنان وفلسطين والأردن، ثالثاً أفغانستان وباكستان والهند، رابعاً تركيا والجزيرة العربية، وخامساً جمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية السابقة وأوروبا وأمريكا الشمالية وشمال إفريقيا.
الوزير المجتهد
تظهر دراسة أعدّتها وحدة البحوث الفدرالية، وهي وحدة الأبحاث والتحليلات في مكتبة الكونغرس الأمريكية، أن وزير الاستخبارات يجب أن يكون حاصلاً على شهادة في الاجتهاد، أي القدرة على تفسير المصادر الإسلامية مثل القرآن وأقوال النبي والأئمة، ومتخرجاً من مدرسة دينية، وعليه أن يتحلى بسمعة جيدة ونزاهة شخصية، ويمتلك سياسية وإدارة قوية، وأن يتخلى عن عضوية أي حزب أو جماعة سياسية.
تنوّه الدراسة إلى أن وزارة الاستخبارات هي وكالة حكومية إيرانية رسمية، وعليه فإنّ الأغلبية الساحقة من العاملين هم من الإيرانيين، ومع ذلك، تقوم بتجنيد أشخاص من جنسيات أخرى، مثل البريطانية آن سينغلتون. وهؤلاء ليسوا ملزمين باعتناق المعتقدات الشيعية، إذ تقوم بتجنيد الأفراد بغض النظر عن معتقداتهم، بما في ذلك العرب أو اليهود للتجسس.
سهّل العامل الاقتصادي على الاستخبارات الأمريكية اختراق إيران، إذ أنشأت مواقع مزيفة تقدم وظائف للإيرانيين ثم حاولت تجنيدهم لجمع معلومات استخبارية عن الصناعات العسكرية والطاقة النووية في إيران
ويؤكد التقرير أن عدد العاملين المرتبطين بوزارة الاستخبارات كان عام 2012 أكثر من 30 ألف ضابط وموظف دعم، ويعتبرها الخبراء واحدة من وكالات الاستخبارات الأكبر والأكثر نشاطاً في الشرق الأوسط.
ويلفت إلى أن إيران أنشأت عام 2005 قوة استخبارات جديدة أسمتها “عُقاب 2” ومهمتها حماية الجبهة الداخلية من أنشطة التجسس الأجنبي وكشف العملاء في الداخل وحماية أسرار الدولة.
حرب داخلية
في أوائل عام 2018، تمكن عملاء الموساد الإسرائيلي من استخراج أكثر من نصف طن من الوثائق ذات الصلة بالبرنامج النووي الإيراني من مستودع في طهران وشحنها إلى إسرائيل، في عملية استمرت ست ساعات و29 دقيقة.
في تقرير نشرته مجلة فورين بوليسي الأمريكية في التاسع من آب/ أغسطس 2019، رأى محلل سياسة المخاطر الجيوسياسية الخليجية ميسم بهرافيش أن مثل هذه العملية الطويلة والمعقدة كانت ستحظى بفرصة نجاح ضئيلة في غياب تنسيق داخلي وتسهيلات للإسرائيليين.
رصد الباحث الإيراني في تقريره الذي حمل عنوان “جواسيس إيران في حرب مع بعضهم البعض” وجود خطوط صدع بين إدارة الرئيس الإيراني حسن روحاني ووزارة الاستخبارات التابعة لها من جهة، والحرس الثوري الإسلامي وتنظيمه الاستخباري من جهة أخرى.
يدور الاقتتال الداخلي، بحسب بهرافيش، بشكل أساسي، حول تحديد الهيئة الأنفع لحماية البلاد، وعلى جوانب البلد الأكثر حاجة للحماية.
بالعودة إلى الوراء، ظهرت بذور الخلاف والصراع عام 2009، حينما اندلعت احتجاجات “الثورة الخضراء” ضد التزوير الانتخابي الذي منح الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد ولاية ثانية.
كانت هنالك اتجاهات قوية داخل وزارة الاستخبارات ضد الرواية التي روّج لها المحافظون، وفي مقدمتهم أحمدي نجاد نفسه، وبدعم من الحرس الثوري الإيراني ومكتب المرشد الأعلى، والتي أصرّت على فوز نجاد ورفضت إمكانية حدوث تزوير وصوّرت المحتجين على أنهم “مثيري فتن” مدعومين من الخارج.
في ظل رفض وزارة الاستخبارات هذه الرواية، سارع خامنئي إلى أنشاء وحدة استخبارات مستقلة خاصة بالحرس الثوري خوفاً من حدوث انقلاب أو بروز تحدٍ كبير.
اشتدّت المنافسة السياسية بين الهيئتين الأمنيتين المتوازيتين منذ ذلك الحين، مع سعي الحرس الثوري الذي كان تقليدياً أقرب إلى خامنئي ومكتبه الشخصي لإثبات قوته الثورية وإثبات أنه الحامي الحقيقي والأكثر موثوقية للجمهورية الإسلامية، وفقاً لبهرافيش.
في ذات الوقت كانت هنالك بذور شك بين المتشددين، بما في ذلك كبار ضباط الحرس الثوري الإيراني والمقربين من خامنئي، بأن الوزارة لم يعد من الممكن الوثوق بها بالكامل.
برأي بهرافيش، يدور الصراع حول هوية الجمهورية الإسلامية وكيف ينبغي حكم إيران وتوجيهها نحو المستقبل.
روّج الإصلاحيون، بمَن فيهم وزارة الاستخبارات لرؤية سياسية تؤكد على الحكم الديمقراطي في الداخل، على أساس صحافة حرة، ومجتمع مدني نشط، وانتخابات نزيهة، ووفاق وحوار في الخارج.
من ناحية أخرى، سعى المتشددون إلى الحفاظ على الطابع الثوري للدولة على أساس “الوصاية المطلقة” للمرشد الأعلى كممثل لله على الأرض في غياب الإمام، والتمسك بسياسة خارجية تنقيحية.
وعليه، يؤكد بهرافيش أن الصراع الإيديولوجي أدى إلى ظهور وجهات نظر متنافسة للأمن القومي ومفاهيم مختلفة حول التجسس والتسلل والتخريب والاستخبارات المضادة وما إلى ذلك.
ضعف الاستخبارات الإيرانية
في ظل الصراع الداخلي، تعاني أجهزة الاستخبارات الإيرانية من نقاط ضعف تجعلها معرّضة للاختراق والفشل في أداء مهامها، خصوصاً في مكافحة التجسس وحماية الشخصيات المهمة في الدولة.
من المعروف أن الاستخبارات الإيرانية تلاحق الآلاف من الأكراد وأبناء الأقليات العرقية الأخرى مثل البلوش والأتراك وعرب الأهواز الذين يسعى تيار منهم للحصول على الاستقلال.
وعليه، فإن أبناء هذه الأقليات الذين تعرضوا للسحق من قبل السلطات الإيرانية التي أعدمت الآلاف منهم، مستعدون للتعاون مع أجهزة الاستخبارات المعادية لطهران.
تذكر دراسة وحدة البحوث الفدرالية أن وكالات الاستخبارات الغربية تمكنت من اختراق الداخل الإيراني، وتلفت إلى أن العامل الاقتصادي سهّل على الاستخبارات الأمريكية اختراق إيران، إذ أنشأت مواقع مزيفة تقدم وظائف للإيرانيين ثم حاولت تجنيدهم لجمع معلومات استخبارية عن الصناعات العسكرية والطاقة النووية في إيران.
العنصر الأخطر هو وجود انشقاقات في مجتمع الاستخبارات الإيرانية، كان أبرزها هروب اللواء علي رضا أصغري الذي كان مهماً لأنه كان منخرطاً بعمق في تأسيس شركة إيرانية لها صلات مع حزب الله.
تذكر دراسة وحدة البحوث الفدرالية أن أصغري قدّم معلومات استخبارية للإسرائيليين وربما هو مَن سرّب معلومات إلى تل أبيب أدت إلى ضرب الموقع العسكري السوري الذي كان قائماً في دير الزور ويُشتبه في أنه مفاعل نووي، في السادس من أيلول/ سبتمبر 2007.
من جانبه، ذكر الباحث العراقي في الشأن الإيراني والأكاديمي فراس إلياس أن الاستخبارات الإيرانية تعاني من عدم وجود تقاليد استخبارية واضحة، كما في أمريكا أو إسرائيل أو باكستان، والسبب مقاطعة أغلب الأجهزة الاستخبارية الدولية للتعاون مع إيران استخبارياً، لأن الحرس الثوري هو الجهاز الاستخباري المسيطر فيها وليس وزارة الاستخبارات.
وأشار لرصيف22 إلى أن الاستخبارات الإيرانية تعاني من ضعف التقنيات الاستخبارية خصوصاً في مجال الاشارة والاستشعار، وهو ما أدى إلى انكشاف عملائها وسهولة اختراقها.
وقال إلياس إن الاستخبارات وقعت في فخ إعطاء الأولوية للقتل وليس للتجسس، ما أدى إلى اعتقال أغلب منفّذي عملياتها.