الرباط-“القدس العربي” :
“الإقدام على الانتحار هو ضعف وليس شجاعة، وهذا ما يجعلنا نميز بين المقدم على الانتحار والمنتحر، فالمقدم على الانتحار قد لا يضع حدا لحياته، نسميها فقط محاولة انتحار، يمر إلى الفعل ولا يحقق الهدف. أما بالنسبة للمنتحر فهو الذي لم تعد تربطه أي صلة في الحياة ويلجأ إلى الطرق السريعة كشرب السم أو شنق نفسه، فكل ما كانت المسألة سريعة نتأكد أن الارتباط بالحياة لم يعد موجودا” بهذه الكلمات وبعين الخبير، يعلق محسن بنزاكور، أستاذ علم النفس الاجتماعي، في جامعة أبي شعيب الدكالي في الجديدة لـ”القدس العربي”.
ظاهرة غامضة
قبل عامين ونيف من اليوم، وفي مقبرة جنوبي طنجة، دفنت فاطمة وحسن ابنهما يوسف في مرقده الأخير، فعلوا ذلك في الليل، بدون لفت الانتباه، بحضور إمام مناسب للعائلة، وزوجين من أبناء العم الذين ساعدوا في لف الجسد بكفن أبيض.
كان يوسف يبلغ من العمر آنذاك 21 عامًا، حين شنق نفسه في غرفته بحبل، منهيًا حياته بصمت؛ ويحظر الإسلام بشكل صارم الانتحار لأن “الحياة البشرية مقدسة” والشخص الذي يقتل نفسه يرتكب “خطيئة” لذلك، عادة ما يتم هذا النوع من الدفن في الليل وبحذر.
اليوم، وبعد جنازة الشاب يوسف، يرتفع الانتحار في الأشهر الأخيرة بشكل كبير في المغرب، ولا أحد يجد أي نوع من التفسير ولا تزال تظهر حالات جديدة في وسائل الإعلام.
الصحافة المحلية تصف الانتحار الذي كثر في البلاد بأنه “ظاهرة غامضة” وتحذر جمعيات المجتمع المدني، من اكتشاف المزيد والمزيد من حالات الانتحار بين الشباب.
مريم بوزيدي، ناشطة مدنية، تحارب الانتحار، تقول إن “المشكلة هي أنه لا يوجد سجل وطني للوفيات بسبب الانتحار، على الرغم من أن ما يحدث هو أن الأسباب في الانتحار في السنوات الأخيرة أقل غموضاً”.
وتخلص مريم إلى أن “الشباب لا ينتحرون ليموتوا بل ليتوقفوا عن المعاناة. إنهم يفعلون ذلك عندما يرون أن النهاية قادمة، وأن جميع البدائل التي سعوا إليها لتحسين وضعهم لم تنجح”.
لا توجد دراسة حول هذه المسألة
قبل أسابيع، انتحرت فتاة تبلغ من العمر 17 عامًا في منزلها في مدينة تيفلت (الوسط الشمالي) لفظت أنفاسها بعدما قامت بتعليق نفسها على شرفة منزل والديها.
هذه المأساة، التي حدثت قبل أيام قليلة من امتحان الثانوية العامة (البكالوريا) التي كان من المقرر أن تجتازها؛ تسببت في اضطراب كبير في مدينة تيفلت.
وتم العثور على الفتاة في بيتهم جثةً تتدلى على حبل، فيما ظلت أسباب هذا الفعل غير معروفة، فقد قامت الضحية بالانتحار بدون ترك “رسالة انتحار” ليظل انتحارها صامتًا، عبرت به البرزخ بمعية السر وراءه.
ووفقاً لأحدث تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية، تضاعف معدل الانتحار في المغرب في العقد الأخير من بين أكثر من 800 حالة موثقة في السنة، 80 في المئة من الرجال، على الرغم من أن هذا الرقم سيتضاعف إذا كان هناك سجل حقيقي، ويأتي المغرب في المرتبة الثانية في العالم العربي بعد السودان فقط.
وفي المملكة المغربية، لا توجد دراسة حول هذه المسألة، عندما نشرت وزارة الصحة تقريراً حولها، بناءً على عدة مسوح، أوضحت فيه أن “16 في المئة من السكان المغاربة ادعوا أن لديهم ميولاً انتحارية وأن 14 في المئة من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و15 حاولوا الانتحار” ولكن هذا الكلام كان منذ 13 سنةً مضت.
وهناك عدة أسباب لهذه الزيادة في معدل الانتحار في المغرب، وبحسب محسن بنزاكور، أستاذ علم النفس الاجتماعي، فإن الإقبال على هذه الظاهرة يشمل جميع الفئات العمرية كبارا وصغارا، “لكن الفئة الأكثر إقبالا هي الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و30 سنة، فلكل واحد منهم دوافع وأسباب مختلفة، أدت به إلى التفكير في الانتحار ووضع حد لحياته بشكل نهائي”.
إرتفاع صاروخي
محمد البرودي أخصائي نفساني، استفاض في حديثه لـ”القدس العربي” عن الأسباب الكامنة وراء ارتفاع حالات الانتحار “حالات الانتحار في المغرب عرفت ارتفاعًا صاروخيًا، خصوصًا في ظل ظروف الحجر الصحي، الذي انطلق في الـ20 آذار/ مارس الماضي، وتحديدا في صفوف المراهقين والشباب”.
ويعزى ذلك وفق البرودي، إلى “ظهور عوامل نفسية كالاكتئاب والاكتئاب الحاد، وحالات اضطراب الشخصية، وفي صفوف المدمنين على المخدرات والكحول بالجرعات الزائدة، ناهيك عن الأسباب الاجتماعية؛ من قبيل التفكك الأسري كالطلاق واليتم، إذ غالبا ما يكون الوسط الأسري المتفكك والناقص للحوار دافعا لدى بعض الحالات إلى محاولات الانتحار المتعدد والتي تتكرر حتى تحقق الموت، وكذلك الأسباب الاقتصادية خصوصًا بعد انتشار فيروس كورونا، التي أفقدت الكثيرين لاستقرارهم المادي، والذي يقود إلى اضطراب فعزلة تؤدي إلى الانتحار كنوع من التخلص من المعاناة”.
البرودي، الباحث في علم النفس، والمتخصص في علاج الإدمان، أعطى لـ”القدس العربي” بما يسمح له به القانون، معطيات حول حالات انتحار مؤكدة، في هذه السنة، يوم الجمعة 26 حزيران/يونيو بمدينة تاوريرت فتاة تبلغ من العمر 14 سنة تضع حدا لحياتها شنقا بواسطة قطعة قماش، في نهاية شهر حزيران/يونيو وضع أربعة أساتذة في ظرف أسبوع حدا لحياتهم، أستاذة في بركان، أستاذ في مكناس، أستاذ في الدار البيضاء وأستاذ متدرب في الدار البيضاء. بداية تموز/يوليو أقدم رجل يبلغ من العمر 49 سنة يشتغل حلاقا على الانتحار، في منطقة بني بوعايش إقليم الحسيمة، 19 تموز/يوليو فتاة في سن 15 سنة تضع حدا لحياتها بمدينة سلا شنقا، 22 تموز/يوليو على الساعة السابعة والنصف مساء، ألقى شخص بنفسه أمام القطار السريع البراق وذلك بين مدينتي الصخيرات وتمارة، وهناك حالات عديدة في مجموعة من المناطق بالرباط وسلا وتمارة مسجلة في دفتر المستشفى “حفاظا على السر المهني لا أستطيع ذكرها”.
وحول طرق الانتحار، يقول الدكتور المغربي، أن الحالات المنتحرة والمنتشرة التي تتوافد كثيرا على المستشفى، “المرتبة الأولى تكون عن طريق مواد كيميائية ومبيدات الحشرات، في المرتبة الثانية تأتي حالات الانتحار شنقًا، أما المرتبة الثالثة فهي لحالات الانتحار عن طريق القفز من شرفات المنازل كالطابق الثالث أو الخامس، وكذلك هناك حالات عن طريق رمي النفس أمام القطار”.
“لا يمكن تفنيد أن الانتحار نتاج علة عقلية مرضية، ولكن هناك سياقٌا آخر يرتبط بالأزمات كظرفية جائحة كورونا، ومشاكلها الاقتصادية والاجتماعية، وضعف الأشخاص في تدبير الأزمات، وكذلك الوضع السياسي والخوف من اللا استقرار يقود البعض للانتحار، كما أنه منتشر وسط المسنين الذين يتم التخلي عنهم أو يوضعون في دور العجزة. وسلوك الانتحار هو ناتج عن اندفاعية في تدبير الأزمات، كما حدث للتلميذة التي تدرس بالثانوي والتي انتحرت في فاس، وأساتذة في سلك التعليم” يخلص الاخصائي النفسي، محمد البرودي.
الهرب من طريق مسدود
فيما لا يزال زواج القاصرات في المغرب، مذبحًا تساق له العذارى قسرًا قربانًا للشرف وخوفًا من الفاقة، تجد بعض هؤلاء القاصرات اللائي لا حول لهن ولا قوة، في الانتحار هربًا من طريق مسدود.
سنة 2014 انتحرت قاصر مغربية تبلغ من العمر 17 سنة بتناولها لسم فئران في تامسنا، قرب العاصمة الرباط، بعد أن أجبرتها عائلتها على الزواج من رجل عمره خمسين سنة.
مريم، صديقة المنتحرة، تتذكرها اليوم بكثير من الألم والحسرة، وبعد رفض الحديث في البداية، تقول بتنهدٍ، أن صديقتها انتحرت “لأنها كانت على علاقة مع ابن الرجل الذي كانوا سيجبرونها على الزواج منه، والذي كان أرملًا”.
القصة والطريقة التي أنهت بها الفتاة حياتها، تعيد للأذهان قصة أمينة الفيلالي، وهي فتاة كانت تبلغ من العمر 15 عامًا، انتحرت عام 2012 عن طريق تناول سم الفئران، بعد أن أجبرت على الزواج من مغتصبها.
إنهم يلجأون إلى الإنتحار “للتخلص من الضغوطات النفسية والمشاكل الاجتماعية كالبطالة والفقر والتفكك الأسري والخيانة واضطراب الهوية الجنسية وغيرها من المعاناة الأخرى” يقول بنزاكور لـ”القدس العربي” رابطًا المحيط الاجتماعي مباشرة بالعدد المتزايد من حالات الانتحار التي لوحظت في الآونة الأخيرة.
بعدان للانتحار
الدكتور محسن بنزاكور، يرى في تصريح لـ”القدس العربي” أن من بين أسباب الانتحار الظروف الاجتماعية، فهي “تعتبر من بين أهم العوامل التي قد تكون سببا في الانتحار، لأن الإنسان قد يكون مريضا نفسيا وسط الضغوط العائلية والعوامل الخارجية، ما يجعل المرض النفسي يتفاقم”.
الانتحار حسب بنزاكور له بعدان، “البعد الأول نفسي نتاج مرض نفسي وعقلي والثاني نتاج الضغوط الاجتماعية ويضاف إليه ما نسميه نحن بالاضطراب النفسي وليس المرض النفسي، ومن أهم الأسباب في مجتمعنا هي عدم الإندماج والتكيف مع البيئة التي يعيش فيها، وهذا هو أول مؤشر للمقبلين على الانتحار”.
“الأغلبية لديهم معاناة اجتماعية وديون وخيانات زوجية، فالمقبل على الانتحار تتغلب عليه مشاكله بحيث يصعب عليه حلها؛ وفي هذه الحالة يرى انه إنسان فاشل وليس له أي دور في الحياة وليست له القدرة على أداء وظيفته بطريقة منتظمة ومنتجة، فهذه العوامل تدفع الشخص لإمكانية الانتحار” يقول بنزاكور.
ويوضح، أن “الإنسان المتوازن له سلوك معين، فهو يحاول تطوير نفسه ويصبح أفضل مما كان عليه سابقا، بينما المنتحر لا يسعى أن يشبه الآخرين، ويبدأ في الشك في ذاته وعدم الثقة بالنفس، وبالتالي نجد الانتحار مرتبطا كليا بالشق النفسي الاجتماعي”.
وفيما تغيب أرقام رسمية، يؤكد بنزاكور، أن معدل الانتحار في الآونة الاخيرة مرتفع جدا، فعدد الذين حاولوا الانتحار “وصل إلى معدل مقلق، لأن الوضع الاجتماعي غير مستقر وشخصية الإنسان المغربي تغيرت ما بين الأمس واليوم، لأن المنظومة الاجتماعية لم تعد مثل ما كانت عليه سابقا”.
ويوضح أنه في القديم الشخصية المغربية “كانت مبنية على فكر الجماعة وحاليا تغيرت لأننا أصبحنا مجتمعا استهلاكيا، يعيش الإنسان فيه بمفرده، حتى أصبح الفرد أكثر تشبثا بالذات في مقابل الجماعة، وكل هذه العوامل ترسخ في ذهن الإنسان أنه متخلى عنه وليست له جماعة ضامنة لاستقراره ولحقوقه”.
ويزيد بنزاكور قائلًا إن المغرب ليست لديه مؤسسة قائمة الذات يمكن أن “يلجأ إليها المواطن وبالأخص أصحاب المشاكل المادية، بينما في الدول الأخرى التي تحترم نفسها فهي تتكلف بهذه الحالات الاجتماعية بإيجاد مخارج وحلول لهم لتسديد ديونهم”.
ولا يوجد حتى اليوم تفسير ثابت لسبب ارتفاع حالات الانتحار، رغم أن تقارير منظمة الصحة العالمية تؤكد أن المغرب يعرف 5.3 حالة انتحار من بين كل مئة ألف نسمة، كما لا توجد دراسات حول ذلك، وكل ما يوجد هو بعض الأصوات المطالبة من وزارة الصحة والداخلية العمل على إيجاد سبب وحل لما يعتبره الكثيرون بالفعل “ظاهرة غامضة”.