"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

كان القذافي على حق… إكرام الجامعة العربية دفنها!

القدس العربي :

توفيق رباحي كاتب صحفي جزائري :

 رغم عيوبه الشخصية والسياسية الكثيرة، كان العقيد معمر القذافي صاحب نظرة صائبة عندما يتعلق بالمنظمات الدولية والإقليمية المخوَّلة حفظ أمن العالم واستقراره.

موقفه السلبي من الأمم المتحدة وإصراره الدائم على وجوب إصلاحها فيهما الكثير من الصواب، على الرغم من طريقته الفلكلورية في التعبير عن ذلك.
تمسكه ببناء اتحاد إفريقي يحمي بشكل ما حقوق الأفارقة وخيراتهم ينمُّ عن إدراك مبكر لحقيقة أن إفريقيا هي المستقبل والهدف المقبل. والدليل أن القوى الكبرى، أوروبا، الصين، أمريكا، روسيا وتركيا، تخوض حروبا شرسة صامتة من أجل موطئ قدم في هذه القارة اليافعة والغنية.
هجومه اللاذع على الجامعة العربية خلال العقد الأخير من حكمه وحياته يتأكد يوما بعد يوم أنه كان جرس إنذار مبكر وصريح، على الرغم (مرة أخرى) من «فلكلوريته» وغموض أهدافه في آنذاك.
اليوم يتأكد أن مطالبة القذافي بإصلاح الجامعة العربية تارة، وتهديده بالانسحاب منها تارة أخرى، كان أضعف الإيمان. كان الرجل يقول بصوت مرفوع ما يفكر فيه الآخرون في صمت وهمس.
احتاج هذا الكيان الكسيح إلى عشر سنوات فقط ليراكم هزائم وانتكاسات هائلة فاقت ما راكم منذ تأسيسه في ربيع سنة 1945.
في السنوات العشر الأخيرة أخفقت الجامعة العربية في كل الامتحانات. صمتت حيث ما كان يجب أن تصمت، أو أخذت القرارات والمواقف التي كان يجب أن تتخذ عكسها.
في العقدين الأخيرين أصبحت الجامعة العربية أداة في يد الأغنياء من أعضائها. والأغنياء ليسوا بالضرورة الأكثر حكمة وتبصرا. تواطأت وشجعت انتقال مركز الثقل العربي من مصر والدول الأعضاء الكبرى والمتوازنة، إلى دول صغرى لكن غنية، الثراء رصيدها ورأسمالها الوحيد.
هذا الانتقال كان مرفوقا بانحدار أوصل الجامعة العربية إلى ما هي فيه اليوم: مجرد نادٍ للدبلوماسيين المصريين العليلين والفاشلين، ومرتعا للبيروقراطيين اللاهثين وراء الريع والغنائم بلا جهد مقابل.
سياسيا، أصبحت مجرد هيكل بلا روح تحت التصرف المطلق للأثرياء من أعضائها، عاجزة عن الإدلاء بموقف علني من قرار بحجم إقامة دولتين عربيتين علاقات كاملة مع إسرائيل في تجاوز واضح للجامعة وتراثها السياسي.
لا شيء يفسر صمت الجامعة، القريب من التواطؤ، سوى كون أحد الأعضاء الأغنياء ضالع في هذا التطبيع. قريبا سيعلن السودان عن تطبيع مع إسرائيل، وستصمت جامعة الدول العربية، لكن السؤال سيكون: هل كانت الجامعة ستصمت لو أن الحكومة السودانية قررت إقامة علاقات مع إسرائيل من تلقاء نفسها ومن دون تشجيع ورعاية رسمية إماراتية وسعودية؟
أطالع صحف العالم بشكل يومي ومكثف. لا أذكر أنني قرأت خلال السنوات الخمس الأخيرة شيئا ذي بال عن الجامعة العربية. لا بالسلب ولا بالإيجاب. كأنها غير موجودة. أليس هذا دليلا على أن العالم نسيها أو أسقطها من اهتماماته؟

في السنوات العشر الأخيرة أخفقت الجامعة العربية في كل الامتحانات. صمتت حيث ما كان يجب أن تصمت، أو أخذت القرارات والمواقف التي كان يجب أن تتخذ عكسها

قبل أن ينساها العالم ويسقطها من حساباته، يجدر البحث في رأي الذي يُفترض أنها وُجدت من أجلهم، وموقفهم منها.
المغرب لا يشعر أنه معني بها، بدليل أن ملكه اشتهر بغيابه الدائم عن اجتماعات القمة التي تعقدها. الجزائر لا تعبّر بصراحة، لكنها لا ترتاح لأداء الجامعة ولكون مصر تحتكر قيادتها وحوّلتها إلى ملحقة بوزارة خارجيتها. ليبيا، بشطريها، لا تشعر أن الجامعة تقدّم لها شيئا. طرابلس لا تثق في الجامعة لمجرد أن مقرها القاهرة، وبنغازي تشعر بأن الجامعة لم تفدها في فرض مخططاتها السياسية والعسكرية. الأردن مجبر على الحفاظ على بعض التوازنات، ولولا ذلك لأقرَّ علنا بعدم جدوى الجامعة. سوريا تشعر بغدر الجامعة لها. السلطة الفلسطينية تخلت عن تحفظها وعن الحرج الذي لطالما كبّلها، ومواقفها في الأيام الماضية تقول الكثير عن رأيها في الجامعة. قطر لا تنتظر شيئا من الجامعة، ولم تتكلف عناء مخاطبتها عندما فرضت عليها أربع دول عربية حصارا محكما. الكويت تجبرها حكمتها المألوفة على الصمت. دول الخليج الأخرى، خصوصا السعودية والإمارات، مستفيدتان من شلل الجامعة الذي يخدم أطماعهما وسياساتهما، ومستفيدتان من كون الجامعة اليوم في قبضتهما.
كل شيء من حول الجامعة العربية تغيّر، إلا هي. صحيح أن هذه التغييرات فُرضت عليها، وبعضها فاجأها كما فاجأ غيرها، لكن أليس من المدهش أن كل ما شهدته المنطقة العربية في السنوات العشرين الأخيرة من أزمات وحروب وانقلابات وانقسامات، لم يحرك القائمين على الجامعة إلى لحظة تفكير أو تغيير؟
الأخطر في الأمر أنها لا تعي، أو ترفض أن تعي، أنها لا يمكن أن تواصل كما لو أن شيئا لم يحدث، وأنها أصبحت عبئا ثقيلا على نفسها وعلى الكل.
والآن، هل حقا لا يزال هناك متسع لاستدراك ما فات؟ لقد تأخر الوقت كثيرا وجرت مياه كثيرة من تحت الجسر. هذه الجامعة لم يعد ينفع معها إصلاح، بل مطلوب لها آخر العلاج: الكيّ. أصبح حلّها وتصفيتها ككيان مادي ومعنويا واجبا أخلاقيا وسياسيا في مصلحة الجميع.
الوضع الآن يتطلب التفكير في صيغة جديدة لكيان بديل عن جامعة الدول العربية. هناك تجارب ونماذج عبر العالم يمكن أن تكون مفيدة. من الأفضل أن يكون تحالفا اقتصاديا تتفرع عنه قضايا أمنية واستراتيجية، ويكون في مقدوره إدراك اشتراطات الواقع والتغييرات العميقة التي عاشتها وتعيشها المنطقة ومجتمعاتها. المسؤولية على عاتق مَن ساءهم ما آلت إليه أحوال الجامعة العربية. نجاح مسعاهم مشروط بألا يكون المبادرون إلى هذه الصيغة هم ذاتهم الذين يتحكمون اليوم في قرارات الجامعة ومصيرها، وإلَّا بقينا في المستنقع نفسه ولم نفعل شيئا.
العرب بحاجة إلى «قذافي جديد» يعلّق الجرس!

كاتب صحافي جزائري