اندبندنت :
اتبلغ عائدات قطاع المؤسسات الفنية اللا ربحية في الولايات المتحدة الأميركية ما يقارب 166.3 مليار دولار سنوياً، يقتطع منها مبلغ 27.5 مليار دولار تعود لدائرة الضرائب الفيدراليه والمحلية. ورغم ذلك، يبدو وقع جائحة الكورونا يفوق قدرات أومدخرات هذا القطاع. تحيل بعض الأرقام إلى 20 مليون موظف عاطل من العمل في قطاعات الفنون على تعدّدها ولا تبدو الصورة أقل فداحةً إذا ما تمّ النظر إلى قطاع المسرح.
خسائرهائلة
تشكل مسارح برودواي رافعة اقتصادية مهمة للقطاع المسرحي الأميركي. تلك المسارح (أي ما يزيد على 40 مسرحاً في مانهاتن – نيويورك، وما نتج عنها من فضاءات أخرى بديلة كأوف برودواي وأوف أوف برودواي ) تعتمد كلها على شباك التذاكر، كما هي حال معظم فضاءات العرض في الولايات المتحدة. في موسم 2018- 2019 تمّ بيع 15 مليون بطاقة عرض في برودواي فقط ما أسهم في الاقتصاد المحلي بقيمة 14.8 مليار دولار. منذ شهر مارس (آذار) اضطرت الفضاءات المسرحية إلى توقيف عروضها وأقفلت معظم المتاحف.
نادراً ما أقفلت مسارح برودواي. المرة الوحيدة التي شهدت إقفالاً مماثلاً سُجِّلت عام 1918 أي عندما عطلت الإنفلونزا الإسبانية مسار الحياة اليومية لفترة ليست وجيزة من الزمن. يذكر القيمون على دار أوبرا ميتروبوليتان في نيويورك أن هذه الأيام هي الأسوأ التي مرت على ميتروبوليتان أوبرا منذ 137 عاماً. هذا وقام مسرح غاثري في ولاية منيابوليس بصرف القسم الأكبر من طاقم عمله، بين 262 موظفا ومتعاقدا بشكل جزئي لم يبق سوى 55 موظفاً. تقدَّر الخسائر بمئات ملايين الدولارات وبات بقاء كثير من المؤسسات مهدّدا في ظل محدودية الدعم الحكومي. خصص الكونغرس الأميركي الوقف الوطني للفنون مبلغ 75 مليون دولار استجابةً لكوفيد 19. تبدو قيمة الدعم ضئيلة إذا ما عرفنا أن ميزانية مسرح واحد لعام واحد كدار أوبرا ميتروبوليتان تكلف 300مليون دولار.
من ناحية أخرى، هنالك بعض السياسات الوطنية الصحية التي تتبعها الحكومة الأميركية التي لا تسعف ولا تعين الفضاءات المسرحية. تشير مديرة إحدى المسارح في كاليفورنيا إلى بنود شركات التأمين التي لا تغطي كلفة الضرر الناتج عن كورونا، إلا إذا صدر تفويض أو مرسوم حكومي بالإقفال التام، أمّا إذا أتخذ مسرح ما على سبيل المثال في برودواي قرار إلغاء العروض بشكلٍ طوعي دون وجود هذا المرسوم، فإنه لن يحصل على تغطية من شركة التأمين. ومع تلكؤ الجهات المختصة الحكومية في إصدار مرسوم حكومي بالإغلاق التام، تصبح خاصرة الفضاءات المسرحية أكثر ضعفاً.
الفضاء الافتراضي: ما له وما عليه
لم تمنع تلك الظروف الصعبة جداً والمهدّدة، بعض الفرق والمؤسسات المسرحية والفضاءات من السعي للحفاظ على روابط مع جماهيرها بطرق مختلفة. في هذا السياق فرض الفضاء الافتراضي نفسه كأحد الحلول التي ارتآها كثر لتقديم عروض سابقة عبر قنوات بث مواقعهم الخاصة، كما قام البعض بكتابة عروض جديدة أكثر مواءمةً للأدوات والأطر، التي فرضتها الجائحة. تُعدّ فرقة أريزونا للمسرح من الجهات التي اتخذت قراراً باللجوء إلى الشبكة العنكبوتية حتى نهاية عام 2020. هذا يعني أن موسم المسرح الخريفي سيكون بأكمله معروضاً للجمهور خلف الشاشات الذكية. يشدّد شون دانيالز المدير الفني للفرقة على مصطلح المرونة. هو يدرك تماماً أن لا شيء قد يحلّ مكان الخشبة الملموسة، ولكن في الوقت نفسه يتفاعل القيمون على الفرقة مع الفضاء الافتراضي على أنه خشبة ثانية. للأمر إيجابياته، إذ يتم توظيف هذا الفضاء للتعريف بنصوصٍ مسرحية جديدة أو بأعمال قيد التطوير. هذا الفضاء يتيح للجماهير فرصة حب كتّاب المسرح على حد قول دانيالز. كما سمح كل هذا البطء الإنتاجي الناتج عن كورونا إلى إعادة النظر في الكثير من الأمور كتولي الأمور الإدارية العالقة منذ ٤ سنوات، ولم يتح ضغط الإنتاج المسرحي فرصة الاهتمام بها.
من ناحية أخرى، أدّت الجائحة إلى إقفال برنامج المسرح بأكمله في مؤسسة صاندانس التي أسسها الممثل والمخرج والناشط روبرت ردفورد. الأمر أدّى إلى إنهاء عقد كريستوفر هيبما كمدير تنفيذي للبرنامج المذكور. ولكن هذا لم يمنع المؤسسة من القيام بتنفيذ عدد كبير من الأنشطة والبرامج عبر الفضاء الإلكتروني. يتحدث هيبما عن مختبر المسرح الذي كان يقام بشكل سنوي في الصيف في يوتاه، والذي لم يخلُ من طقوس حميمية مع المكان ومع السكان الأصليين. وجبت أقلمة كل هذا ليوائم ظروف الحجر المنزلي. سعى كريستوفر للحفاظ على طقوسية ما، على الرغم من تحوّل الإقامات الفنية إلى إقامات افتراضية. بعد ثلاثة أسابيع، يبدو أن الهدف تحقق مع بعض الحلول المبتكرة. الأمر الإيجابي الذي نتج عن زمن الجائحة هو جمع كل الفنانين في المسرح وغيرها من الممارسات الفنية، الذين شاركوا في المختبر منذ 10 سنين، ما لم يكن قابلاً للتنفيذ قبل تاريخ كورونا. وفقاً لهيبما، لم تمنع اللقاءات الافتراضية نشوء لحظات تقاطعية سحرية، بحيث أسهمت الأخيرة في بناء جسور تواصل وتحاور، وهذا ما يتجانس مع قناعة هيبما الراسخة أن على الفنانين من كل أنحاء العالم أن يبنوا روابط متينة فيما بينهم، من القلب وإلى القلب.
ولكن يبقى السؤال: هل نستطيع أن نصنّف كل هذه الأنشطة المجاورة للخشبة التي أتاحتها فضاءات الجائحة الافتراضية على أنها بدلٌ عن ضائع ألا وهو المسرح؟ ليس هنالك من إجابات ناجعة. هيبما ينظر بعين إيجابية نوعاً ما إلى كل العوائق التي يواجهها المسرحيون. ما نمرّ به اليوم قد يكون فرصة أيضاً للتفكر في معنى الفضاءات والأبنية. كيف نختبر مبنى مسرحيا من جديد؟ هذا سؤال مفتوح على احتمالات قد تكون مبتكرة. رغم ذلك، يشير هيبما إلى فكرة أن المسرح الذي لا يكتنف في طياته التجربة الجمعية واللقاء المباشر مع الجمهور ومع مكوّنات العمل الفني على حدّ سواء فهذا الأمر كفيلٌ بإعادتنا إلى السؤال الأصل “ما هو المسرح إذاَ ولمن يتوجه”؟
التجربة الجمعية
يلتقي جوزيف حاج المدير الفني لمسرح غاثري في مينيابوليس مع هيبما على ضرورة هذه التجربة الجمعية، التي تملك قدسية من غير الممكن استبدالها. وعلى الرغم من بعض الدروس المستفادة من هذا العالم الافتراضي، الذي أتاح أدوات ناجعة لبعض الجوانب الإدارية المجاورة للمسرح، لا يمكن وفقاً لحاج نسيان أننا نحاول البحث عن حلول لمشكلة مؤقتة أمام مسار مسرحي دام 2500 عام. وليس من السهل رمي كل الجهود التي قام بها المسرحيون كي يترك الناس كنباتهم ليتوجهوا إلى الخشبة ويستعيضوا عنها بشاشةٍ ما، ذلك لأنه وفق حاج ليس هنالك من إمكانية لمنافسة السينما وأدواتها. لا يملك مسرح غاثري إمكانيات المسرح الوطني في المملكة المتحدة، حيث صرفت ميزانيات كبرى منذ سنوات طويلة لتوثيق عروض مسرحية عبر تصوير ومونتاج عاليي الجودة، وإتاحتها لاحقاً على منصة افتراضية.
في هذا السياق، يصرح حاج بكل وضوح أن مسرح غاثري سيكون آخر المسارح التي ستفتح أبوابها للجمهور. وهذا الأمر متعلق بالمنظومة الاقتصادية، وبدور الفضاءات المسرحية في إنتاج العمل المسرحي وبارتباط هذين الأمرين مباشرة بشباك التذاكر. ليس الأمر كما هو معهود في العدد الأكبر من فضاءات العرض في لبنان وجزء من العالم العربي، حيث يتحوّل المسرح إلى مساحة تأجيرية، على عكس معظم مسارح الولايات المتحدة، ومنها مسرح غاثري هنا الذي ينتج أعمال مسرحيين ويكلّف فنانين ومخرجين، ويضع ميزانيات ضخمة ويكوّن برنامج عروض مسبقاً لمدة عام وأكثر. لكل هذا المسار تكاليف ضخمة تعتمد بمعظمها على عائدات شباك التذاكر. لذا افتتاح مسرح بحجم مسرح غاثري بسعة 25 في المئة من إجمالي عدد الجمهور تماشياً مع التدابير الوقائية أو مع متطلبات التباعد الاجتماعي، ليس بالأمرالقابل للتنفيذ.
تضع منظومة الإنتاج المسرحي في أميركا مسرحييها أمام معادلة صعبة، هذا الاعتماد الكلي على شباك التذاكر ينفي احتمالات كانت واردة في منظومات إنتاجية وفي سياسات ثقافية مغايرة. مثل على ذلك هو برلينر أنسبل (الذي أسسه برتولد بريخت بمعية زوجته هيلين ويغيل) الذي تمكن من إعادة افتتاح خشبته منذ مايو (أيار) عبر إزاحة نصف المقاعد، (أي 500 كرسي من قاعة الجمهور) احتراماً لقواعد التباعد الاجتماعي. يبدو هذا الخيار ممكناً في ظل نظام حكومي يرعى المسارح ويحولّ بعضها إلى مؤسسات عامة ويمدّها بالدعم السنوي، الأمر الذي يجعل منتجي الأعمال المسرحية غير معتمدين على عائدات الجمهور وشباك التذاكر.
بينما كان مسرح برلينر أنسمبل يجهز نفسه للافتتاح، قام جوزيف حاج في السابع من مايو(أيار) بتصوير فيديو قصير يتحدث فيه عن مستقبل المسرح في ظل الواقع الذي فرضته الجائحة. تكلم متأثراً عن أزلية هذه الممارسة التي وإن تغيّر الزمن يبقى جوهرها هو ذاته. وذكّر في الدراسة التي قامت بها جامعة لندن (( University College London والتي تبيّن أن أعضاء الجمهور ينبض قلبهم معاً، في التوقيت نفس وعلى الوتيرة نفس والإيقاع لدى مشاهدتهم عرضاً أدائياً.
كيف من الممكن تعويض هذا الطقس الكوني؟ لا إجابة حتى الآن. لربما وجب علينا كما قال حاج، أن ننتظر ريثما يعود المسرح إلى سابق عهده.