القدس العربي :
ولنا في الأنظمة التي حكمت سوريا والعراق واليمن وليبيا أمثلة فاقعة ومقززة، ففي سوريا مثلاً تسلق حافظ الأسد وشركاه على ظهر حزب البعث ذي الأهداف الوحدوية المزعومة، ورفع شعارات قومية وعروبية لكنه في الحقيقة كان طائفياً وأقلوياً ومعادياً للعرب والعروبة أكثر من الشعوبيين أنفسهم. ولا شك أنه تلظى بالجدار العروبي كي يحمي نفسه داخلياً خاصة وأنه كان ينتمي إلى أقلية معادية للمسلمين الذين كانوا يشكلون غالبية الشعب السوري، فكيف يحرف أنظار الشعب عن هويته الحقيقية ويتلاعب بالأكثرية إلا بالتشدق بالشعار القومي العروبي الهلامي الفضفاض؟
لقد رفع نظام الأسد منذ وصوله إلى السلطة شعاراً قومياً، بينما حكم سوريا عبر عصابة طائفية استأثرت بمفاصل الدولة الأساسية كالجيش والأمن، وحيّدت الأكثرية وهمشتها، فيما كان يتاجر بالمشاعر الوطنية والقومية وهو أبعد ما يكون عن العروبة والقومية والإسلام. وفي الوقت الذي كان يرفع فيه شعارات عروبية قومية كان يدق الأسافين بين الطوائف والمذاهب في سوريا، لا بل كان يزرع الفتن داخل الطائفة الواحدة. لهذا السبب كما سنرى لاحقاً فشل المشروع البعثي الوحدوي المزعوم ليس على المستوى العربي فقط، بل داخل سوريا نفسها بعد أن زرع فيها ألف لغم ولغم طائفي ومذهبي وعرقي مما جعلها تنفجر شر انفجار بعد عقود من القمع والدجل والكذب والتدليس والخداع.
وحتى في العراق البعثي، ظلت البلاد محكومة على أسس قبلية وعشائرية ومذهبية رغم الشعارات القومجية البراقة، بحيث كانت قابلة للانفجار في اللحظة التي ارتخت فيها قبضة النظام. وحدث ولا حرج عن اليمن في عهد القومجي الهالك علي عبد الله صالح الذي زرع كل بذور التشرذم والانقسام داخل البلاد وجهزها للتشظي الذي نراه اليوم على أسس مذهبية وقبلية ومناطقية وحزبية.
فشل القومجيون وأصحاب الشعارات الوطنية الصارخة في بناء دول وطنية، فما بالك أن يوحدوا العالم العربي المتشرذم
أما القذافي الذي لم يكتف برفع شعارات الوحدة العربية، بل رفع لاحقاً شعارات توحيد أفريقيا، فقد ترك بلداً ممزقاً قائماً على عصبيات قبلية تتقاتل اليوم في طول البلاد وعرضها.
باختصار لقد فشل القومجيون وأصحاب الشعارات الوطنية الصارخة في بناء دول وطنية، فما بالك أن يوحدوا العالم العربي المتشرذم. لا عجب أن نرى الآن أن شعوباً عربية كثيرة كفرت بالعروبة والقومية، وعادت إلى الرابط الديني ظناً منها أنه الأفضل، مع العلم أن كل الأنظمة التي ترفع شعارات دينية لا تختلف كثيراً عن الأنظمة القومجية، فهذا يتاجر بالمشاعر القومية وذاك بالمشاعر الدينية لأهدافه الخاصة.
لاحظوا الآن أن الحوثيين في اليمن مثلاً انسلخوا من انتمائهم اليمني وصاروا مجرد مريدين للولي الفقيه الإيراني، وتحولوا إلى مجرد أدوات فارسية في بلدهم على أسس مذهبية صارخة، ولا مانع عندهم من الانضواء تحت لواء الدولة الفارسية، مع أن الإيراني يتلاعب بمشاعر الشيعة العرب لمصالحه القومية والتوسعية بالدرجة الأولى. لقد استجار الحوثي بالديني من القومي.
وفي سوريا الآن نجد أن الغالبية العظمى من السوريين وخاصة في الشمال قد كفرت بالوطنية السورية لما فعل بها آل الأسد على مدى عقود، وهم الآن يفضلون العيش تحت لواء الجار التركي المسلم على العيش في دولة سورية وطنية، ولا مانع لديهم أن تعود سوريا إلى كنف الدولة العثمانية تحت راية الإسلام، مع العلم أن التركي مهما كان متعاوناً مع السوريين فهو ليس جمعية خيرية، وله مصالحه القومية، وهو كغيره من القوى المتصارعة على الأرض السورية يحاول أن يقتطع حصته من الفريسة، خاصة وأنه يرتبط بسوريا بحدود تقارب التسعمائة كيلو متر.
والأمر نفسه يحدث الآن في ليبيا، فبعد أن عانى الليبيون الأمرين تحت النظام القومجي القذافي الأرعن، ها هم بعض الليبيين الآن يرحبون بالتركي المسلم كما رحب به من قبل أسلافهم أيام العثمانيين. وفي آخر استفتاء عام أجريته على موقع «تويتر» شارك فيه حوالي عشرة آلاف شخص، عبر أكثر من ثلاثة وسبعين بالمائة من المشاركين عن رغبتهم بالعيش تحت الحكم التركي.
لقد كفرت الشعوب بالانتماءات الوطنية المحلية وعاد بها الحنين إلى الخلافة الإسلامية. ولو دخلت إلى مواقع التواصل الاجتماعي لوجدت الكثير من العرب يدافع عن الوجود الإيراني والتركي في بلادنا بحماس منقطع النظير من منطلق ديني ومذهبي، وربما نكاية بالقومجيين والعربجيين. ومن الملفت الآن أنك إذا أردت أن تغزو بلداً عربياً بسهولة وتفوز بتأييد الأهالي بسرعة، فقط قل لهم: «أنا أخوكم في الدين».. بهذا الشعار تستطيع أن تسيطر وتستعمر وتنهب وتسلب وسط تصفيق المغفلين. لقد فشلت الدول العربية في بناء هويات وانتماءات وطنية، فظل الانتماء الديني هو الأقوى، وصار من السهل على كل من يرفع شعاراً دينياً أن يغزو أي بلد عربي وسط ترحيب «المؤمنين».