فاجأ الإعلامي “جيار غل” من قناة بي بي سي فارسي الجمهور في إيران بتقرير صادم عن “مازيار إبراهيمي”، المقيم حالياً في ألمانيا. يعرف الناس في إيران جيداً الشاب صاحب العينين الملونتين، فهو أحد المتهمين في ملف “اغتيال العلماء النوويين الإيرانيين” بين 2010 و2012، وظهر للمرة الأولى أمام شعبه “خائناً ومجرماً” في فيديو مصور عرضته القناة الإيرانية الأولى في يونيو/حزيران العام 2012 حين اعترف مع 13 إيرانياً آخرين بالتواطؤ في ملف اغتيال علماء إيرانيين في الطاقة النووية بالتعاون مع إسرائيل، لكن لا أحد يعرف مصير الذين اعترفوا في الفيديو وربما لا يصدق الكثيرون أنهم ما زالوا أحياء خارج السجن باستثناء مجيد جمالي فشي الذي أعدم قبل إغلاق ملف التحقيق.
إعلام من دون صدقية في خدمة الطغاة
في 5 أغسطس عام 2012 أنتجت وكالة نادي المراسلين الشباب للأنباء في إيران فيلماً وثائقياً بعنوان “كلوب ترور” من إعداد ايمان مرآتي وإخراجه عرض فيه تسلسل الاغتيالات الأربعة للعلماء الإيرانيين (مسعود علي محمدي، مجيد شهرياري، داريوش رضائي نجاد، مصطفى أحمدي روشن) والتي وقعت بين يناير 2010 ويناير 2012، قدم بالتفصيل اعترافات 13 متهماً شاركوا في هذه العمليات أشهرهم الرياضي مجيد جمالي فشي الذي أعدم في مايو 2012 بناءاً على اعترافاته بمشاركته في اغتيال العالم الأول، كما يظهر الشاب “مازيار إبراهيمي” الذي اعترف بتنظيم اغتيال العالمين الآخرين، لكنه نجا مع بقية المتهمين بفضل الخلافات السياسية في إيران.
في تفاصيل الفيلم الوثائقي يعترف كل من المتهمين الثلاثة عشر بالتعامل مع الموساد الإسرائيلي و”أعداء إيران” لاغتيال علمائها، كما يعرض الفيلم عدداً من جوازات السفر الإسرائيلية مع صور المتهمين الذين يقرون بتدريبهم في تل أبيب، كما يظهر الفيلم عائلات الشهداء وامتنانها للجهات المختصة التي ألقت القبض سريعاً على شبكة الجواسيس العملاء وفي النهاية يستعرض وزير الأمن السابق حيدر مصلحي قدرات إيران في الكشف عن الخونة.
اعترافات تحت الجلد
حسب توضيحات مازيار ابراهيمي في لقائه مع إيران واير، فإن أحد منافسيه في سوق العمل حاك له مكيدة، فالمتهم ابراهيمي كان يدير إحدى أهم شركات التجهيزات الإعلامية ويزود القنوات الإيرانية بها عبر مناقصات رسمية، المحضر الذي حرر ضده واتهمه بالتجسس ربما كان سيغلق لولا ظروف البلاد وسلسلة اغتيالات العلماء آنذاك، إذ كانت وزارة الأمن الإيرانية فی عهد الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد تبحث عن طريقة تكشف فيها عن المورطين بأي ثمن لتظهر بطولتها في تعزيز الأمن في البلاد وعدم وجود خروق.
قُبض على المتهم الإيراني “مازيار ابراهيمي” (مواليد طهران عام 1973) بعد آخر عملية اغتيال شهدتها البلاد عام 2012، بقي في السجون الإيرانية ما بين ( يونيو 2012 ويوليو 2014)، وبعد مرور 40 يوماً من التعذيب في سجن إيفين اعترف إبراهيمي بما أراده المحقق وهو الإقرار بمشاركته في اغتيال العلماء، وتم تصوير شريط الاعترافات في السجن نفسه وعرض على الشاشة الرسمية للبلاد. لم يتوقف تعذيب مازيار بعد الاعتراف بل استمر 7 أشهر خارج سجن إيفين، طلب منه حينذاك أن يعترف بمرافقته أبناء الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني وعضو مجلس خبراء القيادة محمد امامي كاشاني (سياسي مقرب من رفسنجاني ومحسوب على التيار الإصلاحي) إلى اسرائيل.
خلاف بين الحرس الثوري والحكومة يحبط الإعدام
قبل اعتقال مازيار ابراهيمي ببضعة أشهر وقع انفجار في معسكر قرب مدينة ملارد غير البعيد عن مدينة كرج في محافظة البرز، والذي كان يتبع الحرس الثوري. التحقيقات في هذا الانفجار بدأت في المؤسسات الأمنية التابعة للحرس الثوري، لكن المحققين في وزارة الأمن الإيراني رغبوا في تسجيل “بطولة” بإعلان اكتشافهم الفاعل، فأرغموا مازيار على الاعتراف بعملية التفجير، لكن القصة لم تصدقها مؤسسة الحرس بسهولة، فأرسلت محققهم الخاص ليلتقي المتهم. يقول مازيار: “أرغمت كذلك على الاعتراف بالتفجير تحت التعذيب وقيل لي قبل وصول محقق الحرس الثوري أن لا أتكلم عن أمر آخر، وفعلاً اعترفت له بأنني أنا من ضغط على زر التفجير في ملارد لكنه سألني أين كنت أثناء العملية فقلت لدى سياج المعسكر، فسألني هل أحسست بشيء، قلت: لا، قال: لم تؤلمك أذناك، قلت: لا، عندئذ جن جنون المحقق وقال إنه لم تبق زجاجة سالمة على بعد 25 كلم وقتل 177 شخصاً هناك”، يكمل مازيار أن التحقيق أخذ مساراً مختلفاً بعد دخول الحرس الثوري على الخط واعترف لهم بأنه أجبر على تبني هذه الجريمة أيضاً، بعدما وعده ضابط الحرس بأن يطلق سراحه.
رأى المحلل السياسي الإيراني مهدي مهدوي آزاد في تقرير بي بي سي فارسي أن الخلافات السياسية بين مؤسسة الاستخبارات والأمن في الحرس الثوري وبين وزارة الأمن الحكومية أنقذت المتهمين من حبل المشنقة، فسعي الأولى لتثبيت نفسها كالمرجع الأول للكشف عن التجسس في البلاد دفعها للكشف عن التلاعب في ملف الاغتيالات وكيف لفقت التهم لأبرياء.
“اعترفت حتى لا يلتهم السوط لحمي، نقلوني لتسجيل الاعترافات ووضعوني أمام الكاميرا، وقالوا لي كرر ما نقول بالحرف وإلا فسيستمر التعذيب” .قصص مرعبة كشف عنها “مازيار ابراهيمي” الناجي من تلفيق إحدى أخطر التهم في إيران وهي الخيانة واغتيال علماء في الطاقة النووية
العدالة ليست للجميع
“اذهب واشكر ربك لأنك لا تزال حياً، لقد طلبوا منيّ أن أصدر أحكام إعدام بحق عدد منكم ليرتاح أهالي الشهداء ويحفظ النظام ماء وجهه”، هكذا أقنع رئيس المحكمة الجنائية في طهران القاضي محمد شهرياري المتهم السابق مازيار ابراهيمي بالعدول عن شكواه ضد وزارة الأمن والتلفزيون الإيراني وبضع وسائل إعلام أخرى، وحاول مازيار أن يعيد الاعتبار لشخصه في المجتمع الإيراني بعدما نال حريته بقرار من القاضي شهرياي، لكنه قرار خلا من أي اعتذار رسمي.
يقول مازيار إن لجنة من مكتب المرشد الإيراني علي خامنئي التقت المتهمين وقالت لهم: “بفضلكم وفضل إمام الزمان كشفت مؤامرة حكومية وتم إحباطها”.
عاد مازيار ابراهيمي إلى الحياة التي أصبحت مختلفة بالنسبة له، إذ ما زالت قدماه تحملان آثار السوط وعيناه تحملان آثار الذل، يبكي الشاب الأربعيني أمام محاوره ويعرض صور أمه قبل اعتقاله وبعده، ويرسم بدموعه ملامح القهر التي يتعرض لها يومياً مظلومون من أبناء شعبه في سجون لا عدل فيها ولا قانون.